مقاصد الشريعة والإعلان العالمي لحماية البيئة

شارك:

محمّد قاسم المنسي: أستاذ الفقه - كلية دار العلوم- جامعة القاهرة

محتويات المقال:
الفصل الأول: مدخل تمهيدي

الفصل الثاني: مقاصد الشريعة وصلتها بحماية البيئة
الفصل الثالث: عناية الفقه الإسلامي بالبيئة
الفصل الرابع: وسائل حماية البيئة بين الشريعة الإسلامية والاتفاقيات الدولية

لقد دعاني إلى القيام بهذه دراسة عدة أمور أهمها:

الأول: الرغبة في الكشف عن جانب من أحكام الشريعة الإسلامية يتعلق بالبيئة، لاسيما بعد أن أخذ الاهتمام بشؤون البيئة وقضاياها يتزايد عالميًّا منذ أواخر القرن الماضي؛ حيث عُقدَت لذلك عدّة مؤتمرات دولية، تسعى إلى إنقاذ البيئة من التدهور، وحمايتها من كل أشكال التلوث الذي أصابها بفعل عوامل عديدة.

الثاني: أن قضية البيئة تعد اليوم مدخلًا ضروريًّا لإقامة علاقات دولية على أسس إنسانية مشتركة؛ لأن البيئة- في النهاية- هي قاسم مشترك بين شعوب الأرض كلها، والبشر إما أن يكونوا شركاء في الإنسانية، أو جيرانًا في عالم واحد، وذلك كله يفرض إعادة تأسيس العلاقة بينهم، على ضوء التحديات والمخاطر التي يتعرضون لها1.

الثالث: أن مستوى الوعي البيئي عندنا في العالم العربي والإسلامي متدهور للغاية، سواء على المستوى المادي أو الثقافي، وهو أمر يشكل خطورة على إنسان المنطقة؛ إذ البيئة في جانبيها تُعَدُّ من أخطر المؤثرات في حياة البشر.

الرابع: أن الباحث في الفقه الإسلامي يُصاب بالدهشة، عندما يجد ذلك الاهتمام البالغ بمسائل البيئة لدى الفقهاء المسلمين في مختلف عصورهم، ثم ينظر إلى الواقع، فلا يجد أثرًا لذلك في حياة المسلم المعاصر.

إن العناية بالبيئة لا تتوقف عند مجرد حمايتها من كل أشكال التلوث: المائي والهوائي والغذائي، والإشعاعات النووية، وغير ذلك، وإنما تتجاوز ذلك إلى ضبط السلوك الاجتماعي، وحفظ الحقوق الخاصة والعامة، وإقامة العدالة الاجتماعية، وتحقيق الكرامة الإنسانية، وذلك ما قام به فقهاء الإسلام عندما أوجبوا الضمان أو المسؤولية المدنية على كل مَن أحدث ضررًا خاصًّا أو عامًّا بالغير، في نفسه أو بدنه أو ماله، وبهذا حكموا بأن يضمن الطبيب ما يترتب على عدم قيامه بواجبه في علاج المريض، ويضمن الأجير ما يترتب على الأضرار الناشئة عن تخلُّفه عن القيام بما وافق على العمل فيه. ويضمن قائد السيارة، إذا قاد سيارته بسرعة، فأثار ترابًا أو طينًا، فأضرَّ بثوب أحد المارَّة، فضلًا عن إصابته.

والخامس: أن الاهتمام بالبيئة- بكل أبعادها- يشكل اليوم أحد محاور العمل التنموي والتماسك الاجتماعي، بما يعنيه ذلك من ضرورة استعادة الدور الفعال لأهمية التعويض عند وقوع الضرر، وعند حدوث الإصابات البدنية أو المالية، أو ما يسمى «إعمال العقوبات» بجانبيها، الجوابر والزَّواجر، فهما- معًا- يتعاونان في ضبط السلوك، وحفظ الحقوق، وأداء الواجبات، وإزالة الخصومات والعداوات.

ولا شك أن ذلك كله يستلزم جهودًا متتابعة في مجالات التشريع، والتوجيه الديني والثقافي، بما يحقق في النهاية سلامة الدنيا والدين، وسلامة الحياة لجميع البشر، وللكائنات الحية كافة.

من أجل ذلك كله؛ أعددت هذه الدراسة؛ لتجيب عن الأسئلة التالية:

1- ما مكانة البيئة في الشريعة الإسلامية؟
2- كيف تعامل الفقه الإسلامي مع قضايا البيئة ؟
3- ما الدور الذي تقوم به مقاصد الشريعة في حماية البيئة؟
4- ما وسائل حماية البيئة بين الشريعة الإسلامية والاتفاقيات الدولية؟

وقد قسمت الدراسة- بعد هذه المقدمة- إلى أربعة فصول، على النحو التالي:

الفصل الأول: مدخل تمهيدي

الفصل الثاني: مقاصد الشريعة وصلتها بالبيئة.
الفصل الثالث: عناية الفقه الإسلامي بالبيئة.
الفصل الرابع: وسائل حماية البيئة بين الشريعة والاتفاقيات الدولية.

وبعد، فإن كشفت هذه الدراسة عن جوانب عناية الفقه الإسلامي بالبيئة، وأبرزت مدى الصلة بين مقاصد الشريعة وقضايا البيئة، وأسهمت في حل المشكلات التي يعاني منها المجتمع الإسلامي المعاصر، بل العالم كله، فإنها تكون قد حققت الغرض منها.

الفصل الأول: مدخل تمهيدي

المبحث الأول: مفهوم البيئة.
المبحث الثاني: تتبع تاريخي.
المبحث الثالث: عناية القرآن والسنة بالبيئة.
المبحث الرابع: الاتفاقيات الدولية وحماية البيئة

المبحث الأول: مفهوم البيئة وأهم عناصرها

1- بالرجوع إلى المعاجم اللغوية، اتضح أن الأصل اللغوي لكلمة (بيئة) هو الجذر (ب.و.أ). قال في لسان العرب (بوأ): باء إلى الشيء يبوء بَوْأً: رجع... والباءة: النكاح. وأباءه منزلًا، وبوَّأه إياه، وبوأه له، وبوأه فيه، بمعنى هيأه له، وأنزله، ومكَّن له فيه.

قال: والاسم البيئة... وتبوأت منزلًا أي نزلته، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ [الحشر: 9]. جعل الإيمان محلًّا لهم، وقد يكون أراد: وتبوءوا مكان الإيمان، وبلد الإيمان، فحذف.

وتبوأ المكان: حَلَّه... وإنه لحسن البيئة، أي هيئة التبوُّء.2

ومن المعاني السابقة يظهر أن الفعل (بوأ) يدور حول عدة معانٍ هي: تهيئة المنزل، وبمعنى رجع، وكذلك بمعنى النكاح، وبمعنى الحالة.

2 - أما في الاصطلاح فقد تعددت تعريفات الباحثين 3، لكن التعريف الذي أميل إليه هو: أن البيئة هي المحيط الذي يعيش فيه الإنسان.

وهذا المحيط أو هذه البيئة تشمل عدة جوانب هي:

البيئة الطبيعية، والبيئة الصناعية، والبيئة الاجتماعية، وكل ما يحيط بالإنسان من عناصر أو ظروف أو أشياء أو أحداث تؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا، فالبيئة- إذًا- منظومة متكاملة من المؤثرات المختلفة، التي تتفاعل مع بعضها البعض، وتتبادل عملية التأثير في أحوال بني الإنسان، فتخلق الفقر والغنى، والصحة والمرض، والتقدم والتخلف، والعلم والجهل، والخير والشر، والصلاح والفساد، وغير ذلك.

3- ولا بأس ب، يُذكَر- هنا- التعريف الذي اختاره واضع قانون البيئة المصري، رقم (4) لسنة (1994م)، حيث عرفها بأنها: «المحيط الحيوي الذي يشمل الكائنات الحية، وما يحتويه من مواد، وما يحيط بها من هواء، وماء، وتربة، وما يقيمه الإنسان من منشآت»4.

4- ولا بأس- أيضًا- أن نذكر ما أشار إليه بعض الباحثين من أن المعنى اللغوي لكلمة (البيئة) يكاد يكون واحدًا بين مختلف اللغات، فهو ينصرف إلى الوسط الذي يعيش فيه الكائن الحي بوجه عام، كما ينصرف إلى الظروف التي تحيط بذلك الوسط، أيًّا كانت طبيعتها، ظروفًا طبيعية أو اجتماعية أو بيولوجية، والتي تؤثر على حياة ذلك الكائن، ونموه، وتكاثره5.

المبحث الثاني: تتبع تاريخي

1- عند النظر في تاريخ العناية بالبيئة يلاحظ أن البيئة قديمة قدم الإنسان ذاته؛ حيث كانت أول حادثة بيئية هي قتل أحد ابني آدم لأخيه، ثم عجزه عن التصرف في جثة أخيه، حتى بعث الله غرابًا يعلمه كيف يتصرف في الجثة، ومن ذلك الوقت أخذت قضية البيئة تنمو شيئًا فشيئًا مع نمو حياة الإنسان وتطورها.

2- من الطبيعي أنه منذ عقود طويلة من الزمن، كانت المشكلات البيئية محدودة للغاية؛ إذ الحياة في غاية السهولة والبساطة، والنمو البشري يتصاعد بصورة غير مقلقة، والموارد الطبيعية في أغلب البلدان تغطي حاجة أهلها وتزيد عليهم، ولم يكن غريبًا أن تبلغ مصر- على سبيل المثال- في عصر الفراعنة مبلغًا كبيرًا في الثروات والموارد الطبيعية، إلى الحد الذي وصفه القرآن الكريم في قول الله تعالى عن قوم فرعون: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: 57، 58].

3- كذلك تشهد الآثار المصرية القديمة- كمنطقة الأهرامات، ومعبد أبي سمبل بجنوب أسوان، ووادي الملوك بالأقصر وغيرها- على وعي بيئيٍّ عالٍ، ولذلك بقيت منذ آلاف السنين حتى الآن، تتحدى كل عوامل الانهيار والفناء.

ويكفي في ذلك أن نعرف أن الفراعنة أقاموا بعبد أبي سمبل بصورة معمارية مكَّنتهم من جعْل أشعة الشمس تتعامد عبر المنافذ على وجه الملك رمسيس الثاني لمدة (21 دقيقة) في يومين اثنين فقط، من أيام السنة، هما يوم ميلاده، ويوم تتويجه ملكًا على البلاد، وهما يوم 22 فبراير، ويوم 22 أكتوبر من كل عام6.

4- «وكان للحضارة اليونانية دور مهم في علم البيئة؛ فقد نشر العالم والفيلسوف اليوناني «أبقراط» كتابًا بعنوان «عَبْر الأجواء والمياه والأماكن»؛ إدراكًا منه لتأثير هذه العوامل الثلاثة على حياة الكائنات الحية، وخاصة الإنسان. وقد كان لأرسطوطاليس وتلاميذه دور كبير في كتب التاريخ الطبيعي، ولعل أشهر مؤلفاته في هذا المجال «كتاب الحيوان»، وهناك العديد من العلماء اليونانيين الذين بذلوا جهودًا عظيمة في مجال علم الحيوان والنبات»7.

5- ويتضح مدى الاهتمام بالبيئة قديمًا في اختيار مواقع بناء المدن؛ يقول ابن خلدون: «اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدَّعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك للقرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضارِّ بالحماية من طوارقها، وجلْب المنافع وتسهيل المرافق لها: فأما الحماية من المضارِّ فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعًا سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنعٍ من الأمكنة، إما على هضبة متوعِّرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة، فيصعب منالها على العدو، ويتضاعف امتناعها وحصنها. ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طِيب الهواء للسلامة من الأمراض... وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور، منها: الماء؛ بأن يكون البلد على نهر، أو بإزائها عيون عذبة ثرَّة... ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم، إذ صاحب كل قرار لا بدّ له من دواجن الحيوان للنِّتاج والضَّرْع والركوب، ولا بدّ لها من المرعى... ومما يراعى أيضًا المزارع... وقد يراعى أيضًا قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية... ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر، أن تكون في جبل، أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد، تكون صريخًا للمدينة متى طرقها طارق من العدو...»8.

6- أما العناية بالبيئة من خلال التعاليم والأحكام الإسلامية، فتتجلى في العديد من المؤسسات الحضارية التي استحدثها العقل المسلم، ومن هذه المؤسسات:

أ- مؤسسة الخلافة؛ حيث رأينا الخلفاء يعتنون بأمر البيئة بأنفسهم، وبولاتهم، وأعوانهم، كما رأينا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يحث أحد الصحابة على غرس الشجر في أرضه، ويشاركه بيده في الغرس، ورأيناه يوصي بالرفق بالحيوان، ورأيناه يشجع على إحياء الموات. وكذلك رأي علي (رضي الله عنه) في أرض الخراب بالكوفة أنها موات9.

ب- مؤسسة القضاء: حيث يستطيع القاضي أن يحكم بالتعزير على كل من أساء إلى البيئة.

ج- مؤسسة الحِسْبة: وكان لها دور كبير في الإشراف والإرشاد والرقابة والتأديب، وكانت تتدخل في كثير من الأمور الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.

د- مؤسسة الوقف الخيري: وهي مؤسسة تقوم على أساس الصدقة الجارية الدائمة بأن يحبس الإنسان (الأصل المالي) ويسبّل ثمرته، وأن يجعلها موقوفة على الخيرات، وسد الثغرات في حياة الناس... حتى رأينا من خيار الناس مَن ينشئ وقفًا للكلاب الضالَّة.

ه- مؤسسة الزكاة: وقد قامت الزكاة بدورها في معالجة مشكلات الفقراء والمساكين والغارمين، وأبناء السبيل من أصحاب الحاجات... ومن المعلوم أن مشكلة الأعداء الثلاثة: الفقر والمرض والجهل، تعد من أعوص المشكلات التي تعترض رعاية البيئة والإحسان إليها10.

7- لقد ظل الاهتمام بالبيئة في جوانبها المختلفة، لا يمثل مصدر قلق للبشرية، لكن الحال تغير تمامًا بعد الثورة الصناعية والتكنولوجية التي أحدثت نُقْلة كبيرة في طريقة تعامل الإنسان مع ثروات الطبيعة ومواردها، وأدى الإسراف في استعمال هذه الموارد إلى استنزافها «وإفقار الحياة على هذه الأرض، وإحداث اختلال في الموازين الدقيقة للبنية الطبيعية للكرة الأرضية؛ حيث زادت حركة التصحُّر نتيجة إهمال الزراعة في السهول، وتوالت الفيضانات المدمِّرة بسبب قطْع الغابات في الجبال، واستخدمت المواد الكيميائية بصورة عشوائية، وأغرقت الموارد المائية الطبيعية بالفضلات البشرية والصناعية، فتلوث النطاق المائي، وتسربت السموم إلى باطن الأرض، فتضاءلت الثروة البحرية، واختلَّ توازن الكائنات المائية الحية في أجزاء كثيرة من البحار، كما أسهم نَفْثُ النِّفايات الغازية في الجو في زيادة نسبة السموم في الهواء، وتحولها إلى أمطار حارقة، أثرت في دورة الأمطار، فأصبح الجفاف بسببها أهم مشكلات عدد غير قليل من الأقطار»11.

8- برز الاهتمام العالمي بضرورة حماية البيئة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وتجلى ذلك في الاتفاقيات الدولية التي وصل عددها إلى مئة وثلاثين اتفاقية دولية، لكن ما تزال الشكوى قائمة من تدهور شؤون البيئة لأسباب كثيرة، حتى ذهب العلامة الشيخ القرضاوي إلى القول بأنه: «لو كان للبيئة لسان ينطق، وصوت يسمع، لصَكَّت أسماعَنا صرخات، الغابات الاستوائية، التي تُحرَق عمدًا في الأمازون، وأنين المياه التي تخنقها بقع الزيت في الخلجان والبحار، وحشرجة الهواء الذي يختنق بغازات المصانع والرَّصاص في مدن العالم الكبرى»12.

المبحث الثالث: عناية القرآن والسنة بالبيئة

أ- عناية القرآن الكريم بالبيئة:

حفلت آيات القرآن الكريم بالحديث عن البيئة من عدة زوايا:

1- لفت الانتباه إلى عناصر البيئة الطبيعية التي تحيط بالإنسان، من الأرض والسماء، والبر والبحر، والماء والهواء، والشمس والقمر.
2- التوازن البيئي، والمراد به بقاء عناصر البيئة الطبيعية ومكوناتها على حالها كما خلقها الله دون أي تغير يُذكر.
3- النهي عن الفساد والإفساد في الأرض والبر والبحر، وهو فساد يشمل الفساد المادي نتيجة التلوث وتغير طبيعة العناصر المحيطة بالحياة الإنسانية، والفساد المعنوي، نتيجة الظلم والطغيان والعصيان.

وهذه نماذج للآيات التي تحدثت عن عناصر البيئة:

قال الله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22].

وقال تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ* وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ* وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [الحجر: 19-21].

وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ *وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ* وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ* رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [ق: 6-11].

وقال جل شأنه: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [النازعات: 27-33].

وقال أيضًا: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا* وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: 24-32].

وقال تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ* وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: 9، 10].

وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].

قال تعالى يحدثنا عن الحيوان وأهميته للإنسان: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 5-8].

ومن الحيوانات التي ورد ذكرها في القرآن: الخيل والبغال والحمير، قال الله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 8].

ومن الطيور التي ورد ذكرها- كذلك- (الغراب- الهدهد- الذُّبابة- البعوضة- النَّحْلة).

ومن الحشرات: (النَّملة والثُّعبان، والحية، والجراد، والقُمَّل (وهي حشرة تأكل السُّنبلة وهي غضَّة قبل أن تخرج، ويسميها بعض الناس النَّطَّاط).

ويذكر لنا القرآن أن الطيور والدوابَّ أممٌ أمثالنا، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38].

كذلك يحدثنا القرآن عن النبات، يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل:10-11].

ويقول تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 99].

والبحر- كذلك- من مفردات البيئة التي حدثنا عنها القرآن، يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 14].

ويقول تعالى: ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا* وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا* أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا﴾ [الإسراء:66-68].

هكذا حدثنا القرآن عن كل مفردات الطبيعة التي هي عناصر البيئة المحيطة بالإنسان.

ونلاحظ أن بين كل عناصر البيئة توازنًا دقيقًا مُحكَمًا؛ إذ إن كل شيء في هذا الكون مخلوق بمقدار، وبحكمة، ولغاية، ومحسوب بحساب دقيق.

ولو كانت الشمس أكبر حجمًا ممَّا هي، أو أشد حرارة، أو كانت أقرب إلى الأرض، لاحترق كلُّ ما على وجه الأرض. ولو كانت أصغر، أو أقل حرارة، أو أبعد مما هي عليه الآن، لَبردت الأرض، وتعذرت فيها الحياة. ولو كانت الأرض تدور حول نفسها، أو حول الشمس أسرع أو أبطأن لحَدث مثل ذلك أيضًا.

ولو كان القمر أقرب إلى الأرض، أو أكبر حجمًا، لارتفع المدُّ الذي يُحدثه في حياة المحيطات، بحيث يغمر الأرض كل يوم مرتين.

ولو كان الأكسجين نسبته أقل، ولو كان ثاني أكسيد الكربون نسبته أقل أو أكثر، لَانعدمتِ الحياة.

ولم يكتف القرآن بأن يحدثنا عن البيئة،  وإنما طالبنا بالمحافظة عليها، وعدم الإفساد فيها، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56].

وقال تعالى: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 74].

والفساد- هنا- لا يقتصر على الفساد المادي بتلويث الهواء والماء والتربة وغيرها، وإنما يشمل الفساد المعنوي، أي بالمعصية وتجاوز الحد، والإسراف، والظلم من الإنسان.

ب- عناية السنة النبوية بالبيئة:

أما السنة النبوية فقد عُنيت بالبيئة عناية فائقة، موازية لعناية القرآن الكريم بها، من عدة زوايا:

1- منها زاوية الدعوة إلى الغرس والزرع، والعناية بالخضرة: من ذلك ما جاء أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له به صدقة»13.

2- ومنها زاوية الدعوة إلى إحياء الأرض بالزرع والإنبات وغير ذلك، كقوله (صلى الله عليه وسلم): «من أحيا  أرضًا ميتةً، فهي له»14.

والأرض الميتة هي الأرض البُور، التي لا زرع فيها ولا بناء، سماها الحديث (ميتة) للإشارة إلى أن الأماكن والأراضي تموت وتحيا، كما يموت الإنسان ويحيا، وموت الأرض إنما يكون بتركها بَوارًا، وحياتها تكون بحرثها وإنبات الزرع، وغرس الشجر، وإقامة الدور والأبنية.

نقل ابن حجر في «الفتح» عن القزَّاز قال: «الموات: الأرض التي لم تعمر. شبهت العمارة بالحياة، وتعطيلها بفقد الحياة، وإحياء الموات أن يعمد الشخص لأرض لا يعلم تقدم مِلْكٍ عليها لأحد، فيحييها بالسقي، أو الزرع أو الغرس، فتصير بذلك ملكه»15.

3- ومنها زاوية النظافة، وإبعاد الأذى عن طريق الناس: مثل قوله (صلى الله عليه وسلم): «الإيمان بضع وستون شعبة؛ فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»16.

4- ومنها زاوية الحرص على حياة الحيوان والطير، وعدم قتلهما لغير حاجة: قال (صلى الله عليه وسلم): «ما من إنسان قتل عصفورًا فما فوقها، بغير حقها، إلا يسأله الله- عز وجل- عنها». قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: «يذبحها، فيأكلها، ولا يقطع رأسها يرمي بها»17.

وعن ابن عمر (رضي الله عنه) مرفوعًا: «عذبت امرأة في هرة؛ حبستها حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار»18.

5- ومنها زاوية النهي عن تلويث الماء بأي سبب من أسباب التلويث: مثل ما جاء عنه (صلى الله عليه وسلم) من قوله:

- «اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل»19.

- وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «اتقوا اللاعنين»، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم»20.

- «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه»21.

- «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يتوضأ منه»22.

6- ومنها زاوية النهي عن الإسراف في استعمال الماء: فعن عبد الله بن مغفل (رضي الله عنه) قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»23.

7- ومنها زاوية الإحسان إلى الحيوان: قال السول (صلى الله عليه وسلم): «إن الله- عز وجل- كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»24.

وفي الحديث: بينما رجلٌ يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثَّرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خُفَّه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له. قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «في كل كبد رطبة أجر»25.

8- ومنها زاوية المحافظة على الثروة الحيوانية والنباتية في أثناء الحرب: من ذلك ما جاء في وصية أبي بكر (رضي الله عنه) لقادة جيوشه: «إني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيًا، ولا كبيرًا هَرِمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخربنَّ عامرًا، ولا تعقرنَّ شاة ولا بعيرًا، إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلًا، ولا تغرقنَّه، ولا تغلُلْ، ولا تجبُن»26.

المبحث الرابع: الاتفاقات الدولية وحماية البيئة

بعد أن ظهرت كثير من المشكلات البيئية، بدأ العالم ينتبه إلى خطورة الاعتداء على البيئة، فعقدت المؤتمرات والاتفاقيات التي استهدفت وضع حد للعدوان على البيئة، والمحافظة عليها لضمان سلامة حياة البشر واستقرارهم على ظهر الأرض، وهذا ما يبدو فيما يأتي27:

أ- في عام 1072م عقد في مدينة إستكهولم بالسويد مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة البشرية28. وتتابعت المؤتمرات الدولية العالمية والإقليمية التي تهدف إلى حماية البيئة من أخطار التلوث، بل وإلى تربية الناس، والتي من شأنها الحفاظ على البيئة التي يعيشون فيها، كالمؤتمر الدولي للتربية البيئية، الذي عقد 1977م بمدينة تبليسي بالاتحاد السوفيتي المنهار.

ب- وقد أصبحت الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية البيئة جانبًا مهمًّا من جوانب القانون الدولي.

ومن أهم هذه الاتفاقيات أو المعاهدات:

1- اتفاقية لندن الخاصة بالحفاظ على الحيوانات والنباتات على حالتها الطبيعية لعام 1923م.
2- اتفاقية هلسنكي الخاصة بحماية البيئة البحرية في بحر البلطيق لعام 1974م.
3- اتفاقية برشلونة الخاصة بحماية البحر الأبيض المتوسط من التلوث لعام 1976م.
4- اتفاقية الكويت الإقليمية للتعاون في حماية البيئة البحرية من التلوث لعام 1978م.
5- معاهدة جُدَّة بشأن حماية البيئة البحرية للبحر الأحمر وخليج عدن لعام 1982م.
6- اتفاقية جنيف الخاصة بتلوث الهواء بعيد المدى عبر الحدود لعام 1989م29.

ج- وفي عام 1993م أنشئت منظمة الصليب الأخضر الدولي في جنيف لتعمل بالتعاون مع الأمم المتحدة على حماية البيئة من الكوارث والملوِّثات، وكان أول رئيس لها هو ميخائيل جورباتشوف الرئيس الأخير للاتحاد السوفيتي.

مؤتمر قمة الأرض:

انعقد في النصف الأول من شهر يونيو عام 1992م، بمدينة ريو دي جانيرو بالبرازيل، مؤتمر (البيئة والتنمية)، الذي اشتُهر بـ «مؤتمر قمة الأرض»، وهو أكبر اجتماع عالمي في التاريخ؛ حيث ضم ممثلي 178 دولة. وحضره أكثر من مئة من رؤساء الدول والحكومات، واستهدف حماية كوكب الأرض وموارده ومناخه، ووضع سياسة للنمو العالمي والقضاء على الفقر، مع المحافظة على البيئة.

وقد بدأ المؤتمر بدقيقتي صمت احترامًا لمتاعب الكوكب المريض، ثم ألقى د. بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كلمة افتتاح المؤتمر، وأكد فيها أن الأرض مريضة بالتخلف والتقدم معًا، وأن الدول الأغنى تتحمل النصيب الأكبر من مسؤولية تلويث الأرض، وأن الجميع معنيون: أهل الشمال الغني، وأهل الجنوب الفقير؛ لأن الأرض بيتهم المشترك. وأضاف أن التنمية يجب ألا تتم على حساب البيئة، وإن إنقاذ الأرض من أجل الأجيال المقبلة يستلزم جهدًا دوليًّا موحدًا، وتعاونًا عالميًّا منسقًا بين جميع أبناء الجنس البشري.

وطالب الدول الغنية والفقيرة على السواء بتغيير نمط حياتها، واتهم الأولى بانتهاج نمط معيشة غير منطقي، والتسبب في ارتفاع درجة حرارة الأرض، كما اتهم الثانية بتدمير ثرواتها بطريقة مأساوية تقوم على استنزاف موارد المستقبل لتأمين حاجات الحاضر.

وقد ناقش المؤتمر عددًا من مشروعات الاتفاقيات الدولية، ووقَّعت أكثر من 150 دولة على اتفاقيتين منها فقط، هما:

1- اتفاقية مناخ الأرض: وتتناول التغييرات المناخية، وسخونة الأرض، وسبل مواجهتها خاصة عن طريق تخفيض غاز ثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد الأزوت والكبريت المنبعثة في الجو. وتم التصديق عليها بعد إلغاء بنود الإلزام منها، والاكتفاء بتعهد الدول الموقِّعة بتخفيض انبعاثاتها من الغازات المسببة لسخونة الجو، واحتباس الحرارة فيها، لتعود إلى ما كانت عليه عام 1990م. وهذا الحل- كما يؤكد العلماء- غير كافٍ لحماية مناخ الأرض، ولكنه يمثل الحل الوسط بعد رفض التوقيع على المعاهدة- في صورتها الأولى الإلزامية الصارمة- من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وهي المسؤولة بمفردها عن 35% من انبعاثات الغازات المذكورة.

وكان الأوربيون واليابانيون يؤيدون فرض ضريبة إلزامية على انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، الناتجة عن استخدام مصادر الطاقة الحفرية كالنفط والفحم، تستخدم حصيلتها في تحديث المعامل والمصافي؛ لتكون أقل تلويثًا للبيئة، غير أن الدول المنتجة للنفط رفضت هذه الاتفاقية، كما اعترضت عليها الولايات المتحدة الأمريكية بحجة إعاقتها للتنمية الاقتصادية.

2- أما الاتفاقية الثانية فهي اتفاقية التنوع الحيوي التي تهدف إلى حماية الكائنات الحية الحيوانية والنباتية المهددة بالانقراض، غير أن الولايات المتحدة الأمريكية لم توافق على هذه الاتفاقية، حماية لمشروعاتها الحيوية القائمة على استخدام الهندسة الوراثية؛ لأنها لا تحمي حقوق براءة الاختراع في الصناعة البيوتكنولوجية. وقال الرئيس الأمريكي جورج بوش: إن الولايات المتحدة تساهم في حماية الكائنات المعرَّضة للانقراض دون توقيع المعاهدة، وإن جهدها تخطى أهداف المعاهدة. كما ثار الخلاف حول تمويل برنامج الحماية. ويبدو أن الرفض الأمريكي كان بسبب ظروف انتخابات الرئاسة في نوفمبر عام 1992م، لذلك قرر الرئيس اللاحق بيل كلينتون التوقيع على اتفاقية حماية الأحياء في يونيه عام 1992م، توافقًا مع الاتجاه العالمي لإقرارها.

أما بشأن حماية الغابات- الاستوائية أو المعتدلة- فقد ثار الخلاف بشأنها خاصة بين الدول التي تقع بأرضها الغابات وغيرها من الدول، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مضاعفة مساعداتها للدول الفقيرة لحماية الغابات، وأصبح من المتعين مع قطْع الأشجار إعادة التشجير.

وأصدر المؤتمر في ختام أعماله (إعلان ريو) الذي تبنته الدول الأعضاء في الأمم المتحدة كافة، وتتضمن 27 مبدأ يجب الاستناد إليه في إدارة الأرض بوصفها (دار الإنسانية) من أجل الحفاظ على البيئة في عملية التنمية.

د- وفي أواخر يونيو عام 1997م انتهى مؤتمر قمة الأرض التالي الذي عقدته الأمم المتحدة في نيويورك، بالفشل في إقرار بيان ختامي بشأن حماية البيئة، يتضمن اتخاذ إجراءات جديدة لمقاومة ارتفاع درجة حرارة الأرض. وأكد رئيس المؤتمر أنه ليس لدى الحكومات الإرادة السياسية لحل مشاكل البيئة المعقدة التي يواجهونها، كما اعترف أغلب مندوبي الدول المشاركة في المؤتمر- وعددها 170 دولة- بفشل المؤتمر. ويُعْزَى هذا الفشل إلى الخلافات المستعصية بين الدول الصناعية التي تطالب بمبادرات بيئية، وبين الدول النامية التي تطالب بمساعدات مالية.

وقد أقر مؤتمر قمة الأرض بنيويورك وثيقة تم التوصل إليها في اللحظة الأخيرة، بدلًا من البيان الختامي، أكد فيها:

1- أن التدهور المتزايد للوضع البيئي يدعو إلى القلق العميق.
2- أن التغييرات المناخية تشكل أحد أكبر التحديات التي سيواجهها العالم خلال القرن الحادي والعشرين.
3- أنه يوجد توافق واسع، ولكنه ليس شاملًا، حول ضرورة اعتماد قيود ملزمة، وواقعية وعادلة للدول الصناعية تؤدي إلى خفض كبير لانبعاث الغازات، وفق جداول زمنية محددة.
4- أن نتائج القمة القادمة، التي ستعقد في «كيوتو» باليابان، ستكون حيوية.
5- وفي أوائل سبتمبر عام 2002م اجتمع مؤتمر قمة الأرض في مدينة «جوهانسبرج» بجنوب أفريقيا بحضور 104 من رؤساء الدول والحكومات.

وقبل أيام من انعقاد المؤتمر أصدرت الأمم المتحدة «تقرير التحدي العالمي»، الذي يحذر من أن 30% من الأراضي الزراعية في العالم مهددة بالتصحُّر، وأن 90 مليون هكتار من الغابات قد دمرت بالفعل خلال سنوات التسعينات بعد انعقاد مؤتمر قمة الأرض الأول، وأن هناك مليار شخص مازالوا غير قادرين على الحصول على المياه النقية للشرب، وأن ما يقدر بنحو 3,5 مليار شخص سيواجهون نقصًا خطيرًا في إمدادات المياه بحلول عام2025م، ولاسيما في شمال أفريقيا وغرب آسيا. وجاء بالتقرير أن المياه الملوثة تتسبب في وفاة 2,2 مليون شخص سنويًا. وأشار التقرير إلى أن الطلب على الغذاء يتصاعد مع تزايد سكان العالم، بينما تتناقص خصوبة الأرض في مناطق عديدة من العالم، بسبب إنهاك الأرض بالزراعة، أو بسبب الجفاف، أو التصحُّر30.

الفصل الثاني

مقاصد الشريعة وصلتها بحماية البيئة

وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: البيئة ومقصد حفظ الدين.
المبحث الثاني: البيئة ومقصد حفظ النفس.
المبحث الثالث: البيئة ومقصد حفظ النسل.
المبحث الرابع: البيئة ومقصد حفظ المال.
المبحث الخامس: البيئة ومقصد حفظ العقل.

المبحث الأول: البيئة ومقصد حفظ الدين.

ترجع تكاليف الشريعة- كما قرر الشاطبي- إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.

فأما الضرورية فمعناها أنها لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث إذا فُقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فسادٍ وتهارُج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما يقيم أركانها، ويثبِّت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم... ومجموع الضروريات الخمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل31.

وإذا كان الدين هو الضرورة الأولى من الضروريات الخمسة، التي لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا، فإن ذلك يقتضي حماية البيئة، بل وتنميتها؛ لأن البيئة هي المجال الذي يمارس فيه الإنسان مهمة الاستخلاف والاستعمار، التي كلَّفه بها الـمُشرِّع؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30]، وقوله عز وجل: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].

ومن ثم تكون المحافظة على البيئة وحمايتها من كل صور الاعتداء عليها فرضًا دينيًّا، لا ضرورة حياتية فقط، لأنه- كما في القاعدة الفقهية- «ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب»، وإذا كانت أصول الدين تتوزع بين عبادات ومعاملات، فإن تحقيق هذه الأصول لا يمكن أن يتم بعيدًا عن البيئة:

- فالصلاة تحتاج إلى الطهارة، التي تحتاج بدورها إلى الماء، وهو أحد عناصر البيئة، والماء يشترط فيه أن يكون طاهرًا مصونًا من الملوثات التي تفسد طبيعته، وتمنع استعماله للشرب، أو الوضوء، أو الاغتسال.

- والزكاة تحتاج إلى الانتشار في الأرض، بالسعي والعمل بصوره كافة، الزراعي والصناعي والتجاري... بما يعنيه ذلك من تنمية البيئة وحمايتها.

- والصيام يقتضي الإمساك عن كل ما يفسد أو يخرب عناصر البيئة؛ لأنها نعمة من الله.

- والحج يقتضي الاستطاعة المالية والبدنية، ولا يمكن توفُّرهما للإنسان من دون أن يعمل أو يسعى في الأرض؛ ليبني ويعمر ويستصلح.

- أما المعاملات فهي حصيلة تفاعل الإنسان مع البيئة بما تحويه من خامات وعناصر، تتيح للإنسان الفرصة لاستثمارها وتنميتها وتبادلها مع غيره، بما يحقق في النهاية التعاون والتكامل ، الذي يعود بالخير على الجنس البشري كله.

ولم يكتف الدين بذلك، وإنما بيَّن للإنسان كيف يتعامل مع المخلوقات والكائنات المحيطة به؛ لأنها تمثل أحد عناصر البيئة؛ فإنه ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: 38].

كذلك فإن الدين قد نهى عن الفساد والإفساد في البيئة، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11-12]، وقوله عز وجل: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 85]. وقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41].

كذلك فقد نهى الدين عن الإسراف في استعمال العناصر البيئية؛ إذ إن الإسراف يُعَدُّ سببًا رئيسيًّا من أسباب تدهور البيئة، واستنزاف مواردها، كما أنه بكل صوره وأشكاله يؤدي إلى نتيجة واحدة هي: إهلاك الحرث والنسل، وتدمير التوازن البيئي، الذي يعد أحد القوانين الضرورية لاستمرار الحياة على كوكب الأرض.

ومن هنا تشير الآيات التي تتحدث عن الإسراف والمسرفين، وهي: قوله عز وجل: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]. وقوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]. كما تشير الآيات إلى هلاك المسرفين، قال تعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنبياء: 9].

وقد حذر النبي (صلى الله عليه وسلم) من الإسراف في قوله: «كلوا، واشربوا، وتَصدَّقوا، في غير إسراف، ولا مخيلة»32.

المبحث الثاني: البيئة ومقصد حفظ النفس.

هذا المقصد يراد به: المحافظة على الحياة الإنسانية، بدنًا ونفسًا، من كل ما يمثل خطرًا على أحدهما أو كليهما. ويترتب عليه إما إفناء الأرض من الجنس البشري، أو تعريض الإنسان لخطر الإصابة بالأمراض والآفات التي تهلكه.

ويوضح ابن عاشور معنى حفظ النفس، فيقول:

«ومعنى حفظ النفوس حفظ الأرواح من التلف أفرادًا وعمومًا، لأن العالم مركب من أفراد الإنسان، وفي كل نفس خصائصها التي بها بعض قوام العالم. وليس المراد حفظها بالقصاص، كما مثل بها الفقهاء، بل نجد القصاص هو أضعف أنواع حفظ النفوس؛ لأنه تدارُك بَعد الفَوات، بل الحفظ أهمه حفظها من التلف قبل وقوعه، مثل مقاومة الأمراض السارية؛ وقد منع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) الجيش من دخول الشام؛ لأجل طاعون عَمَوَاسَ.

والمراد النفوس المحترمة في نظر الشريعة، وهي المعبر عنها بالمعصومة الدم؛ ألا ترى أنه يعاقب الزاني المحصن بالرجم مع أن حفظ النسب دون مرتبة حفظ النفس، ويلحق بحفظ النفوس من الإتلاف حفظ بعض أطراف الجسد من الإتلاف، وهي الأطراف التي ينزل إتلافها منزلة إتلاف النفس في انعدام المنفعة بتلك النفس، مثل الأطراف التي جعلت في إتلافها خطأ الدِّيةَ كاملة»33.

ولا بد من الإشارة إلى أن حفظ النفس يستلزم عدة إجراءات تستهدف- في النهاية- صيانة الحياة الإنسانية، وصيانة الحياة الحيوانية، على السواء؛ ومن هذه الإجراءات:

حرم الإسلام قتل النفس، وعدَّ قتل نفس واحدة بمثابة قتل البشرية كلها، كما في قوله تعالى: ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].

- وحرم قتل الإنسان لنفسه، وهو ما يسمى (الانتحار)، وتوعد مَن يفعل ذلك بالعذاب الأليم يوم القيامة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29].

- وحرم قتل الحيوان، إلا إذا كان مؤذيًا للإنسان؛ فقد روي أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذكر خمسًا من الدواب يقتلن في الحل والحرم: «الغراب، والحدأة، والفأر، والعقرب، والكلب العقور»34.

أما ما لا يؤذي الإنسان، فينبغي أن يعامل برفق، لا تعذبه، ولا تعتدي على حقه في الحياة؛ لأن له دورًا في المحافظة على التوازن البيئي، ومن ثم فقد ورد في الحديث: «دخلت امرأةٌ النار في هرة، حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»35.

- ومن هذه الإجراءات- كذلك- دعوته إلى دفن الموتى في التراب، وعدم ترك الجثث في العراء؛ صيانة للبيئة من أن تنتشر فيها الأمراض والأوبئة التي تفتك.

- كذلك دعوته إلى ضرورة التداوي والعلاج: «تداووا عباد الله، فما أنزل الله من داء، إلا جعل له دواء»36.

المبحث الثالث: البيئة ومقصد حفظ النسل.

إن المقصود بهذا المقصد هو حفظ حياة البشر، وبقاء النوع الإنساني في هذه الأرض، كما أراده الله تعالى؛ فالنسل هو الذرية والأجيال التي ستولد في المستقبل.

وقد عملت الشريعة على ذلك من خلال عدة أمور:

أولًا: شرعت الزواج الذي يعد الإبقاء على النوع الإنساني في أحد أهم أغراضه وأهدافه.
ثانيًا: عدم استنزاف الموارد الطبيعية؛ لأنها حق للأجيال المتعاقبة بالدعوة إلى الاقتصاد والاعتدال.
ثالثًا: حماية البيئة من كل مظاهر التلوث؛ محافظة على التوازن البيئي الذي يضر بالحياة الإنسانية والحيوانية.
رابعًا: تحريم الدعوة إلى تحديد النسل على مستوى الأمة؛ لأن ذلك يعطل مقصد الشريعة في الإبقاء على النوع الإنساني.
خامسًا: دعت إلى العناية بالنشء عناية صحية ونفسية.

وقد أشار ابن عاشور إلى هذا المقصد فقال: «وأما حفظ الأنساب، ويعبر عنه بحفظ النسل، فقد أطلقه العلماء، ولم يبيِّنوا المقصود منه، ونحن نفصِّل القول فيه؛ وذلك أنه:

إن أريد به حفظ الأنساب- أي النسل- من التعطيل، فظاهرٌ عَدُّه من الضروري؛ لأن النسل هو خلفة أفراد النوع، فلو تعطل يؤول تعطيله إلى اضمحلال النوع وانتقاصه، كما قال لوط لقومه: ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾ [العنكبوت: 29]، على أحد التفسيرين، فبهذا المعنى لا شبهة في عَدِّه من الكليات؛ لأنه يعادل حفظ النفوس؛ فيجب أن تحفظ ذكور الأمة من الاختصاء مثلًا، ومن ترك مباشرة النساء باطِّراد العُزوبة، ونحو ذلك، وأن تحفظ إناث الأمة من قطع أعضاء الأرحام التي بها الولادة، ومن تفشِّي إفساد الحمل في وقت العلوق، وقطْع الثدي؛ فإنه يكثر الموتان في الأطفال بعسر الإرضاع الصناعي على كثير من النساء، وتعذره في البوادي.

وأما إن أريد بحفظ النسب حفظ انتساب النسل إلى أصله، وهو الذي لأجله شرعت قواعد الأنكحة، وحُرم الزنى، وفُرض له الحد، فقد يقال: «إنَّ عدَّه من الضروريات غير واضح»؛ إذ ليس بالأمة ضرورة إلى معرفة زيد بن عمرو، وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم، ولكن في هذه الحالة مَضَرَّةٌ عظيمةٌ، وهي أن الشك في انتساب النسل إلى أصله يزيل من الأصل الميل الجِبِلِّي الباعث عن الذَّب عنه، والقيام عليه بما فيه بقاؤه وصلاحه، وكمال جسده وعقله بالتربية والإنفاق على الأطفال، إلى أن يبلغوا مبلغ الاستغناء عن العناية، وهي مَضَرَّةٌ لا تبلغ مبلغ الضرورة؛ لأن في قيام الأمهات بالأطفال كفايةً ما لتحصيل المقصود من النسل، وهو يزيل من الفرع الإحساس بالمبرَّة والصِّلة والمعاونة والحفظ عند العجز، فيكون حفظ النسب بهذا المعنى بالنظر إلى تفكيك جوانبه من قبيل الحاجيِّ، ولكنه لما كانت لِفوات حفظه من مجموع هذه الجوانب عواقبُ كثيرة سيئة، يضطرب لها أمر نظام الأمة، وتنخرم بها دِعامة العائلة، عَدَّ علماؤنا حفظ النسب في الضروري؛ لما ورد في الشريعة من التغليظ في حد الزنى، وما ورد عن بعض العلماء من التغليظ في نكاح السر، والنكاح بدون ولي، وبدون إشهاد..37.

المبحث الرابع: البيئة ومقصد حفظ المال.

لكي نعرف صلة البيئة بحفظ المال؛ لا بد من أن نعرف معنى المال لغة واصطلاحًا.

أما المعنى اللغوي للمال فيطلق على: كل ما تملَّكه الإنسان من الأشياء38.

أما المعنى الاصطلاحي فقد اختلف الفقهاء في تعريف المال، على النحو الاتي:

- ذهب ابن عابدين إلى أن المراد بالمال: ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. والمالية تثبت بتموُّل الناس كافة أو بعضهم39.
- وعرفه الشاطبي بأنه: ما يقع عليه المِلْك، ويستبدُّ به المالك عن غيره، إذا أخذه من وجهه40.
- أما ابن العربي فقد عرفه بأنه: ما تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادة وشرعًا للانتفاع به41.
- وقال عبد الوهاب البغدادي: هو ما يُتموَّل في العادة، ويجوز أخذ العوض عنه42.
- وقال الحنابلة: المال شرعًا ما يباح نفعه مطلقًان أي في كل الأحوال، أو يباح اقتناؤه بلا حاجة43.

ومن التعريفات السابقة نستنتج ما يأتي:

1- أن المال يطلق على ما لع عِوَض، أو له قيمة مالية.
2- هو ما يصلح عادة وشرعًا للانتفاع به.
3- ما يُقْتَنى بغرض التجارة أو الحاجة.

ومن ذلك كله يُطلق المال على كل شيء يحيط بالإنسان، ويسعى إلى اكتسابه، أو الاختصاص به.

وعلى ذلك فالأرض مال، والزرع مال، والأنعام مال، والمرعى مال، والمسكن مال، والثياب مال، والمعادن مال.

يقول ابن خلدون: اعلم أن الكسب إنما يكون بالسعي في الاقتناء، والقصد إلى التحصيل، فلا بدّ في الرزق من سعي وعمل، ولو في تناوله وابتغائه من وجوهه، قال الله تعالى: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ [العنكبوت: 17]، والسعي إليه إنما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكل من عند الله، فلا بدّ من الأعمال الإنسانية في كل مكسوب ومتموَّل، لأنه إن كان عملًا بنفسه مثل الصانع فظاهر، وإن كان مقتنًى من الحيوان أو النبات أو المعدن، فلا بدّ فيه من العمل الإنساني، كما تراه، وإلا لم يحصل، ولم يقع به انتفاع.

ثم إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متموّل، وهما الذخيرة والقُنْية لأهل العالم في الغالب، وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلها بما يقع في غيرها من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقُنْية والذخيرة44.

وإذا كنا قد عرفنا معنى المال، فلا بدّ من الإشارة إلى كيفية حفظ المال، فحفظ المال إنما يكون بالطرق الآتية:

أولًا: إنماء المال، أي زيادته، وهذه الزيادة قد تكون نابعة من الشيء نفسه، وقد تكون من الخارج. لكن هذه الزيادة، حتى تتحقق؛ لا بدّ من سعي الإنسان إلى العمل، وابتغاء الرزق؛ ولذلك أباحت الشريعة أنواعًا من العقود التي تهدف في النهاية إلى تنمية المال، بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غير ذلك؛ حفاظًا على المال لمصلحة كل من الفرد والجماعة45.

ثانيًا: منع السفهاء واليتامى من الحصول على أموالهم حتى لا يضيعوها46.

ثالثًا: الحكم بالضمان على كل من اعتدى على مال غيره، إما بالإتيان بمثل ما أتلفه، أو بدفع قيمته، على نحو ما ورد في «مجلة الأحكام العدلية» أنه: إعطاء مثل الشيء، إن كان من المِثْليات، وقيمته إن كان من القِيَميَّات47.

وإذا كان المال بهذه الكيقِيَميَّاتمِثْليات، يره، لإما بالإتيان بمثل ما أتلفه، أو بدفع  ما هو لقصد تحصيلها بما يقع في غيرها من حوالة افية التي عرضناها، فإن المحافظة على المال تتطلب ما في البيئة من عناصر جامدة أو حية، وذلك بالمحافظة على أصلها والسعي إلى تنميته، وعدم تعريضها للهلاك أو الضياع أو إساءة استعمالها بما يعود بالأثر السيء على الفرد والمجتمع.

إن الموارد الطبيعية ينبغي أن تنال الرعاية القصوى من الإنسان؛ لأنها ليست ملكًا له وحده، وإنما هي ملك لسائر الأجيال، ولهذا كان من المقاصد الشرعية المحافظة على المال، الذي هو قوام لمعيشة الإنسان في هذه الدنيا، وأحد أمرين جعلهما الله تبارك وتعالى مجالًا للزينة والتباهي والافتخار، فقال: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46].

المبحث الخامس: البيئة ومقصد حفظ العقل.

للعقل في الإسلام مكانة كبيرة؛ إذ هو مناط التكليف في الإنسان، ومن ثم فلا تجب عبادة من صلاة أو صيام أو حج أو جهاد أو غيرها على مَن لا عقل له، كالمجنون، وإن كان مسلمًا بالغًا؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم) «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل»48.

وقد أجمع الفقهاء، على أن غير العاقل لا تعتبر تصرفاته المالية، فلا يصح بيعه، ولا إيجاره، ولا وكالته، أو رهنهن ولا يصح أن يكون طرفًا في أي عقد من العقود المالية وغير المالية، بل ولا يترتب شيء على أقواله، فلا يصح منه إسلام أو رِدَّة، ولا نكاح ولا طلاق ولا ظِهار، ولا يعتمد إقراره في النسب أو المال، ولا يؤخذ بشهادته أو خبرِه وحديثه.

وإنما كان العقل له هذه المكانة؛ لأنه أكبر المعاني قدرًا، وأعظم الحواس نفعًا؛ فإن به يتميز عن البهيمة، ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه، ويتقي ما يضرّه، ويدخل به في التكليف، وهو شرط في ثبوت الولايات، وصحة التصرفات وأداء العبادات49.

وقد سلكت الشريعة مسالك متعددة للعناية بالعقل، وتنميته، وليس فقط المحافظة عليه؛ لأن به- كما ذكر ابن عابدين في «الحاشية»- نفع المعاش والمعاد50.

ومن ذلك أنها دعت إلى إعمال العقل في النظر إلى جوانب الكون المختلفة، من أرض وسماء وجبال وحيوانات، بل نظر الإنسان إلى نفسه وإلى طعامه، وكل ما يتصل به، حتى يدرك عظمة الخالق، وما يستوجبه ذلك من طاعة وعبادة51.

ومن ذلك أنها حرمت كل ما من شأنه أن يضعف الطاقة العقلية، أو يبدِّدها أو يقضي عليها... 52.

ومن ذلك أنها جعلت الدية على من ارتكب جناية أذهبتِ العقل، وذلك لما ورد في كتاب النبي (صلى الله عليه وسلم) لعمرو بن حزم: «وفي العقل الدية»53.

وقد أشار ابن عاشور إلى معنى حفظ العقل، فقال: «ومعنى حفظ العقل حفظ عقول الناس من أجل أن يدخل عليها خلل؛ لأن دخول الخلل على العقل مؤدٍّ إلى فسادٍ عظيم، من عدم انضباط التصرف، فدخول الخلل على عقل الفرد مُفْضٍ إلى فساد جزئي، ودخوله على عقول الجماعات وعموم الأمة أعظم؛ ولذلك يجب منع الشخص من السُّكْر، ومن الأُمَّة من تفشي السُكْر بين أفرادها، وكذلك تفشي المفسدات مثل: الحشيشة، والأفيون، والمورفين، والكوكايين، والهروين، ونحوها مما كثر تناوله في القرن الرابع عشر الهجري54.

أما صلة حفظ البيئة بحفظ العقل، فمن الواضح أن المحافظة على الإنسان تعني- من بين ما تعني- المحافظة على عقله؛ لأنه من دون هذا العقل لا يستطيع الإنسان أن يقوم بوظيفته، أو يتعامل مع عناصر البيئة التي تحيط به، بالصورة الصحيحة التي تحقق في النهاية المحافظة على الموارد الطبيعية، وعدم إهدارها، بل وحسن الاستفادة منها في تطوير البيئة وحمايتها من كل مظاهر التلوث أو الإفساد.

إن المحافظة على البيئة وحمايتها من كل ما يفسدها هو من أهم مقتضَيات الاستخلاف والإعمار.

فالاستخلاف يقتضي من الإنسان أن يتعامل مع البيئة على أنها أمانة بين يديه، وأنها خاضعة له، وأنه سوف يُسأل عنها يوم القيامة.

كما أن الإعمار أمر إلهي يقتضي سعْي الإنسان إلى الاستفادة من كل ما يحيط به من مصادر طبيعية، وموادَّ خامٍ، وغير ذلك مما يساعد الإنسان على تحقيق الإعمار الذي كلِّف به من ناحية، ويحقق له الحرية التي هي أساس المسؤولية من ناحية أخرى.

الفصل الثالث

عناية الفقه الإسلامي بالبيئة

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: مجالات العناية بالبيئة.
المبحث الثاني: التطبيقات الفقهية للعناية بالبيئة.

المبحث الأول:

مجالات العناية بالبيئة

1- أحكام متصلة بصحة الإنسان:

مما لا شك فيه أن الفقه الإسلامي قد أعطى لصحة الإنسان عناية كبيرة؛ لما يترتب على ذلك من مصالح ومنافع في حال السلامة والعافية، ومن أضرار ومفاسد في حال الضعف والمرض؛ إذ «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»55 كما ورد في الحديث الشريف. ولا شك أن الصحة والعافية من أهم أسباب القوة التي تحتاجها الأمة في كل أحوالها.

ومن أهم المؤلفات التي توضح لنا ذلك كتاب «مصالح الأبدان والأنفس»، لأبي زيد البلخي (ت322هـ)؛ حيث «عاش صاحبه في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري،  وبداية القرن الرابع، وإضافة إلى ذلك فإن البلخي يعد واحدًا من أكبر علماء عصره؛ غذ كان جَمَّاعًا لمعارفِ ذلك العصر وعلومه، فهو أديب، فيلسوف، متكلم، له مشاركات مهمة في علوم الشريعة والطب والتاريخ والجغرافيا»56.

يبدأ البلخي كتابه بقوله: «إن الله- جل ذكره- خصَّ الإنسان بقوة التمييز؛ ليعرف النافع فيجتلبه، والضارَّ فيجتنبه؛ ليكون ذلك سببًا إلى صلاح مَعاشه ومَعاده، وذريعةً إلى إحراز خير عاجله وآجله.

وآلته في اجتلاب المنافع واجتناب المضار نفسُه وبدنُه؛ فبصلاحهما يتهيَّأ له بلوغ الواجب من ذلك عليه؛ إذ ليس للإنسان سواهما. وهما قسما كونه، وسببَا وجوده في هذا العالم. فلذلك يحق على كل عاقل أن يُعمِل جِدَّه واجتهادَه فيما يستديم به سلامتهما وصحتهما، ويدفع عنهما عوارض الأذى والآفات، وحوادث العلل والأسقام، وأن لا يُفيتَ نفسَه حظًّا من العلم بالأشياء التي يُصَل بمعرفتها واستعمالها إلى صلاحهما، وأن يجعل ذلك من أهم أموره إليه، وأولاها بأن يَقْصُرَ عنايته عليه»57.

ثم يقول: «وهذا كتابٌ ألَّفتُه في مصالح الأبدان والأنفس، ضمنته ما أرجو انتفاع الناظر فيه به، وتعرُّفَه جزيلَ العائدة في استعماله. وقسمته مقالتين: إحداهما في تدبير مصالح الأبدان، والأخرى في تدبير مصالح الأنفس»58.

أما عن مبلغ الحاجة إلى العناية بصحة الإنسان، وسلامة بدنه ونفسه، فيقول: «إنَّ الذي يَلْزمَ الحاجةُ  إليه في استبقاء أبدان الناس تعهُّدُها وصيانتُها، في وقت صحَّتِها من آفات الحرِّ والبرد، والنَّكبات المؤلمة في ظاهرها، ومن أذى الجوع والعطش وما أشبههما في باطنها، وفي وقت علتها، من المعالجة بالأدوية التي تنفي عنها الأمراض- أمرٌ لا يكاد يخفى على أحد من العامة، فضلًا عن الخاصة؛ وذلك لمشاهدتهم ما يوجد فيها بتعهدها، وصيانتها من البقاء وصلاح الحال، وما يؤدي إليه إضاعتُها وإهمالها من الفساد وسوء الحال.

وحُكمُ جميع أصناف الحيوان في ذلك- أعني لزوم الحاجة إلى تعهدها وصيانتها، وحسن تدبير مآكلها ومشاربها، وإصلاح مأوى كلٍّ منها ومستقَرِّه، ونفي عوارض الآفات عن أبدانها، ومعالجة أدوائها العارضة لها، وما يؤدِّيها إليه إضاعتُها وإهمالُها من الهلاك، وسوء الحال- مشابِهٌ لحكم الإنسان.

فما كان منها مُساكِنًا للناس من أهليها؛ فهم يقومون بتدبير مصالحه في هذه المعاني، وما كان وحشيًّا فقد أُلْهِم من طباعه ما لزمته الحاجةُ إليه في حفظ بدنه واجتلاب المنافع إليه، ودفع المضارِّ عنه.

ثُمَّ يتعدَّى ما وصفنا الحيوان إلى أنواع النبات والشجر من حاجة كلٍّ منها إلى التعهُّد، والاستصلاح، والصيانة من آفة الحرِّ والبرد.

ويُرَى عِيانًا المنفعة التي تصل إلى ما يستتر منها عن برد الشتاء في بقائه عليه، وما يُترك مُصحَّرًا59 من إسراع آفة البرد إليه.

وكذلك يُرى عِيانًا أثرُ المنفعة في ثمارها، إذا تُعُهِّدَت من بقائها الزمانَ الطويلَ، وما يصيبها بإغفالها وإضاعتها من تسلُّط العفونة والفساد عليها في المدة اليسيرة.

ويوجَد هذا المعنى- أعني لزوم الحاجة إلى التعهد- في الأشياء الصناعية التي يتكلف الناس عملَها، كما يوجد في الأشياء الطَّبْعية التي أنشها الخالق- عز وجل- مثلما يُشاهَد من حاجة الأبنية المشيدة إلى المرمَّة والعمارة، فمتى أخليت منها أسرع التَّداعي والخراب إليها.

وكذلك جميع ما يَرتفِقُ به الناس مما في هذه الدنيا، فإن كُلًّا من ذلك- على حِيالِه- يحتاج إلى أن يُصان، ويُتعهَّد؛ كيلا يسرع إليه الفساد.

وفي جملة القول: إن كل ما في هذا العالم من شيء طبيعي أو صناعي، فهو بهيئته معرَّض للفساد والاستحالة60، ويحتاج حاجة ضرورية إلى التعهُّد والصيانة، ليُستدفَع به عنه الفساد، ويستبقى به في المدة التي في طِباعه أن يبقاها»61.

ثم يقول: «فأوْلَى الأشياء أن لا يُغْفَلَ أمرُه، وأن لا يُهمَل شأنُه، وأن يُوفَّى قِسْطَه من التعهد والاستصلاح- بدنُ الإنسان، الذي جعله الله رئيسًا لكلِّ ما في هذا العالم، ومدبِّرًا سائسًا، فيُبقِي ما يُبقِي سواه، وبفسادِه يَفسُدُ جميع ما مَلَّكَه وخَوَّلَه.

وإنما يتهيأ تعهُّد الأبدان لشيئين: أحدهما حفظ الصحة عليها، إذا كانت موجودة. والآخر إعادتها إليها إذا فُقدت.

ونحن مُخبِرون بجهة التدبير الأفضل في كل واحد من النوعين في الأبواب التي تتلو هذا الباب من هذه المقالة، بعد تقديمنا جملة من وصف أوائل الأشياء، وبدء طبيعة الإنسان، وتركيب أعضائه؛ ليكون كذلك أصلًا لما يبنى عليه مما يلزم الحاجة إليه في شرح ما قصدنا شرحَه، والإبانة عنه، إن شاء الله تعالى»62.

ومن ذلك يتضح أن حفظ الصحة عند البلخي هو جزء من حفظ النفس، التي تشمل الإنسان والكائنات الحية، آلة ذلك التعهد والاستصلاح، و«إنما يتهيأ تعهد الأبدان لشيئين: أحدهما حفظ الصحة عليها، إذا كانت موجودة، والآخر إعادتها إليها إذا فُقدت». أليست العبارة إرهاصًا لنظرية «الحفظ» عند الإمام «الشاطبي» من جانبي الوجود والعدم؟

والكتاب في قسمين أحدهما في تدبير مصالح الأبدان، والثاني في تدبير مصالح الأنفس، وقواعد عمله بحث في المقاصد من زاوية المصالح والمفاسد، وإقامة لنظرية الحفظ، حرصًا على الوجود ومنعًا من العدم، والمقاصد فيه مادية معنوية في آنٍ معًا.

فالقسم الأول يتضمن أربعة عشر بابًا، منها أبواب تركز على صحة البدن، ومنها ما يتحدث عن تدبير المطاعم، وتدبير المشارب، وتدبير المشمومات، وتدبير النوم، وتدبير الباه، أي الجماع، وتدبير الاستحمام، وتدبير الحركات الرياضية، وتدبير السماع، وتدبير إعادة الصحة أو العلاج.

إن نظرية الحفظ- هنا- تتناول قوى الإنسان الجسمية، بحاجته إلى غذاء وكساء ونوم ونظافة، وعلاج قواه النفسية، وما تفرضه من ألوان الرِّياضة وممارسة أنواع من الفنون، وهذا كله من مقومات صحته العقلية.

والقسم الثاني من الكتاب يتناول مصالح الأنفس في ثمانية أبواب، يتقدمها الإخبار عن مبلغ الحاجة إلى تدبير مصالح الأنفس، وغايته العلم بطبائع الإنسان، «فإذا عرف الإنسان طبيعته، ومنهى قوتها، ومبلغ استقلالها بالأمور، بَنَى على حسب ذلك تدبيره في مطالبه ومقاصده»63.

2- مجالات العناية بالحيوان:

يشكل مجال العناية بالحيوان مظهرًا آخر من مظاهر عناية الفقه الإسلامي بالبيئة، حيث يعد الحيوان جزءًا أساسيًّا منها، بل إن القرآن الكريم يلفت النظر إلى أن عالم الحيوان يحتوي على أمم، لا أمة واحدة، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾[الأنعام: 38].

ومن هذه الآية الكريمة نستنتج ما يأتي:

  1. نحن لسنا وحدنا في هذا الكون، وإنما معنا أحياء أخرى؛ إنه ما من دابة تدب على الأرض، أو طائر يطير بجناحيه في الهواء، إلا أمم ذات خصائص واحدة. فهناك أمة البقر، وأمة الغنم، وأمة الذئاب، وأمة الخيل، وأمة البغال، وأمة الحمير، وهناك أمة النمل، وأمة الزواحف، وهناك أمة النحل، وأمة الغراب، وأمة العصافير، وأمة الحمام، وأمة الفراشات... وهكذا.
    فكل ما يدب على الأرض أمم، وكل ما يطير في الهواء أمم كذلك...
  2. نحن لا نستطيع أن نعيش بغير الحيوان، بأصنافه المختلفة؛ فنحن نركب بعضها، ونحمل أثقالنا وأمتعتنا على بعضها، ونأكل لحوم بعضها، كالبقر والجاموس والجمال والخراف والماعز والدجاج، كما نأكل شحوم تلك الحيوانات، ونشرب لبنها، ونأكل عسل النحل، ونصنع من جلود الحيوانات وأصوافها وأوبارها أثاثًا ولباسًا وفُرشًا وأغطية. كذلك تعيننا الحيوانات في أعمال الفلاحة؛ كالحرث والدرس والري، كذلك الكلاب- وهي أمة- منها كلاب الحراسة التي تحرس بيوتنا وأمتعتنا وأنعامنا، ومنها الكلاب البوليسية التي تساعدنا في القبض على المجرمين واكتشاف المتفجرات
  3. وليست الحاجة إلى الحيوان حاجة عملية فقط، بل هي- كذلك- حاجة جمالية، فالكثيرون من الناس يحبون اقتناء بعض الحيوانات؛ لما فيها من جمال ومتعة؛ كالخيل، والكلاب والقطط، والببغاوات، والعصافير، والحمام، وأسماك الزينة، وغيرها.
  4. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما قد ينشأ بين الإنسان والحيوان ارتباط وثيق، وحب عميق، قد يؤديان بالبشر إلى الحزن والكآبة، إذا مرض هذا الحيوان أو مات.
    كما أن هناك بعض الحيوانات تُبادل أصحابَها الحُبَّ، فتفرح لقدومهم، وتحزن لمفارقتهم، وتسعد بمداعبتهم، وتعرِّض نفسها للخطر من أجلهم، بل إن بعض الكلاب أو القطط تصاب بالاكتئاب، إذا مات عنها أصحابها، ولا تستطيع العيش من غيرهم.
    وقد أشار القرآن الكريم إلى كل ذلك في قوله تعالى: ﴿وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 5 - 8].
  5. وقد كان للحيوان دور في حياة الأنبياء والأولياء وفي قصصهم، نذكر مثلًا الغراب في قصة قابيل وهابيل: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: 31].
    ونذكر مثلًا كلب أهل الكهف: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: 18].
    وحوت سيدنا يونس(عليه السلام) ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات: 139-144].
    وحمار العُزَيْر: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 259].
    وهدهد سيدنا سليمان (عليه السلام): ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 20- 22].
  6. وهذه بعض أنواع الحيوان التي ورد ذكرها في القرآن الكريم: الضأن- الماعز- البقرة- السبع- النمل- الحمُر- الخيل- البغال- الجمل- البعوض- العنكبوت... وفي القرآن سور تحمل أسماء: البقرة- الأنعام- النحل- العنكبوت- النمل- العاديات- الفيل.

أما حقوق الحيوان فهي:

الحق الأول: حق الإطعام والسقي:

وهذا حق طبيعي لكل كائن حي، لأنه إذا لم يأكل أو يشرب، فإنه يموت. وعلى صاحب الحيوان أن يوفر له ذلك، وإلا كان مُذنِبًا، وعُدَّ قاتلًا لهذا الحيوان، إذا تعمد ذلك. وإذا لم يكن للحيوان صاحب، وجب على الناس أن يوفروا لهذه الدواب حقها الطبيعي في الحياة؛ حتى لا تموت من الجوع.

وقد بلغت الرحمة بقلوب بعض المسلمين مبلغًا حميدًا؛ إذ خصص بعضهم جزءًا من ماله للإنفاق منه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب، فيما سمي في ذلك الوقت بـ «وقف الكلاب»، إنقاذًا لها من الموت جوعًا.

ولقد أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن امرأة «دخلت النار في هرة؛ حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض»64.

ولقد أخبرنا- أيضًا- أن رجلًا دخل الجنة في كلب سقاه فقال (صلى الله عليه وسلم): «بينما رَجُلٌ يمشي بطريق؛ اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ بي، فنزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله به، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ فقال: «في كل كبد رطبة أجر»65.

ولا خلاف بين الفقهاء في أن نفقة الحيوان على مالكه، وجاء في «مَطالِب أُولي النُّهى»: «وعلى مالك البهيمة إطعامها، ولو عطبت [أي لم يرج منه نفع] وعليه سقيها، حتى تنتهي إلى أول شبع، وأول ري دون غايتها؛ لحديث ابن عمر قال: «عذبت امرأة في هرة، حبستها، حتى ماتت جوعًا».

فإن عجز عن نفقتها، أُجْبِر على بيع أو إجارة، أو ذبح مأكول، إزالةً لضررها وظلمها، ولأنها تتلف إذا تركت بلا نفقة، وإضاعة المال منهيٌّ عنه.

فإن أبى فعل شيء من ذلك66، فعل الحاكم الأصلح من الثلاثة، أو اقترض عليه، وأنفق عليه، كما لو امتنع من أداء الدين. ويحرم لعنها- أي البهيمة- لما روى أحمد ومسلم عن عمران بن الحصين (رضي الله عنه)، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان في سفر، فلعنت امرأة ناقة، فقال: «خذوا ما عليها، ودعوها؛ فإنها ملعونة»، فقال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يَعْرض لها أحد67.

ولهما من حديث أبي برزة: «لا تصحبنا ناقة عليها لعنة الله»68. ولمسلم من حديث أبي الدرداء أنه قال: «لا يكون اللعانون شفعاء يوم القيامة»69.

ويحرم تحميلها- أي البهيمة- مُشِقًّا [ما يشق عليها]؛ لأنه تعذيب لها. ويحرم حلْبها ما يضرُّ ولدَها؛ لأن لبنها مخلوق له أشبه ولد الأمة، ويسن للحلال أن يقص أظفاره؛ لئلا يجرح الضرع.

ويحرم ضربُ وجهٍ ووسْمٌ [أي كَيِّ فيه] أي في الوجه؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- لعن مَن ضرب أو وسم الوجه، ونهى عنه. ذكره في «الفروع»... ويكره جَزُّ مَعْرَفة وناصية، وجز ذَنَب، وتعليق جرس، أو وتر؛ للخبر... ويكره له إطعامه فوق طاقته، وإكراهه على الأكل، على ما اتخذه الناس عادة؛ لأجل التسمين، قاله في «الغنية».

ويجب على مقتني الكلب المباح أن يطعمه ويسقيه أو يرسله؛ لأن عدم ذلك تعذيب له... ولا يحل حبس شيء من البهائم؛ لتهلك جوعًا، أو عطشًا؛ لأنه تعذيب، ولو غير معصومة؛ لحديث: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»70.

الحق الثاني: حق الرعاية الصحية والتنظيف:

وهذا في الحيوانات المستأنسة التي لا تؤذي الإنسان، وأقل التنظيف أن يستحِمَّ بالماء؛ حتى تبتعد عنه الحشرات التي تؤذيه.

وإذا مرض الحيوان، وجَب عرضُه على الطبيب المتخصص في علاج الحيوانات، وإذا قصَّر صاحبه في ذلك، عُدَّ عاصيًا لله.

الحق الثالث: حق الرفق به:

التعامل مع الحيوان ينبغي أن يكون بالرفق، لا بالعنف أو بالقسوة، وقد حثَّنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على الرفق بالحيوان في كل الأحوال، ولاسيما عند الذبح، فقال: «إن الله- عز وجل- كتب الإحسان في كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»71.

إن الحيوان يستحق الرأفة والرفق، حتى عند الذبح...!

وربما يقول بعض الناس: وأي فائدة للحيوان في ذلك، إن كان سيذبح بعد لحظات، وقد لا تكون الفائدة في الرفق بالحيوان، وإنما تكون للإنسان؟

إن من يمارس الرأفة مع الحيوان أدْعَى أن يمارسها مع الإنسان؛ لأن القاسيَ مع الحيوان، سيكون قاسيًا مع الإنسان.

ورأى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) رجلًا يسحب شاة من رجلها ليذبحه؛ فقال له: «ويلك قُدْها إلى الموت قَوْدًا جميلًا»72.

وقال رجل: يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها. فقال (صلى الله عليه وسلم): «إن رحمتَها رحمك الله، مَن لا يَرحم لا يُرحم»73.

ومن الرفق بالحيوان ألَّا تُحمِّله فوق طاقته، فقد روى الإمام أحمد، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) دخل ذات يوم، بستانَ رجل من الأنصار، فيه جمل، فما إن رأى الجملُ نبيَّ الله، حتى ذرفت عيناه، فأتاه النبي (صلى الله عليه وسلم) فمسح عليه، فسكن، ثم قال: «مَن رَبُّ هذا الجمل؟» فجاء فتى من الأنصار، فقال: هو لي، يا رسول الله. فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّكك الله إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه، وتتعبه بكثرة العمل»74.

ومن أقرب صور الرفق بالحيوان ما قامت به إدارة إحدى حدائق الحيوان في اليابان؛ إذ قررت تزويد حظائر القرود بدفايات كهربائية، بعد أن وجدت القرود قد تأثرت من شدة البرد!!

الحق الرابع: حق مواراته في التراب عند الموت:

لأنه كائن حي، يستحق أن يُوارى، ولا ينبغي ترك جثته في الهواء، أو إلقاؤها في الماء؛ لأن ذلك كله يؤدي إلى تلوث المياه، وتلوث البيئة، ويؤدي- في النهاية- إلى الإصابة بالأمراض المختلفة.

الحق الخامس: عدم إيذائه دون سبب75:

حرمت الشريعة الإسلامية إيذاء الحيوان، وقد دلَّ على ذلك العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، ومن ذلك:

ما روي عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: «قرصت نملة نبيًّا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل، فأحرقت، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة، أحرقتَ أمةً من الأمم تسبح»76.

وفي رواية أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة، فلدغته نملةٌ، فأمر بجهازه، فأخرج من تحتها، ثم أمر ببيتها، فأحرق بالنار، فأوحى الله إليه: فهلَّا نملة واحدة»77.

قال النووي في «شرح مسلم»: «قال العلماء: وهذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) كان فيه جواز قتل النمل، وجواز الإحراق بالنار، ولم يعتب عليه في أصل القتل والإحراق، بل في الزيادة على نملة واحدة»78.

وذكر أن هذا كان على شرع ذلك النبي؛ إذ جوِّز فيه قتل النمل، بخلاف شرعنا. وعن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تتخذوا شيئًا فيه الروح غرضًا»79. وعن سعيد بن جبير قال: مر ابن عمر بنفرٍ قد نصبوا دجاجة يترامونها، فلما رأوا ابن عمر، تفرقوا عنها، فقال ابن عمر: مَن فعل هذا؟ إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعن مَن فعل هذا80.

ففيه النهيُ عن جعل الحيوان هدفًا يرمى إليه، والنهي للتحريم، «ووجه حكمة النهي: أن فيه إيلامًا للحيوان، وتضييعًا لماليته، وتفويتًا لذكاته، إن كان مما يذكى، ولمنفعته، إن كان غير مذكَّى»81. وفي ذلك حماية للحيوان من العبث، والمــُثْلة التي تلحق الضرر بالمخلوق.

كذلك من حرص الإسلام على عدم إيذاء الحيوان أنه منه من سبِّه ولعنه؛ لأن في لعنه تجنِّيًا واعتداء عليه بلا وجه حق، ولذلك كان التشديد في أمر اللعن، علمًا بأن معنى اللعن الطرد82 من الخير، ومن رحمة الله.

روى عِمْران بن الحصين فقال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في بعض أسفاره- وامرأة من الأنصار على ناقة- فضجِرت، فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال: «خذوا ما عليها، ودعوها فإنها ملعونة»83. قال عمران: فكأني أراها- الآن- تمشي في الناس لا يعرض لها أحدٌ84.

قال النووي: «إنما قال هذا زاجرًا لها ولغيرها، وكان قد سبق نهيها، ونهي غيرها، عن اللعن، فعوقبت بإرسال الناقة»85.

وروى أبو داود حديثًا عن زيد بن خالد- في النهي عن سب الحيوانات- قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة»86.

وهذا يبين حرص الإسلام على عدم سبِّ الحيوان، ولعْنه، والتشديد في عدم إيذائه، أو الاعتداء عليه87.

وبلغ من حرص الإسلام على الحيوان أنه حكم بالدية على مَن فقأ عين دابة من الدواب؛ فقد ورد في الحديث: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى في عين الدابة بربع القيمة88.

قال في «الهداية»: «ولنا ما روي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى عين الدابة بربع القيمة، وهكذا قضى عمر (رضي الله تعالى عنه)؛ لأن فيها مقاصد. سوى اللحم، كالركوب والزينة والحمل والعمل»89.

كما ورد في «الدار المختار»: «وضمن في فقء عين دجاجة أو شاة قصابٌ أو غيره ما نقصها، وفي عين بقرة جزارٌ، وجزور وحمار وبغل وفرس: ربع القيمة»90.

3- مجال العناية بالنبات:

حدثنا القرآن الكريم عن النبات، ولفت أنظارنا إليه، مثلما لفت أنظارنا إلى مظاهر كونية مختلفة.

ومن المهم أن ندرك- أولًا- أنَّ في لفت القرآنِ أنظارَنا إلى النبات حكمةً بالغة، هي أن النبات خَلْق مِن خلق الله، تتجلى فيه آيات القدرة الإلهية، كالحيوان، والإنسان، والأرض، والسماوات، وغيرها من مظاهر الإبداع الإلهي.

ماذا قال القرآن عن النبات؟

يقول الله تعالى: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج﴾ [الحج: 5].
ويقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ* هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [لقمان: 10، 11].
ويقول تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: 19].
ويقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: 7].
ويقول جل شأنه: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُون﴾ [النمل: 60].
ويقول جل شأنه: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ* رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [ق:9-11].
ويقول جل شأنه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يس: 36].
ويقول جل شأنه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 10-11].

وفي إطار حديث القرآن عن النبات حدثنا عن الشجر، قال تعالى:

﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6].
﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾ [الواقعة:71-72].
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس: 80].
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم: 24-25].
وحدثنا عن الزرع فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ﴾ [السجدة: 27].
وحدثنا عن الثمر، فقال: ﴿وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 22].
قال: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام:99].
وقال: ﴿كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141].
وقال: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: 3].
وحدثنا كذلك عن الجنات، فقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ﴾ [الأنعام: 141].
﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4].
وحدثنا كذلك عن الحدائق، فقال: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: 60].

هذا حديث القرآن عن النبات ومفرداته، من الشجر، والزرع، والثمر والجنات، والحدائق، فماذا نجد في هذا الحديث؟

أولًا: إن كل الأحياء- وأولها النبات- تتألف من ذكر وأنثى، حتى النباتات التي كان يُظَنُّ أنْ ليس لها من جنسها ذكور، ولكن تبيت أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم الزهرةُ الواحدة أعضاء التذكير، وأعضاء التأنيث في مكان واحد، أو في أماكن متفرقة من عود النبات، أو في عودين منفصلين، وهذا ما عناه القرآن بكلمة «زوج»، فالزوجية هي قاعدة الوجود كله: قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]، وقال جل شأنه: ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [الرعد: 3].

فلا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاءٍ وتلقيح بين زوجي النبات، كما هو الشأن في الإنسان والحيوان.

ثانيًا: إن الزوج من النبات وُصِف مرة (بالبهيج)، ومرة أخرى (بالكريم)، في قوله تعالى: ﴿وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]، وفي قوله: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: 10].

فالنبات له وظيفة جمالية نفسية، فهو يُحدِث البهجة والراحة والمتعة في النفوس، والنبات كريم، أي مُكرَّم؛ مكرم بما فيه من حياة صادرة من الله الكريم.

وهكذا ينبغي أن نستقبل صُنْعَ الله بما يليق من التكريم والحفاوة والاحتفال، لا بالاستهانة والغفلة والإهمال.

ثالثًا: إن هذا النبات الذي قد لا نلتفت إليه إلا مرة أو مرات قليلة، هو مَعرِضٌ لآيات الله وصنعته، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 4]، وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 11]. بهذه الطريقة يجدد القرآن أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد العديدة في الكون والنفوس.

إنك في كل مرة تنظر إلى النبات تجد آية على بديع صنع الله.

رابعًا: إن النبات بكل مفرداته يسجد لله، ويسبح بحمده، كما يسجد ويسبح كلُّ خلق الله، قال تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6].

والتعبير بالفعل المضارع يوحي باستمرار عملية السجود، فكل شيء في هذا الكون عابد وخاضع وساجد لله. قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: 18].

إن النبات يسبح ويسجد بطريقة لا ندركها، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: 44].

خامسًا: إن النبات ليس مجرد مصدر غذائي، وإنما بالإضافة إلى ذلك هو متعة روحية، قال تعالى: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 99].

آية التلقيح، وآية خروج الثمرة، وآية استواء الثمرة ونضجها، وآية طعمها.

كم مِنَّا التفت إلى هذه المعاني، وهو يأكل الحبوب أو الفواكه بمختلف أنواعها؟

بمثل هذا يبقى القرآن جديدًا أبدًا، لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس.

إن القرآن يربط بين القلب ومشاهد الكون، وينبه الأحاسيس الجامدة والقلوب المغلقة إلى بدائع صُنْع الله المنتشرة حول الإنسان في كل مكان؛ كي ينظر إلى الكون الحي بقلب حي، يشاهد الله في بدائع صُنْعهن ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه، ويتصل به في كل مخلوقاته، ويراقبه، وهو يشعر بوجوده في كل لحظة من لحظات الليل والنهار.

ويشعر الإنسان أنه واحد من عباد الله  بمخلوقاته، مرتبط بالقوانين التي تحكمهم جميعًا، وله دوره الخاص في هذا الكون.

في الكون من حولنا مشاهِد كثيرة: مشاهِد كونية، ومشاهد عبادية.

أما الكونية فقد تعرفنا شيئًا منها، وأما العبادية فهي هذه المشاهد التي تجمع المسلمين في صلاة الجمعة وفي رمضان وفي مناسك الحج... إلخ.

حقوق النبات:

قبل أن نذكر هذه الحقوق نذكِّر بأمرين:

الأول: أن النبات ليس مجرد مصدر غذائي تأكل منه الناس وأنعامهم، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك مصدر لإمدادنا بالهواء النقي الذي نحتاجه، فهو يمدُّنا بالأكسجين اللازم لاستمرار الحياة.

وهو أيضًا مصدر متعة روحية، تستمتع به الروح وتسعد؛ ولذلك ما فتئ القرآن الكريم يدعونا إلى النظر إلى النبات؛ كي تحصل هذه المنافع، قال تعالى: ﴿انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 99].

الثاني: أن النبات- كما أخبرنا القرآن- كائن عابد، مسبّح لله، ألم تنظر إلى قوله: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: 6]؟

وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 18].

فالشجر هنا إشارة إلى النبات الذي يسجد لله مع سائر المخلوقات، لكننا لا نعرف كيفية ذلك السجود.

إذًا للنبات دور كبير في حياة البشر، يمدُّهم بالغذاء والهواء النقي، الذي يكفل لهم الصحة والحيوية، كما هو كذلك مصدر متعة عند النظر إليه.

أما حقوق النبات فهي:

الحق الأول: حق الغرس أو الزرع:

إن النبات ليس ملكًا لنا، ولكنه جزء من الطبيعة، من الكون الذي نعيش فيه، ونحن لا نزرع حقيقة، لكننا نحرث الأرض، ونعدها للزرع، أما الزارع الحقيقي فهو الله كما قال جل شأنه: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الواقعة: 63-64].

إن الإنسان الزارع لا يملك إلا أن يضع الحبوب في الأرض بعد أن يكون قد مهَّدها للزراعة، ثم يسقيها بالماء، ثم لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك؛ لأن الله هو الذي ينبت الزرع ويُخرجه من الأرض.

قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾[ق: 9].
وقال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ [طه: 53].
وقال جل شأنه:  ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى* كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى﴾ [طه: 53-54]، وقال جل شأنه: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 58]، وقال جل شأنه: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ [النمل: 60]، وقال جل شأنه: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 10-11].

إن الزراعة من الأعمال الصالحة التي يكافئ الله- تعالى- عليها الزُرَّاع، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقةٌ» كما في «صحيح البخاري»91.

وفي رواية مسلم: «إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة»92.

ومقتضَى  ذلك أن أجر الزَّارع يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولًا منه، ولو مات زارعه أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره.

وليس ذلك الأجر لمن يملك الأرض وحده، بل إن من يزرع فيها له من الأجر مثل ما لمالك الأرض.

وفي حديث آخر: «مَن كانت له أرضٌ فليَزْرَعْها، فإن لم يزرعها فليُزرعها أخاه»93،أي يعطيها بالأجرة لمن يزرعها. المهم ألا تبقى الأرض بغير زراعة.

الحق الثاني: حق العناية به:

العناية بالزرع لها صور كثيرة، نذكر منها:

إن الزرع مثل أي كائن حي، إذا اعتنينا به، كبر ونما، وأثمر، وإذا لم نعتنِ به، ذبل وجفَّ حتى يصير حطامًا، ولذلك، فلا بدّ من استمرار التعاهد بالعناية.

- حراثة الأرض جيدًا، للتخلص من الحشائش الضارَّة بالنبات.
- سَقْيُه بالماء بأية طريقة من طرق السقي.
- إزالة ما يكون قد تلف من أغصانه وفروعه.

الحق الثالث: حق صيانته والمحافظة عليه:

يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه الإمام أحمد في «مسنده»: «مَن نصب شجرةً، فصبر على حِفْظها، والقيام عليها حتى تثمر، كان له في كل شيء يصيب من ثمرتها صدقةٌ عند الله تعالى»94.

وفي حديث آخر: «من قطع سدرة صوَّب الله رأسَه في النار»95. قال أبو داود في شرح الحديث: «يعني من قطع سدرة في فلاة، يستظل بها ابن السبيل والبهائم، عبثًا وظلمًا، صوَّب اللهُ رأسَه في النار، أي نكسه، وألقاه على رأسه في جهنم، وهذا إما خبر، وإما دعاء، ولأجل ذلك كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصي المقاتلين المسلمين في أثناء قتالهم بألا يقطعوا شجرًا ولا يهلكوا زرعًا».

الحق الرابع: حق الحماية:

وهنا أسأل: هل يحتاج النبات أيضًا إلى حماية؟

نعم، يحتاج إلى حماية من عدوان البشر وفوضاهم وهمجيتهم، إذ إنهم يعتدون عليه في الشوارع والميادين، وغيرها من الأماكن، دون أي إحساس بالذنب والمسؤولية.

وأحيانًا يجرفون الأرض؛ لتحويلها من أرض خضراء إلى أرض جرداء؛ ليبيعها بعضُهم بأسعار عالية.

وفي الخمسين عامًا الماضية أهلكنا مساحات كبيرة من الأرض الخضراء؛ لبناء تجمعات سكنية عشوائية، قتلت الحزام الأخضر الذي كان يحيط بالقاهرة، الأمر الذي يُنذر بكارثة قومية.

والبلاد المتقدمة توفر الحماية الكاملة للأشجار وللنبات من طريقين:

التربية: تربية الناس وتعريفهم أهمية الحفاظ على هذه الثروة.

القانون: بمعاقبة كل من يتعدى على هذه الأشجار. وفي أمريكا رفَع بعضُ الأشخاص دعوى أمام إحدى المحاكم ضد شركة تريد تحويل منطقة خضراء في كاليفورنيا إلى مدينة للملاهي والتزحلق على الجليد، وكسبوا الدعوى، وتم وقف المشروع.

وهذا ما ينقصنا- نحن- في مصر، أن تُفَعِّل القوانين الخاصة بحماية البيئة، وحماية النبات من العدوان عليه.

وفي هذا الصدد أحب أن أذكّر الناس أن هناك صناعة لم يكن لها وجود قبل خمسين عامًا، وربما كانت هي الصناعة الأسرع نموًّا في العالم الآن، إنها صناعة السياحة البيئية.

إن السفر لرؤية البراري (الصحاري) والغابات الواسعة، وحتى الشِّعاب الـمَرْجانية تحت البحر، وغير ذلك، يأتي في إطار الإنفاق مقابل الاستمتاع بالأماكن والأشياء ذات القيمة العظيمة.

لقد أصبحت الخضرة تنافس الآثار والأماكن التاريخية في جذب الراغبين في الاستمتاع بمشاهد الطبيعة الخلَّابة.

4- مجال العناية بالماء:

ورد لفظ «الماء» في القرآن الكريم ثلاثًا وستين مرة، وهذا الرقم يشير إلى عمر النبي (صلى الله عليه وسلم)!!

أما حقوق الماء فتبدو فيما يلي:

الحق الأول: النهي عن تلويثه:

يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اتَّقوا الملاعِنَ الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل»96.

وهذا النهي يتضمن أمرين:

الأول: المحافظة على موارد المياه من كل أشكال النجاسة، سواء بالتبرُّز فيها، أم بصرف الماء الملوث غير الطاهر فيها.

الثاني: يتعلق بإماطة الأذى عن طريق الناس، وذلك باجتناب أماكن مرورهم في الطريق، أو استراحتهم؛ حيث يتوفر ظل شجرة أو حائط أو غيره.

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه»97.

الحق الثاني: النهي عن الإسراف والتبذير فيه:

النهي عن الإسراف ليس مقصودًا به الأكل والشرب فقط، كما ورد في قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

فالنهي عن الإسراف- هنا- عامٌّ يشمل كل استهلاك، أيًّا كان نوعه ومادته وسببه، ولو كان في العبادات كالوضوء للصلاة مثلًا.

وقد روى ابن ماجه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرَّ بسعد بن أبي وقاص، وهو يتوضأ، فقال له: «ما هذا السرف؟»، فقال: أفي الوضوء إسراف؟، قال: «نعم، وإن كنت على نهر جار98».

كذلك روى أبو داود عن عبد الله قبن مُغَفَّل قال: سمعت رسول الله يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطُّهور والدعاء»99 . ومعنى الاعتداء في الطهور (الطهارة): تجاوز الحد المعقول في استعمال الماء، والخروج من حد الاعتدال المشروع إلى الإسراف المحظور.

وجاء أعرابي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يساله عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: «هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء، أو تعدَّى، وظلم»100.

ومن صور عدم التبذير أن تستهلك المياه بحسب الأولوية في الاستهلاك، كأنْ يكون هناك احتياج لشرب إنسان أو حيوان، فنقدم الشرب على أي شيء آخر، حتى لو كان الوضوء للصلاة، ويلجأ من يريد الصلاة حينئذ إلى التيمم، أو استعمال ماء البحر؛ لتوفير الماء الخاص بالشرب.

روى أبو هريرة أن رجلًا سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإنْ توضأنا به، عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «هو الطَّهور ماؤه الحل ميتته»101.

الحق الثالث: حق المحافظة عليه من الجراثيم والميكروبات:

وذلك أن ترك الماء أو الطعام مكشوفًا، يُمكِّن الجراثيم والميكروبات من الاختلاط به، وحينئذ يصبح ضارًّا للإنسان.

أحرج البخاري بسنده، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «أطفئوا المصابيحَ إذا رقدتم، وغلِّقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمِّروا الطعام والشراب، ولو بعود تعرضه عليه»102، ومعنى «خمروا الآنية»، أي غطوها؛ حتى لا تدخلها الحشرات أو الجراثيم والميكروبات.

5- مجال العناية بالطريق:

للطريق مكانة كبيرة في الإسلام؛ فقد جعل له حقًّا، بل حقوقًا كغيره من الأشياء، وذلك لما له من فوائد تتصل بمجموع الناس.

أما هذه الحقوق فهي خمسة: حق الجلوس على الطريق، وحق المشي أو السير في الطريق، وحق تسوية الطريق، وحق صيانة الطريق، وحق تجميل الطريق.

وقبل أن أفصِّل القول في هذه الحقوق أشير إلى أن طُرُقَنا ضاعت حقوقها، وصارت مجلبة للهمِّ والغمِّ والكرب العظيم، وأنا- هنا- أطلب من الجميع أن يقارنوا بين آداب الإسلام وتعاليمه في مجال العناية بالطريق التي يسير فيها الناس، والواقع الذي نعيشه، وعليهم أن يتساءلوا: كيف نعيد للطريق حرمته وحرمة المستخدمين له؟

الحق الأول: حق الجلوس على الطريق:

الأصل في الجلوس على الطريق أنه غير مرغوب فيه شرعًا، لما يترتب عليه من مضايقة الذين يستخدمونه من رجال ونساء، ولأنه يعرِّض الإنسان للوقوع في المحرمات، ويتطلب مسؤوليات قد لا يستطيع الإنسان القيام بها، ولذلك حذر النبي (صلى الله عليه وسلم) من الجلوس على طريق الناس، فقال: «إياكم والجلوسَ على الطرقات». فقالوا: ما لنا من بُدْ إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: «فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها»، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر»103.

إن الإسلام بهذه الطريقة يجعل المسلم عاملًا على راحة الناس، وإزالة أي أذى يعترض طريقهم أو يضرُّهم، في أموالهم أو أبدانهم.

ومن صور الأذى التي تجدر الإشارة إليها:

- إحداث الأصوات العالية.
- ذكر الكلمات القبيحة والنابية.
- إلقاء الماء والقاذورات والفضلات في الطريق، وإحداث الحُفَر والفجوات.
- التَّفْل، أي البُصاق.
- وضع الأحجار أو العوائق الحديدية؛ لمنع الآخرين من الاستفادة بالطريق.
- إقامة الكتل الصخرية والأسفلتية المسماة بالمطبَّات الصناعية، التي لا تنفَّذ بالشروط والمواصفات السليمة.
- الصور العارية التي تخدش الحياء.
- حرق الأوراق والمهملات التي ينبعث منها دخَان قاتل.

الحق الثاني: حق المشي أو السير:

وللمشي في الطريق آداب، هي نفسها آداب الجلوس، ويضاف إليها ما يأتي:

1- التواضع ونبذ الكبر والغرور، قال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].
وقال تعالى: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: 19].
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37].
2- عدم إزعاج الآخرين باستخدام آلة التنبيه، أو استخدام راديو السيارة، أو بأية طريقة أخرى.
3- عدم السير في الاتجاه المعاكس.
4- عدم الدخول في حارة من حارات الطريق، إلا إذا اطمأن إلى أن الطريق آمن.
5- التأكد من ربط الأشياء المحمَّلة على السيارة، حفاظًا على سلامة الآخرين.
6- الالتزام بالسرعة المقررة، حفاظًا على سلامة قائد السيارة، ومَن بداخلها.

الحق الثالث: حق تسوية الطريق:

المقصود بذلك تَعْبيد الطريق وتسهيله، وجعْل السير عليه نعمة، وليس نقمة، متعة وليس عذابًا.

وقد عرَفت البشريةُ العديد من الوسائل التي تجعل الطريق سهلًا، وممتعًا، ومفيدًا، ولا يمكن أن نعمر منطقة من دون طرق معبَّدة، وقد رأيتُ في بعض البلاد أن الدولة تبدأ بإعداد المرافق كالطريق والماء والكهرباء، ثم يذهب الناس بعد ذلك للبناء، وغذا كان العمل واجبًا شرعًا، فإن كل ما يساعد على العمل يُصبح واجبًا شرعًا كذلك؛ لأن كل ما يؤدي إلى الواجب فهو واجب؛ طبقًا للقاعدة الفقهية المقرَّرة، ومن ثم يجب على وُلاة الأمور تسوية الطريق، وهنا أذكِّر الناس بما روي عن عمر أنه قال: لو أن عَناقًا [عنزة صغيرة] عثرت في أرض العراق، لوجدتني مسؤولًا عنها يوم القيامة: لِمَ لَمْ تسوِّ لها الطريق، يا عمر؟!

وإذا كانت مسؤولية ولي الأمر أن يسوي الطريق، فإن مسؤولية الناس هي المحافظة عليه.

ومن تسوية الطريق:

1- إمداده بأعمدة الإنارة اللازمة.

2-إمداده بالعلامات الإرشادية التي ترشد من يستخدمون الطريق إلى اتجاه الطريق، والسرعة المقررة، وأماكن عبور المشاة، وغير ذلك.

الحق الرابع: حق صيانة الطريق:

الطريق- كأي شيء- يحتاج إلى صيانة وتعهُّد بالنظر فيه؛ كي نصلح ما تكسَّر منه، أو تهدَّم، ويسمِّي المختصون هذه العملية برفع كفاءة الطريق؛ لتسهيل المرور عليه، وقد رأيتُ في بعض البلاد أنهم عندما يريدون صيانة الطريق، فإنهم يصنعون طريقًا آخر قريبًا من الطريق الذي سيصلحونه؛ كي يستخدمه الناس لحين الانتهاء من إصلاح الطريق الأصلي، وصيانةُ الطريق لا تقل أهمية عن تسوية الطريق؛ إذ إن ترك الطريق بغير صيانة يؤدي إلى إهدار المال، وإلحاق الضرر بالآخرين.

الحق الخامس: حق تجميل الطريق:

الإسلام دين يدعو إلى الجمال والتجميل، فالله جميل يحب الجمال، ومن الجمال الذي نشير إليه- هنا- جمال الطريق.

وتجميل الطريق يكون على النحو الآتي:
- حسن تخطيط الطريق، بحيث يخلو من المفاجآت.
- المحافظة عليه نظيفًا.
- زراعة الجانب الأيمن والأيسر من الطريق بأشجار الورد والريحان والنخل، إن أمكن.
- استخدام اللوحات الكهربائية.
- الدعوة إلى ذكر الله وتمجيده.
- كتابة دعاء السفر.
- أن يشتمل على استراحات محترمة، وبخاصة في الطرق الطويلة؛ ليستريح فيها الناس، ويستعيدوا نشاطهم.
- العناية بعمَّال النظافة من النواحي كافة؛ كي يكون مظهرهم حضاريًّا.
- أن يتم تنظيف الشوارع والطرقات ليلًا عندما تخفّ الحركة، وليس صباحًا والناس متجهون إلى أعمالهم.

6- مجال العناية بالتربة:

للتربة- كذلك- دور مهم في العناية بالبيئة؛ ولذلك دعا الإسلام إلى العناية بالتربة، وشجَّع على ذلك، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «مَن أحيا أرضًا ميتة فهي له»104. والمراد بإحياء الموات التسبب للحياة النامية، وسميت التربة مواتًا ؛ لبطلان الانتفاع بها، وإحياؤها- كما ورد في حاشية ابن عابدين- ببناء أو غرس أو كربٍ105 أو سقيٍ.

وتبلغ العناية مبلغًا آخر هو أن «مَن حجر أرضًا، أي منع غيره منها، بوضع علامة من حجر أو غيره، ثم أهملها ثلاث سنين، دُفِعت إلى غيره، وقبلها، هو أحق بها، وإن لم يملكها، لأنه إنما يملكها بالإحياء والتعمير، لا بمجرد التحجير»106.

7- مجال العناية بالأبنية أو ما يسمى بفقه العمارة:

يعد مجال الأبنية والعمارة أحد المجالات التي تشهد على عناية الفقه الإسلامي بكل ما يتصل بالبيئة من قريب أو بعيد؛ حيث توزعت مسائل هذا المجال في أبواب الفقه المختلفة، كما حوتها كتب النوازل والفتاوَى بالإضافة إلى كتب القضاء والحِسْبة، بينما أفرد بعض الفقهاء لها مؤلفات مستقلة، ومنها على سبيل المثال: «القسمة وأصول الأرضين»، لأبي العباس الفرسطائي، الذي ولد في أواسط القرن الخامس الهجري.

اعتمد الفقهاء في الأحكام المتصلة بالأبنية على مجموعة من النصوص والقواعد التي تتصل بأمور الأبنية والمساكن، ومن ذلك قول النبي (صلى الله عليه وسلم): «لا ضرر ولا ضرار»107، وكذلك قاعدة العُرْف.

ولتوضيح تأثير هذه القاعدة على حركة العمران؛ سنضرب مثلًا بالضرر الناجم عن فتح كُوَّةً (نافذة)، وتأثيرها على العلاقة بين جارين108:

عند تعليق مبدأِ «إحياء الأرض»، فإن الناس يتتابعون في البنيان. فإذا أحدث أحدهم كُوَّةً تشرف على أرض فضاء، ثم أتى آخر وبنى على تل أرض، فأصبحت الكوة تكشف الدار المحدَثة، فقد اتفق الفقهاء على أن لهذه الكوة حق البقاء والاستمرار، وعلى مالك الدار المحدَثة أن يقيَ نفسه من ضرر تلك الكُوَّةِ، كأن يرفع سُور داره.

ففي «المدوَّنة الكبرى»: «أرأيتَ إن كانت له على جاره كوة قديمة، أو باب قديم ليس فيه منفعة، وفيه مَضَرَّة على جاره، أيجبره أن يغلق ذلك عن جاره؟ قال: لا يجبره على ذلك؛ لأنه أمر بم يُحدِثْهُ عليه»109.

أما بالنسبة للكُوَّة المحدَثة التي تضر بالجيران، فإن أغلب الآراء تنص على إزالة الضرر بسد الكُوَّة، إذا احتج الفريق المتضرر، فقد سأل الإمامُ سحنون الإمامَ ابن القاسم: «أرأيتَ الرجل يريد أن يفتح في جداره كُوَّةً أو بابًا، يُشرف منهما على جاره، فيضر ذلك بجاره، والذي فتح إنما فتح في حائط نفسه، أيمنع من ذلك في قول مالك؟» فال: «بلغني عن مالك أنه قال: ليس له أن يحدث على جاره ما يضرُّه، وإن كان الذي يُحدِث في مِلْكه»110.

وكان من حق الجيران إجبارهم على ذلك، عن طريق القضاء، وتزخر سجلات المحاكم الشرعية بالعديد من الوقائع التي تؤكد تضامن أهل الخِطة أو الحارة ضد المخالفين من سكانها111.

وترتب على مبدأِ «لا ضرر ولا ضرار»، و«الأخذ بالعرف» في تقرير أحكام البناء، نشوء مبدأِ «حيازة الضرر» تعني: أن من سبق في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب على جاره الذي يأتي بعده أن يحترمها، وأن يأخذها في اعتباره عند بنائه مسكنه، وبذلك يصيغ المنزلُ الأسبقُ المنزلَ اللاحقَ، من الناحية المعمارية، نتيجة لحيازته الضرر، ويسيطر العقار112 الأسبق على حقوق عديدة، يحترمها الآخرون عند بنائهم، فضلًا عن الحقوق التي قررها الشرع الشريف في مجال التنظيم العمراني، وكلاهما- معًا- أدى إلى وجود بيئة عمرانية مستقرَّة؛ حيث استقرت الفئة المستخدمة على شكل الشوارع التي تستخدمها، والتي يصعب التعدي عليها بالبناء».

المبحث الثاني: التطبيقات الفقهية للعناية بالبيئة.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: ما يتعلق بالصحة العامة والأضرار الخاصة.
المطلب الثاني: ما يتعلق بالأضرار البيئية.

المطلب الأول: ما يتعلق بالصحة العامة والأضرار الخاصة.

تجلى اهتمام الفقهاء بالبيئة على المستويين النظري، والتطبيقي.

أما على المستوى النظري فنجد أن الفقهاء اعتنوا بأمور البيئة من خلال كتب الحسبة والسياسة الشرعية. وفي مجال الحِسْبة يأتي كتاب «نهاية الرُّتْبة في طَلَب الحِسْبة» على رأس هذه المؤلفات، وهو لعبد الرحمن بن مُضَر بن عبد الله العدوي الشّيْزَري الشافعي (ت 589ه)، وقد جعل كتابه أربعين بابًا113.

وقد سار محمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن الأخوة القرشي الشافعي (ت729ه) على نهج الشيزري، وسمى كتابه «معالم القُرْبة في أحكام الحِسْبة»114.

وكذلك محمد بن أحمد المعروف بابن بسام، الذي عاش بمصر قبل سنة (844ه)، وأطلق على كتابه الاسم نفسه الذي أطلقه الشَّيْزَري على كتابه: «نهاية الرُّتْبة في طَلَب الحِسْبة»، كما نقل مقدمته بحروفها، لكنه أضاف أبوابًا من خبرته في الحِسْبة، فأضفت على كتابه أهمية وشخصية متميزة115.

وأيًّا ما كان الأمر، فقد تضمنت كتب الحِسْبة مسائل متنوعة تتعلق بضرورة المحافظة على الصحة العامة، وهذا ما يبدو عند استعراضنا لهذه المسائل التي سنتناولها تباعًا على الترتيب، وهي:

المسألة الأولى: في الحِسْبة على الخبَّازين.
المسألة الثانية: في الحِسْبة على الطبَّاخين.
المسألة الثالثة: في الحِسْبة على الجزَّارين والقصَّابين.
المسألة الرابعة: في الحِسْبة على الحمَّامات.
المسألة الخامسة: في الحِسْبة على منكَرات الأسواق.
المسألة السادسة: الإضرار بالصحة.
المسألة السابعة: منع الروائح السيئة.
المسألة الثامنة: منع الضوضاء.
المسألة التاسعة: تسرُّب المواد الخطرة إلى مِلْك الغير.

المسألة الأولى: في الحِسْبة على الخبَّازين116:

ينبغي أن ترفع سقائف حوانيتهم، وتفتح أبوابها، ويجعل في سقوف الأفران مَنافس، واسعة يخرج منها الدخَان، لئلا يتضرر [بذلك الناس]، وإذا فرخ [الخباز] من إحمائه، مسح داخل التنور بخرقة [نظيفة]، ثم شرع في الخَبْز، ويكتب المحتسِب في دفتره أسماء الخبازين ومواضع حوانيتهم، فإن الحاجة تدعوه إلى معرفتهم، ويأمرهم بنظافة أوعية الماء وتغطيتها، وغَسْل المعاجن ونظافتها، وما يغطى به الخبز، وما يحمل عليه، ولا يعجن العجَّان بقدميه، ولا بركبتيه، ولا بمرفقيه× لأن في ذلك مهانة للطعام، وربما قطر في العجين شيء من عرق إبطيه، وبدنه، فلا يعجن إلا وعليه ملعبة أو بشت مقطوع الأكمام، ويكون ملثمًا أيضًا، لأنه ربما عطس أو تكلم، فقطر شيء من بصاقه أو مخاطه في العجين، ويشد على جبينه عصابة بيضاء، لئلا يعرق فيقطر منه شيء [في العجين]، ويحلق شعر ذراعيه لئلا يسقط منه شيء في العجين، وإذا عجن في النهار فليكن عنده إنسان في يده مَذَبَّة يطرد عنه الذباب. هذا كله بعد نَخْلِ الدقيق بالمناخل السفيقة مرارًا.

المسألة الثانية: في الحِسْبة على الطبَّخين117:

يؤمرون بتغطية أوانيهم، وحفظها من الذباب، وهوامِّ الأرض، بعد غسلها بالماء الحار، والأُشْنان، وألا يطبخوا لحوم المعز مع لحوم الضأن، ولا لحوم الإبل مع لحوم البقر، لئلا يأكلها ناقِهٌ من المرض فتكون سببًا لنكْسِه. ويعد [المحتسب] عليهم كثرة الإدام، وقلة اللحم، فإن أكثرهم يَسْلُون الدهن، ويُفْرِغونه في القِدْر، فيطفو على وجه الطعام، فيغتر به الناس ويظنون كثرة اللحم.

المسألة الثالثة: في الحِسْبة على الجزَّارين والقصَّاصين118:

في الحِسْبة على الجزَّارين، والقصَّاصين يستحبُّ أن يكون الجزار مسلمًا بالغًا عاقلًا، يذكر اسم الله على الذبيحة، وأن يستقبل القبلة، وأن ينحر الإبل معقولة، ويذبح البقر، والغنم مضْطَجِعة على الجانب الأيسر؛ فجميع ذلك وردت به السنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا يجر الشاة برجلها جرًّا عنيفًا، ولا يذبح بسكين كالَّة؛ لأن ذلك تعذيب للحيوان، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن تعذيب الحيوان، ويلزمه في الذبح أن يقطع الودجين والمريء، والحلقوم، ولا يشرع في السلخ بعد الذبح حتى تبرد الشاة، ويخرج منها الروح؛ لأن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أمر مناديًا ينادي في المدينة، «لا تسلخ شاة مذبوحة حتى تبرد».

وأما القصابون فيمنعهم المحتسب من إخراج توالي اللحم من حد مصاطب حوانيتهم، بل تكون متمكنة في الدخول عند حد المصطبة والركنين، لئلا تلاصقها ثياب الناس فيتضررون بها. ويأمرهم أن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن، ولا يخلطوا بعضها ببعض، وينقطوا لحوم المعز بالزعفران، لتتميز عن غيرها، وتكون أذناب المعز معلقة على لحوكها إلى آخر البيع؛ ويعرف لحم المعز ببياض شحمه، ودقة ضلعه. ولا يخلطون لحوم المعز بشحوم الضأن، ولا اللحم السمين باللحم الهزيل، ويعرف شحم المعز ببياضه، وصفائه، وشحم الضأن بعلو صفرته.

المسألة الرابعة: في الحِسْبة على الحمَّامات119:

وينبغي أن يأمرهم المحتسِب بغسل الحمام وكنسها وتنظيفها بالماء الطاهر، غير ماء الغسالة، يفعلون ذلك مرارًا في اليوم. ويدلكون البلاط بالأشياء الخشنة، لئلا يتعلق به السِّدْر والخِطْمِي والصابون، فتزحلق أرجل [الناس] عليها. ويغسلون الخزانة من الأوساخ المجتمعة على مجاريها، والعكر الراكد في أسفلها في كل شهر مرة؛ لأنها إن تركت أكثر من ذلك تغير الماء فيها في الطعم والرائحة. وإذا أراد القيِّم الصعود إلى الخزانة لفتح الماء إلى الأحواض، فينبغي أن يغسل رجليه بالماء ثم يصعد، لئلا يكون قد خاض في الغسالات. ولا يسد الأنابيب بشعر المشَّاطة، بل يسدها بالليف والخِرق الطاهرة، ليخرج من الخلاف. ويشعل فيها البَخُور في كل يوم مرتين، سيما إذا شرع في غسلها وكنسها.

ومتى بردت الحمام، فينبغي أن يبخرها [القيم] بالخُزَامَى، فإن دخانها يحمي هواءها، ويطيب رائحتها. ولا يحبس ماء الغسالات في مسيل الحمام، لئلا تفوح رائحتها؛ ولا يدع الأساكفة وغيرهم يصبغون الجلود في الحمام، فإن الناس يتضررون برائحة الدِّباغة؛ ولا يجوز أن يدخل المجذوم والأبرص إلى الحمام.

وينبغي أن يكون للحمام مَيازِرُ يؤجرها للناس، أو يعيرها لهم، فإن الغرباء والضعفاء قد يحتاجون إلى ذلك. ويأمرهم [المحتسب] بفتح الحمام في السحر، لحاجة الناس إليها للتطهر فيها قبل وقت الصلاة؛ ويلزم الناطور حفظ ثياب الناس، فإن ضاع منها شيء لزمه ضمانه، على الصحيح من مذهب الشافعي (رضي الله عنه).

ويكون المزيّن [وهو البلان- خفيفًا رشيقًا بصيرًا بالحلاقة، ويكون حديده رطبًا قاطعًا، ولا يستقبل الرأس ومنابت الشعر استقبالًا. ولا يأكل [المزين] ما يغير نكهته، كالبصل والثوم والكراث وأشباه ذلك، لئلا يتضرر الناس برائحة فيه عند الحلاقة.

وينبغي أن يحلق الجبين والصّدْغين على ما يليق بالحال، ولا يحلق شعر صبي إلا بإذن وليه، ولا يحلق عذار أمرد ولا لحية مخنَّث. ويأمر [المحتسب] المدلك أن يدلك يده بقشور الرُّمان، لتصير خشنة، (38 أ) فتخرج الوسخ، ويستلذ بها الإنسان؛ ويمنع من دلوك الباقلا والعدس في الحمام، لأن ذلك طعام، فلا يجوز أن يمتهن.

ويلزم المحتسِب أن يتفقد الحمام في كل يوم مرارًا، ويعد ما ذكرناه؛ وإن رأى أحدًا قد كشف عورته عزَّره على كشفها؛ لأن كشف العورة حرام، وقد لعن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الناظر والمنظور إليه120، والله أعلم.

المسألة الخامسة: في الحِسْبة على منكَرات الأسواق121:

أما الطرقات الضيقة فلا يجوز لأحد من السُّوقة الجلوس فيها، ولا إخراج مَصْطَبة دُكَّانه عن سَمْتِ أركان السقائف إلى الـمَمرِّ؛ لأنه عدوان، ويضيق على المارة فيجب على المحتسِب إزالته، والمنع من فعله؛ لما في ذلك من لحوق الضرر بالناس. وكذا إخراج الفواصل، والأجنحة، وغرس الأشجار، ونصب الدكة في الطرق الضيقة منكَر يجب المنع منه، أما إذا نصَب دِكَّة على باب الدار، وغرس شجرة.

وينبغي للمحتسِب أن يمنع أحمال الحطب، وأعدال التِّبْن، وروايا الماء، وشرائج السِّرْجين، والرماد، وأحمال الحلفاء، والشوك بحيث يمزق ثياب الناس فذلك منكر يمكن شدها، وضمها بحيث لا تمزق من الأثواب شيئًا، فإن أمكن العدول به إلى موضع واسع، ولإلا فلا منع، إذ حاجة لأهل البلد إليه، وأشباه ذلك من الدخول إلى الأسواق؛ لما فيه من الضرر بالناس؛ ويَأمر حاملي الحطب، والتبن، والبلاط، والكبريت، واللِّفْت، والبِطِّيخ، والقرط، إذا وقفوا في العراص أن يضعوها عن ظهور الدواب؛ لأنها إذا وقفت والأحمال عليها أضرتها، وكان ذلك تعذيبًا لها، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن تعذيب الحيوان لغير مأكلة122، ويأمر أهل الأسواق بكنسها، وتنظيفها من الأوساخ المجتمعة، وغير ذلك مما يضر الناس؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا ضرر ولا ضرار».

ولا يجوز لأحد التطلع على الجيران من السُّطوحات، والنوافذ، ولا أن يجلس الرجال في طرقات النساء من غير حاجة، فمن فعل شيئًا من ذلك عزَّره المحتسِب.

المسألة السادسة: الإضرار بالصحة123:

يجبر المرضى بالأمراض المعْدِية على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع انتشار هذه الأمراض وانتقالها إلى غيرهم. وفي «كشَّاف القِناع» أنه: «لا يجوز للجذماء مخالطة الأصحاء عمومًا، ولا مخالطة أحد معين صحيح إلا بإذنه، وعلى ولاة الأمر منعهم من مخالطة الأصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم، ونحو ذلك. وإذا امتنع ولي الأمر من ذلك أو المجذوم أثم. وإذا أصر على ترك الواجب فسق»124.

وينسب فعل كل من المريض وولي الأمر إلى التعدين وهو ما يلائم فرض الضمان عليهما، لو مرض أحد بمخالفتهما الواجب عليهما شرعًا. وهو يدل على أنه لا يشترط أن يكون الفعل الموجب للضرر ماديًّا. ولا يبعد وجوب الضمان طبقًا لذلك على مَن اقتنى حيوانات مريضة بأمراض مُعْدية إلى جوار مزارع لتنمية الحيوانات والطيور، إذا انتقلت إليها الأمراض ذاتها، وثبت برأي الخبراء قيام ركن السببية.

المسألة السابعة: منع الروائح السيئة125:

مذهب متأخِّري الأحناف المنعُ من اتخاذ ما يؤذي الجار برائحته. ويبدو أن المالكية والحنابلة هم الذين عُنوا بالنص على ذلك، فلا يجوز عندهم أن يحدث أحد مدبغة، أو «يفتح بقرب جاره مرحاضًا، ولا يغطيه، أو ما تؤذي رائحته؛ لأن الرائحة المنتنة تحرق الخياشيم، وتصل إلى الأمعاء، فتؤذي الإنسان، وهو معنى قوله (صلى الله عليه وسلم): «مَن أكل مِن هذه الشجرة الخبيثة، فلا يقربنَّ مساجدنا، يؤذينا بريح الثُّوم». وكل رائحة تؤذي يمنع منها لهذا. قال: وبه العمل»126

الدار المختار»: «وضمن في فقء عين دجاجة أووفي «حاشية الدسوقي» النص على المنع من اتخاذ ما له «دخَان كحمَّام، وفرن، ومطبخ، وقمين، ورائحة كدباغ ومذبح ومسمط… للضرر الحاصل من ذلك. والمراد الحادث مما ذكر لا القديم»127

وما أصاب صاحب السُّعال من ضرر وضيق نفس بإثارة دخَان، فهو مضمون على مَن أثاره128.

وريح الطبيخ إذا كان يضر بامرأة حامل، وجب الامتناع عن إعداد مثله، وإن علم استضرارها بهذا الريح، وأضرَّها في نفسها أو حملها، فالإثم والضمان على الطابخ.

ولم يعترف القانون الإنجليزي بهذا النوع من الإيذاء أو المضارَّة، إلا في النصف الثاني من القرن التاسعَ عشرَ. ولم يتطلع مفكِّروه إلى العمل على المنع من الأضرار غير العينية، إلا في هذه الأثناء.

ومن القضايا الرائدة في هذا الصدد قضية (Benjamin v.Storr) (1874م)، حيث كان للمدعي خان (قهوة) في حديقة دَيْر، واعتاد المدعى عليه أن يترك خيوله بعربتها التي تجرها أمام هذا الخان. ورفع المدعي الأمر إلى القضاء مطالبًا بتعويض عن الأضرار التي لحقت به من جراء اعتراض الخيول والعربة في الطريق على نحو يعوق المرور فيه، ويمنع الضوء عن الخان، ويصرف الرواد عنه للرائحة السيئة التي تنبعث من الفضلات التي تلقيها هذه الخيول. وقد رأت المحكمة التعويض عن هذه الأضرار.

المسألة الثامنة: منع الضوضاء129:

لا يمنع من الأصوات المعتادة ولا الضارة ضررًا يحتماه الناس في العادة. أما إذا كان الضرر الناشئ عن الأصوات مما لا يحتماه الناس عادة؛ لقوته ودوامه، أو لاجتماعه مع أضرار أخرى تزيد من تأثيره، فإنه يمنع منه. وهذا هو ما يستنبط من النصوص التالية:

جاء في «التبصرة»: قال ابن عتاب: تنازع الشيوخ ببلدنا قديمًا وحديثًا في الرجل يجعل داره أو في شبه ذلك ما له دَوِيُّ وصوت يستضرُّ به الجارُ، مثل الحداد، فقال بعضهم: يمنع منه إذا عمل فيه بالليل والنهار. وقال بعضهم: لا يمنع منه. وقال ابن سعيد: الذي اتفق عليه مشايخنا أن يمنع من العمل بالليل، إذا أضر بجاره، ولا يمنع بالنهار. قاله ابن عبد ربه»130.

وجاء في «حاشية الدسوقي»: لا يمنع من صوت ككمد، وهو دق القماش، وقصار وهو الذي يبيض القماش، وحداد، وبخار... وصوت صبيان بمكتب بأمر معلمهم، لا أصواتهم للعب فيمنعون. ودخل- أيضًا- صوت معلم الأنغام، وصوت الكروان المتخَذ للصِّياح، والحَمَام المتخَذ للهدير. وظاهر المصنف عدم المنع ولو اشتد صون كالكمد ودام. وفي «الـمَوَّاق» خلافُه، وأن محل عدم المنع ما لم يشتد ويدُمْ، وإلا فيمنع من ذلك»131.

وقد نص فقهاء المالكية على منع الشخص من إحداث إصطبل للدواب بباب جاره، وإن كان في ملكه؛ «بسبب بولها وزَبْلها وحركتها ليلًا ونهارًا، ومنعها الناس من النوم»، وكذلك الطاحون، وكِير الحداد وشبهه132.

وترشد هذه النصوص إلى المعاني التالية:

أن هناك درجة من الضوضاء والأصوات المزعجة لا تعد من التعسف، ولا يمنع منها، وذلك إذا كانت مألوفة معتادة، ولا تنفك عن الأعمال المحقِّقة للمصالح الأساسية للمجتمع، كأصوات الصبيان بالمكتب، وأصوات قصِّ الثياب وصَبْغها.

وهناك الضوضاء التي لا يتناسب الضرر الناشئ عنها مع ما تحققه من مصالح، مما يحق الامتناع عنه، كأصوات لعب الصبيان، والطيور المتخَذة للهو.

ويُمنع كذلك من الضوضاء التي تتسبب في الإضرار بالناس ضررًا لا يحتملونه؛ لشدتها واستمرارها وتكررها في أوقات غير مناسبة، كأن تصدر بالليل، فتمنع الناس من النوم.

وقد ذهب د. محمد سراج إلى أن القضاء الإنجليزي عدَّ الضوضاء والروائح الكريهة، حتى أواخر القرن التاسعَ عشرَ، من الأضرار التي يجب احتمالها، والتجاوز عنها؛ تحاشيًا لفتح أبواب النزاع، وخوفًا من صعوبة تقدير التعويض عنها. ولكنه اتجه إلى الاعتراف بحق المتضرر في استصدار حكم بمنعها فيما بعد هذا التاريخ.

المسألة التاسعة: تسرُّب المواد الخطرة إلى مِلْك الغير133:

إن كانت القاعدة أنه لا يجوز لأحد «أن يُحْدِث على جاره ما يضرُّه»134، فإنه لا يجوز حيازة المواد الخطرة التي قد تتسرب إلى أرض الجار وتضره، إلا باتخاذ ما يلزم من العناية والتحوُّط لمنع مثل هذا الضرر.

يوضحه ما جاء في «التبصرة» في تحامل الماء على الجسور، ولم يكن الذي جسرها احتاط فيها، فإنه يضمن. وكذا لو احتاط في تجسيرها، وأغفل تسريح المياه، حتى انهدم الجسر أو بعضه، وانتقلت المياه إلى أرض الجار، وأتلفت شيئًا من أمواله135.

وقد اعترف القضاء الإنجليزي بضمان تسرب الأشياء الضارة في قضية (Rylands v.Flitcher) (1868م) الشهيرة في تاريخ هذا القانون.

وفي هذه القضية أراد المدعى عليه الذي كان يملك طاحونًا أن يبني مستودعًا لتخزين المياه اللازمة لإدارة الطاحون، واستأجر خبراء لإنشاء هذا المستودع، واكتشف فيما بعد وجود فجوات مطمورة أسفل مكان إقامة المستودع، وهو ما أدى على حدوث أضرار طائلة. وقد تطور الحكم في هذه القضية إلى القاعدة العامة التالية: «إذا جمع شخص في أرضه أية مواد لمصلحته هو، مما يحتمل الإضرار بالغير إذا تسرب إلى عقاره، فإن هذا الشخص يُعَدُّ مسؤولًا عن الأضرار المباشرة التي يتسبب فيها فعله».

المطلب الثاني: ما يتعلق بالأضرار البيئية العامة

يتعلق هذا المطلب بالأضرار البيئية العامة، والفرق بينها وبين الأضرار الخاصة أن الخاصة تحدث للجيران الأقارب أو الأباعد الذين يقطنون في المنطقة التي نشأ منها الضرر.

أما العامة فهي خاصة بالمرافق العامة، كالطرق والشوارع والأنهار والترع والمصارف، وغيرها من المرافق العامة.

أما المسائل المتصلة بهذا النوع من الأضرار فهي:

المسألة الأولى: من أحكام الطريق.
المسألة الثانية: اتخاذ النحل والحمام والدجاج والكلاب.
المسألة الثالثة: من به جَرَبٌ، ودخل المسجد.
المسألة الرابعة: مَن عُرف عنه الإصابة بالعين.
المسألة الخامسة: الغرس والبناء إذا كان يضر بالطريق.
المسألة السادسة: ما لا يجوز عمله في الشوارع.
المسألة السابعة: بناء فرن بين كروم لغيره
المسألة الثامنة: اتخاذ النحل بين أبراج الحمام.
المسألة التاسعة: إلقاء الزَّبْل في أرض خربة.
المسألة العاشرة: من أدخل شيئًا من الزُّقاق في داره.
المسألة الحادية عشرة: من أحدث إصطبل خيل بداره.
المسألة الثانية عشر: في طين الأسواق والحارات.
المسألة الثالثة عشر: تسرب المواد الملوثة إلى المياه.
المسألة الرابعة عشر: في عين تجاورها قناة تجري فيها الأوساخ.
المسألة الخامسة عشر: من نقل ترابًا إلى طريق فسدَّه.
المسألة السادسة عشر: بناء تَنُّور دائم للخبز في الدار.
المسألة السابعة عشر: لزوم شخص أداء قيمة كلبٍ قتله.

المسألة الأولى: من أحكام الطريق:

1- من وضع شيئًا بطريق يريد به قتل رجل، فعطَب به؛ فقد قال ابن القاسم: يُقْتَل به. فإن عطَب به غيره فالدية عاقلةُ الجاعلِ؛ لأن الأول قصَد إلى قتله، بخلاف الثاني.

2- من وضع في الطريق حجرًا أو جذعًا أو بنى فيه بناء، أو أخرج من حائطه جذعًا أو صخرة شاخصة، أو شرع كنيفًا أو ميزابًا أو ظلة، فعطَب بها إنسان؛ كان ضامنًا.

فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل، فوقع على آخر، فمات، كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به؛ لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة... ولو سقط الجناح أو الكنيف وأتلف إنسانًا، ثم عثر رجل بنقض الجناح، ورجل بالقتيل، فعطبَا، كان ضمان الكل على صاحب الجناح والكنيف. هذه في آخر في فصل الحائط المائل من «قاضيخان». وفي «الخلاصة»: إخراج الجناح والجرصن والميزاب، إن كان يضر بالمسلمين لا يسعه، وإن كان لا يضر يسعه أن يفعل. وعليه ضمان ما عطب، سواء أضر بالمسلمين أو لم يضرَّ. ولو فعل بإذن الإمام136.

وفي «التبصرة» أنه: «إذا كان الجدار مائلًا من أصل البناء، فعلى صاحبه الضمان. وإن كان بناه على الاستقامة، ثم طرأ عليه الميل، فأنذر صاحبه، وأشهد عليه بذلك، وأمكنه تداركه، ولم يفعل، فعليه ضمان ما تلف. وإن لم ينذر ففي الضمان خلاف»137.

3- ولو رشَّ الطريق أو توضأ في الطريق، فعطبَ بذلك الموضع إنسان، فهو ضامن؛ لأن ما أحدث في الطريق من صب الماء يلحق الضرر بالمارَّة، ويَحول بينهم وبين المرور؛ مخافة أن تزل أقدامهم.

وعلى هذا فغسل السيارة أو إصلاحها، أو إيقافها على الطريق العام- يُعَدُّ من التعدي الموجِب للضمان.

4- الجلوس في الطريق الضيقة التي لا تتسع لغير المرور، لا يجوز، ويصير الفاعل متعديًا، ويترتب عليه الضمان.

5- لو وضع خشبة في الطريق، فنقلها آخر من مكانها إلى مكان آخر، فعطَب بها إنسان، فالضمان على الذي نقلها، لا على الذي وضعها138.

المسألة الثانية: منع اتخاذ النحل والحمام والدجاج:

سئل العلامة أبو زيد سيدي عبد الرحمن الحائك عن رجل اشترى أرضًا بإزاء دار أراد منع صاحبها من اتخاذ الدجاج والكلاب المعتادين في البادية.

فأجاب: إنه ليس له ذلك، كما في «أجوبة الفاسي»، ونصها:

1- وأما اتخاذ النحل والحمام والدجاج، إذا أضر بالناس في زروعهم وشجرهم، فاختلف ذلك. قال ابن عَرَفَة: والصواب في المسالة الحكم بقول ابن حبيب، أي بمنعها، وإن كان خلاف قول ابن القاسم، وهذا إذا كانت هذه الأشياء حادثة. وأما إذا تقدمته فليست بضرر، والله أعلم. (ه). فحيث اشترى مَن اشترى والدار دار بدجاجها وكلابها، فلا كلام لهذا المشتري مع صاحب الدار إلا فيما يحدثه عليه من غير المعتاد، ولا كلام له فيما كان مدخولًا عليه من الضرر، وكما قال أبو علي- أيضًا- في «حاشيته»، والله أعلم. (ه).

2- وسئل أيضًا عن اتخاذ الدجاج ونحوه إذا كان يضر بالناس.

فأجاب: والصواب الحكم في المسألة بقول ابن حبيب، أي بمنعه، ونص أبي علي فيها: الراجح الذي يفتَى به هو المنع من اتخاذ الحمام، ونحوه إذا كان يضر بالناس، وهو قول مطرِّف، وقول ابن القاسم في ذلك مجروح، قال: وهذا كله إنِ اتخذ بعد زرع الزارع، وأما إن تقدم اتخاذ الحمام- مثلًا- فجاء رجل فزرع بإزائه، فإنه لا كلام له؛ لدخوله على الضرر139.

المسألة الثالثة: من به جَرَبٌ ودخل المسجد:

سئل سيدي أحمد القبَّاب، كما في نوازل الطهارة من «المعيار»، عمن به جَرَبٌ كثير، فإذا أتى المسجد للصلاة، حكَّ فيه، فتقع قشور الجرب في المسجد، وهو لا يقدر على التحفظ من ذلك، هل يجوز له دخول المسجد أو لا؟

فأجاب: لم أقف فيها على نص، ولو صلى خارج المسجد بصلاتهم، إن قدر، كان أحوط له.

قلت: أما على ما قاله ابن عَرَفَة من أن ما أُبين من الآدمي الحي، نجس على كلا القولين، فلا وجه للتوقف في منعه، وكذا على ما قاله ابن عبد السلام من أنه يجري على القولين في ميتة الآدمي، إذا فرَّعْنا على ما صدر به في «المختصر» من قوله: ولو قملة وآدميًّا، وأما على مقابله فوجه التوقف ظاهر، والصواب له هو في نفسه أن يترك دخوله، وأن يمنع منه إن طلب ذلك غيره؛ لأن ذلك يؤذي الناس، وليس ضرره بأخفَّ من ضرر رائحة البصل ونحوه، ولأن كثيرًا من الناس يتورع ويحتاط لنفسه، والقول بنجاسة ذلك قوي، فلا تَطِيبُ نفسُ المتورِّعين بالصلاة على تلك القشور. فتأمله بإنصاف. قاله الشيخ الرهوني.

قلت: وكذلك مَن ينزل مِن رأسه قشور؛ لكونه أقرع، يجري على هذا أيضًا. وكذا لا يجوز- أيضًا- لمن في ثوبه قمل كثير، الدخولُ للمسجد حتى ينفضها منه؛ لأنه يؤذي الناس بذلك140.

المسألة الرابعة: من عرف عنه الإصابة بالعين:

وفي «الإكمال» عن بعض العلماء: ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين، اجتنابه والتحرز منه، وينبغي للإمام منعُه من مداخلة الناس، ويأمره بلزوم بيته، وإن كان فقيرًا أرزَقه ما يقوم به، ويكفُّ أذاه عن الناس؛ فضرره أشد من ضر آكل الثُّوم والبصل الذي منعه النبي (صلى الله عليه وسلم) دخول المسجد؛ لئلا يؤذي المسلمين. وأشد من ضرر المجذوم الذي منع عمر (رضي الله عنه) والعلماء اختلاطَه بالناس، ومن ضرر العوادي من المواشي الذي أمر بتغريبها حيث لا يتأذى منها. ومن هذا المعنى قول ابن عبد البر- رحمه الله-: وقد شاهدت شيخنا أبا عمر بن عبد المالك الإشبيلي- رحمه الله- أفتى في رجل شكاه جيرانه، وأثبتوا عليه عند القاضي أنه يؤذيهم في المسجد بلسانه ويده، بأن يخرج من المسجد ويبعد عنه. قلت له: ما هذا، وقد كان في أدبه بالدِّرَّة والسَّوط ما يردعه؟! فقال: الاستدلال بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) أولى. قال: ونزع بحديث عمر يعني قوله: يا أيها الناس، إنكم لتأكلون من شجرتين خبيثتين، البصل والثُّوم، ولقد رأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا وجد ريحهما من أحد أمر به فأخرج إلى البقيع.

وفي «أحكام ابن حمدين»: من شهد عليه أنه يؤذي الناس بلسانه، وقَّاعٌ فيهم، فقال سعيد بن أحمد بن عبد ربه: أرى حبسه ثلاثة أيام. وقال ابن حارث: أرى أن تأمر بحبسه، وتبيح له المدفع، فإن لم يكن له مدفع، وأتى من يثبت قذفًا، أخذت له بحقه، وتعهد إليه عهدًا ناجزًا فاصلًا، إما كف بالحقيقة، وإما زال عن القوم ورحلَ عنهم. وقال ابن خزيمة: أرى أن تأمر بحبسه، وتبيح له المدفع، فإن أتاك بما يوجب له نظرًا، وإلا كفيتَ الجيران شرَّه ببيع داره عليه أو بكرائها، وترحله عن المربض، وهذا من الضرر الذي يوجب إبعاده عمن يضر به من المسلمين، ويجتهد في تأديبه بالسوط على قدر ذنبه، وأخذه من أعراض الناس، فأعراض الناس محصّنة لا ينال منها أحد إلا نِيل منه بالأدب بقدر ذلك141.

المسألة الخامسة: الغرس والبنيان إذا كان يضر بالطريق:

يمنع الغرس والبناء بإزاء سور البلد، إن كان فيه ضرر، وإلا فلا.

قال صاحب المغارَسة: وكغرس وبناء بإزاء سور خيف العدو بهما، أو حيث يضر بالطريق. قال في «الشرح»: يعني أنه لا يجوز لأحد أن يغرس أو يبني بإزاء سور بلد من بلاد المسلمين، حيث يتمكن العدو من التواري بذلك الغرس، أو بذلك البناء، وهذا ظاهر لا يخفى142.

المسألة السادسة: ما لا يجوز عمله في الشوارع:

أ- لا يخفى أن اتخاذ البقر بين الدُّور في الحاضرة، لا سيما في وسطها، والمواضع الرفيعة منها، هو من الضرر الذي لا يقر عليه بحال، ويتعين رفعه على كل مَن قدر عليه بلا إشكال؛ لما في ذلك من تلطيخها لأبواب الدور بأزبالها، ومنعها أهل الحومة حيث تقف من المرور بإزائها، ومن إذايتها بنطح الصبيان وغيرهم بقرونها، إلى غير ذلك مما يحصل من ضررها، مع كون العادة جارية في الحواضر كلها أن البقر إنما تُتَّخَذ بأطراف الحاضرة لا في وسطها.

ب- وكذلك ذبح الجَزور على باب القصَّاص، وتلويثه الطريق بالدم، منكَر يجب المنع منه، بل حقه ذبحه في دكانه، ويتخذ فيه مذبحًا، فإن ذلك يضر بالناس، وكذلك طرح الكناسات على الطريق، وتبديد قشر البطيخ، ورش الماء بحيث يخشى عليه الزَّلَق، فكل ذلك منكّر، وإرسال الميازيب المخرجة من الحيطان إلى الطريق الضيق، فإن ذلك ينجس الثياب لضيق الطريق، ولا يمنع منه في الطريق الواسعة... إلخ.

ج- ومَن أراد أن ينفض حُصُرَه أو غيرها على باب داره، وهو يضر غبارُه بمَن يمر بالطريق، يمنع من ذلك، ولا حجة له أن يقول: إنما فعلته على باب داري.

د- وقد حكم العلماء بمنع اتخاذ الحَمَام والدجاج والنحل بالحاضرة، مع أنها أقل ضررًا من البقر بكثير، ومنع اتخاذ الكلاب بها أيضًا143.

المسألة السابعة: بناء فرن بين كروم لغيره:

سئل ابن المكوي عن ذلك، فقال: له منعه.

وسئل أحمد بن عبد الله اللؤلؤي عن رجل ابتنى كرْم له بين كروم لغيره فرن قراميد، فشكا جيرانُه إضرارَه بمن يجتمع إلى الفرن، ومن يرد عليه.

فأجاب: ليس ذلك بضرر، ولا يمنع من إحداثه، إلا أن يضرَّ بنيانه، أو تؤذي تلك النارُ الكرومَ المجاورة لها من قيمتها وما يندفع منها144.

المسألة الثامنة: اتخاذ النحل بين أبراج الحمام:

سئل فقهاء قرطبة عن بعض أهل البوادي من عمل لهم أبرجة حمام قديمة، وأن قومًا من أهل تلك البوادي أحدثوا عليهم نحلًا اتخذوها في تلك البوادي في قشور وكُوًى، وأن تلك النحل تضر بحمام الأبرجة في مسارحها عند الماء وغيره، حتى بحُجَر الحمام، وربما أضرَّ بها ذلك في قوائل، وبالماشية عند شربها الماء.

فأجابوا بأن قالوا: نرى- والله الموفق للصواب والمعين عليه-: لو لم يكن في هذا غير قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «لا ضرر ولا ضرار». لكان قولًا شافيًا كافيًا مغنيًا عن كل قول، موجبًا لقطع الضرر، وأن يمنع متخذو النحل من اتخاذها، فكيف- وهو قول أصحابنا-. وقد وقعت هذه المسألة بعينها في كتاب السلطان من «المستخرَجة» أنه ليس لأحد أن يتخذ نحلًا تضر ببرج حمام قديم، وما أعلم بينهم في ذلك خلافًا. والله أسال أن يخصك بالتوفيق والرشد والتسديد، قاله ابن لبابة، ومحمد بن وليد، وسعيد بن معاذ، ويحيى بن سليمان، وغيرهم.

وأجاب ابن وليد عن أخرى مثلها، فقال: الذي نقول به إن كل ضرر يحدثه الرجل على جيرانه فهو ممنوع منه؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم): «لا ضرر ولا ضرار»، وليس يكون شيء من الضرر أبين من أن يأتي الرجل، ويُدخل على أهل قرية ما يهلك نحلهم، ويؤذي صبيانهم، فيجب أن يمتنع هؤلاء من إدخال الأجْبَاحِ في دورهم، ويقصرون على ذلك، إن شاء الله؛ إذ لا يستطاع الاحتراس من النحل والحمام، كما يستطاع الاحتراس من البهائم، ولا ضرر أعظم من اتخاذ ما لا يستطاع الاحتراس من إذايته. قاله ابن معاذ، وابن لبابة، ويحيى بن سليمان145.

المسألة التاسعة: إلقاء الزَّبْل في أرض خَرِبة:

سئل سَحنون عن خَرِبة لرجل وسط دور يلقى فيها الزَّبْل، يلقيه أهل الحارة، غير أنه لا يعرف الذي يلقيه بعينه خاصة، فقال له جار الخربة التي إليها حائطه لصاحب الخربة: الزبل الذي في الخربة أضر بحائطي. فقال له صاحب الخربة: ليس من حارتي، وأنا أشتكي من أذاه لي في قاعتي مثل ما تشتكي أنت في حائطك من الأذى.

فأجاب بأن قال: هي مثل الحائط يسقط للرجل، فيسد على الرجل مدخله ومخرجه، وزعم في آخر الكلام أنه على صاحب الخَرِبة أن يدفع الزَّبْل الذي في خربته الذي أضر بجاره، وإن قام صاحب الخربة على الجيران الذين حولها أخذهم بكنسها. قال أبو بكر: كلام سحنون في الجيران استحسان؛ لأنه قد يرمي فيها غير الجيران146.

المسألة العاشرة: من أدخل شيئًا من الزُّقاق في داره:

سئل عن رجل يدخل من زقاق المسلمين شيئًا في داره، والزقاق نافذ، فلا يرفع ذلك الجيران إلى الحكم، ولا يشهدون به، إلا من بعد عشرين سنة.

فأجاب: يهدم بناؤه، ويرد إلى الزقاق، إذا صحَّتِ البيِّنة، ولا تُملك الأزِقَّة، ولا تحاز، وليس فيها حيازة147.

المسألة الحاديةَ عشْرةَ: من أحدث إصطبل خيل بداره:

سئل عمن أحدث خلف بيت جاره رِواء [في العرف المغربي: إصطبل] لدابة صغيرة، فاشتكى صاحب الدار ضرر الدابة.

فأجاب بوجوب زواله، وإخراج الدابة منه، فصاح صاحب الدابة، وقال له: ليس لي غنًى عن الدابة؛ لأن عليها معاشي، ولا بدّ منها، فاستفهم لي أهل المعرفة فيما يرفع الضرر عن جاري. فارتفع عرفاء البنيان عن أمره، فقالوا: يحفر أساسًا، وينزل فيه قدر القامة خلف الحائط الذي هو صدر البيت، ويرفع في حفره حائطًا من تحت وجه الأرض بخمسة أشبار إلى منتهى السقوف، وعرَّفوا القاضيَ بما أمروا به صاحب الدابة. فلما فعل ذلك انقطع الضرر عن صاحب البيت بذلك. فقال القاضي- رحمه الله-: يشهد على صاحب الدابة بذلك؛ لئلا يطول الزمان، وينتزع ذلك الحائط، ويستحق المربط بالقِدم148.

المسألة الثانية عشْرةَ: في طين الأسواق والحارات:

سئل عن طين الأسواق والحارات، هل يلزمهم رفعه عن الماء النجس، ينزع من الآبار فيضر بالمارة؟

فأجاب: إذا كان زوال ذلك مصلحة، أُجْبروا على زواله، ويزيل كل قوم ما يقابلهم، ويمنع إجراء النجاسة في الطريق، وفاعل ذلك مأثوم.

وقال ابن الحاج: يمنع القاضي جَرْيَ المياه والأوساخ في الأزِقَّة149.

المسألة الثالثة عشْرةَ: تسرُّب المواد الملوَّثة إلى المياه:

سئل ابن زرب عن عين تجاورها قناة بجَرْية أوساخ، والأوساخ الواقعة بالقناة مُضِرَّة بالعين.

فأجاب: إذا ثبت ضرر جَرْيَة الأوساخ في القناة، فقَطْعُ جَرْيةِ الأوساخ واجبٌ150.

المسألة الرابعة عشْرةَ: في عين تجاورها قناة تجري فيها الأوساخ:

سئل عن عين تجاورها قناة بجَرْيَة أوساخ، وأن الأوساخ الواقعة في القناة مُضِرَّة بها، وطلب القائم عن نفسه، وبالحسبة إقامة جسر بالصخر بين العين والقناة، فزعم أنه ينقطع بذلك الضرر عن العين.

فأجاب: إذ قد ثبت عندك ضررُ جَرْيةِ الأوساخ في القناة، فقَطْعُ الأوساخ واجبٌ151.

المسألة الخامسة عشْرةَ: مَن نقل ترابًا إلى طريق فسدَّه:

سئل عمن نقل ترابه إلى طريق فسدَّه.

فأجاب بأن قال: يقال لرب التراب: «ارفعه»، فإن أبى، فلا يجبر، ويقال للآخرين: ارفعوه عنكم.

وقال يحيى بن عمر: إذا طَمَّ أصحاب الحوانيت الطينَ، فإن عليهم جَبْرًا أن يرفعوه، فكذا إذا حمل أحد ترابه إلى طريق، فسدَّه152.

المسألة السادسة عشْرةَ: بناء تنور دائم للخبز في الدار:

ذكر الرازي في كتاب الاستحسان: لو أراد أن يبني في داره تنُّورًا للخبز الدائم، كما يكون في الدكاكين، أو رحى للطحين، أو مدقَّات للقصَّارين، لم يجز؛ لأنه يضرُّ بجيرانه ضررًا فاحشًا، لا يمكن التحرُّز عنه، فإنه يأتي منه الدخَان الكثير، والرحى والدق يوهن البناء، بخلاف الحمام، لأنه لا يضر إلا بالنَّداوة، ويمكن التحرُّز عنه بأن يبني حائطًا بينه وبين جاره، وبخلاف التَّنُّور المعتاد في البيوت153. (ا.ه).

المسألة السابعة عشْرةَ: لزوم شخص أداء قيمة كلب قتله:

جاء في أحد كتب الفتاوى: «وفي قبيلة الأخماس نازلة سجلها مفتٍ بقلمه، وأجاب عنها، فقال في السؤال والجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله، وبعد: فقد سئل كاتبه- سامحه الله- عن رجل قتل كلبَ رجلٍ آخر، بباب داره، هل تترتب عليه قيمة الكلب أولا؟ وهل يعاقب لكونه قتله قرب دار مالكه أو لا؟

فالجواب- والله أعلم- أنه يحكم عليه بأداء قيمته؛ لأن كلاب البادية مأذون في اتخاذها، وكل من قتل كلبًا مأذونًا في اتخاذه، يغرم قيمته، قال في «المدونة»: «من قتل كلبًا من كلاب الدور، مما لم يؤذن في اتخاذه، فلا شيء عليه؛ لأنه يقتل ولا يترك، وإن كان مما أُذِن في اتخاذه لزرع أو غيره، فعليه قيمته»، نقله الرهوني في باب البيوع.

وفي «الرسالة»: «واختلف في بيع الكلب المأذون في اتخاذه، وأما من قتله، فعليه قيمته». ونقله الرهوني- أيضًا- في المحل المذكور، وقال: النصوص في ذلك كثيرة، يطول جلْبها، والله أعلم، ويعاقب عقوبة باجتهاد الحاكم، لمروره قرب دار مالكها، أن لم تَدْعُه لذلك ضرورة، ولم تكن داره في الطريق»154 [انتهى].

الفصل الرابع:

وسائل حماية البيئة بين الشريعة الإسلامية والاتفاقيات الدولية

وفيه خمسة مباحث:

المبحث الأول: المبادئ العامة التي تحكم النظر إلى قضايا البيئة.
المبحث الثاني: زيادة الوعي بأهمية البيئة وحمايتها.
المبحث الثالث: إعمال مبدأِ التعويض عن الأضرار البيئية.
المبحث الرابع: استخدام سلطة التشريع والعقاب.
المبحث الخامس: استحداث الإجراءات والتصرفات التي تحدُّ من التلوث البيئي.

المبحث الأول: المبادئ العامة التي تحكم النظر إلى قضايا البيئة

1- البيئة نعمة من الله.
2- البيئة كائن متعبد.
3- البيئة صديقة للإنسان.
4- البيئة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي في الكون.
5- البيئة هي مجال العمران البشري.
6- ضرورة المحافظة على التوازن البيئي.
7- البيئة تراث مشترك للإنسانية.

لا شك أن هذه المبادئ تمثل الإطار الديني والفلسفي الذي يحدد علاقة الإنسان مع البيئة على مستوى: المفاهيم والتصورات والإجراءات. وهي بذلك كله تبتعد عن التصورات والمفاهيم القائمة على أساس مادي، والتي جعلت العلاقة مع الطبيعة، بل ومع الآخر، قائمة على أساس الصراع، واستنزاف الموارد، دون أية قيود أو موانع.

إن قضية البيئة أكبر من كونها موارد وثروات، ولكنها بالإضافة إلى ذلك علاقة إنسانية، يمتزج فيها الدنيوي بالديني، والمادي بالقيمي، لصياغة حياة إنسانية، تليق بالرسالة التي كلف بها الإنسان على الأرض.

المبحث الثاني: زيادة الوعي بأهمية البيئة وحمايتها

تقدم الشريعة الإسلامية وسائل متعددة ومتنوعة في مجال حماية البيئة والمحافظة عليها، ومن هذه الوسائل زيادة الوعي بأهمية البيئة، وضرر حمايتها وتنميتها وتحسينها، وعلاج مشكلاتها، من خلال نظرتها المتميزة إلى مشكلات البيئة، والتي تقوم على أن الإنسان هو الذي صنع هذه المشكلات، وليست الطبيعة، ومِن ثَمَّ فإذا ما تمت العناية بالإنسان نفسه، بوصفه أحد عناصر البيئة من ناحية، والمسؤول عن تدهورها أو صيانتها من ناحية أخرى، فإن ذلك سيؤدي- في النهاية- إلى حماية حقيقية لها.

ويمكن تحقيق زيادة الوعي بأهمية ذلك من خلال الوسائل الآتية:

1- تربية الناشئة:

أولى هذه الوسائل هي التربية والتعليم، وخصوصًا للناشئة في الحضانات والمدارس، بمستوياتها المختلفة، حتى الجامعة.

فمن الواجب غرس فكرة العناية بالبيئة والمحافظة عليها، والتعامل معها بــ «الإحسان» الذي أمر الله به، وكتبه على كل شيء، كما جاء في الحديث: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»155. وبــ «الرفق» الذي يحبه الله- تعالى- في الأمر كله، وما دخل في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه. وبـ «الاعتدال» الذي يجعل الإنسان ينتفع بخيرات البيئة، بلا شحٍّ ولا إسراف، انتفاع عباد الرحمن، ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: 67]. وبـ «شكران النعمة»، الذي يجب أن يتصف به كل مؤمن، فهو الذي يحفظها عليه، بل يزيدها وينميها، وعلى المؤمن أن يقول ما قال سيدنا سليمان (عليه السلام): ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40] 156.

2- التوعية والتثقيف للكبار:

«والوسيلة الثانية هي التوعية والتثقيف للكبار، وللجماهير بصفة عامة، وذلك عن طريق المؤسسات الثقافية التي تعمل على الرقيِّ بفكر الأمة، وتسمو بأذواقها واتجاهاتها العقلية والنفسية، وتصحح مفاهيمها الخاطئة، وتُقوِّم أفكارها المنحرفة، متعاونة مع أجهزة الإعلام الواعي الهادف، الذي يبني ولا يهدم، ويصلح ولا يفسد، بحيث ينشئ تصورًا معرفيًّا بيئيًّا جديدًا منبثقًا من التصور الإسلامي العام لله- سبحانه- وللإنسان، وللكون، وللحياة والوجود؛ فالثقافة هي التي تغير الأفكار والأذواق والميول، وتكوِّن اتجاهات الأفراد، خيِّرة كانت أم شريرة.

كما لا بدّ أن يدخل إصلاح البيئة، والحرص على سلامتها ونمائها، وأداؤها لما يطلب منها على الوجه الأمثل... في مناهج الإعلام مقروءًا، أو مسموعًا، أو مرئيًّا. وأن تعد برامج ثقافية ملائمة، على شتى المستويات، بعضها أكاديمي يصلح للخاصة، وبعضها جماهيري ينفع العامة.

بل لا بدّ أن تدخل هذه المعاني والمفاهيم البيئية ضمن الأعمال الدرامية من التمثيليات والمسلسلات ونحوها؛ لما فيها من تشويق، وما لها من تأثير بالغ على الناس.

ولا بدّ للإعلام الديني أن يقوم بمهمته في التوعية والترشيد والتوجيه، المعتمد على القرآن والسنة وهَدْي السلف الصالح، عن طريق خطبة الجمعة، ودرس المسجد، والمحاضرات الدينية، فلا ريب أن للمسجد تأثيره الكبير على عقول المسلمين وضمائرهم، إذا تهيأ له الخطيب الصالح الذي يفقه دينه، ويفقه عصره»157.

3- رقابة الرأي العام:

والوسيلة الثالثة هي رقابة الرأي العام، الذي يمثل (الضمير الجماعي) للأمة، بمقتضى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي ميَّز الله بها هذه الأمة كما قال جل شأنه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].

وهو من الأوصاف الأساسية لمجتمع المؤمنين والمؤمنات، كما وصفه الله- تعالى- في كتابه؛ حيث قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].

فقدَّم الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر على الفرائض المعروفة: الصلاة والزكاة؛ ليشعر بأهميته في الدين، وبهذا يتكون الضمير الاجتماعي للأمة، وتتقرر رقابة الرأي العام على أوضاعها، والسهر على استقامتها.

ولا ريب أن إصلاح البيئة ورعايتها من المعروف، وأن إفسادها وتلويثها والاعتداء عليها من المنكَر.

ومعنى هذا أن كل مسلم مسؤول مسؤولية تضامنية عن سلامة البيئة وصلاحها، وإذا رأى مَن يجور عليها بتلويث أو إتلاف أو إفساد، وجب عليه أن ينهاه عن ذلك، بل المطلوب أساسًا أن يغير هذا المنكَر بقدر استطاعته: بيده إن كان ذا سلطة، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»158.

المبحث الثالث: إعمال مبدأ التعويض عن الأضرار البيئية

من بين الوسائل التي تؤدي إلى حماية البيئة من التلوث والعدوان عليها بأية صورة تهدد الحياة الإنسانية، أو الكائنات الحية، أو حتى الغابات... إعمال مبدأِ التعويض عن الضرر الذي أصاب البيئة من جراء ممارسة الإنسان لحقٍّ من حقوقه في العمل، أو في استخدام الموارد، أو غير ذلك بما له صلة بشؤون البيئة.

وبما أن الأضرار البيئية صار لها الطابع الإقليمي والدولي، فإن الجهود الدولية قد اتجهت إلى إقرار مبدأِ التعويض عن الأضرار البيئية، سواء المباشرة أو غير المباشرة. ومن ثم وجدت اتفاقيات دولية لجعل هذا المبدأِ ملزِمًا للجميع، بعد أن أصبح الضرر الذي يلحق البيئة عالميًّا، من ذلك اتفاقيات متعلقة بأضرار التلوث بالزيت عام 1969م، وأخرى متعلقة بالطاقة النووية 1962، واتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982م وغيرها، وذلك كله يبين لنا أن الأضرار التي تلحق بالبيئة لا تعرف الحدود الجغرافية أو السياسية في آثارها، ومن ثم كان لا بدّ من تطوير قواعد المسؤولية والتعويض عن الأضرار البيئية، وذلك في الحالات التي لم تنجح فيها الإجراءات الوقائية في منع حدوث الضرر.

وقد اقترح بعض الباحثين عددًا من الإجراءات الدولية التي تسهم في حماية البيئة، وإعادتها إلى سيرتها الأولى، مهيأة لحياة الإنسان، ودوره ورسالته على الأرض.

«أولًا: اللجوء إلى القضاء الدولي في حالة الأضرار المباشرة، والممكن إثباتها، ويتحدد الاختصاص أمام محكمة العدل الدولية، ويبدو لنا إنشاء محاكم إقليمية تابعة للمنظمات الدولية الإقليمية، خاصة بالتلوث، على نمط محكمة العدل الأوربية، ويؤدي هذا إلى إمكانية قيام محاكم مثل (محكمة الخليج العربي- محكمة جامعة الدول العربية- محكمة منظمة الدول الإفريقية- محكمة منظمة الدول الأمريكية)، على أن يتم اللجوء إلى المحاكم الوطنية في حالة التلوث عبر الحدود، ويتم إثبات الضرر في حالة تجاوز (Ahus) مستويات وحدود التلوث المتفق عليه دوليًّا، وتطبق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، أو اتفاقية التعويض الإقليمية والدولية، أو المبادئ القانونية المعلنة في مؤتمر إستكهولم (المبدأ 21، 22) أو مبادئ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، أو السوابق القضائية الدولية المستقرة، أو القوانين الوطنية159.

ثانيًا: فرض ضريبة على المصانع التي تسبب التلوث عبر الحدود، وتزداد الضريبة بتزايد عدم الالتزام بالمستويات والمعايير البيئية، وكذلك مصانع الإسمنت والحديد والنحاس والألومنيوم ومصانع المبيدات160.

ثالثًا: يبدو لنا تمويل صندوق البيئة الدولي من المؤسسات المالية متعددة الأطراف، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والمصاريف الإقليمية الإنمائية161.

رابعًا: يبدو لنا إنشاء مراكز دولية تعالج أمراض السموم، ينشئها أغنياء العالم متحدين معًا، باعتبارها ضريبة162.

خامسًا: دعوة جميع دول العالم للتوقيع على الاتفاقيات المتصلة بحماية الطبيعة والبيئة، والتعويض عن الأضرار البيئية والتصديق عليها163.

سادسًا: تقديم المساعدات المالية والفنية للدول النامية؛ حتى تتمكن من تحسين وحماية بيئتها، وثرواتها الطبيعية، على أن توضح نتائج البحوث المتعلقة بالمنتجات الملوثة، وكيفية استعمالها، والتخلص من أضرارها تحت تصرف الدول النامية164.

المبحث الرابع: استخدام سلطة التشريع والعقاب

المراد باستخدام سلطة التشريع والعقاب سنُّ التشريعات والقوانين الضرورية لحماية البيئة، وهذا يتطلب إيجاد تنظيم تشريعي متكامل لحماية البيئة من جميع جوانبها، يتضمن المبادئ الأساسية كافة اللازمة للوقاية من التلوث، بالإضافة إلى بعض الإجراءات التي تساعد في القضاء على كل مظاهر التلوث، وإفساد البيئة.

ولا شك أن الوسائل التشريعية ستجد سنًا لها في الأصول الفقهية المعروفة، كالقياس والاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة، كما ستجد دعمًا كبيرًا لها من خلال القواعد الفقهية الآتية:

1- لا ضرر ولا ضرار.
2- الضرر يُزال.
3- يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.
4- يرتكب أخف الضررين.
5- العادة محكمة.

وغير ذلك من القواعد المتصلة بالأضرار الصحِّية والبيئية العامة والخاصة.

وفي هذا السياق لا يغيب عن البال المواد المتعلقة بحماية البيئة في «مجلَّة الأحكام العَدْلية»، التي قنَّنت القانون المدني على المذهب الحنفي، كما ورد في المواد: (1200- 1201- 1202- 1212).

المبحث الخامس: استخدام الإجراءات والتصرفات التي تحد

من التلوث البيئي

1- هيئة حماية البيئة:

إن حماية البيئة ليست من الأمور السهلة؛ حتى مع وجود القصد والمال؛ لأن مكافحة التلوث تحتاج إلى دراسات وأبحاث وجهود، وتنسيق بين مختلف أجهزة الدولة؛ لذلك فمن الضروري- في كل دولة- إيجاد هيئة أو جهة عليا متخصصة في موضوع حماية البيئة، ومكافحة تلوثها، تقوم بمراقبة التلوث في كل عناصر البيئة، وقياس معدلاتهن وتقصِّي أسبابه، والبحث عن أفضل السبل لعلاجه. وتظل هذه الهيئة على اتصال دائم بمختلف الجهات المعنية بأمر البيئة، للتنسيق بينها. كما تتولى هذه الجهة اقتراح السياسة العامة لحماية البيئة، ووضع مشروعات التشريعات المتصلة بها.

2- إقامة مراكز مراقبة التلوث:

تُزوَّد هذه المراكز بالأخصائيين، والأجهزة الفنية اللازمة ويجب أن تقام مراكز قياس التلوث في أماكن مختلفة في البر والبحر، وأن يزداد عددها حيث يتوقع ارتفاع معدلات التلوث.

3- تحديد معدلات التلوث:

يجب تحديد معدلات التلوث المناسبة، التي يمكن على هدْيها التأكد من وجوده، وتحديد مدى خطورته، تمهيدًا للتصدي له، وإزالة آثاره؛ وذلك لأنه لم يعد هناك عنصر واحد من عناصر البيئة يخلو من التلوث بكل صوره، فلا مفرَّ من التغاضي عن نسبة ضئيلة والتسامح فيها، ما دامت في الحدود المحتملة، التي لا تشكل خطرًا على الصحة العامة أو على البيئة بصفة عامة؛ لذلك تلجأ الدول والمنظمات الدولية المعنية إلى تحديد معدلات التلوث المعتمدة بالنسبة لعناصر البيئة المختلفة.

4- مواجهة التلوث الصناعي:

تعد المصانع أول وأكبر عامل من عوامل التلوث في العصر الحديث. ولتفادي ذلك أو التقليل منه، لا بدّ من القيام بالدراسة الشاملة للآثار كافة التي يمكن أن تترتب على كل مشروع صناعي يُراد القيام به، والبحث عن الحلول العلمية الكفيلة بمعالجة الآثار السلبية له، وحبذا لو نصَّ المشرِّع صراحةً على تعليق منح الترخيص للمشروع قبل تقديم دراسة شاملة لآثاره، ويمكن تضمين تكلفة محاربة التلوث في التكاليف الإنشائية للمشروعات. ويمكن ذلك- من باب التأكيد- السماح بتشغيل المصنع لفترة تجريبية وجيزة لمراقبة آثار التشغيل وقياسه. ويجب على إدارة المصنع القيام بالتفتيش الدوري وقياس التلوث؛ لإمكان مواجهته في الوقت المناسب. وقد بدأت المصانع الجديدة في الدول المتقدمة تضم- كجزء من مكوناتها- قسمًا لمعالجة النِّفايات الصادرة عنها... وغير ذلك ينشغل به المختصون.

ولا يقتصر الأمر على المصانع التي لا تزال في دور التأسيس، وإنما يشمل كذلك المصانع القائمة، فتدرس السلطات المختصة ذلك، وتفرض عليها الإجراءات الكفيلة بإزالة أسباب التلوث، أو الحد منها.

5- مقاومة تلوث السيارات:

السيارات من أهم أسباب تلوث الهواء، فضلًا عن التلوث الصوتي الذي تحدثه؛ فيجب اتخاذ الإجراءات التشريعية والإدارية اللازمة للحد من مساوئها والوقاية من ملوثاتها. ويمكن في هذا المجال العمل على تقليل عددها أو وضع حد لمعدلات الزيادة فيها. كذلك يجب تحسين نوعياتها، بوضع التشريعات التي توجب ألا تتجاوز مخلفاتها الغازية حدًّا معينًا وتنفيذها، وما يتطلب ذلك من إجراءات.

6- حماية المياه العامة:

يجب العمل على وقاية مياه البحار والأنهار في إقليم الدولة من التلوث بأسبابه المتعددة، وذلك بمنع تسرب النفط ومشتقاته إليها، وسرعة تخليص المياه منه في حال تسرُّبه، بوضع التشريعات اللازمة، فضلًا عن الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية المنظِّمة لهذه الوسائل.

أما مياه المجاري العامة أو الصحية فيجب أن يتم التخلص منها بطريقة صحية، فلا تلقى في المياه العذبة أو المالحة، فتكون سببًا في تلويثها، وجعلها مصدرًا للإيذاء. ويمكن تنقيتها والاستفادة منها، ما أمكن ذلك.

7- حماية الكائنات الحية:

يجب أت تحرص التشريعات على حماية الأحياء البرية والبحرية، وحماية المزروعات، والحفاظ على المساحات الخضراء... وتجب الحماية من تجاوزات الإنسان التي قد تصل إلى حد الإبادة.

8- مقاومة تلوث الغذاء:

الغذاء هو قوام الجسم ووقود الحياة، ويؤدي تلوثه إلى الإضرار بالإنسان ضررًا مباشرًا وجسيمًا؛ لذلك فإن تشريعات الأغذية بالدولة يجب أن تكون من الشمول والصرامة بحيث تمنع أسباب التلوث كافة عن المواد الغذائية.

9- مكافحة تلوث التربة:

لا تحتاج أهمية التربة، وضرورة وقايتها من التلوث إلى بيان؛ لذلك يجب تنظيم استعمال التربة ومنع تجريفها، وحظر كل الأعمال التي من شأنها تلويثها وينبغي معالجة النِّفايات الصلبة قبل طرحها في التربة، وإعادة استخدام ما يمكن استخدامه منها، والبحث عن بدائل لما يلوثها.

10- صيانة السَّكينة العامة:

أصبحت الضّوضاء أو الضَّجة أو الصَّخَب من أهم عوامل القلق، وهو مرض العصر الذي استشرى في كل مكان... فلا بدّ من مواجهة ذلك، بما من شأنه أن يحقق السَّكينة العامة،، وذلك حتى لا تنقلب نعمة السمع العظيمة إلى نقمة كبيرة.

11- مواجهة التلوث الإشعاعي:

يستخدم العالم كله الطاقات الإشعاعية الذرية والنووية وغيرها في كثير من الأغراض، وذلك يستدعي تنظيم سبل الوقاية من التلوث الإشعاعي بكل مصادره. كما ينبغي عدم الاندفاع في استخدام الطاقة النووية، رغم مخاطرها الكبيرة، بالنسبة للدول المتخلفة.

12- مقاومة التلوث الفضائي:

تسببت الدول الصناعية المتقدمة في إصابة طبقة الأوزون، وفي تلويث الفضاء الخارجي بما ألقت فيه من قذائف وأجرام صناعية. وينبغي للدول التي تحاول اللحاق بها، ألا تساهم في هذا التلوث الفضائي، سواء باستخدام السلع الاستهلاكية التي تصدر الانبعاثات المستنفذة لطبقة الأوزون، أو بالاندفاع في المشاركة في تلويث الفضاء، أو التشجيع عليه.

ويستطيع الإنسان بالبحث والتفكير، والتأمل والتدبر، أن يستفيد من التقدم الفني والتكنولوجي، دون أن يضطر إلى دفع ثمن إضافي لذلك من أمنه، أو صحتهن أو راحته165.

الخاتمـة

في نهاية هذه الدراسة، أذكر أهم النتائج التي توصلت إليها:

  1. إن العناية بالبيئة والمحافظة عليها وحمايتها من كل أشكال التلوث يعد- في المنظور الإسلامي- فرضًا دينيًّا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا كانت أصول الدين تتوزع بين عبادات ومعاملات، فإن تحقيق هذه الأصول لا يمكن أن يتم بمعزل عن البيئة بكل عناصرها.
  2. إن حماية البيئة- في ضوء مقاصد الشريعة- تأتي من خلال التصور الإيماني لمفهوم البيئة، بوصفها أمانة سخرها الله للإنسان؛ لكي ينتفع بها، ويحافظ عليها. وبوصفها نعمة أنعم الله بها على الإنسان، وبوصفها مظهرًا من مظاهر الجمال والإبداع، وبوصفها حقًّا عامًّا لجميع البشر ولجميع الأجيال، فليس من حق أحد أن يستأثر بالتصرف فيها بما يخل بتوازنها، أو يضيع خصائصها الطبيعية.
  3. إن الفقهاء المسلمين قد اهتموا بالبيئة على المستوى النظري والتطبيقي، وها هي فتاواهم تشهد بمبلغ عنايتهم بضرورة حماية البيئة من الأضرار كافة التي تهددها، وذلك في ضوء الظروف التي عاشوها والأضرار التي كانت تقع في أزمنتهم.
  4.  إن وسائل حماية البيئة لا بدّ أن تأخذ أشكالًا متنوعة، منها: زيادة الوعي بأهمية البيئة، ومنها إعمال مبدأِ التعويض عن حدوث الأضرار البيئية، قياسًا على التعويض عن حدوث الأضرار الخاصة، ومنها استخدام سلطة التشريع والعقاب، ومنها استحداث الإجراءات والتصرفات التي تحد من التلوث البيئي.
  5. لم تعد مشكلة البيئة مشكلة محلية إقليمية، وإنما صارت مشكلة عالمية، تتطلب تضافر كل الجهود، وتكاتف المجتمع الدولي؛ لأن الخطر بات يهدد الجميع. ومع كثرة الاتفاقيات الدولية الموقعة بشأن حماية البيئة، لإلا أنه يلاحظ أن أغلب هذه الاتفاقيات لم يتم الالتزام به؛ لأسباب متعددة، ومن ثم ما تزال الأضرار البيئية كما هي، وهذا أمر في غاية الخطورة.
  6. إن لحماية البيئة علاقة وثيقة بحماية حقوق الإنسان، فإذا كان من حق الإنسان أن يعيش حرًا كريمًا، فإن ذلك لا يتحقق إلا من خلال بيئة صحية نظيفة خالية من التلوث، ولذلك يعد الاعتداء على البيئة اعتداء على حقوق الإنسان.

    كذلك فإن لحماية البيئة علاقة بحماية حقوق جميع الكائنات الحية، بل جميع عناصر الحياة على الأرض؛ من الماء، إلى الهواء، إلى التربة، إلى النبات، إلى الحيوان؛ فالبيئة هي كل ما يحيط بالإنسان من أسباب ومقومات الحياة، وأي انتهاك أو اعتداء على أي جانب منها يعد اعتداء على الحياة في صورها وأشكالها كافة.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الشريعة والإتفاقيات الدولية: مجموعة بحوث،2013، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 275-398.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

في أصل نبع ماء زمزم الذي هو شراب الأبرار وفي بيان ما فيه من الفوائد والأسرار وما ورد في أصل حفرها من الأخبار

خليفة بن أبي الفرج بن محمد الزمزمي الشافعي، تحقيق عبد الرحمن بن سليمان المزيني قال الفكاهي1: حدثنا عبد الله بن عمران المخزومي، قال: حدثنا2 الإمام علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه، ورضي عنه، قال استأذن إبراهيم (نبي الله)3 ع...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

العلوم الرياضية المتعلّقة بكوكب الأرض

رشدي راشد ليس من النّادر أن يرتّب مؤلفو فهارس المخطوطـات العربية تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق يستوحونه من النظام التعليم التقليدي المتأخر،أي أنّهم بعبارة أوضح يرتبون تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق مدرسي مقرر. فبعد علوم القرآن يأ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

نظرات في تحقيق النصوص الجغرافية العربية

عبد الله يوسف الغنيم محتويات المقال:أولا- تحقيق التراث الجغرافي الذي تم إصداره في القرن التاسع عشر ونشرهثانيًا- إعادة النظر في الكتب التي تم تحقيقها خلال العقدين الأخيرينثالثًا- مشاركة الجغرافي المختص في تحقيق النصوص الج...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

أنظار في بعض مشكلات النص الجغرافي التراثي

إبراهيم شبّوح تمثّل نصوصُ الجغرافيا التراثية قاعدةً مهمّة للدراسات والبحوث التاريخية الحضارية والبشرية في ثقافتنا العربيّة الإسلامية، وكثيرًا ما تكون المنطلق الممكنَ لاستعادة تركيب صورة تلك المجمعات في ظل بيئتها وحيويتها...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تاريخ الأدبيات الجغرافية في العهد العثماني

أكمل الدين إحسان أوغلي محتويات المقال:التراث الهليني الإسلاميعجائب المخلوقاتبواكير الأدبيات الحديثةالأدبيات الحديثةتقارير السفراء وكتب الرحلات يمكن اعتبار هذا البحث خلاصة لدراسة استطلاعية قام بها الكاتب في كتاب أ. إحسان ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

النصوص الجغرافية غير المنشورة: حَصْر وتقييم

أيمن فؤاد سيِّد محتويات المقال:كتب الجغرافيا الرياضيةالمعاجم الجغرافيةكتب الجغرافيا في المغرب والأندلسكتب الخطط (الطوبوغرافيا المحلية)كتب الزياراتكتب الموسوعاتكتب الجغرافيا الإداريةكتب العجائب والغرائبأدب المرشدات البحري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تجربة صغيرة في نص جغرافي

إحسان عباس لم أكن أعرف كتاب (( الروض المعطار)) في صورته الكاملة، ولكني كنت قد عرفت أنه قاموس جغرافي مما استخرجه من المستشرق الفرنسي لافي بروفنصال Levi Provençal من أسماء الأماكن الأندلسية، حين قام بحقيقه وترجمته إلى الفر...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مخطوطات الخيمياء: نموذج المدونة الجابرية

سيد نعمان الحق يعرف المؤرخون مجموعة كبيرة من الأعمال العربية التي ترجع إلى العصور الوسطى، وتنسب إلى شخصية طالما لفها الغموض، هو جابر ابن حيان. وهذه الأعمال المثيرة متناثرة في مخطوطات عديدة حول العالم، والموقف الأكاديمي ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

جواهر نامه نظامي

إيراج أفشار محتويات المقال:عنوان المؤلَّفالمؤلّفتاريخ المؤلفالشخصية المُهدَى إليه الكتابترتيب المخطوطات حسب اهميتهاالمحتوياتالجديد في كتاب (( جواهر نامه نظامي))أسماء الجواهر المنْحولالمراجع حسب ثبت المصادر المرفقة، ثَمَّ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقالة ابن رشد حول الطعوم، أهي جزء من كتابه المفقود (( كتاب النبات))؟

ماورو زونتا لم تكن دراسة النبات كعلم قائم بذاته فرعًا من المعرفة واسع الانتشار بين مسلمي العصور الوسطى. فقد كانت غالبية الأبحاث أو الرسائل التي أُلّفت باللغة العربية خلال تلك الحقبة أقرب ما تكون إلى قوائم باسماء النباتات...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

قراءة المصطلح النباتي العربي وتحقيقه

إبراهيم بن مراد محتويات المقال:1ـ تمهيد2ـ في قراءة المصطلح النباتي3-في تحقيق المصطلح النباتي3-1 في تحقيق المصطلح النباتي المخطوط 3-2 في التحقيق الماهَويخاتمة  1ـ تمهيد: لقد مرّ علم النبات حتى أصْبَح في التراث العلمي...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top