قراءة المصطلح النباتي العربي وتحقيقه

شارك:

إبراهيم بن مراد

محتويات المقال:
1ـ تمهيد
2ـ في قراءة المصطلح النباتي
3-في تحقيق المصطلح النباتي
3-1 في تحقيق المصطلح النباتي المخطوط
3-2 في التحقيق الماهَوي
خاتمة

 1ـ تمهيد:

لقد مرّ علم النبات حتى أصْبَح في التراث العلمي العربيّ علمًا مستقبلاً بذاته بأربع مراحل1:

( أ) المرحلة اللغوية، أي مرحلة الاهتمام اللغوي بالنبات، وقد امتدت على القرنيْن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي والثالث الهجري/ التاسع الملادي. فقد كان القرن الثاني فترة جمع مفردات اللغة وتوينها. وكان علماء اللغة يشدّون الرجال إلى الأعراب في بواديهم- وخاصة بوادي نجد والحجاز- فيأخدون عنهم فصيح اللغة، وكان من الفصيح المجمَّع ألْفاظ المواليد وخاصة أسْماء النبات وصفاته، وقد ألفوا في أسماء النبات وصفاته رسائل مفردة وكتبًا قصارًا؛ وأمّا القرن الثالث فقد كان فترة الاستفادة ممّا جمّع السّابقون دون انقطاع عن الرحل إلى البوادي وملاقاة الأعراب الفصحاء فيها والأخد عنهم. وقد ألّف علماء هذه الفترة الرسائل المفردة والكتب المطوّلة في أسماء النبات وصفاته، وكان أهم كتاب توّج هذه المرحلة الغويّة هو ((كتاب النبات)) لأبي حنيفة الدينوري(ت. 282هـ /895م)2، وهو موسوعة كبيرة في ستة أجزاءٍ، الأربعة الأولى منها في موضوع النبات العامّ، والجزآن الخامسُ والسّادسُ في أسماءٍ النبات وصفاته مرتبة على حروف المعجم. والكتاب كله إذن معجم، قد رتّبت مادّة أجزائه الأربعة الأولى بحسب المواضيع، ورتبت مادّة جزئيه الأخيرين على حروف الهجاء، لكن انتماء ((كتاب النبات)) إلى ((مدرسة النباتية اللغوية)) لا ينفي عنه قيمته الكبرى في التعريف الدقيق بنبيت أرض العرب وبكثير من صفاته وخصائصه وأجناسه واستعمالاته.

(ب) والمرحلة الثانية هي مرحلة الترجمة. وقد عاصرت في القرن الثالث الهجري/التاسع الملادي المرحلة الأولى اللغوية  لولم يترجم العَرَبُ في الحقيقة كتبا نباتية كثيرة لأن علم النبات ذاته لم يكن عند الأمم السّابقة بالعلم المستقل ذي المبادئ والقوانين والأسس النظريّة التي يستقلّ بها. وكان من أَجَلّ الكتب التي ترجموها كتاب ليْس في النبات الخالص بل هو في النبات الطبيّة هو كتاب ((المقالات الخمس)) لديوسقريديس العين زربي. وقد لقي هذا الكتاب بين العرب حظوة كبيرة وكان له في مباحثهم النباتية أثر عميق. وتتجلّى الحظوة التي كانت له في ترجمته ومراجعته وشرحه3. فق ترجم ثلاث مرات إلى العربية كانت أولاها، وقد أنجزها اصطفن ابن بسيل وحنين بن إسحاق في بغداد أيّام جَعْفر المتوكّل (232هـ/847م-247هـ/ 861م)، ورجعت ((المقالات)) في ترجمتها البغدادية مرتيْن: إحداهما في بلاد الأندلس، والأخرى في بلاد فارس؛ وقد وضعت لها أربعة شروح على الأقل أنجزت كلّها في بلاد المغرب والأندلس بين القرن الرابع والقرن السّابع الهجريين ( القرن العاشر والقرن الثالث عشر الميلادييْن). ومن أهم سراحها أبو العبّاس النباتي المعروف بأن الرومية (ت 637هـ/1239م) وتلميذه أبو محمد عبد الله ابن البيطار (ت646هـ/1248م). وأما الأثر العميق الذي كان للمقالات الخمس في مباحث العرب النباتية فيتَبَيَّن  جليّا في المرحلة الثالثة من مراحل علم النبات عند العرب.

(ج) المرحلة الثالثة هي مرحلة الاهتمام الطبي بالنبات. والاهتمام الطبي بالنبات قديم لأن النبات أهم المواليد الثلاثة في صناعة الأدوية.وأجَلّ كتبِ الأقدمين في الأدوية المفردة هو كتاب ((المقالات الخمس)) لديوسقريديس، ثم كتاب (( الأدوية المفردة)) لجالينوس الذي نقل إلى العربية في الفترة ذاتها التي نقل فيها ((المقالات الخمس)). وقد اشتمل كتابُ ديوسقريديس حسب نصّه اليوناني4على 827 مادّة جلّها في الأدوية المفردة وبعضها في الصموغ والأدهان والأشربة والمعاجين وأعضاء الحيوان، وكان نصيب النبات من مواد الكتاب حوالي الثلثين لأن فيه حواليْ 500 مادة نباتية. وقد كان للكتاب إثر ترْجمته في القرن الثالث الأثرُ السّريعُ في التأليف العربي في الأدوية المفردة، فحذا الؤلّفُون العربُ حذوه في التأليف وتتبّعوا أدويته النباتية بالتّحقيق. فسعوْا إلى ضبْط قراءتها وتحديد ماهياتها والبحث عن مقابلاتها العربية واعتمادها في مؤلّفاتهم؛ فقد كان ديوسقريديس كما يقول ابن البيطار ((الأستاذ الأفضل))5. وقد استوْعب ابن البيطار  في كتابه (( الجامع لمفردات الأدوية والأغدية)) مادة كتاب ديوسقريديس كلّها تقريبًا.

(د) والمرْحلة الرّابعة هي مرحلة الملاحظة العلمية المحض. وهذه المرحلة كانت في الحقيقة قصيرة لأنها لم تخرج حسب علمنا عن النصف الثاني من القرن السادس الهجري/الثاني عشرة الميلادي والنصف الأوّل من القرن السابع الهجري/الثالث عشرة الميلادي. وقد كان أهمُّ ممثل لها أبا العباس النباتي ابن الرومية الذي ألف في النبات الخالص كتاب ((الرحلة المشرقيّة)). وقد ضاع هذا الكتابُ وبقيت لنا منْه نقول تفُوق المائة في كتاب تلميذه ابن البيطار (( الجامع لمفردات الأدوية والأغدية)). وقد مكنتنا المادّة المتبقية منه من تبيّن جملة من مظاهر الجدّة والطرافة، أهمُّها أربعة، هي:

(1) طريقة التناوُل بالدرس إذ كان أبو العباس أوّل من اعتنى اعتناءً حقيقيّا بوصْف النّبات وصفًا علميًا وبتحليته الدقيقة وليس له من غاية غير الإخبار عن النبات من حيث هو نبات محْض؛

(2)تحليله لأول مرّة نباتاتٍ قديمة كانَتْ معروفة من قبْل بأسمائها فقط أو كانت مثارَ اشتباهٍ؛

(3) إضَافته أصنافا جديدة لنباتاتٍ قديمة معروفة؛

(4) إضافته نباتاتٍ جديدة  كانت من محض اكتشافه6

ويلاحظ من المراحل الأرْبع التي ذكرناها أن العَربَ قد اهتمّوا بعلم النبات اهتمامًا كبيرًا، وقد ألَّفُوا فيه المؤلفات الكثيرة. وكانت مؤلّفاتهم إمّا نباتيّة لغويّة إمَّا نباتية طبيّة وإمّا نباتية خالصة. لكن أهمّ مؤلّفاتهم  فيه-من حيث الكثرة والتنوّع- كانت المؤلفات الطبّية، أي الكتب المعرفة بمعاجم الأدوية المفردة. وقد كانت مصادرُ مؤلفي هذه الكتب إمّا أعْجمية خالصة وإمّا عربية إسلاميّة. لكن الأثر الغالب كان للمصادر الأعجمية لأن المصادر العربيّة الإسلامية نفسها كانت قائمة في مَنْهَج تأليفها وفي المادة العلمية التي اشتملت عليها على المصادر الأعجميّة، وخاصّة على كتابي ديوسقريديس وجالينوس في الأدوية المفردة. وقد نوّه العلماء العرب بهذيْن العالميْن اليونانيين تنويها خاصًّا، فقال فيهما ابن الجزار القيرواني (ت 369هـ/979-980 م): ((إن هذين الرّجُليْن لا نهاية وراءهما ولا غاية بعدهما فيما عانياه من هذا الفنّ))7، وقال فيهما ابن البيطار: (( إنهما مدَدُ هذا العلم لكلّ من انتحله وقدوة  لمن علمه وحجّة على من جهلَه))8وإذن فإن المصطلح النباتي في التراث العلميّ العربيّ الإسلامي كان- بسبب المصادر التي ينتمي إليها- إمّا أعجميّا خالصا وإمًا عربيًا. لكن العربيّ الخالص يكاد ينحصر في ما أُخِذَ عن أبي حنيفة الدينوري من ((كتاب النبات)) الذي كان أهم مصْدر في مادّته لمؤلفي المعاجم اللغوية العامّة أيضًا. وأمّا الأعجمي فقد كان نوْعيْن:

الأول أعجمي خالصٌ قد أدْخل النصوصَ العربية مقترضًا، إمّا لأنه منعدم المقابل في العربيّة- فهو إذن يَسُدّ خانَاتٍ مُعْجمية مصطلحيّة فارغة في المعجم العربي- وإمّا لأنّ المقابل العربيّ الموجودة له في اللغة كان مجْهُولا.

والثاني نوع أعْجمي له مقابلات عربية معروفة. لكنّ قوة مَرْجِعيّتِهِ قد قدّمَتْهُ على مقابله العربيّ فعوملت المصطلحات الأعجمية لذلك معاملةَ المصطلحات الرئيسيّة وعدّت المصطلحات العربية المقابلةُ لها ثانويَّة، فكان المصطلح العربي الخالصُ لذلك في الكثير من الأحيان مصطلحًا تابعًا لا يتحدّد مفهومُه إلّا من خلال علاقته بالمصطلح الأعْجمي وخاصّة المصطلح اليُونانيّ.

والخاصيتان اللتان ذكرْنا- أي مرْجعية المصطلح النباتيّ الأعجمي وتبعيَّة المصطلح العربي الخالص له مفهوميًا- قد ولدتا في النّصوص الطبيّة العربيّة مشاكل كثيرة في قراءة المصطلح النباتي وفي تحقيقه. وهذه المشاكل هي التي نريد أن نعْنى بها في هذا البحث.

 2ـ في قراءة المصطلح النباتي:

لقد شغلت مسألة قراءة المصطلح النباتي علماءنا القدامى شَغْلاً كبيرًا. ولنَا على ذلك شواهدُ، نخص منها بالذكر ثلاثة:

الأول: مستمّد من المراجعة الأندلسيّة لترجمة المقالات الخمس البغداديّة. فلقد كان الخليفة الأمويّ بالأندلس عبد الرحمان الناصر قد أهْدِيَ حوالي سنة 337ه/948م نسْخَةً جيّدة مزينة بالرسوم من كتاب ديوسقريديس في نصّه اليوناني، لكن الإفادة من هذا النّص كانت صعة لأن معظم الأطبّاء المحيطين بالخليفة كانوا يَجْهَلُون اللغة اليونانية، فطلبَ الخليفة المحيطين بالخليفة كانوا يَجْهَلُون اللغة اليونانية، فطلبَ الخليفة من مُرْسِلِ الهدية- وهو الملك البيزنطي أرمانيوس الأول  (Romanos)-أن يُرْسِل إلى قرطبة عالمًا يتقن اللسانيْن اللاتيني واليوناني ليُعين العلماء الأندلسيّين على حَلَّ مشكلات الكتاب . وقد أرسل الملك البيزنطيّ عالمًا يُدْعى نقولا الراهب فانْضَمَّ إلى أطباء الخليفة الأمويّ وعمل معهم في ((تفسير)) مصطلحات الكتاب وخاصّة التي بقيت مجهُولة في الترجمة البغداديّة. وكان ممّا اهتم به المراجعون تصحيحُ النّطق بالمصطلحات اليونانية. وقد لخص ابن جلجل- حسب نقل ابن أبي أصبيعة عنهُ- النتائج التي انتهت إليْها الجماعة بقوله:(( فصَحّ ببَحث هؤلاء الباحثين عن أسماء عقاقير كتاب ديسقوريدس (...) مازال الشك عن القلوب وأوْجَب المعْرفة بها بالوقوف على أشخاصها وتصْحيح النطق بأسمائها بلا تصحيف، إلا القليل منها الذي لا بال به ولا خطر له، وذلك يكون في مثل عشرة أدوية))9. فقد كان تجنّبُ التصحيف في قراءة المصطلحات الأصول في ترجمة المقالات العربيّة غاية أساسية من غايات المراجعين الأندلسيّين.

والشاهد التاني: مُسْتمدّ من تجربة ابن البيطار في التدريس. فقد كان لابن البيطار في مدينة دمشق تلاميذ، وكان يصطحبهم إلى ظاهر المدينة للتعشيب وينظر معهم في كتب الأدوية المفردة وخاصة في كتابيْ ديوسقريديس وجالينوس. وقد وصف لنا ابن أبي أصيْبعة- وقد كان أحد تلاميذه الآخذين عنه- تناوله لمادّة كتاب ((المقالات الخمس)) المصطلحية بقوله : (( فكان يذكر أوّلاً مَا قاله ديسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على مَا قد صحّحه في بلاد الروم))10. فقد كان ابن البيطار إذن البيطار إذن يذكر لتلاميذه مصطلحات ديوسقريديس اليونانية بحسب نطقها الصحيح. وقد كانتْ معرفة النطق الصحيح بتلك المصطلحات فيما يبدو من غاياته أثناء رحلته العلميّة التي زارَ خلالها بلاد اليونان وآسيا الصغرى.

والشاهد الثالث لا يتعلَّقُ بالمقالات الخمس أو بالمصطلحات اليونانيّة في حدّ ذاتها، بل هو مُتعلّق برسم المصطلح النباتي عامّة، وهو لابن البيطار أيضًا، قد ورد في مقدمة كتابه "الجامع". فقد نبّه في آخِر المقدمة إلى دقة ضبطه للأدوية النباتية ليسْلَم قارئه من التصْحيف ويخلص نصّه من التحريف. فقال:"وقيّدْتُ مَا يجب تقييدُهُ منها بالضبط وبالشكل والنّقط تقييدًا يُؤمَنُ معه من التّصْحيف ويسْلم قارئه من التبديل والتحريف، إذْ كان أكثر الوَهم والغَلَط الداخل على النّاظرين في الصحُف إنما هو من تصحيفهم لما يقرَؤونه أو سَهْو الورّاقين فيما يكتبونه"11.

على أن هذه الرّغبة في الضبط والتدقيق التي نجدها في الشواهد التي ذكرنا لم تكن سَهْلَة التحقيق. فإن الؤلفات العربية في الأدوية المفردة مليئة بالمصطلحات النباتيّة المحرفة. ويمكن تصنيف هذه المصطلحات إلى ثلاثة أصنافٍ:

(أ) صنف مصحّفٌ تصحيفًا بسيطًا يسْهُل إرجَاعهُ إلى أصله. ويشتمل هذا الصنف على ما أبْدل فيه حرْف آخر أو أنقص منه حرف أو زيد إليه حرْف ليس من أصله. ومن أمثلتِه المصطلحات التالية: (1) أطراطيقوس: وقد ورد عند ابن سينا12، والشيخ داود الأنطاكي13، ورسمه البيروني في الصيدلة ((اسْطيا طيقوس))14 وصوابهُ، ((اسطرا طيقوس "لأنه مصطلح يوناني أصله15(Asterattikos )؛ (2) باطلننخي: وقد وردّ عند ابن البيطار16 في باب الباء. وصوابه "قاطاننخي" بالقاف في أوله، يونانيّ أصله" (Katanankhe)17؛ (3) دُخْر : بالخاء، وقد ورد عند الشيخ داود وعرف ب "الوبيا18". والصواب "دُجْر"     بالجيم19؛ (4) رِعْي الإبل: بالبَاء. وقد عند ابن سينا وعلَّل التسمية بـ ((أن الإبل إنما لا يضرّها سمّ الحيّات والهوَامّ لما يحصل لها من هذا الرعْي من الترقيّة))20، وقد تابعه الشيخ داود في رسم المصطلح وفي تعليل التسمية أيْضًا21. وصوَابُ رسمه" رعي الأيّل بالياء المشدّدة، وقد ورد عند ابن البيطار برسمه الصحيح في كتابيْه الجامع22 والتفسير23، وهو المقابل العربي للمصطلح اليوناني (Elephobaskon )، وهو مركب من Elephos ومعناه الأيّل وBaskon  ومعناه "رِعْيٌ"

(5) طوفريوس: وقد ورد عند ابن سينا24 وعند ابن  البيطار في ط. بولاق25، وصوابه "طوقريوس"بالقافِ لأنه يُونَانيّ أصله (Teukrios)26.

(6) عاليون: وقد ورد عند ابن سينا27 في باب العين.  وصوابه "غاليون" بالغيْن لأن أصله اليوناني"28Galion".

(7) فقلامينوس: وقد ورد عند ابن البيطار29 في باب الفاء، وصوابه "قفلامينوس" بقافيْن في أوله لأنه يوناني أصله (Kuklaminos)30.

(8) قمَرَ قريش: وهو ثمر الصنوبر الصّغير. وقد ورد بالرسم الذي ذكرْنا عند ابن سينا31، والمصطلح يكتب بثلاث طرق مشهورة هي "قَضْم قريْش" و"قمّر قريش" و"قمل قريش"، وقد وردت ثلاثتها في (( تفسير)) ابن البيطار32.

(ب) صنف مصحف تصحيفًا شديدًا لكن إرجاعهُ إلى أصله ممكن بمُعَالجته مُعالجة دقيقة. وهذا الصنف مشتمل على ما داخله إبْدال أو حذف زيارة في أكثر من حَرْفِ. ومن أمثلته:

(1) اندَرُوصارون: وقد ورد عند ابن سينا وعند ابن البيطار في ط. بولاق33.  وصوابه "إييصارون" بياءٍ بدل النون وبراء وَاحدة، وهو يوناني أصله34(Hedisaron)؛ (2) أغالوجي: وقد ورد عند ان سينا35 وعند ابن البيطار في ط. بولاق36، وصوابهُ "أغالوخن" بخاءٍ ونونٍ في آخره عوض الجيم والياء لأنه يوناني أصْله37 (Agalokhon)؛ (3) جلز: بالجيم والزاي، وقد ورد عند داود الأنطاكي في باب الجيم38 وعرّفه بالجلبّان، وصواب رسمه "خُلّر" بالخاء المعجمية الفوقية واللّام المشدَّدَة والرّاء المهملة39، وهو ذو أصْل فارسيّ40؛ (4) جَوْز رُومي: بالجيم والزاي في أوّله، وقد وَرَد بهذا الرسم المحرّف عند ابن سينا41 وأبي الريحان البيروني42وعرّفاهُ بـ"أكيروس"، وهذا مصطلح يوناني يكتب عادة في العربية "اغيروس" بالغيْن لأن أصله (Aigeiros)، ويقابله في العربية "الحور الرومي" بالحاء والراء المهملتيْن في جزئه الأول43، ولا صلة له بالجوْز البتّة.(5) طرْغَافِيثا: وقد ورد عند ابن سينا44؛ وصوابُه "طراغاقنثا" بالقافِ والنون بدل الفاء والياء، لأنه يوناني أصله (Tragakantha)45؛ (6) عالوسيس: وقد ذكره ابن سينا46 في باب العين. وصوابه (( غالوسيس)) بغيْن بدل العيْن وباءٍ بيْن الواو والسين، فإن المصطلح يوناني أصله (Galiopsis)47؛ (7) فنجيون: كذا ورد في ط. بولاق من كتاب الجامع لابن البيطار48، وقد أصلحله مترجِمُ الجامع فرسمه ((فيخيون)) وهو الرسم الصحيح، لأن أصْل المصطلح (Pekhion) باليونانية49، لكن قراءة ط. بولاق أصلية لأن المصطلح قد ورد في باب الفاءِ بعدها نون. (8) قوثيرا: كذا ورَدَ عند ابن البيطار في ط. بولاق50، وقد حُرّف في تذكرة الشيخ داود51 أيضًا فرسم "قوشيرا" بالشين والراء. وقد أصلحته مترجم كتاب الجامع فرسمه "قونيزا" بالنون والزاي52، وهو اسم الطُّبَّاق بالعربيّة، ومَا أثبته لكلرك في ترجمته هو الصحيح، والمصطلحُ يوناني أصله (Konuza)53.

(ج) صنف مصحّف تصحيفًا مُطلقًا، قد أفسَدَهُ التحريف إفسادًا ظاهرًا حتى أصْبح إرجاعه إلى شاقا عَسيرَا لأنه محْوج ألى معرفة دقيقة بالمصطلح وبمفهُومه في لغته الأصلية. ومن أمثلة هذا الصّنف: (1) أبو  حلسا: وقد ذكره ابن سينا54، وصوابه "أنخسا" لأنه يوناني الأصل (Ankhusa)55. وقد حرّف في ط. بولاق من كتاب الجامع لابن البيطار فرسم "انجشا" بالجيم بدل الخاء56؛ (2) إشْران: كذا ورد عند الشيخ داود57، وقد عرّفه بقوله: "وبالمهملة [=اسران]، يوناني، هو اللاذنة، وعندنا يسمّى أذن القسيس". وأذن القسيس –أو آذان القسيس-اسم عامي مصري كان عمّة مِصر يطلقونه مع مصطلح آخر هو " الإذنة" –وليس اللاّذنة كما رسمه داود- على النبات المسمّى باليونانيّة" قوطوليدون" وقد وصف ابن البيطار هذا النبات فقال إن ورقته يُشبه السّكرجات58" أو "السكارج59"، وقد حرفت "السكرجات" في نسخ كتاب الجامع فرسمت "شكرجان" بالشين في الأوّل والنون في الآخر، والسكرجات والسكارج ليسا اسماً لنباتٍ بل هما جمْعٌ لـ"سُكْرجة" وهي إناء صغيرٌ يؤكل فيه الشيء القليل من الإدام60. فما رسمه الشيخ داود "اشران" وهي إناء صغيرٌ يؤكل فيه الشيء ال إذن-وقد نبه إلى أنه يرسم "اسران" بالسين أيضًا- ليْس غلا تحريًا شديدًا لكلمة "سُكْرُجات"، جمع سُكْرُجة، وهو إناءٌ وليْس نباتًا. (3) السفاني: وقد ذكره ابن سينا61 وصوابه "ألالسفاقن"، فهو يوناني أصله62 (Elelisphakon)؛ (4) اللّيني: كذا ورد عند ابن البيطار وأكّد رسْمَهُ بقوله: ((الام والألف فيه أصليّتان63"؛ وصوابُه"اينَنْثي"، فهو يونانيّ أصله (Oinanthe)64؛(5) سطرونيون: وقد ورد عند ابن سينا65، ويدّل وصفه له المنقول عن ديوسقريديس أنه يتحدث عن النبات الذي يسمّى باليونانية (( سطوريون)) (Saturion) وهو المسمى بالعربية"حُصى الثعلب".(6) عرقون: وقد ذكره ابن سينا66 في باب العيْن. وصوابه "غارانيُن"، وهومصطلح يوناني أصله67(Geranion). (7) نيطافيلي: كذا ورد في كتاب القانون68. وصوابُه "بنْطافلُّن"، فهو يوناني أصله69 (Pentaphullo).

وهذا الصنف من التصحيف لا يتبيّنُ إلا بالرجوع إلى النصوص الأصلية التي نقلة منها المصطلحات المحر"فة إذا كان المؤلف قد اعتمد في إيرادها مصدرًا مّا، والمقارنة بيْن تعريفاتها الأصلية وما ورد لها من تعريف في النصوص العربية. وقد أمكن لنا تبييّن أصول المصطلحات الأعجمية اليونانية التي ذكرنا بالبحث عنها في المقالات الخمسة لديوسقريديس، فإن التعريف المسندة إليها في نصوصها موجودة في المقالات، إمّا تامّة وإمّا مختصرة.

وما يعنينا من أمر أخطاء التصحيف بعد هذا هو أن ما ذكرناه قد تعمدنا نسبه جلّه إلى عالميْن جليليْن وإلى كتابييْن كانا مصدريْن من مصادر العلم الذي نعنى به، والعالمان هما ابن سينا الذي سمّي الشيخ الرئيس لصدارته في العلم، وقد كان كتابه القانون مصدرًا رئيسيًّا لعلم الطبّ بأجزائه، ومنها علم الأدوية المفردة الذي اشتمل عليه الكتاب الثاني من تقسيم المؤلف لكتاب القانون؛ وأمّا العلم الثاني فهو ابن البيطار الذي اشتهر بعلم النبات حتى سمّى العشاب، ورأينا إنشغاله بضبط أسماء النبات وتصحيح نطقها سواء مع تلاميذه وهو يدرّسهم أو في كتابه الجامع وهو يؤلفه. وقد كان الجامع أحظى منزلة بداية من النّصْف الثاني من القرن السابع الهجري (الثالث عشر الملادي) عند المؤلفين في الأدوية المفردة من كتاب القانون لابن سينا. بل إن كتاب الجامع كاد يُوقِفُ حركة الاجتهاد لأن المؤلفين اللاحقين قد انصرفوا اليه هو فخصّوه بالتلخيص والشرح والاختصار،، بل بالسطو على مادته دون إشارة أو تنبيه؛ فقد كان مؤلفه يُعَدُّ الحجّة في العلم وكان ما يوجد في كتابه يُحمل في الغالب محمل اليقين.

والسؤال الذي نضعه بعد هذا: من المسؤول عن أخطاء التصحيف؟ هل هو المؤلف ذاته قد أوقعته معرفته الضعيفة بالمادّة المصطلحية في الوَهْم فأخطأ في إثبات المصطلحات؟ أم هم النسّاخ الذين يتناقلون كتبًا مشتملة على علم مُحْوج إلى معرفة بمادته وموضوعه دقيقة فيُحرّفون ويصحّفُون لأنهم في الغالب لا يؤْتوْن تلك المعرفة؟

لقد رأيْنا ابن البيطار من قبل يؤكد أنّ "أكثر الوَهْم والغلط الداخل على الناظرين في الصُحَف إنما هو من تصحيفهم لما يقرؤونه أو سَهْو الورّاقين فيما يكتبونه70". فالخطأ يحصل إذن إمّا من القارئ غير المتخصِّص وإما من الناسخ. وهذا المذهبُ نفسهُ تقريبًا قد ذهبَه المستشرق الفرنسيّ لسيان لكلرك، مترجم ابن البيطار إلى الفرنسية، فقد رأيْناه في ترجمته حريصًا على إثبات الرسم الصحيح في كتابه المصطلحات المحرقة في متن كتاب الجامع حتى إذا كان الخطأ أصليّا فيه. بل إن لكلرك قد دافع ابن البيطار ضدّ بعض مترجميه وخَاصّة زونثايمر (Sontheimer) الألماني الذي نقل كتاب الجامع إلى الألمانية71. فقد انتقد لكلرك قراءاته في مواضيع كثيرة ونبّه إلى الأخطاء التي أوقعه فيها التصحيف أو اتباع القراءات المصحّفة في الأصول المخطوطة التي اعتمد72. وإذَنْ فإن لكلرك لا يحمّل ابن البيطار مسؤولية الخطإ لأنه يجلّه عن الوقوع فيه. وهو يُفَضَّلُه على ابن سينا. فإن لإبن سينا في نظره منهجًا، لكنْ ليْس له مكرٌ نقديّ، ولذلك تسرّبت أخطاء كثيرة إلى نص الكتاب الثاني من القانون. ولكن لكلرك يعترض مع ذلك على الأقل أن ينقل المترجمون أو الباحثون في الطبّ العربيّ المصطلحاتِ من نصّ ابن سينَا مُحرَّفة؛ فهو إذن يقدّم قراءة المصطلح الصحيحة-إرضاء للحقيقة العلمية- على القراءة المحرّفة التي يقع فيها المؤلف. وليْس هذا في الحقيقة موقف الباحث المحقق للنّصوص. بل هو موقف العالم الذي لا يعنيه من بحثه إلا الوقوف على الحقيقة العلميّة.

3-في تحقيق المصطلح النباتيّ:

وللتحقيق فيما نقصد إليه مفهومان: الأوّل هو تحقيق المصطلح في النصّ الذي ينتميّ إليه، أي باعتباره جُزْءًا من مدوّنة تُنْشَرُ محققة بحسب ما يقتضيه نشرُ النصُوصِ العلميّ من دِقة  المنهج في القراءة والتعليق. والمفهوم الثاني هو تحديد مفهوم المصطلح في مجاله، أي تحقيق مَا بيْن الاسم/ المصطلح والمسمىّ/ النبات من العلاقة المفهوميّة، فيكون المصطلح مُنطبقا إذا استعمل على ما يُصْطلح به عليْه حقّا. والمفهوم الأول شائع مشهورٌ لأنّه هو المتداول في عمل التحقيق. وأمّا المفهوم الثاني فغيْر مُتداوَل لأنه يكاد ينحصر في أعمال علماء النبات الذين يحدِّدُون ماهيات النباتات بتصنيفها ونسبتها إلى طوائفها وفصائلها ورتبها وأجناسها وأنواعها. فالتحقيق بهذا المفهوم إذن هو تحديد الماهية (Identification) وسنرى أن الصنفيْن يثيران مشاكل عديدة في معالجة التراث النباتي العربيّ.

3-1 في تحقيق المصطلح النباتي المخطوط:

وهذا موضوعٌ قد طُرق من قبْلُ لكنه يبقى موضوعًا مهما لأنّ المشاكل التي يثيرها مازالت قائمة. وأهم المشاكل التي يثيرها مشكلة عدم الاختصاص في المصطلح التراثي. إن للمصطلح النباتي في التراث العربيّ الإسلامي خصوصيات راجعة إلى قضايا تصنيفيه خاصّة، وأهم خصوصياته كونه مُرْجِعًا في الغالب إلى موجودات حسيّة معيّنة، وانتماؤه إلى مستويين لغوييْن مغلّبيْن هما الأعجمي المقترض-وخاصة اليوناني-والمولّد، وإرْجَاعُه إلى مصادر أصلية إمّا أعجمية وإمّا عربية أسلامية قد أخذت الكثير من المصادر الأعجمية73.

ونريد أن نمثل لمشاكل تحقيق المصطلح النباتي العربي المخطوط بالنظر في نموذجيْن نراهما مغنيَيْن عن النظر فيما عداهما. الأوّل هو تحقيق كتاب عنوانه" الأدوية المفردة في كتاب القانون في الطبّ لابن سينَا". والكتاب في الأصل رسالة اختصر فيها عالم مجهول اسمه سليمان بن أحمد الأدوية المفردة التي خصّها ابن سينا بالقوْل في الكتاب الثاني من القانون. وقد كان الاختصار كبيرًا لأن عدد المفردات الدوَائيّة التي اشتملت عليها الرسالة 394، بينما نص القانون يشتمل على 806. وقد تناول طبيب عراقي المخطوطات الفريدة الموجودة للرسالة بالتحقيق، فحققها ونشرها سنة 198474. وقد عمد المحقق إلى إكمال النقص فأضاف إلى الأصْل أكثر من نصْف المادّة المنشورة في الرسالة، فكأنه إذن يحقّق أدوية ابن سينا المفردة كلّها. لكن" التحقيق" عنده لم يتجاوز ثلاثة أمور: (1) إتمام النقص الذي أشرنا إليْه. وقد أخرج هذا الإتمام الرسالة عن أصْلها فأصبح الكتاب المنشور غير الكتاب الذي ألفه سليمان بن أحمد. (2) رسم المصطلحات المضافة إلى الأصل بالصورة التي وردت عليها في طبعة بولاق لكتاب القانون، دون تغيير أو تبديل أو تعديل أو تعليق على المحرّف منها للتنبيه إلى وَجْه الصواب فيه ويبدو أن" المحقق" قد رأى في النص طبعة بولاق نصّا موثوقا بصحّته. فقد" راجع طبعة روما 1593 وقارنها بطبعة بولاق 1294/1877. وهنا وجد طبعة بولاق هي الجديرة بتقويم النصّ لأسباب كثيرة أهمها أنها أقوم من مخطوطات القانون المتوفرة بيْن يديه75". (3) إصْلاح مَا عدّه مغلوطا من قراءات المخطوط بما ورد في النصّ طبعة بولاق. لكن هذا الإصلاح قد شمل النصّ ولم يشمل أسماء الأدوية إلا نادرًا لما بيْن نصّ الرسالة ونص طبْعة بولاق من التوافق. ولم تَعْنِ المحققَ في تحقيقه مسألة صحّة المفردات المداخل ومدى مطابقتها لما عرفت به في النصوص المحققة تحقيقا علميّا. وقد أدى ذلك كله إلى إخراج نسْخة جديدة من نصّ طبعة بولاق تكاد تطابق الأصل مطابقة تامّة.

وقد نتج عن ذلك كله أن اشتملت هذه "القراءة الجديدة76" للجملة الثانية من الكتاب الثاني من كتب القانون على ما في طبعة بولاق من أخطاء التصحيف والتصحيف في قراءة أسْماء النبات. ومن الأخطاء ما سبق ذكره في الفقرة الثانية من هذا البحث، ولم ينبّه المحقق إلى تصحيف أيّ منها77. ونريد أن نشير فيما يلي إلى خمسة أخطاء أخرى من أخطاء الكتاب:

(1) اللبلخ78: كذا بلاميْن قبل الباء ولام بعدها. وقد أضيف إلى التحريف الذي ورد عليه عند ابن سينا تحريف آخر، لأن ابن سينا قد رسمه "اللبخ" بلاميْن وخاء79، قد أورده في باب الألف ظانا أن الألف واللامين فيه أصليّة. وقد كان على شك في رسمه لأنه قال:" إن كان هذا هو اللبخ فيكون من حقه أن يذكر في باب اللام"، والاسم هو "اللبخ"، مُتّصلاً بألف التعريف ولامه، لكنّ ابن سينا قد اكتفى بذكره في موضعه من باب الألفِ ولم يُعِدْ ذكره في باب اللاّم قصد التنبيه أو الإحالة.

(2) أفيوس80: وكذا ورد في القانون أيْضًا81. وقد عرّفه ابن سينا بـ: الحدَقي، شيء يشبه الحدقة". والصواب (( اواقنثوس (( لأنه يوناني أصله (Huakinthos)82، وقد ذكر ابن البيطار في كتابه الجامع أنّ (( تأويله الحدفيّ فيما زعم بَعض التراجمة83".

(4) أيطاباس84: وكذا ورد في القانون أيْضًا85. وحديث ابن سينا عنه مطابق لما قاله عنه جالينوس حسب ابن البيطار86. وقول جالينوس مذكور عند ابن البيطار في وصف النبات المسمى باليونانية "بوقادانن"    (peukedanon)

(5) بيلُـون87: وكذا في القانون88. و قد عرّفه ابن سينا بقوله: " هذا هو العرفج البرّيّ، و هو من اليتوعات"، و قد نقل محقق "الأدوية المفردة" التعريف بنصّه. في الفقرة خطآن: الأول في المدْجل، فأنه محرف وصوابه"بَبْلِيُون" ببائين تتلوهما لامٌ  وياءٌ،   وهو اسم يوناني للنبات المسمّى" بقلة حمقاء برّيّة، أصْله (Peplio) فقد ورد عند ابن البيطار في تعريف "ولْب"89: وهو أحد اليتوعات، وزعم قوم أنه النوع المسمى باليونانية بابلص (...). وزعم قوْم أنه التوْع المعْرُوف بالفَرْفَج البرّي المسمى باليونانية بيليس. وابقراط يسميه ببليون، وهو الحلبيتا في بعض التراجمْ. و" بابلص" الوارد في الشاهد يوناني أصْله (Peplio) و"ببليس" أصله (Peplio) و"ببليس" و"ببليون" يطلقان على " البقلة الحمقاء البريّة" أو "الرِّجلة البريّة".

والخطأ الثاني في "العَرفج البرّي". وهذا الخطأ قد تسرّب إلى طبقة بولاق من كتاب الجامع90 أيْضًا. وصوابُه-كما ورد في ترجمة كتاب الجامع91-"فرفج برّي" بالفاء في أوله، وهو اسم البقلة الحمقاء البرية.

والفرفج هو اسم البقلة الحمقاءغير البرية. وقد ذكره أبو حنيفة في كتاب النبات ورسم عنده بالحاء في مادة " رجلة": "الرجلة الفرفح. وهي البقلة الحمياء (...). وأصل الفرفح فارسي92، وَرُسِمَ بالحاء في الجزء الثاني من الكتاب في مادة مستقلة هي   "فرفخ93" وذكره في شعر للعجّاج بالخا أيْضا. والاسم بعد هذا من الفارسية (Perpehen) قد دخل العربية فيما يبدو عن طريق السّرْيانية التي أصبح فيها94 (Perpehen) إذن فإن "العرفج" في نصّ ابن سينا هو "الفرفج"، وهو اسم فارسيّ يكتب في العربية بالحاء المهملة وبالخاء المعجمية أيْضا.

والنموذج الثاني الذي نريد ذكره للتمثيل لمشاكل تحقيق المصطلح النباتي العربي هو التحْقيق الذي نشره باحث مصريّ لكتاب ابن البيطار "تفسير كتاب دياسقوريدوس". فقد صدرت  سنة 1987 من تفسير ابن البيطار نشرة في 184 صفحة تحمل عنوان "تفسير كتاب ديسقوريدوس" وكتب على صفحة الغلاف منها أنها تحقيق ودراسة95.

ولا شك أن إقبال المحقق على نصّ عسير مثل أحد تفاسير "المقالات الخمس" يعدّ في حدّ ذاته شجاعة لما يثيره هذا النوع من المشاكل. فهو مُنتَمٍ إلى المعاجم المختصة الثنائية اللغة لأنه يوناني عربي. ثم إنه مشتمل على كثير من المصطلحات النباتية الأعجمية اللاتينية والبربرية والفارسية خاصّة، إضافة إلى كثير  من المصطلحات المحلية اللهجية التي كان ابن البيطار قد أخذها في المواطن التي عَشَّبَ فيها في البلاد المعرّية في عصْره.

ولقد اجتهد المحقّق في ذكر أصول المصطلحات اليونانية المداخل وتعيين مواضعها من نص المقالات اليوناني وتحديد تسمياتها العلمية اعتمادا على معجم أسماء النبات لأحمد عيسى. أما النص ذاته فلا تحقيق فيه بل هو نقل مشوه محرّف للكتاب، ولم يقتصر التحريف على المصطلحات العلمية النباتية الأعجمية أو العربية بل طال ألفاظ اللغة العامّة التي استعملها ابن البيطار. فإذا نظرنا في مقدمة الكتاب96-وهي شديدة الإيجاز- وجدنا "المتدارك" قد أصبحت"المدارك" و"الأقسام" أصبحت "الانتقام" و "المتشوّفين" أصبحت "المتشوفين" و"التعلّمين" أصبحت "المتكلمين". وإذا نظرنا في الصفحات الأولى من المقالة الأولى97 وجدنا فعل "يُبْحَثُ عنه" أصبح "فَسَحْتُ عَنْه"98، وفعل "اسْتيك بها"-أي اتخذَتْ سِواكا-أصبح "اسْتُيكَ بها"99، و"ثفَل" دهن الزعفران أصْبح "ثِقْلا"100، و"الكثير العِصِيّ" أصبح "الكثير العصْر101"، و"الطاهر"-من الطهارة-أصبح "الظاهر102"من الظهور، والأغصان الصلبة العسرة "الرّضِّ" أصبحت عسرة" الرّصِّ103...الخ. والتصحيف الذي ذكرناه لا يحوج إلى اختصاص في العلم ليُتجنّب، بل يحوج إلى معرفة باللغة تمكّن المحقق من إقامة النصّ المحقق على أسُس صحيحة. ولا شك أنّ الاعتماد على معاجم اللغة العامّة للتفريق بيت المعاني واختيار قراءة دون قراءة من الشروط البديهيّة في تحقيق أي نصّ تراثي. على أن الألفاظ المصحّفة التي ذكرناها قد وردت كلها في متن الكتاب صحيحة كما بيّناهُ ولم تكن مدْعَاةً إلى التصحيف.104

فإذا نظرنا في مصطلحات الكتاب وجدنا الأمْرَ أعْسَر على المحقق. فإن المصطلح النباتي في "تفسير" ابن البيطار لا تكفي معاجم اللغة العامة لمعرفته بدقة بل هو محوج إلى الاعتماد على مصادر عديدة أوّلها مؤلفات ابن البيطار نفسية وخاصة كتابيْ الجامع لمفردات الأدوية والأغذية والإبانة والإعلام بما في المناهج من الخلل والأوهام؛ وثانيها المقالات الخمس في نصّها اليُونَاني ونصّها العربي في نشرته الإسبانية ثمّ في مخطوطة نفيسة هي مخطوطة مكتبة باريس الوطنية رقم 2849. فإن على هوامش هذه المخطوطة نقولاً كثيرة من "تفسير" ابن البيطار. ولم نَرَ مُحقّق "التفسير" قد أفاد من كتابي ابن البيطار أومن نصيّ "المقالات الخمس" واليوناني والعربيّ شيْئًا في قراءة المصطلحات ورسمها. فقد اكتفى في إثبات المصطلحات اليونانية المداخل بنقل مَا ورد في مخطوطة "التفسير"-وهي كثيرة التحريف-دون عناية بما اتبعه ابن البيْطار في قراءتها وضبطها في كتابي الجامع والإبانة. ولم يكتف المحقق بإيراد المصحّف المحرّف بل إنه صحَّف ما كان في الأصْل صحيحًا. ومن أمثلة ذلك مصطلحُ "رَامُس"-وهو العوسج-الذي عَوَّض "رامنس"- بالنون-(Ramnos) الذي ورد في الأصْل، ومصطلح "ألوقيسُون105"-وهو الحُضَض-الذي عَوَّض "لو قيُون" (Lukion) ومصطلح "أقيوس" بالقاف106-وهو الكمّثري-الذي عوَّضَ "أقيُوس" (Apios) بالفاء؛ ومصطلح ((مُوزا)) بالزاي107-وهو التوت، وليْس التوشا كما رسم-الذي عوّض "موار" (Morea) بالراء ... الخ.

وأمّا المصطلحات العربية فلم يقارن رسْمها في مخطوطة التفسير بما ورد لها من رسم في كتابيْ الجامع والإبانة. ولو نظر في هذيْن الكتابيْن لوحد حلولا لجلّ المصطلحات الصعبة القراءة  أو المجهولة أو المحرّفة. ومن أمثلة هذه المصطلحات العربيّة أو الأعجمية المعَرّبَة-غير اليُونانية المدَاخِل-التي لحقها التحريف لأنّ المحقق لم يُجِدْ قراءَتَها فخرج بها عن الصواب نذكر "كرويا" بالواو الذي أصْبح "كرديا" بالدّال108، و"تبْن مكة"- وهو الإذخر-الذي أصْبح "تين مكة" بالياء109؛ و"اللّكُّ" بالميْن وكاف مشدّدة الذي أصبح "الملك" بميم ولام110؛ و"السندروس" الذي أصبح "السنتراس111"؛ و"الجادي" بالجيم و"الجساد" بالدال و"الريهقان" بالراء-وكلها من أسْماء الزعفران-التي أصْبحت "الحادي" بالحاء و"الجسار" بالراء و"الزبقهان" بالزاي والباء112؛ و"اليرنّاء" و"الرقان" و"الرقون"-وكلها من أسماء الحناء-التي أصبحت "اليرفاك" و"الدقان" و"الدقون113"...الخ. والمصطلحات التي أوردها مذكورة كلّها في كتاب الجامع، ثم إنها-ما عدا "الريْهقان" الذي رسم بالزاي في الأصْل المخطوط-قد رسمت في المخطوطة رسمًا صحيحًا. لكن عدم تفريق المحقق بيْن بعض الحروف جعله يَعُدُّ الدال راءً في مثل الجسَادِ، والرّاء دالاً في مثل الرقان والرقون، ويعد الهمزة كافًا في مثل اليرنّاء. وليْس عمل مثل هذا في الحقيقة بتحقيق للمصطلح النباتي بل هو تحريف له.

3-2 في التحقيق الماهَوي:

وهذا التحقيق علمي خالِصٌ لأن الغاية الأساسيّة منه هي تحديد ماهية النبات باعتباره فرْدًا أو شخصًا له خصائصه وصفاته في علم النبات المحْض أوْله منافعه العلاجية التي يختلف بها عن غيره من النبات الطبيّ. وقد عُنيَ العربُ بهذا النوع من التّحقيق وخاصّة في مجال النبات الطبي منذ وقت مُبكّر. فإن المترجمين كانوا محققين إذا هم استطاعُا أن يوقعوا الاسم العربيّ أو المعّرب على المسمّى الذي يحمل اسمًا يُونانيّ؛ ثم إن الصيادلة كانوا محققين إذا هم استعملوا استعمالاً صحيحًا الأدوية النباتية في مواضعها عند إعداد الأدوية؛ ثم إن علماء الأدوية المفردة كانوا محققين أيضا إذا هم ميزوا بيْن النباتات ونسبُوا إلى كلّ نباتٍ دوائي أفعاله الخاصة به.

ولاشك أن هذا النزوع إلى التحقيق العلميّ هو الذي دفع علماء الأدوية المفردة العرب إلى مراجعة ترجمة المقالات الخمس العربية وشرحها أكثر من مرّة بيّن القرن الرابع والقرن السّابع الهجريّيْن، وهو الذي حثهم أيضا على تأليف الكتب في نقد أخطاء بعضهم في الخلْط العلمي بيْن النباتات؛ ومن أشهر تلك الكتب الإبابة والإعلام بما في المناهج من الخلل والأوهام  لابن البيْطار، والمناهج المنتقد هو منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان لابن جزلة البغدادي. كان التحقيق بالنسبة إليهم ضروريّا لأنه يقيهم من الوقوع في الخطإ الذي يكبر حجمه فلا يغتفر في الطبّ.

ولكن هذه الرغبة في الاحْتياط لأنْفُسهم ولغيرهم لم تمنع كثيرين منهم من الوقوع في الخطإ، ومنهم العلماء الجِلّة مثل أبي بكر الرازي وأحمد ابن الجزار وابن جزلة وابن سينا وأبي جعفر أحمد الغافقي. ودواعي الخطإ حسب ابن البيطار ثلاثة114:

(1) الخلط بين اسْمين أو أكثر بسبب ما سمّاه الاشتراك في الاسميّة. فإن الاسمين قد يشتركان في جملة من حروفهما أو في جملة حُرُوفهما فيكونان من المشترك اللّفظي ويُرْجعان إلى نباتيْن مختلفين في خصائصهما ومنافعهما. وقد ذكر ابن البيطار من هذه الأخطاء نماذج أصبحت مشهورة مثل التشابه بين خامالاون وخامالا. فإن "الخامالاون" (Khamaileon)-ومعناه "أسَدُ الأرض"-هو الإشخيصُ، بينما "الخامالا" هو (Khamelaia) المازريون115؛ وبيْن لوطوس (Lotos) الذي هو الحندقوقَى بنوعيها البرّي والبُستاني، و(( لوطوس المصري )) الذي هو البشنين116؛

(2) الخلط في التحليات، وذلك بوَصْف دواء نَبَاتيّ بما ليْسَ له من الصّفات، وهو خلط واضح لأنه مؤدّ إلى إعطاء نباتٍ مَا خصائص نباتٍ آخر. وقد ذكر ابن البيطار من هذا النوع مجمُوعَةً من الأخطاء منها الخَلْط بين البابلس والخشخاش الزبدي117؛ والخلط بين البنجنكشت والبنطافلن118؛

(3) الخلط بين المنافع، أي خلط منافع دواءٍ نباتِيّ بمنافع دواء نباتيّ آخر، أي بإعطاء دواءٍ مّا ما ليْس فيه من الخصائص العلاجية. وهذا النوع متأثر بالنوع الأول لأن النباتيْن المُختلفيْن إذا عُّدَّا نباتًا واحدا أعْطى كلّ منهما للآخر من الخصائص والمنافع.

وليْس مثل هذه الأخطاء في الحقيقة بالنادر في المؤلفات القدماء . ونذكر منهما فيما يلي النماذج التالية:

(1) تعريف مصطلح "فُرتْرون" (Purithros) اليوناني بعاقرقرحا. وقد اتبع هذا التحديد اصطفن بن بسيل وحنين بن  إسحاق في ترجمة المقالات الخمس119، وقد تابعهما في ذلك ابن سينا في القانون120 والبيروني في الصيدنة121.على أن هذيْن العالميْن جعلا أيْضًا العاقرقرحا أصْلاً لنوع من الطرخون هو الطّرخون الجبلي حسب ابن سينا122 والطرخون الروميّ حسب البيروني123. وقد أوقعهما في هذا الخطإ الثاني مسيح بن الحكم الدمشقي. فقد "زعم مسيح وَحْدهُ أنه بقلة العاقرقرحا وليس كما زعم124". والفرثرون الذي وصفه ديوسقريديس في المقالات الخمس يُوَافق حسب ابن البيطار النبات المسمّى بالعربيّة عود القرح الجبليّ، أمّا النبات المعروف بالعاقرقرحا فهو المسمّى في بلاد المغرب "تيقنديست" وهو اسم بربريّ125

(2) تعريف مصطلح "سطروثيون126" (Struthion) اليوناني بالكندس. وقد عرّفه بذلك البيروني في الصيدنة127 وداود الأنطاكي في التذكرة128 وليس بين السطروثيون والكندس من صلةٍ إلا في تحريك العطاس. وقد ترجم حنين بن إسحاق المصطلح اليوناني بالكندس في كتاب الأدوية المفردة لجانيوس وانتقل من ترجمته الخطأ129.

(3) الخلط بيْن النبات المسمىّ باليونانية "اسْطيراطيقوس" (Asterattikos) والنبات المسمّى "قرصَعْنة". وأوّل من وقع في هذا الخطإ فيما يبدو ابن وافد الأندلسي130. وقد انتقل هذا الخطأ إلى ابن رشد في كتاب الكلّيات. فقد قال عن القرصعنة :" وأمّا خاصّتُه المشهورة فهي تحليل الأورام الحالبيّة، حتى أن اسمه باللسان اليوناني كان مشتقا من اسم الحالب"131. واسم القرصعنة اليونانيّ في الحقيقة هو (Erunge)، ولا صلة له بالحالبي البتّة. فإن الحالبيّ منسوبٌ إلى الحالب الذي يسمّى باليونانية (Bubon) "بُوبون" ومنه في اليونانية مصطلح (Bubonion) (بُوبُونيون) ومعناه "الحالبي"، وهو اسمٌ يطلق على النبات المسمّى  باليونانية "اسْطيرا طيقوس". وقد ذكر جالينوس في الحديث عن "اسطيرا طيقوس" أن "هذا النبات يسمّى باليُونانية بونيون وهو اسم مشتق من اسم الحالب لأنّه دواءٌ وثق الناس منه يشفي الوَرَمَ الحادث في الحالب إذا وضع عليْه كالضماد132".

(4) الخلط بيْن النبات المسمّى بالعربية "أذنة" و"آذان القسيس"-ويقابلهما في اليونانية مصطلح "قوطوليدون" (Kotuledon)-والنبات المسمّى "قاتلة أخيه"، وهو نوع من النبات المسمّى "خصى الثعلب" الذي يقابله في اليونانية مصطلح (Saturion). وقد وقع في هذا الخلط الشيخ داود الأنطاكي في التذكرة. فقد ذهب في مادّة "اشران"ـ وقد نبهنا إلى مسألة التحريف في كتابه هذا المصطلح من قبل وبيّنا صلته بالنبات المسمى باليونانية " قوطوليدون"-إلى الجمع بيْن الأذنة وآذان القسيس وقاتل أخيه في نبات واحد. فقد قال "اشران: هو اللاّذنة ( = الأذبة)، وعندما يسمّى أذن القسيس (...). وهو نبات له ورق إلى حمزة وزهر أبيض وساق دقيق جمته لا تزيد على ستة عروق (...)، وإذا قلعت وُجِدَ في أصْلها كبيْضتي الإنسان إحداهم صلبة والأخرى رخوة، وقد يكون كالجزر (...)، لا يعدله في تحريك شهوة الباه مُفْرد ولا مرّكب (...)، والرخوة منه تسقط   الشهْوة133؛ والخصائص التي ذكرها الشيخ داود ليْست خصائص آذان القسيس، بل هي خصائص النّوع المسمّى قاتل أخيه من النبات المسمّى خصى الثعلب134.

ولقد اهتم المحدثون بالتحقيق الماهويّ أيْضًا. فقد ألّفتْ كتب غير قليلة في تحديد ماهيات النباتات التي ذكرت في النّصُوص التراثية، ومن أشهر تلك الكتب " معجم أسماء النبات" لأحمد عيسى، و(( معجم الألفاظ الزراعية )) لمصطفى الشهابي، ثم كتاب (( إحياء التذكرة )) لرَمْزي مفتاح. وهذا الكتاب الأخير يمثل في الحقيقة مشاركة مهمة في إعادة قراءة التراث العلميّ العربي القديم، فقد حاول مؤلفُه أنْ يستقرئ أحد كتب التراث العلميّ العربيّ ليختبرَهُ ويبحث في مَدَى مطابقته لمقالات المحدثين.

ولقد اختار رمزي مفتاح نموذجًا للاختبار صعْبًا هو كتاب "تذكرة أولى الألباب والجامع للعجب العجاب "للشيخ داود بن عمر الأنطاكي (ت. 1008هـ/1599م). والشيخ داود من المتأخرين، أي إنّه ليْس من العلماء المبتكرين بل هو مقلّد للسابقين له وخاصة لابن البيطار. ولا ينتظر من عالم متأخّر في  الطبية بالقوْل. ثم إن مَا ظهر في كتب السابقين من التصْحيف في قراءة المصطلحات أو الخلْط في تحقيقها كان في كتاب التذكرة أشدّ. وقد وقعت فيه جُلّ الأخطاء التي انتقدها ابن البيْطار عَلَى كتاب منهاج البيان لابن جزلة أوْ عَلَى كتاب القانون لابن سينا.

وكثرة الأخطاء في كتابٍ مثل تذكرة الشيخ داود تقتضي أن يُنْظر فيه بحذر شديد وأن يُسْتَعَانَ عَلى البحث فيه بمصادر العلم الذي ينتمي إليْه وخَاصّة بالمصادر التي نقل منها المؤلف. وأهمّ مصادر الشيخ داود كان ابن البيطار في كتاب الجامع. وقد اعتمد رمزي مفتاح على كتاب الجامع إذْ أحال إليه أكثر من مرة، لكنّ اعتماده كان على طبعة بولاق فقط-أي النص العربي ّ-فكان اعتمادًا منقوصًا لأنّ طبعة بولاق منه مليئة هي نفسها بشتّى أنواع التصحيف والتحريف، ولا يمكن فيما نرى أن يستفاد من نصّ كتاب ابن البيْطار في طبعته العربية ما لم تُعْتَمدْ معَهُ الترْجَمةُ الفرنسية الممتازة التي قام بها المستشرق الفرنسي لسيان لكلرك (Lucien Leclerc) ونشرها بباريس بيْن 1877 و1883 في ثلاثة أجْزاءٍ كبيرَة. فإن لكلرك قد حافظ في  ترجمته على الجهاز المصطلحيّ الذي وضعه ابن البيطار لكتابه، فرسم مصطلحات الكتاب بالحروف العربية ثم ترجمتها، ولم يكن لكلرك فيما نعلم على دراية بطبعة بولاق التي صدرت سنة 1873، لأنه كان أثناء صدورها متَقدِّمًا في  ترجمة الكتاب أو لعلّه قد انتهى منها. فلقد كان سنة 1866 قد بلغ في الترجمة حرف الميم من أصل الكتاب135. وإذن فقط كان اعتماده في عمله على مخطوطات أصْليّة، وقد بحت قبل أن يشرع في ترجمته عن أفضل نسخ الكتاب المخطوطة فجمّع منها أكثر من عشر. ولذلك كلّه فإن عمله في الترجمة لم يقتصر على نقل مادّة كتاب من لغة إلى لغة ثانية بل كان تحقيقا للنصّ وللجهاز المصطلحيّ جيّدًا. وهذه مزّية في عمل لكلرك تجعل الاعتماد عليْه ضروريّا في إنجاز أي بَحْث حوْل كتاب الجامع بل وحول الأدوية المفردة عامّة. ولو فعل رمزي مفتاح ذلك لخلص من أخْطاءٍ كثيرة: منها ما أوقعه فيها الشيخ داود نفسه، ومنها ما أوقعه فيها ضعف معرفته بالمادّة العلميّة التي يكتب فيها، أي علم الأدوية المفردة العربية. ونقدم فيما يلي نماذج من أوْهام الرجليْن:

(1) افنقيطش: كذا رسَمَهُ الشيخ داود136، وقد عرّفه بالسّلحم. وقد أخذ رَمْزي مفتاح المصطلح برسْمه وتعريفه137، وقد أخطأ الشيخ داود وأخطأ هو معه لأن "افنقيطش" رسم محرّف لـ "أفيبقطيس" وهذا من اليونانية (Epipaktis)، ولا علاقة  لهذا النبات بالسلحم الذي يقابله في اليُونانية مصطلح "غُنْغيلي" (Gongule)؛ وقد ذكر "ابن البيطار" "افيبقطس" في كتاب الجامع138 ولم يذكر له مقابلاً عربيًا، وقد بقي بلا مقابل فيما يبدو حتى العصر الحديث لأن أحمد عيسى قد ذكره في معجمه139 مكتفيًا به ولم يورد له مقابلا عربيّا.

(2) أقسون: كذا رسمه الشيخ داود وعرّفه برأس الشيخ140، وقد نقل عنه مفتاح رسم المصطلح وتعريفه وزاد عليه في التعريف مصطلح "شكاعى141". وقد أخطأ الرجلان في رسم المصطلح لأن الصواب رسمه هو "أقنثويون" لأنه يوناني أصله (Akanthion) وهو المسمى باللغة العربية "رأس الشيخ"؛ وقد أخطأ مفتاح وحده إذ زاد الشكاعَى لأن الشكاعَى لا توافق "أقنثيون" بل توافق مصطلحًا آخر هو "الشوكة العربية"، أي "اقنثا أرابيقى" (Akantha Arabike) باليونانية.

(3) أوافينوس: كذا رسمه الشيخ داود وقال في تعريفه إنّهُ يُونانيّ وإن ‘معناهشبيه الحذف’، بالذال المعجمة142. وقد أخذ  مفتاح المصطلح برسمه ثم اجتهد في تأصيله فقال: "اسْمُها محرّف ومصحّف وأصْلُه بالفرنجيّة عين فينوس، وهي إلهة الجمال143. وقد أخطأ الرجلان أيْضًا لأن "أوافينوس" ليْس إلاَّ رسْمًا محرّفا لمصطلح "أواقنثوس" بالقاف، ذي الأصل اليوناني (Huakinthos) وليْس ذا صلة البتة بما سمّاه مفتاح "عين فينوس".

(4) إيمار أنطولي: كذا رسمه الشيخ داود، وقد عرّفه بالكرْمة والزويتينيّة144. وقد أخد مفتاح عن داود المصطلح برسمه وتعريفه145 وهما مُخْطِئانِ أيْضًا لأن المصطلح ليْس إلاّ تحريفًا لمصطلح آخر ذي أصْل يوناني هو "إيارَا بُطاني" (Hiera botane). ولا علاقة له بالكرْم البتّة بلْ هو النباتُ المسمّى بالعربيّة "رِعْيُ الحَمام".

(5) برْطالقي: كذا رسمه داود، ولم يعرِّفهُ بمقابل عربيّ146وقد أخد عنه مفتاح المصطلح وعرّفه بالرِّجْلة وعَدَّ الاسم مُعرّباً من اسم الرّجْلَة اللاتيني وهو147(Portulaca). وقد وهم الشيخ داود في رسْمه إذ الصواب فيه هو (( بَرْطَانِيقي من اليونانية يدلّ عليْه الوصْف الذي أوْرَدَهُ له، وبَرْطَانِيقي من اليونانية (Brettanike) وأمّا مفتاح أخرج المصطلح معن أصله وحَرَّفه تحريفا شديدًا إذ ربَطه باللاتينية Portulaca وبالعربية الرّجْلة، خاصّة وأن الشيخ داود قد خَصّ الرجلة بمادّة مستقلة في كتابه148 وبينها وبيْن هذا النبات اختلاف تامّ.

(6) طَليقون: كذا رسمه الشيخ داود149، وقال في تعريفه: "نبْتٌ كالرجْلة له زهر أبْيَضُ وأوْراقٌ يتفرع من بيْنها قُضْبَان لا تتجاوز ستّة (كذا) حريفة، إذا فُركت لزجت". وبالنظر في هذا التعريف يتبيَّنُ أنه ملخّصٌ-والتلخيص من عادات الشيخ داود-من تعريف النبات المسمَّى باليونانية "طيلافيون" (Telephion) فقد وصف ابن البيطار هذا النبات- وقد حرّف اسمُه في ط. بولاق فرسم "طيلاقيون" بالقاف عوض الفاء-اعتمادًا على ديوسقريديس بقوله: "ورق هذا النبات وساقُه يشبه ورق البقلة الحمقاء [= الرّجلة] ساقَها، وينبت عند كلّ ورقة قضبان يتشعّبُ منها سبْع شعب صغار مملوءة من ورق ثخان يظهر منها إذا فُركت رطوبة لزجة، وله زهر أبيض. وينبت بيْن الكروم والحروث150. وإذن فإن "طيلافيون" اليوناني قد أصبح   عند داود "طليقون". وقد أخذ رمزي مفتاح بهذا الرسم151 لكنه أرجع المصطلح إلى أصْلٍ من "اللغات الأروبيية" هو (Theligone) وجعله من الفصيلة التلجونبة (Cymocrambacees) وعدة من (( المُهيّجات الجنسية المؤذية))، وفسر معنى الأصل اللاتيني للمصطلح-هو (Thelygonum)-بـ "المسبب للجنون الجنسي". وليس لما ذكره من أساس علمي لأن أصل المصطلح يوناني كما ذكرنا، والنبات من الفصيلة الحمِمية (Borraginees) واسمه العلمي (Cerintha minor).

والأمثلة على هذه الأوهام كثيرة لكن يَسْهُل تتبّعها في كتاب التذكرة وفي إحيائه معًا.

4. خاتمة:

قد ركزنا القوْل في بحثنا على مشاكل قراءة المصطلح النّباتي العربي وتحقيقه في النصوص  التراثية العربية الإسلامية وفي النصوص الحديثة. وقد عالجنا المسألتين اعتمادا على جملة من النصوص أهمّها كتابُ القانُون لابن سينا وكتاب الصيدنة للبيروني وكتاب الجامع لابن البيطار وتذكرة الشيخ داود بن عمر الأنطاكي، واخترنا من الأعمال الحديثة ثلاثةً: هي تحقيق رسالة في "الأدوية المفردة" من كتاب القانون لابن سينا، لباحث عراقي، وتحقيق "تفسير كتاب ديسقوريدوس" لبعض الجامعيين المصريين، وكتاب "إحياء التذكرة" لأحد الأطباء المصريين الباحثين. وقد ذكرنا نماذج من أخطاء القراءة والتحقيق لم نقصد بذكرها الإنقاصَ من قيمة القُدَمَاءَ أو الطعن في كفاءة المحدثين. وإنما كان قصْدُنا الأوّل أن ننبّه إلى ما تثيرُهُ النصوص النباتية التراثية من المشاكل المصطلحية المؤديّة إلأى تشويش المفاهيم العلمية ذاتها التي ترتبط بها المصطلحات. وقد كانَ أكثر اخْتيارنا لأشدّ المصطلحات تعقيدًا، وهي المصطلحات الأعجمية اليُونانية. فإن منزلتها في نصوصنا العلمية النباتية القديمة-وخاصة كتب الأدوية المفردة-كبيرة، ولا يمكن فهم النصوص النباتية التراثية العربية القديمة دون فهمها ومعرفة أصولها ومفاهيمها وطرق انتقالها إلى العربية وتناقلها بيْن العلماء المؤلفين في الأدوية المفردة، وقد بيّنت لنا النماذج التي قدّمنا أن المحدثين أحسن حالا من القدماء في تجنب أوْهام القراءة والتحقيق. وهذا مُوجبٌ فيما نرى لأمْريْن نراهما ضرُوريّيْن:

الأول هو تحقيق المدونة النصّّية النباتية العربية تحقيقا علميّا بحسب ما يقتضيه التحقيق العلمي من منهج وجهاز نقديّ. فإننا لا نستغرب اليوم وجُودَ الأخطاء ما دامت النصوص الأساسية-مثل القانون لابن سينا وكتاب الجامع لابن البيطار-غير محققة. فإن جُلِّها مخطوط وبعضها موْجود في طبعات تقليدية رديئة.

والثاني هو وضع المدونة المصطلحية النباتية العربية اعتمادًا على نصوص التراث. على أن هذه المدونة فيما نرى تكوِّن جرءًا من المدونة المصطلحية التراثية العربية التي ينبغي أن تنجز أيْضًا.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
علوم الأرض في المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الخامس لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي– 24-25 نوفمبر 1999 – النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 331-378.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

العلوم الرياضية المتعلّقة بكوكب الأرض

رشدي راشد ليس من النّادر أن يرتّب مؤلفو فهارس المخطوطـات العربية تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق يستوحونه من النظام التعليم التقليدي المتأخر،أي أنّهم بعبارة أوضح يرتبون تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق مدرسي مقرر. فبعد علوم القرآن يأ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

نظرات في تحقيق النصوص الجغرافية العربية

عبد الله يوسف الغنيم محتويات المقال:أولا- تحقيق التراث الجغرافي الذي تم إصداره في القرن التاسع عشر ونشرهثانيًا- إعادة النظر في الكتب التي تم تحقيقها خلال العقدين الأخيرينثالثًا- مشاركة الجغرافي المختص في تحقيق النصوص الج...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

أنظار في بعض مشكلات النص الجغرافي التراثي

إبراهيم شبّوح تمثّل نصوصُ الجغرافيا التراثية قاعدةً مهمّة للدراسات والبحوث التاريخية الحضارية والبشرية في ثقافتنا العربيّة الإسلامية، وكثيرًا ما تكون المنطلق الممكنَ لاستعادة تركيب صورة تلك المجمعات في ظل بيئتها وحيويتها...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تاريخ الأدبيات الجغرافية في العهد العثماني

أكمل الدين إحسان أوغلي محتويات المقال:التراث الهليني الإسلاميعجائب المخلوقاتبواكير الأدبيات الحديثةالأدبيات الحديثةتقارير السفراء وكتب الرحلات يمكن اعتبار هذا البحث خلاصة لدراسة استطلاعية قام بها الكاتب في كتاب أ. إحسان ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

النصوص الجغرافية غير المنشورة: حَصْر وتقييم

أيمن فؤاد سيِّد محتويات المقال:كتب الجغرافيا الرياضيةالمعاجم الجغرافيةكتب الجغرافيا في المغرب والأندلسكتب الخطط (الطوبوغرافيا المحلية)كتب الزياراتكتب الموسوعاتكتب الجغرافيا الإداريةكتب العجائب والغرائبأدب المرشدات البحري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تجربة صغيرة في نص جغرافي

إحسان عباس لم أكن أعرف كتاب (( الروض المعطار)) في صورته الكاملة، ولكني كنت قد عرفت أنه قاموس جغرافي مما استخرجه من المستشرق الفرنسي لافي بروفنصال Levi Provençal من أسماء الأماكن الأندلسية، حين قام بحقيقه وترجمته إلى الفر...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مخطوطات الخيمياء: نموذج المدونة الجابرية

سيد نعمان الحق يعرف المؤرخون مجموعة كبيرة من الأعمال العربية التي ترجع إلى العصور الوسطى، وتنسب إلى شخصية طالما لفها الغموض، هو جابر ابن حيان. وهذه الأعمال المثيرة متناثرة في مخطوطات عديدة حول العالم، والموقف الأكاديمي ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

جواهر نامه نظامي

إيراج أفشار محتويات المقال:عنوان المؤلَّفالمؤلّفتاريخ المؤلفالشخصية المُهدَى إليه الكتابترتيب المخطوطات حسب اهميتهاالمحتوياتالجديد في كتاب (( جواهر نامه نظامي))أسماء الجواهر المنْحولالمراجع حسب ثبت المصادر المرفقة، ثَمَّ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقالة ابن رشد حول الطعوم، أهي جزء من كتابه المفقود (( كتاب النبات))؟

ماورو زونتا لم تكن دراسة النبات كعلم قائم بذاته فرعًا من المعرفة واسع الانتشار بين مسلمي العصور الوسطى. فقد كانت غالبية الأبحاث أو الرسائل التي أُلّفت باللغة العربية خلال تلك الحقبة أقرب ما تكون إلى قوائم باسماء النباتات...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة والإعلان العالمي لحماية البيئة

محمّد قاسم المنسي: أستاذ الفقه - كلية دار العلوم- جامعة القاهرة محتويات المقال:الفصل الأول: مدخل تمهيديالفصل الثاني: مقاصد الشريعة وصلتها بحماية البيئةالفصل الثالث: عناية الفقه الإسلامي بالبيئةالفصل الرابع: وسائل حماية ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
Back to Top