رشدي راشد
ليس من النّادر أن يرتّب مؤلفو فهارس المخطوطـات العربية تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق يستوحونه من النظام التعليم التقليدي المتأخر،أي أنّهم بعبارة أوضح يرتبون تصانيفهم وفهارسهم حسب نسق مدرسي مقرر. فبعد علوم القرآن يأتي الحديث النبوي وعلومه ورجاله ثم علوم اللسان وهكذا وصولاً إلى العلوم الرياضية فالفلكية إلى آخر ما رتبته المحاولات المختلفة لتصنيف العلوم.
وحسب هذا النسق بالذات تتابعت مختلف فصول كتاب ((ك. بروكلمان)) C.Brockelmann تاريخ الآداب العربية Geschichte der Arabischen Litteratur وعلى نفس ذاك النسق جرى خلفاؤه من بعده، غير أنّ نظام العرض هذا ليس نفس النظام المتّبع عند مؤلفي الفهارس وطبقات العلماء الأوائل، من مثل ((ابن النديم)) و(( القِفْطيّ )) و((ابن أبي أُصَيْبعَة)) بل هو نظام أشبه بالنظام الذي أقامه الموسعيّون المتأخرون من أمثال ((ابن خلدون)) و((ابن الأكْفَانيّ)) وإن لم يماثله تمام المماثلة. فالموسوعيون المتأخرون يَفْصِلُونَ في واقع الأمر بين مواد العلوم المختلفة ويُفَصّلون الحديث فيها، في حين أنّ مؤلفي الفهارس المُحدثين يضمّون بعضها إلى بعض.
ولقد استفاد هؤلاء المحدثون من الجهد الذي أنجزه المتأخرون لتقارب عهديهما. يبدَ أن ميلهم الشديد إلى ضم الفصول بعضها إلى بعضٍ انتهى بهم إلى إغفال موادّ علمية بأكملها، وهذا يعني أنّ نظام ترتيب الفصول، بتحوّله إلى مجرّد نظام عرض فحسب، حَجَبَ نظامَ ابتكار المواد العلمية. وهذا العيب الكبير يتضافر معه عاملان إضافيان: أوّلهما: أن صانعي فهارس المخطوطات ،وهم ليسوا مؤرّخي علوم، كانوا يميلون إلى التسوية بين المواد العلمية من ناحية والكتابات عنها من ناحية أخرى، وثانيهما: أنّ مؤرّخي العلوم، وَهُمْ نادرا ما كانوا واضعي فهارس للمخطوطات، لم يكونوا يُبَالون عادة بتاريخ المخطوطات. وإذا عدنا إلى القرن العاشر الميلادي وإلى ترتيب العلوم عند ((الفرابيّ))، ذلك الترتيب الذي انتهجه خلفاؤه من بعده و((ابن سِينَا)) نفسُه واحد منهم-فإنّنا نجد مزيجًا معقّدا يحشرون فيه جملةً من المواد العلمية، وهو مزيج يقع تحت عنوان واحد لكنّه ذو دَلاَلَةٍ، هو علم ((الحيل)) ويعني علم الطرق الإبداعية والميكانيكة Science des procéd ingénieux إنه خليط يَضُمُّ جملةً من الموادّ العلميّة يتعلّق كُلُّها بما سيُسمَّى مستقبلاً(( بالعلوم الممتزجة)) بمعنى أنّ العلوم الرياضيّة تمتزج بها عناصرُ ماديّة.
إنّ التّصوّر الضّمْني الذي تقوم عليه هذه الموادّ العلميّة هو أن لا تنافر البتّة بين العلم والعمل، بين العلم والفنّ، بل على العكس من ذلك تماماً.وبناءً على هذا المفهوم فإنّه يمكن من جهة أولى إدخالُ قواعد الفنّ وبالأحرى أدواتِهِ في موضوع العلم ذاته؛ ومن جهة ثانية فإنّ العلم نفسه يمكن أن يُوَجَّهَ نحو أهداف خارجية عنه. وإذا كان العلم يهدف إلى العمل،فَيَتَعيَّنُ على العمل أن يتأسّس بدوره على العلم. وبناء على هذا المفهوم الجديد أيضا، فإنّ أيّ معرفة يمكن أن تَكْتَسِبَ قُوَّةَ العلم دون أن تتطابق مع التّصوّر الأرسطوطاليسي أو التّصوّر الإقليدي.
إن هذه العلاقة الجديدة بين العلم والعمل، وبين العلم والفن طمَست نظريّاًً- على الأقّل – تلك الحدودَ التي كانت المدرسة الأرسطوطاليسية قد أقامتها بينهما، وهو طَمْسٌ يقصد منه منحُ تطبيقات العلوم وجوداً شرعيّاَ أصيلا. وهكذا اندرج ضمن هذا المزيج من عُلُومِ (علم الحيل) فنُّ المقاييس، أي علمُ المساحة إضافة إلى علم العمارة وعلم المرايا المحرقة وحتّى علم الجبر، كما يطبّق في علمَيْ الهندسة والحساب. بَيْدَ أنّ نظام العرض المتّبع عند صانعي فهارس المخطوطات المُحْدثين، يقسم هذا التركيب ويوزّع موادّه على مختلف الفصول، وبهذه الطريقة تدْمَجُ العناوين المخصّصة لفنّ المقاييس فصل الرياضيّات، فيغيب فنّ المقاييس من حيث هو مادَة علمية متميَزة.وكذلك هو الشأن بالنسبة إلى باقي الموادّ العلميّة التي يُكَوّنُ مَجْمُوعُها فروع علم الحيل. وهكذا نفقد جملة من العلوم المخصوصة رغم تميّزها عند أولئك الذين رصدوا نشأتها و تطوّرها، والحال أنّنا نجد أغلب الموادَ الرياضيّة التي تتخذ من الأرض موضوعاً لها ضمن هذا التركيب.
إنّ وصْفَ كوكب الأرض وتمثّله-وباختصار- التفكيرَ فيه،هو أساس كثير من الموّادّ العلميَة التي تَمَّ حَشرُها في هذا التركيب،وهي موادُّ كان لها-هي أيضاً-أثرٌ فعليُّ في تاريخ الرضـيّات، كمـا أنهـا كانـت، حتـى القـرن العاشـر الميلادي، مترابطةً فيما بينها ترابطاً وثيقاً لكنه شَهِدَ تراجُعاً بعد ظهور ((نيوتن))... لقد كان كوكبنا الأرضيّ إلى ذلك العهد مركزَ عالَمٍ مُغْلَقٍ وَمتَدَّرّجٍ، تحتلّ فيه المنظمة الآهلة مركزَ المركَزِ،أما الوَحْدَةُ التي تكوَّنت بين هذه الموّاد العلمية وما ضُمَََّّ إليها من مواد أخرى، فإنّما ضَمنَهَا مَوْقِعُ الأرض المركزيُّ بالنسبة إلى هدا العالم المغلَق .
وإنه لمن المسلّم به أن علم الفلك مند ابتكاره في العصو القديمة، إنما قام، أو في جزء منه على الأقل، مِنْ أجْلِ معرفة صُورَةِ كَوكْبَنا وأَبْعَادهَ، أمّا الهندسة فلقد كانت في الأصل، كما يشير اسمها، تعني علم قياس كَوْكَبِ الأرض (( الأرض géo قياس métrie )) وإذا كان المصريّون والبابليّون والإغريق مند فجر التاريخ، قد اعتنوا بعلمِ الفلك وعلمِ الهندسة وعلمِ الجغرافيا، فإنّما كان ذلك بغاية التََّعَرّفِ على هدا الكوكب، أو مَثَّلَثْ هذه الغاية -على الأقل- أحدَ بوَاعِثِ هده العناية. أمّا مع نشأة العالم الإسلامي، فقد غَدَتِ الصِّلاَتُ المتينةُ التي تَجْمَعُ مع الرياضياتِ عُلُومَ معرفةِ كوكبِ الأرض مَوْضُوعَ بحث عميق وخصب. ففي القرن الرابع هجري (10م) شهدت النُّوَر موادّ رياضيّةٌ كثيرةٌ كان القصدُ منها البحثُ في كوكب الأرض، ولْنَذْكر من بين هده الموادّ العلمية عِلْمَ المِسَاحَةِ، وعلمَ تسطيح الكرة، وعلمَ الآلات الظِلّيََّةِ، وعلمَ الاسطرلاب، وعلمَ الجغرافيا الرياضيّة، وعلم المِلاَحَة، الخ ذلك. غير أنّ البحث في المخطوطات بالنسبة إلى هذه العلوم جميعاً مازال هزيلاً بل حتىّ الفهارس المتعلقة بهده المخطوطات مازلت تنتظر التحرير والنشر، أماّ النصوص المطبوعة فقليلة جدّا والمعلومات التاريخية مزال يَسُودُها غموضٌ كثير.
وسأكتفي في هذا العرض -المحدود الوقت- بدارسة بعض الأمثلة دراسة عاجلة أتّبع فيها ترتيبا بإمكانه أَن يَقُودَ ساكناً من سكَان الأرض من المكان الموجود فيه، بَيْتِهِ أو حَقْلِهِ، إلى العالم الذي يحيط به، وهذا يعني أنّني سأبدأ بعلم المقياس.
إنّ الدراساتَ القديمةَ المتعلقةَ بعلم المقياس غنّية جدًّا فابن النديم في كتابه الفهْرست يذكر أسماء عديدة أمثال الحسن ابن الصباح، وابن ناجية وابن برزه وغيرهم، ويمكن أن نظيف إليهم الخوارزميّ نفسه والكنديّ وأبا كامل والقبيصيّ ونضيف بعض المتأخرين عن هؤلاء مثل عبد القاهر البغداديّ والإسفزاريّ والكرجيّ وخلفاؤه وغيرِ هؤلاء كثير. فابن الأكْفَانيّ وهو مفهرس القرن الرابع عشر الميلادي يذكر في كتابه إرشادِ القاصدِ عناوينَ وأسماء أخرى غيرَ التي ذكرنا. ومن البديهي أن تكون قائمة الكتابات التي خصَّصَها رياضيُّو ضحى الإسلامِ لفن المقاييس طويلةٌ، وفي هذا دليل قويّ على أنهم سَعَوْا إلى تطوير مادّة علمية قائمة بذاتها وخاصة بهذا الفن، ونجحوا في ذلك. ومثلما أشرة سابقاً، فإنّ مؤلفي الفهارس المُحْدثين لم يَعْرِضُوا هده المادّة العلمية تحت عنوان خاصّ بها، في حين أنّها موجودةٌ قائمةٌ بذاتها في كتابات موسوعيّين من أمثال ابن الأكْفَانيّ وطاش كبرى زادة. ومن جهة أخرى فإنّ تاريخ هذه المادّة العلميّة لم يكتب بعد وعناوينها المختلفة تنتظر الإحصاء، ومن المفروغ منه انه لا مجال هنا من نهوض بهده المهمةّ، ولذلك فإنّنا نكتفي بالتوقُّفِ عن إحدَى المساهمات المتميزة التي أضاءت تاريخ هده المادّة العلميّة. ونعني مساهمات ابن الهيثم المُتَوَفَّى بَعْدَ سَنَةِ أربعين وألف 1040م. فلقد ترك لنا حول هذا الموضوع أَثَرَيْن مخطوطين، الأول منهما دراسة علمية حقة بعنوان (( في أصول المساحة))، وثانيهما كَنَّشٌ في علم قياس الأحجام وضع له عنوانا (( في معرفة ارتفاع الأشكال القائمة وأعمدة الجبال وارتفاع الغيوم)). ونشير أيضاً إلى أَثَرٍ ثَالِثٍ لَعَلّهُ يدور حول الموضوع نفسه يَذْكُرُه مفهرسو التراث القدامى وهو بعنوان (( مسألةٍ في المساحة)) وهو عمل لم يصل إلينا في حين وصلت إلينا أربعُ نسخٍ من الدراسة العلمية (( في أصول المساحة)) واحدة فحسب تامة وموجودة في (( سانت بيترسبورغ )) Saint petersbourg وأمّا القصدُ الذي سعى إليه ابن الهيثم فهو مدّ القائمين على ممارسة المساحة بِمُخْتَصَرٍ في فنّ المساحة أَسَاسِيٍّ وَدَقِيقٍ في الوقت ذاته، وهو بحثٌ يؤسس فنّهم هذا على ركائزَ ثابتةٍ إضَافَةً إلى مَدّهِمَ برصيد من قواعد يُمْكِنُهُمْ تطبيقها. فبعد مقدّمة استعرض فيها مفاهيمَ فنِّ المساحة الأوليّة كمفهوم المساحة نَفْسِه ومفهوِم وَحْدَةِ القياس ومفهوِم المقادير القابلة لقياس، يُخَصّصُ فَصْلاً أوّلَ لقياس الخطوط المستقيمة والدائريّة لا غير، وهما الخطّان الوحيدان اللّذان يحتاج إليهما القائمون بعملية القياس. وفي فصل ثان يعالج مسالة قياس المساحات كالمستطيل والمثلث و متعدّد الأضلاع المحدّب والدائرة . أمّا الفصل الثالث فخصّصه لقياس (المجسّمات) كمتعدّد السطوح والأسطوانة والمخروط والكرّة، وفي الفصل الرابع عَرَضَ ابن الهيثم تجربةً تتمثّل في حساب ارتفاع جسم مّا قائم على سطح الأرض، والارتفاع الذي يسعى إلى التعرّف عليه هو مسقط العمودِ النازلِ من أعلى نقطةٍ في هذا الجسم إلى مستوى قاعدته، وهذه الطريقة التي يَعْرِضُها ابن الهيثم تَصْلُحُ عِندما يَتَعَذّرُ على المهندس الوصول إلى إحدى نُقْطَتَيْ العمودِ المُقاس، إمّا القاعدة أو القمة أو عندما يتعذّر الوصول إليهما جَميعا مثل قمة جبل قائم على ضفةِ نهر مقابلةٍ.
ولقد كان الكندي وسنان ابن الفتح قد درسا في كِتَابَاتِهِما التي يعالجان فيها المساحات المَنَاظِرية نفسَ المسألة المتعلقة بقياس الأجسام التي يعالجها ابن الهيثم في مختصره هذا، ثمّ يختم كتابه بما كان يسمى برصيد المسّاح حيث يَذْكرُ من جديد كلّ طرق القياس وكلَّ النتائج لكن دون براهينَ، ولعلّه كان يريد أن يُقَدّم إلى المسّاح دليلاً أو مذكّرةً تسمح له بالعثور، دَونَ عَنَاءٍ، على القاعدة التي يَحْتَاج إليها. وإنه لمن المناسب أن نُذَكِّرَ بمنهج ابن الهيثم الأصيل والعميق في ذات الحين دون التَوقُّفِ عند براهينه وعند دقائقه التَّقْنيّة. إنّه يَرُدُّ قياسَ الخطوط المنحنية إلى قياس المستقيمات، كما يَرُدّ قياس المساحات المحدَّبَةِ إلى قياس المستويات المُسَطّحة، ليختزل جميع تلك القياسات عند التحليل الأخير في قياسات خطيّة ترجع هي نفسها إلى وحدات قياس اختيرت بطريقة الاتفاق، وتُمَثلُهَا أيضًا أعدادٌ منطقة أو صم. لقد أدخل ابن الهيثم في العلاقات بين الأطوال مفهوماً عددياً، وقد ظلَّ في جميع آثاره وَفِيَّا لمنهج مُنَظَّمٍ يقوم على أنّ الخواص والبراهينَ في علم قياس الأحجام تُسْتَنْسَخُ مَا أَمْكَنَهَا النَّسْخُ خَصَائِصَ الهَندْسَةِ الُمسْتَويَةِ وَبَرَاهِينَهَا المُمَاثِلَةِ، فابن الهيثم يُفَكّكُ المضلّعات إلى مثلّثات وبنفس الطريقة يُفَكّكُ متعدّد السطوح إلى أهرامات ولقد فعل ذلك سواء في رسالته المتعلّقة بعلم المقاييس أو في رسالته المتعلّقة بالأشكال المتساوية الإحاطة.
إنّ هذه الدراسات التأسيسيّة التي قام بها ابن الهيثم هي غاية ما حققّته تقاليد البحث الذي شُرِعَ فيه منذ مائة وخمسين سنة قبل ابن الهيثم، إنّها تُمَثّل حدثاً تاريخيّاً في الوقت نفسه. لسنا هنا أمام عمل واحد من مُنَظّري الهندسة، بل واحد من أكبر المُنَظّرينِ الذِّين يتوجّهون إلى المسّاح؛ وابن الهيثم ليس أوّل من سلك هذه السبيل، ما في ذلك شكّ، فسنرى فيما يلي أن ابن سنان قد سبقه في هذا المجال، ولم يتردّد في تأليف رسالة في هذه الصناعة. غير أنه، حسب عِلْمٍي، مَا مِنْ عَالِمٍ كبير في الهندسة منذ العصر الهلّيني قد ألّف مثل هَذَا النوعِ من التأليف. فالتجديدُ في هذا المنهج المزدوج، المتّجه إلى غَايَتَين مترابطتين ترابطا مكينا، تجديدٌ كليٌّ. وابن الهيثم الرياضي يسلك هذا المنهج قصد تحقيق غايتين، أولاهما: أن يؤسس فنّاً هُوَ فنُّ مساحة الأرض تأسيساً هندسيّاً. وثانيتهما: مَدُّ المسّاحين بجملة القواعد التي عليهم أن يطبّقوها. وهكذا ينشأ علم جديد و تنشأ معه أدبيّاته، ولن يتسنّى لنا فهم هذا العلم أو تلك الأدبيات إنْ نَحْنُ لَمْ نَبْذُلْ جهدا في تَمْييز المخطوطات الخاصّة بهما.
إنّ فنّ مساحة الأرض يسمح للإنسان بتمثّل مَكَانِهِ والتعرّف عليه، وإن هو رفض أن يبقى أسيرًا لهذا المكان وقرّر، من أجل بعض مصالحه الفردية أو الجماعية، أن يَطُوفَ في أقطار بعيدةٍ أو حتىّ في العلم كلّه، فيتعيّنُ عليه عندئذ أن يتعرّف على موقعه من حيث المكانُ والزمانُ على حدّ سواء. ثمّ أليس عليه كذالك أن يستنبط موادّ علميةً أخرى تمكّنه من تَمَثّل مواقع مختلفِ الأماكن تمثّلاً هندسيّاً كما تمكّنه من تمثّل الزمن الخاص بكُلّ منها؟ ثم عليه أيضا أن يرسم خرائط عديدةً منها خرائطُ خاصّةً بالسماء وأخرى بالأرض وأخرى بالبحار. والحال أنّ الهندسة الإقليدية والأرخميدية لا تكفيان لتحقيق هذه الغاية تحقيقا جيّدًا، ومن المؤكَّدِ أنّ الشعور بهذه الحاجة قد ظهر منذ وقت مبكرّ جدّا، بَيْد أنّه كان علينا أن ننتظر قيامَ العالِم الإسلامي حتى تصبح هذه الحاجة مُلِحّةً شَدِيدَة الإلحاح، ومرّة أخرى يمكن أن نردّ أسباب هذا الإلحاح الشديد إلى إتّساع رقعة العالم الإسلامي ووحدته من ناحية، وإلى الممارسات الجديدة التي فَرَضَت حلولاً رياضيّةً جديدة من ناحية أخرى. والحقيقة أنّ أحد العلوم الرياضية الضروريّة لتحقيق مثل هذه الغاياتِ هو عِلْمُ تَسْطِيح الكُرَة، وهو علم يلزم لصناعة الإسطرلاب كلزومه لعلم رسم الخرائط. إنه بالفعل الأساس الذي قام عليه رسمُ المواقع هندسيا على سطح الأرض كما قام عليه أيضا رسم المساحات بَيَانيّاً؛ ولْنقرَأ ما يذكره أحدُ الموسوعيّين:
هو علمٌ يُتَعرف منه كيفية نقل الكرة إلى السطح مع حفظ الخطوط والدوائر المرسومة على الكرة، وكيفية نقل تلك الدوائر إلى الخط.1
ويذكرنا طاش كبري زاده بالعناوين الرئيسية والمؤلفين الذي اعتنوا بهذا الموضوع فيقول:
ومن الكتب القديمة في هذا العلم كتاب بطلميوس Ptolémée حول تسطيح الكرة، ومن الكتب الحديثة كتاب الكامل للفرغانيّ والاستيعاب للبيرونيّ وكتاب آلات التقويم للمراكشيّ.
وَيُسْتبعَدُ أن يكون هذا رأيُ عَالِمٍ مِنْ علماء القرن السادس عشر الميلادي، لأنه من الآراء الشائعة منذ القرن الحادي عشر للميلاد على الأقل، أي مباشرة بعد أن أصبح علم التسطيح فرعًا متميّزًا من فرع الهندسة بشِقَّيْهَا النَّظَرِيّ والتَّطْبيْقِيّ، وعَلَى كُلٍّ فإنّ هذا هو رأي البَيْرُونِيّ وكذلك رأي ابن السريّ ورأي كثيرين غيرهما.
والسؤال الآن هو: متى اسَتقالّ علم ((التسطيح)) عن علم الفلك أصبح فرعاً من فروع الهندسة يمكن تطبيقه في رسم الخرائط؟ قبل الاسترسال في الموضوع أَوَدًّ التذكير بحقيقتين تاريخيتين: الأولى معروفة جدّا تتعلق بالبحث العلمي في بغداد في أواخر القرن التاسع الميلادي. فحسب ما يذكر الفرغانيّ وهو شاهد على ذلك العصر وعنصر فاعل في الأسرة العلميّة، فإنّ مسائل التسطيح كانت موضوعَ نِقَاشِ بل وخِلاَف بين الرياضِيين ولا سيَّما بنو موسى والكنديّ والمَرْوَرُوذيّ (فلكي الخليفة المأمون) والفرغانيّ وغيرهم، أما الحقيقة الثانية فقد غَفِلَ عَنْهاَ جُلّهُمْ: وهي أنّ جميع المسائل التي تتصل برسْمِ الخرائط وصُنْعِ الاسطرلابات قَدَ أُثِيرْتَ ْفي ضوء آخر ألا وهو ترجمة مؤلف أبلينيوس2 الذي عَنْوانُهُ ((المخروطات)). وبالنسبة إلى الفلكيين والجغرافيين فقد تمثلت المسألة الأساسية في كيفية التوصل إلى إسقاط يمكن أن يضمن رَسْمَ الخَرَائِطِ وإثْبَاتَ صِحَّةِ هَذَا الرَّسْمِ بِدِقَّةٍ ولقد مَهَّد ابلونيوس، عَنْ غير قَصْدٍ، الطَّرِيقَ إلى بحوث جديدة في الهندسة عبر اهتمامه بتقاطع المخروطات مع السّطوح رغم أنّه لم يكن مهتمًا بمسألة الإسقاطات. ولقد تم التلاقح بين قضية رسم الخرائط ونظرية الاسطرلاب منة جهة وقضيّة هندسة المخروطات3 من جهة ثانية في القرن التاسع الميلادي، وفي الكتاب الكامل للفرغانيّ بالتحديد. وقد كان لهذا الحدث الحاسم أثرٌ واضحٌ في كتاب الكامل شكلاً ومضموناً، فَأَمَّ من ناحية الشكل فقد خَصَّصَ الفرغانيّ لهندسة التسطيح فصلا مستقلاّ عن فصول الكتاب الأخرى وعنوانه مقدّمة للفرضيَّات الهندسيّة التي يمكن عن طريقها إثباتُ شكل الإسطرلاب وقد عَرَضَ الفرغانيّ في هذه المقدّمة بَحْثاً يُعَدُّ من أوائل البحوث في مسألة التسطيح المخروطي.
ودون أن نغوص في التَقْنِيَاتِ الهندسية، أودُّ أن أَذكِر بإحدى النتائج البارزة التي توصّل إليها الفرغانيّ: فقد أثبت أن التسطيح المخروطي لكرة عبر القطب (ق) على سطح المماس لنقطة مقابلة للقطب (ق) على قطر أو على سطح موازٍ له هو ((مسقط مجسّم))4، وهذه نتيجة جوهرية فيما يتعلق برسم خريطة الكرة، وهو ما كان يُمَثّلُ المشكلة الرئيسية للجغرافيين وغيرهم من المهتمين بنظرية الاسطرلاب. وتميزت هذه الدراسة التأسيسية التي قام بها الفرغانيّ بأنها دراسة هندسية بحته، رغم أنها أُجْريَت لأغراض الفلك والجغرافيا، وَلحِقَتْ بهذا العمل التأسيسي الذي أنجزه رِيَاضِيُّو القرن التاسع وَفَلَكِيُّوهُ دراساتٌ أخرى قام بها علماء آخرون كانت معارفهم (( بعلم الإسقاطات)) قد تَطَوَّرت. وتَلَتْ أبْحَاثُ جِيلِ بنو موسى والكندي والمَرْوَرُوديّ والفرغانيّ أبحاثٌ أخرى أَنجَزَها رياضيّوُن كبار قطعوا أشواطا واسعة في هذا المجال، وَلّنَذْكُرَ بَعْضَهُم مِثْلَ أبي العلاء كرنيب وأبي يحي الماروديّ وابن معدان وابن سنان وكثيرين غَيْرَهم. ومن المؤسف القول أنه لَمَ تَجْرِ دراسةُ أيّ مُسَاهَمَةٍ من المساهمات المذكورة، فَحَتَّى كتاب الكامل للفرغانيّ لم يُنْشر إلى يومنا هذا. وعَلَى كلٍّ، وَلِكَيْ أتمكَّن من تقييم التطورّ الذي حققته هذه المادة العلمية الجديدة، سأقفز إلى الجيل الثالث أَيْ جيل الثلث الأخير من القرن العاشر للميلاد، وسأقَِدم خلاصةً مُوجَزَةً لإسْهَام أبي سهل ويجن القوهيّ الذي تأخّر عن الفرغانيّ بحَوَالَيْ قَرنْ مِنَ الزَّمَانِ، والقوهيّ هو أحد أهم علماء القرن العاشر وأبرزُ من ظهر في بلاط عضد الدولة وابنه أبي الفوارس شرف الدولة. وفي كتابه صنعة الاسطرلاب بالبرهان الذي حَقّقْتُهُ مُنْذُ أكثر من عقد، يُقَدّمِ القوهيّ دراسة دقيقة لعلم الإسقاط؛ وقد قام بالتعليق عليها وإكْمّالِهَا أحدُ مُعَاصِريه وهو العلاء بن سَهْل من مشاهير الرياضيين في بلاط صمصام الدولة. يبدأ القوهيّ بالتذكير بأنّ الاسطرلاب آلة تستخدم لدراسة القُبَّة السماوية في حركتها الدائرية حول محور، باسقاطها على سطح متحرك يقع فوق سطح ثابت. ولكن، قبل أن يَعْمَدَ إلى دراسة مشكلة الاسقاطات التي أثارتها هذه الآلة، يُوَجّهُ جُلَّ اهتمامه نحو قضية أخرى أكثر عمومية وهي دراسة إسقاط كرة ذات محور معروف على سطح إمَّا ثَابِتٍ أو متحرك بحركة دائرية. وهَذَا، تَحْدِيداً، هُوَ مَوْضُوعُ المُقَدّمَةِ التي غَطّتْ أكثر من نِصْفَ مَا قَام به ((ابنُ سَهْلٍ)) مِنْ شَرحٍ وتعليقٍ، وبالفعل فهذا هو الجزء الذي قَادَ القوهيّ، وَمِنْ بَعْدِهِ ابنَ سَهْلٍ، إلى تحديد التسطيح الاسطواني في اتجاه موازٍ لمحور الكرة أو غيرَ مُوَازٍ لَهُ، وكذلك تحديدِ التسطيح المخروطي5 لقطب قَدَ ينْتَمِي إلى هذا المحور أو لا ينتمي إليه.
وحسب علمي فهذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها مفهوم الإسقاط الإسطواني، سواء أكان متعامداً أو مائلا، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى الإسقاط المخروطي لا من نقطة على المحور فَحَسْبُ، بَل وكذلك مِنْ أيّ نقطة خارج المحور. ومن ناحية أخرى وَقَبْلَ مَجِيءِ البَيْرُونيّ،فقد تَمَّتْ دراسةُ التسطيح الإسطواني6، كما تَمَّتْ في زمن الصاغاني إن لم يكن قَبْلَهُ دراسة الإسقاط المخروطي خارج القطب7 بل حتى خارج المحور8.
وخلاَصَةُ القول، فقد أدخل القوهيّ وابن سَهْل أنواعاً مختلفة من الإسقاطات سَيَتمُّ استِثمارُ واحدٍ منها في الاسطرلاب وهو الإسقاط المُجَسَّمُ، ولتوضيح هذه الخاصيَّةِ في البحث الهندسي،لا بُدَّ من التذكير بإيجاز ببعض ما تَوَصَّل إليه الرياضيان سَالِفَا الذِّكْرِ من مفاهيمَ ونتائجَ شَكّلَتْ أرضِيَّةً قَامَ عليها عِلْمٌ رِيَاضِيٌ في رسم الخرائط [ويُمْكِنُ التَّكَهّنُ]، بحالتين اثنين: إمَّا أن يمكن التمييز بين محور الكرة من جهة ومحور دوران السطح من جهة ثانية؛ وإما ألاَّ يمكن التمييز بين المحورين، فبالنسبة إلى الحالة الأولى حيث لا يمكن التمييز، يعرض((ابن سهل))، مُقْتَفِياَ أَثَرَ القوهيّ، الفاهيم التاليةَ:
- مفهوم المسقط الإسطواني الذي يكون في اتجاه مواز لمحور الكرة، وَأَوَدُّ أنْ أُذَكّرَ هنا بأنّه إذا كان سطحُ المَسْقَطِ سطحاً مستوياً، فإنَّنا نحصل عندئذ على مسقط عمودي أو مسقط متعامد،أي المسقط الذي ابتكره الكِنْديّ أو المَرْوَرُوذيّ حَسْبَ مَا ذَكَرَ الفرغانيّ فَلَكِيٌّ القرنِ التاسعِ الميلادي.
- مفهوم المسقط الاسطواني الذي يكون في اتجاه غير موازٍ لمحور الكرة.
- مفهوم المسقط المخروطي الذي ينطلق من نقطة واقعةٍ على محور الكرة.
- مفهوم المسطح المخروطي الذي ينطلق من نقطة واقعةٍ في الكرة خارجَ المحور.
ثُمَّ يَدَرُسَ ابنُ سَهْل الحالة الثانية حيث لا يمكن التمييز بين محور الكرة ومحور دوران مُسَطّح الإسقاط.
ومن بين النتائج التي توصل إليها القوهي وابن سَهْل أقتصر على ذكر اثنين فحسب:
(1)لقد أثبت القوهيّ خاصِيَّةً أساسيّةُ في الإسقاط المجسم أو التسطيح المجسم وهي أن الدوائر التي تمر عبر القطب تتحول إلى دوائر،أمّا التي تمرّ عبر القطب فتتحول إلى خطوطٍ مستقيمة.
(2)أمّا ابن سَهْل، فقد بيّن أنّ الإسقاط الأسطواني لدائرة ما من دوائر الكرة على مُسْتَوٍ غَيْرِ متعامدٍ مَعَ محور الكُرَة هو قطع ناقص.
لقد طوّر رياضيون فلكيّون كثيرون أمثال الصاغاني وابن عراق هذه البحوثَ ولكن أكبر الفضل في تطويرها يعود إلى البَيْرُونِي،لاسيّما في كتابه الاستيعاب. وَفي خِضَمّ هَذِهِ الكِتَابَاتِ التأسيسيّة الثّريَّةِ يبرزُ من بين الفصول الأكثر أصالة والمتعلقة بالهندسة عِنْدَ العَرَبِ فَصْلٌ لاَفِتٌ لِلنَّظَرِ.يَتَعلَّقُ بالبحث في الهندسة الإسقاطيّة. فقد نُسِبَتِ النتائج التّي تَحَصَّلَ عليها القوهيّ وابن سَهْل والبَيْرُونيّ تَعَسُّفا إلى رياضييّ القرن السابع عشر الميلادي والمُلاَحَظُ أَنَّ المخطوطات التي حُقّقت من بين هذه الدراسات المُهمّةِ تُعَدَّ على أصابع اليد الواحدة،وليست الدراسات التاريخية الجَيّدة بأوفر عَدَداً من ذلك مع الأسف.
إنّ علم إسقاط الكرة سيسبح في وقت لاحق جُزْءاً لاَ يَتَجّزأ من الهندسة الاسقاطية، ولقد تَصَوّرَ رياضيّو الإسلام هذا العلم وطَوَّرُوه إلى حدّ الالتقاء بالهندسة المَحْضَة، وكذلك إلى حَدِ صنَاعَةِ الاسطرلابات وتحديدِ نقَاط الأرض البارزة، وهذا يعني أنهم طَوَّرُوا هذَا العِلْمَ إلى حدّ الاستجابة إلى ما تحتاج إليه الخرائطُ الجغرافيَّةُ،فها هو إِذَنْ عِلمٌ رِيَاضِيٌّ يتَوَلَّدُ مِن آلقاء العِلْمِ بالعَمَل.
بَيْدَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ على سكان الأرض أن يَحَدّدَ أيضا مَوْقِعَهُ في مُسْتَوَيَيْ المكان والزمان،وفعلاً فقد شُرِعَ في دراسة الآلات الظلية منذ زمن مُبَكّرٍ، حتّى أنّ (( أ. نوجوبور O.Neugebouer )) ذهب إلى الظنّ بأنّ هذه الدراسة قد تكون وراء آكْتِشَافِ نظرية المخروطات، وفي هذه الحالة أيضًا يُحَوّلُ رياضيّو الإسلام التقليديّ فنّاً إلى فَنٍّ عِلْميٍّ أي أنهم يجهّزون هذا الفن بأسس هندسيّة متينة، ولقد التصقت بهذه المهمّة أسماءُ شهيرةً مثلُ ثابت ابن قُرَّة وحفيده إبراهيم بن سنان وابن الهيثم وغيرهم. ولنكتب مثال كتابَ((ابن سنان)) حيث يتجاوز فيه جَدَّهُ ثَابِتَ بنَ قُرَّةٍ قبل أن يتجاوز -هو نفسه- ابنُ الهيثم. ففي هذا الكتاب يدرس ابن سنان رياضياً خصَائصَ السَاعات الشمسيّة9 قصد توضيح طريقة اشتغالها وتَجْوِيدِ نَتَائِجِهَا، فلقد كان يسعى إذن إلى إنجاز تطبيقيّ، وبالفعل فإنّه يمكن القول إنّه استخلص من هذه الدراسة الرياضية (( دَليلاً لِصِنَاعَةِ السَّاعَةِ الشَّمْسِيَّةِ)) فهو يقول إنه يدرس طريقة رسم خطوط الساعات لا على السطوح المُسَطَّحَةِ فَحَسْبُ، بَلْ وَعَلَى السطوح المُقَعّرَةِ والسطوح المُحَدَّبَةِ أيضاً. ولقد واصل الدراسةَ مشيرا إلى أنه تناول نفسَ النتائج التي حَقّقّها مِنْ قَبْلُ لكن بلغةٍ أُخْرَى، أَيْ أَنّهُ بَسَطَهَا وَقدَّمَهَا في كتاب آخر مُوَجَّهٍ إلى الحِرَفِيِّ صَانِع السَّاعَةِ الشَّمْسِيَّةِ.
إنّ المسارَ الذي قاد ابن سنان إلى البحث الرياضيّ التطبيقيّ إلى علم الفلك ثم إلى إعداد (( دليل صناعة السّاعات الشمسيّة)) مسارٌ طويلٌ، بدأ بإنشاء نَظَريَّةِ السّاعات الشمسيّة المُسَطَّحَةِ. فَفِي الفَصلِ الأوَّل مِن الكتاب يدرس ابن سنان الخطوط التي يرسمها ظِلُّ نِهَايَةِ عَمُودٍ قَائِمٍ على السَّطْح الأفقي للساعة، وهي دراسة عَامَّةٌ حَدَّدَ فيها ابنُ سنان المقاييسَ المُتَحكّمَةَ في شكل الخَطِّ أَيْ عُلُوَّ المَكَانِ وَآنْحِدَارَ الشّمس في النَّهَارِ المَقْصُودِ. وفي الفصل الثاني درس طول ظِلّ المِزْوَلِ10 على سطح السّاعة الأفقيّ كما درس فيه أيضا التَّغَيّرَاتِ التي تطرأ على طول الظلّ تَبَعًا لِعُلُوّ الشّمس فوق الأفق، وابن سنان بهذه الطريقة يعتمد منهجاً في التفكير ذَا طَبِيعَةٍ دَالِيَّةٍ11 ولاَ نِهَائيّةٍ التَّصَاغِرُ12 في الوقت نفسه. وفي الفصل الثالث اهتَمَّ بالسّاعات الشمسيّة ذاتِ السَّطْحِ المُوَازِي لخطّ الاستواء، أمّا في الفصل اللاّحق فَيُحَدّدُ إحْدَاثِيّاتِ الشّمس الأفقِيّةَ بالنّسبة إلى عُلُوٍّ مُحَدَّدٍ ثم يعتني بتحديدِ آخِرِ نُقْطَةٍ فِي ظِلّ الِمزْوَلِ وتَحْدِيدِ المُسْتَوَيَات التي نُقِيمُ حَسْبَهَا السَّاَعَة الشَّمْسِيّةَ وبطريقة إقامتها إلى آخر ذلك.
فدراسة ابن سنان هي من الدّراسات ذات المستوى الرياضيّ الرفيع، التي شغل بال مؤلفها دائماً التطبيق التقني وهي من الدراسات التي لم يُسبق إليها تاريخياً.
وإذا كان كتاب ثابت بن قُرَّة جَدّ ابْنِ سنان قد حَقَّقَهُ وَتَرجَمَهُ م. ريجيس موريلون M. Régis Morelon فإنّ كتاب ابن سنان الذي وصل إلينا في نسخة وَحِيدَةٍ وَمَنْقُوصَةٍ مَعَ الأسف، وكَذَلِكَ رِسَالَةَ ابن الهيثم الهَامَّةَ، قَدْ تَمَّ تَحِقْيقُهُمَا وتَرْجَمَتُهُمَا للمرّة الأولى في الأيّام الأخير وَهُمَا الآن تحت الطبع.
وتنتمي إلى علم الحيل13 (علم الطرق الابداعية والميكانيكية) مَوَادّ علميّةُ أُخرى ضَرُورِيةٌ هِي أيضا لمعرفة كوكب الأرض،يَكْفِي أن نذكر منها، بسَبَبِ ضِيقِ الوَقْتِ ولِلتَّذْكيرِ فَحَسْبُ، عِلْمُ ((الجيوديزيا)) Géodésie وَعِلْمٍ (( رسم الخرائط)). فمنذ القرن الحدي عشر الميلادي شَهِدَتْ كُلٌّ مِنْ هاتين المادّتين العلميتين تجديداً حقيقياً بفضل إنشاء علاقاتٍ جديدةٍ بين علم الفلك القائم على الملاحظة من ناحية، وعلم الفلك الرِيّاضيّ من ناحية أخرى. إنّ هذاَ التمازجَ المتين بين هاتين المادّتَينْ هو الذي منح علم الفلك العربي أصالته وَمَيّزَهُ عَنْ عِلْمِ الفلك الإغريقيّ رغم أنه وريثه الشرعي.
لقد طَوَّر فَلَكِيّو المأمون عِلْمَ (( الجيوديزيا)) في اتّجاهين أساسيّين، ظَلَّ ظل يَسْلُكُهُمَا حتى القرن الثامن عشر الميلادي. فقد تطوّر علم (( الجيوديزيا)) في اتجاه أول يَتَعَلّقُ بشكل الأرض وقياسها إن كُلّيّاً أوَ جُزْئِيّا وَبَحَسبِ قَيَاسِ خَطّ نصف النّهار أيضاً. وتحقيقاً لهدا الغرض انتظمت في عهد المأمون رَحَلاَتٌ إلى صحاري بلاد الشَّام للوقوف على بعض الملاحظات وَرَفْعِ بَعْضِ القِيَاسَاتِ. فهو يقيم علاقات مَتِينَةً مَع عِلم الفلك. أمّا الاتجاه الثاني الذي شهد فيه عِلّمُ (( الجيوديزيا)) تَطَوّرًا فيتعلّق بتحديد مواقِعِ النِقّاطِ المتميّزَةِ على سطح الأرض. وَلَعلَّ العَدَدَ الوَفِيرَ للزّيجاتZijs وكذلك عَدَدَ الكُتُبِ حَيْثُ تُبسْطُ الإحْدَاثِيّاتِ14 الجغرافيّة لمختلف النواحي يقوم شاهدا على ضخامة ما أُنْجِزَ من عمل. فمن الزّيج الممتحن وزيَج الألخاني مُرُورًا بزيج السنجاني والوصولاَ الى الزيج الشامل وأُذَكّر بأنّه لم يَتُمَّ تَحْقِيقُ أيّ زِيجٍ منْ هَذِه الزِّيَجِ جَمِيعاً بل حتّى فهرستها فهرسة علميّة وكذلك الشأن فِي كُلِّ الكِتَابَاِت الأخرى التي اعتنت وَلَوْ جُزْئيَّاً على الأقل بتحديد الإحداثِيّاتِ الجغرافيّة.
أما المادّة العلميّة الأخيرة التي أوَدُّ أنْ أشُيرَ إليها وَتعْتَبُرِ هي أيضا مادَّةً أسَاسِيَّةٌ لمعرفة الأرض، فهي عِلْمُ رَسْمِ الخَرَاِئط وهي مادّة لها علاقة بعلم إسقاط الكرة وَمَرَّهً أخرى يمكن أن نقول إنّ تاريخ هذه المادة في المدّة المُمْتَدَّةِ مِنَ التاسع إلى السادس عشر الميلاديين مازال لَمْ يُكْتَبْ بَعْدَ، وذلك دون اعتبار الأجزاء الخَمْسَة Monumenta cartographica Africa Aegypti ((ليوسف كمال)) ونحن لا نقصد هنا التَّغَافُلَ عَنْ هذا النقْصِ، لكننا نريد الإشارة إلى مرحلة حاسمة من مراحل تَطَوُّرِ هَذِه المادَّة مع (( أبي الريحان البَيْرُونيّ)) فالبَيْرُونيّ في كتابه (( تسطيح الصور)) يُذَكِّرُ بجغرافية بطلميوس (( وكذلك بطريقة)) مارينوس دوتير Marinus de Tyr (القرن الأول الميلادي) في رسم الخرائط كَمَا نَقَلَهَا ((بطلميوس)). وَيَنْقُدُ البَيْرُونيّ هذه الطرق كما يَنْقُدُ طُرُقَ تطبيقها مِنْ قِبَلِ فَلَكِيِّ الإسْلام، مِثْلِ البتّاني والبَيْرُونيّ يَعْرفُ جَيّدًا أنّ هذه الطُّرُقَ تُؤَدّي إلى رسم خرائط تحترم فعلا المسافات في كل خطوطّ الطول، لكنها لا تحترم المسافات في كلّ الخطوط الموازية لخط الاستواء، ففي خريطة مارينوس تضيق هذه المسافات جنوب (( (جزيرة) رودس)) Rhodes، وتَتَّسِعُ في شمالها. ثُمَّ يُذَكِرُ البَيْرُونيّ باسهامات سابقية وبالانتقادات التي وَجَّهُوهَا إلى هذه الطرق لاسيما انتقادات البتّاني. والعلماء المذكورون ليسوا أقل قِيمَةٍ من السِّجْزيّ وابن عراق والخجنديّ وكثير مِمَّنْ يَنْضَافُ إليهم، وآنطلاقا من أعمال هؤلاء يُحَدّدُ البَيْرُونيّ هدفًا جديدًا فهو يقول إنّه قَرَّرَ:
((تَأسِيسَ المبادِئ التي بها نَتَوَصَّلُ إلى رسم خارطة تُمَثّلُ مَا يَحْويهِ كَوْكَبُ السَّمَاءِ مِن نجوم وَصُور، وَمَا يَحْويهِ كَوْكَبُ الأرضِ مِنْ بَلْدَانِ وَجِبَال وَبحَار وأنْهَارٍ وَغَيْرِ ذَلكَ، حتىّ يَسْتَطِيعَ المُهْتَمُّ بهَذا الموضوعِ أن يَعْتَمِدَ عَلَيْها فلا يلتفت إلى شيء غيرها)). |
لَقَدَ عبّر البَيْرُونيّ عن مشروعه بغاية الوضوح، إنّه يَقْصُدُ إلىَ تأسْيسِ عِلْمِ رَسْمِ الخرائط على أسس متينة كَانَتْ تَنْقُصُهُ مِن قَبْلُ وَهكَذَا يَتَبَيَّنُ أن البَيْرُونيّ إنّما يريد أن يَدْخُلَ في طَوْرِ جَديدٍ من أطوار علم رسم الخرائط، وبالفعل،فهو يدرس في كتابه الصغير مَا لاَ يَقِلُّ عن ثمانية تَصَوَّرَاتٍ لرسم الخرائط، ولن أتوَقَّفَ عِنْدَهَا ولكنّي سأتحدث عن مشكل رسم الخرائط كَمَا بَسَطَهُ البَيْرُونيّ.
إن التسطيح المجسمي كما استعمله ((بطلميوس)) وَجَوّدَهُ بصَرَامَة أكبرَ أسلافُ البَيروني مثلُ القوهيّ والصاغانيّ وابن عراق يَكْمُنُ فِيه عيبٌ يَتَمَثّل في تقليص المسافات الواقعة على المركز الخارطة تقليصاً كبيراً، مِمَّا يَنْتُجُ عَنْهُ تَصْغيرٌ في المساحات، في حين أنّ الأجزاء المحاذية لجوانب الخارطة تحتفظ تقريبا بمَقَاسَاتِهَا الحقِيقيّةِ. وعلى العكس من ذلك فإنّ الاسقاط المتعامد الذي تَصَورّه الكنديّ أو المَرْوَرُوذيّ فلكيُّ الخليفة المأمون يحترم تقريبا المسافات في مركز الخارطة لكنه يُقَلّصُ بصفة خاصة الأجزاء المحاذية لجوانب الخارطة. إنّ مشكل علم رسم الخرائط الذي يبسطه البَيْرِونيّ يتمثّل في استنباط طريقة تضمن أن تكون اسقاطات نُقَطِ كَوْكَبِ الأرض المتساوية الأبعاد متساوية الأبعاد. لقد فَكّر(( البيروني)) في إسقاط نصف كرة على دائرة يُمَثّلُ أَحَدُ أقْطَارِها (ج قطر الدائرة) العَمُودِيّةِ خَطَّ الطُول المركزيَّ ويُمَثّلِ قُطْرَ آخَرُ خَطُ الاسْتِوَاءِ. وَيُمَثّل بَعْدَ ذَلِكَ خُطُوطُ الطُّول مُتَسَاويَةُ التباعد بأقواس تَمُرُّ بالقطبين مَعًا، وكذلك تَمُرّ بنقاط تُقَسّمُ خَطّ الاسْتِوَاءِ إلى أجزاءَ متساويةٍ، وأمّا المتوازيات فَسَتُمَثَّلُ بأقواس دائريةِ أخرى تَمُرُّ بنقاط تُقَسّمُ خَطَّ الطول المتوسط إلى أجزاء متساوية، كما تَمُرَّ بالمتوازيات المتطرفة. وبالفعل فإنّ هذا الإسقاط يقود إلى الحصول على خرائط أَفْضلَ، بما أنّ الانحراف في الجزء المركزي للخارطة يُصْبِحُ ضَعِيفًا مَعَ الاحْتِفَاظِ بنَفْسِ المَسَافَاتِ الواقعة حوله، وأمَّا المناطق الأكثر تمدّدا فتقع على الأطراف.
إنّ هذا الإسقاط الذي تَصَوَّره البَيْرُونِيّ والذي سمّي فيما بعد (( بالإسقاط الكروي)) سينسب إلى ج. ب نيكولوسي الصقلي (1660) J .B Nicolosi سَيُنْقَلُ ثَانِيَةً إلى فرنسا ثم يتبناه الإنجليزي أروسميث (1794) Arrowsmith الذي بأسمه. أمّا الرياضي الفرنسي لاهير La Hiré 3 (1701) فإنه يقدم رواية تختلف عن هذه اختلافاً ضئيلا.
ما انفك الإنسان من أجل أن يعمّق مَعْرِفَتَهُ بكوكب الأرض وَيُحَسّنَ إقامته عليه، وكذلك من أجل أن يسيطر على طرق أسفاره يَخْتَرعُ الوسائل الضّروريّة لذلك، وما الأدواتُ الرياضيّةُ إلاّ واحدةٌ مِنْهَا، وإنّ الأمثلة السابقة لَتُبرهن على أن تحسين الأدواتِ الرياضيّةِ عرف منطلقا جديداً وحاسماً منذ القرن التاسع الميلاد ويعود هذا الانطلاق الأساسي حسب رأيي-ولو جزئيّا- إلى قيام مفهومٍ جديد لعلاقات العلم بالعمل وعلاقات العلم بالفن. وليس من باب الصدفة أن تَعُودَ هَذِه الموادُّ العلميّةُ كلّها إلى صنف(( علم الحيل))،بل لعلنا نعثر في ذلك على أحد الأسباب التي تُفَسّرُ عَدَمَ انتباه مؤلفي الفهارس جَميعًا بمَنْ فِيهم مِنْ مؤلفي الفهارس المُعَاصِرِين أيضاً إلى هذه المواد العلميّة مُنْفَرِدَةَ. ويبدو لي أنّ سببا ثانياً وراء عدم الانتباه ذالك، وهو-حسب رأيي- التَّرفَّعُ عن إيلاءِ المَفَاهِيم النظريّة العناية الكافية، لذلك بَقَيَت هي نَفْسُها غَيْرَ محدّدة بالدّقة اللازمة. وبالفعل فقد لاحظنا أن لكل مادّة من هذه المواد العلميّة تقاليدَ في البحث أَصِيلةً يُمْكِنُ التَعُّرّفَ عليها بأعلامها وعناوينها وإشكاليّاتها، فابن الهيثم مثلا هو آخر حَلْقةٍ في سلسله من العلماء الرياضيين الذين أسهموا بنصيبهم في فن (( المساحة)) والقوهيّ هووريث تقاليدَ بَحْثِيه أوقفت جهدها على علم الاسقاطات وعلى الاسطرلابات، و(( إبراهيم ابن سينان)) وَاصَلَ مَا طَوَّرَهُ جَدَّه من أَشْغَالِ على السّاعات الشمسيّة أمّا البَيْرُونيّ فَيَذْكُرُ هُوَ نَفْسُهُ سابقيه ويُعَدّدُ كُتُبَهُم التي منها تَعَلَّمَ. ويمكن القول بأننا لَنْ نَعِيَ التَّطَوّرَ الذي حقّقته كلّ مادّة من هذه الموادّ العلميّة مَا لَمْ نَجْمَعِ المفاهيم النظريّة التي تعطيها معنى، ويتعيّن علينا، حتى نُدْرِكَ الفروق بين هذه المفاهيم النظريّة، أن نبدأ بجمع النصوص المتعلقة بها، ويجب أيضا أن نُعَمّقَ البحث في تاريخ هذه النصوص وفي صِحّةِ نِسْبَتِهَا وفِي نَسْخِهَا إلى أخر ذلك. أمّا إذا ما بقي تاريخُ المفاهيم معزولاً عن تاريخ النصوص فإنّ هذا الأخيرَ يبقى غامضاً ما لم يُوَضّحْهُ تَارِيخُ المَفَاهِيم وهكذا يَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا إذَنْ أّنْ نُعِدَّ مُسْتْقبلاً (( مفهرسي تراث)) العلوم في الإسلام ومؤرّخي العلوم إعْدَاًدا مِنْ نَوعِ أخَرَ مُخَتلِفاً تَمَام المخالفة لما هو عليه الآن.
إنّ الأمثلة السابقَة الذّكْرِ تُوقِفُنَا بصفة ملموسة على مدى قِلَّةِ العِنَايَةِ المُخَصَّصَةِ للمخطوطات العربية ولتحقيق النصوص وكذلك لتاريخ العلوم في الإسلام، ونحن في هذا المجال بالذات مازلنا على الشاطئ، وأما المحيط فَيَبقَي عَلَيْنَا اكْتِشَافُهُ هَذِه الحالة لا تَضُرُّ بمعرفة الثقافة الإسلامية التي تمثّل فيها العلوم بُعْدًا أَسَاسِيًّا فَحَسْبُ، وإنّما تؤثر بطريقه غير مباشرة في تاريخ الثقافة العلمية في عمومها، وإنّ مسؤولية سَدِّ هذه الثغرةِ تقع علينا جميعاً وبالأخصّ وعلى البلدان الناطقة باللغة العربية وباللّغة الفارسية، وهذه الملاحظة التي أريدها متفائلة هي استنتاجي الأخير.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: علوم الأرض في المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الخامس لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي– 24-25 نوفمبر 1999 – النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 7-30. ترجمةُ الفرنسّية السيّد بن محمد العِلاّني ( القيروان). يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |