إبراهيم البيومي غانم
سلكا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون- وأشرنا إليها فيما سلف- بحثاً عن موقع العمل الخيري من هذه المقاصد، ووجدنا أن «العمل الخيري» مقصداً عاماً وثابتاً من مقاصدها، وأن له في ذاته مقاصد أخرى؛ بعضها يهدف إلى خدمة مقاصد عامة من مقاصد الشريعة مثل مقصد الحرية كما سنرى، وبعضها يهدف إلى خدمة مقاصد فرعية ومتغيرة بتغير ظروف الزمان والمكان وأحوال المجتمعات.
فالعمل الخيري مقصد عام من مقاصد الشريعة)1؛ وذلك بدلالة كثرة الأمر به والحض عليه ومدح فاعليه، والتحذير من مناوئيه في كثير من آيات الكتاب العزيز، وأحاديث النبي الكريم ﷺ وقد ورد لفظ الخير 180 مرة في القرآن الكريم. وورد لفظ «أخبار»، و«خيرات»، و«خيرة» 8 مرات في سياقات متنوعة تربط «الخير» بجوانب أساسية من الحياة المدنية التي يعيشها الناس، كما ورد في بعض الحالات ضمن سياقات (أقل عدداً) تربطه بالحياة الآخرة.
من الآيات القرآنية التي تحض على فعل الخير: قوله تعالى ﴿وَافْعَلُوا الْخًيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحج: 77]، وقوله تعالى:﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾[آل عمران: 115]. |
ومن الآيات التي تأمر بالدعوة للخير قوله تعالى:﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةُ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾[آل عمران: 104]، وقال الرسول ﷺ «من دل على خير فله مثل أجر فاعله». |
ومن الآيات التي تحت على المسارعة في عمل الخير قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 48]. |
ومن الآيات التي تثني على الذين يسارعون بعمل الخيرات قوله تعالى في وصف بعض مؤمني أهل الكتاب: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْممُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فيِ الْخَيْرَاتِ﴾ [آل عمران: 114]، وفي وصف أهل الخشية من ربهم: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فيِ الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 61]. |
أما عن السياقات التي ورد فيها ذكر الخير، فمنها ما ورد في القرآن عند الحديث عن العلم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ [الصف: 11]. ومنها ما ورد عند الحديث عن العمل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره﴾ [الزلزلة: 7]. وورد في سياق الحديث عن الكفاءة والمقدرة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إن خير من استأجرت القوي الأمين﴾[القصص: 26]. وفي سياق الحديث عن العدالة جاء قوله تعالى: ﴿وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلكم خير وأحسن تأويلاً﴾[الإسراء: 35]. وللحض على المنافسة والسبق في الأعمال المفيدة قال تعالى: ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ [البقرة: 148]، وقوله:﴿ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله﴾ [فاطر: 6]. وقال رسول الله ﷺ «سبق درهم مائة ألف درهم»، قالوا: وكيف؟ قال: «كان لرجل درهمان، تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها». وفي سياق الحديث عن الإنفاق قال تعالى: ﴿وما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين﴾[البقرة: 21]. وثمة مواضع أخرى كثيرة، علمنا من اطراد ورود الأمر بعمل الخير فيها، والحض عليه، والثناء على من يقومون به، أن «العمل الخيري» مقصداً عامًا- وثابتاً - من مقاصد الشريعة الغراء.
وفي الفلسفة الإسلامية أيضاً نجد أن الفلاسفة والحكماء قد أدركوا هذا المعنى الواسع لمفهوم الخير. ومن ذلك قول ابن سينا الذي أوردناه، وفيه يؤكد على أن «الخير هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده».
ونحن نلاحظ أن عمل الخير يطرح في النفس الارتياح والطمأنينة، ويطرح في المجتمع الاستقرار والسكينة، ويجعله مهيأ لعيشة هنيئة، ولحياة أفضل، ويجعله مكاناً يسمح للناس بالإبداع والابتكار، والقيام بالمبادرات التي تستهدف تحسين نوعية الحياة والتغلب على مشكلاتها، والإسهام في سعادة أهلها.
تنظر الفلسفة الإسلامية إلى العمل الخيري نظرة عميقة إذ تربطه بمفهوم الحرية؛ فالعمل الخيري عندما كون عطاءً بلا مقابل مادي هو تحرير للنفس إما من قيد الأثرة وحب التملك، أو من قيود الآثام واجتراح الخطايا، أو من قيد الكبر واستعلاء النفس على الآخرين ممن يشاركونها الانتماء إلى أصل واحد «كلكم لآدم ودم من تراب».
في مقابل الفلسفة الإسلامية، نجد أن الفلاسفة الأنوار في عصر النهضة من أمثال: توماس هوبز، وجون لوك، وبنثام، وغيرهم، لا يتحدثون عن مفهوم «الخير»، ولا عن مفهوم «الخير العام»؛ لأن جل اهتمامهم كان منصباً على «اللذة»، و«المنفعة» الفردية، وكل شيء يجب أن يقاس بحاجة الفرد أولاً وقبل كل شيء. يقول موريس كرانستون «ليس لفكرة الخير العام أي مكان عند المفكرين السياسيين من أصحاب النزعة الفردية كهوبز ولوك وبنثام؛ لأن كل قضية يجب أن تقاس بحاجة الفرد»2)(. ومرجعية قياس الخير والشر هو ذات الإنسان وتقديره للمنفعة التي تعود عليه في إطار عام من تبادل المنافع والمصالح الفردية)3.
ويتعارض منطق العطاء بلا مقابل مع منطق السوق والكفاءة الاقتصادية في الرؤية الرأسمالية الحديثة عموماً. ولكن التجربة الإسلامية تؤكد أن المنفعة ليست فقط حصيلة مبادلات مادية بين الأفراد والجماعات، وإنما يمكن أن تكون هذه المنفعة حصيلة فعل خيري بدون مقابل مادي. وهذه الممارسة تتطلب بطبيعة الحال الإيمان العميق بعمل الخير، كما تتطلب إدراك المضمون الواسع لمفهوم العمل الخيري الإسلامي؛ الذي يبدأ بأقل الأشياء «شق تمرة» كما في حديث للرسول ﷺ، ويصل إلى كل ما يملكه الفرد من أموال.
نعود فنؤكد على ما خلصنا إليه وهو أن: «العمل الخيري» مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، بدلالة تواتر الأمر به والحض عليه في آيات الكتاب العزيز، وفي أحاديث النبي ﷺ وهو ليس فقط مقصداً عاماً وثابتًا من مقاصد الشريعة، وإنما له أيضًا مقاصد أخرى؛ بعضها يخدم مقاصد عامة وثابتة، وبعضها يخدم مقاصد فرعية ومتغيرة.
مقاصد العمل الخيري
العمل الخيري مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، وله في ذاته خمسة مقاصد هي: الحرية، والتمدين، والسلم الأهلي، ومحاربة الفقر، والإسهام في بناء المجال العام)4(. إن «مقاصد العمل الخيري» التي نتحدث عنها هنا هي التي تنقل «العمل الخيري» من حيز التشريع - باعتبار مقصداً عاما وثابتاً من مقاصد الشريعة - إلي حيز المشروعات. أو هي التي تنقل مقصد العمل الخيري من حيز الأفكار إلى حيز المؤسسات والممارسات، أومن حيز النظرية إلي حيز الفعل والتطبيق. ويجب أن نكف عن تكرار المقاصد ومنها مقصد العمل الخيري فقط من منطلق الحيز الأول، ونغض الطرف عن الحيز الثاني؛ فبدون الحيز الثاني ومتابعة انتقال المقصد إلي فلا قيمة له، وسيكون قطعة محفوظات لا تغني ولا تسمن من جوع.
علينا أن نجتهد في معرفة ما الذي يحدث حين ينتقل المقصد المشروع إلي تشريع في القانون، أو في الأعراف والقيم، وفي السلوكيات، وفي المؤسسات، وفي جهات المحاسبة والرقابة والتدقيق، كيف ينتقل؟ وما هي الآليات التي تضمن انتقاله من الحيز التجريد، إلي حيز الحياة حيث تنداج الأعمال وتتداخل المصالح، وحيث تمتلئ بالمشكلات والتحديات التي يجب أن ينخرط فيها المتخصصون في كل نوع من العلم، وفي كل مجال من مجالات المعرفة، للبحث عن بدائل لحلها والتغلب عليها.
ذلك هو التحدي الرئيسي، ولا أزعم أنني أقدم فيه شيئا كبيراً - الآن - ولكن أدرك تمام الإدراك أن هذه المسألة مهمة، ويجب أن نجتهد في البحث والتفكير في كيف ننقل المقاصد من حيز النظرية إلى حيز التطبيق؟. ولا يُفهم من كلامي هذا أبدا أنني أقول إن الذين سيدرسون ذلك سيكونون مشاركين في صنع واتخاذ القرارات، أو في تحمل المسؤولية والسلطة. فالمطلوب من جماعة العلوم الاجتماعية والشرعية أن يكونوا على مستوى إنتاج المعرفة المفيدة، وهذه المعرفة يجب أن تنتشر في المجتمع بأدوات نشر العلم والمعرفة المطبقة في كل المجتمعات المعاصرة؛ بما في ذلك أدوات نشرها ونقلها لصناع القرار.
وإليك فيما يلي بعض التفصيل لكل مقصد من المقاصد الخمسة للعمل الخيري التي اجتهدنا في استنباطها، وبيان صلة كل منها بالعمل الخيري ذاته باعتباره مقصداً عامًا، وبيان صلة العمل الخيري بمقاصده هو ذاته.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد الشريعة الإسلامية في العمل الخيري: رؤية حضارية مقارنة، 2016، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 34-43 . يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |