مقارنات بين العمل الخيري في الحضارتين الإسلامية والغربية

شارك:

 إبراهيم البيومي غانم

ما من حضارة إنسانية إلا ولها في العمل الخيري «فلسفة نظرية» و«إنجازات عملية» تصدق فلسفتها. ينطبق ذلك بدرجات متفاوتة على جميع الحضارات التي عرفتها البشرية باستثناء واحد فقط-كما أسلفنا-هو «الحضارة الغربية الحديثة»؛ فهذه الحضارة عرفت فقط نماذج تطبيقية متعددة ومتطورة للعمل الخيري دون أن تكون لها «رؤية فلسفية» عن مفهوم «الخير»، أو «الخير العام» الذي يقوم به الإنسان لينفع به غيره دون أن ينتظر جزاءً ماديًا1.

 وقد بات «العمل الخيري»، أو «التطوعي»، أو «غير الربحي» في الخبرة الغربية يشكل أحد المكونات الرئيسية للمجتمع المدني؛ سواء فهمنا المجتمع المدني على أنه مجموعة من المؤسسات والأنشطة غير الحكومية، وغير الهادفة للربح، والتي تعمل في المجال العام وتشكلب قطاعاً متميزاً يطلق عليه البعض أحياناً اسم «القطاع الثالث» أو«القطاع غير الحكومي»، أو فهمنا المجتمع المدني على أنه مجموعة من المبادئ والأخلاقيات التي يتسم بها المجتمع في مجمله. إلا إن العمل الخيري في الخبرة الغربية الحديثة لا يستند إلى نظرية فلسفية تحض عليه وتدعو إلى المبادرة به من أجل خير فاعله وخير المستفدين منه على السواء؛ بينما نجد عكس ذلك في الخبرة الحضارية الإسلامية. وفيما يلي بعض المقارنات بين العمل الخيري في الخبرة الحضارية الإسلامية، والخبرة الحضارية الغربية.

 فلسفة الخير ومقاصده

ينبع مفهوم «الخير» من أصول الرؤية الإسلامية للعالم. وتشكل النزعة الخيرية ركناً من أركان بناء الوعي الإسلامي للذات الإنسانية، وتوفر أساساً من أسس تكوين الذات الفردية والجماعية في الخبرة الحضارية الإسلامية. فالخير مقصد عام وثابت للشريعة، وله مقاصد أخرى على نحو ما أوضحنا فيما سبق. وتتضمن الأصول الإسلامية (القرآن والسنة) نظرية متكاملة للخير وتطبيقاته وأبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية؛ الفردية والجماعية2.

أما في فلسفة الحضارة الغربية الحديثة فلا يوجد بها ما يحضعلى المبادرة بعمل الخير ولم تظهر نزعة العمل الخيري المجرد منالمنفعة المادية للمتبرع في الأفكار الفلسفية الكبرى المؤسسة للحضارة الغربية. ففلاسفة الأنوار والنزعة الفردية من أمثال هوبز، ولوك، وبنتام، وغيرهم لم يتحدثوا- كما سبق أن أشرنا- عن مفهوم الخير العام في كتاباتهم؛ وكان جل تركيزهم على «النزعة الفردية» ومصلحة الفرد»؛ فكل شيء عندهم يقاس بحاجة الفرد ومصلحته المادية في المقام الأول والأخير. ويؤكد مارسيل موس في بحث له بعنوان Essai Sur Le Don  (بحث في  الهبة) أن حضارة الغرب لا تمتلك مفهوماً مستقلاً للعمل الخيري في ظل هيمنة الجانب الاقتصادي والفلسفة الرأسمالية على روحها. ولهذا لا يمكن فهم مؤسسات العمل التطوعي أو غير الهادف إلى الربح في البلدان الغربية (أوربا وأمريكا) بعيداً عن قوانين الضرائب، حتى إنهم يطلقون عليه اسم «القطاع المعفي من الضرائب»؛ في إشارة صريحة إلى أن «الإعفاء الضريبي» هو أهم دافع للمبادرات الخيرية للصالح العام، وليس الصالح العام بحد ذاته هو ما يحرك نزعة التبرع بعمل الخير؛ باستثناء الأعمال الخيرية ذات الوازع الديني.

«الخير المشترك» أو «العام» في الفلسفة الغربية الحديثة هو منفعة تحدث للمجتمع ككل متكامل، أما خير الجميع فهو منفعة تحدث لكل أعضاء المجتمع منفردين. النظرية النفعية عند «بنتام» مثلاً تقول إن خير كل فرد يقاس بمقدار المصلحة المتحققة لهذا الفرد، ولاختلاف الأفراد ستختلف مصالحهم. ويحاول عمانويل كانت-دون جدوى- أن يحل هذه المعضلة بقوله إن «الخير العام هو الذي ينسب إلى الطبيعة البشرية ككل»، وبالتالي فإن الخير الذي يستثني من المتمتعين به ولو فرداً واحداً لا يعد خيراً عاما»، وهو يعود بذلك إلى نقطة البداية وهي أن «الخير» هو النفع المتحقق لكل شخص منفرداً3. وهذا يختلف عن المفهوم الإسلامي للخير والعمل الخيري على نحو ما سبق أن أوضحناه، ونزيد هنا أن الفلاسفة المسلمون نظروا إلى مفهوم «الحقيقة» على أنه جزء من مفهوم الخير، وربطوا بين الباطل ومفهوم الشر4؛ معتبرين أن الشر ينتج الباطل، والباطل ينتج الظلم، والظلم مؤدن بالخراب.

 ولكن الغياب شبه التام لفلسفة «الخير» عن الحضارة الغربية الحديثة؛ لم يمنع ظهور المبادرات التطوعية (الخيرية)، والسبب الرئيسي هو أن تركيز الثروة حسب قوانين السوق في النظام الرأسمالي؛ يؤدي إلى طرد أعداد كبيرة خارج السوق، ومن ثم إحداث خلل في الدورة الاقتصادية (الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار والإنتاج ... وهكذا)، والمبادرة بعمل خيري يهدف إلى الإسهام في معالجة هذا الخلل أمر مفيد لأصحاب رؤوس الأموال، فضلاً عن أنه مفيد للاقتصاد الكلي؛ لأن من شأنه أن يدعم القوة الشرائية، وأن يستوعب من استبعدتهم قوانين السوق، أو أغلبهم بطريقة أو بأخرى، ويعيدهم إلى ميدان العمل والاستهلاك. ولتشجيع المبادرات الخيرية التي تحقق هذه الأهداف عمدت أغلبية البلدان الأوربية والأمريكية إلى تقديم حوافز ضريبية لأصحاب رؤوس الأموال لقاء ما يقدمونه من تبرعات. صحيح أن دوافع هذه المبادرات الخيرية مادية في أغلبها، وتهدف إلى التمتع بالإعفاءات الضريبية، إلا أن مقاصدها وأهدافها تصب في مصلحة المجتمع والدولة، وتسهم في رفاهية الأفراد والجماعات داخل الدولة أيضاً، وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت ميلاً متزايداً للمنظمات غير الحكومية نحو توسيع نشاطها خارج حدودها الوطنية.

وتوضح قوانين العمل الخيري والمنظمات غير حكومية في البلدان الغربية، أن مقاصد هذا العمل تتمثل بشكل رئيسي في: السعي للتخفيف من الفقر، ودعم التعليم والتربية بتطوير مقرراته، وتقريب الفوارق بين الطبقات، ومساعدة البالغين للحصول على التعليم العالي، والاهتمام بالعمل وتوفير فرص جديدة أمام الداخلين الجدد لسوق العمل، وخدمة الدين والجوانب الروحية، وإعانة الفئات المحرومة وذوي الحاجات الخاصة: بتقديم سكن آمن، وخدمات اجتماعية للأسر المحرومة، وإتاحة فرص مبكرة لتعليم الأطفال، والاهتمام بشؤون البيئة، والحيوان، ودعم حقوق الإنسان، والأقليات، والمرأة، والإسهام في مقاومة الأوبئة الفتاكة، والدعوة لتحسين الخدمات الصحية، وتيسير الوصول إليها، وإلى الدواء، وتطوير وسائل جديدة للوقاية من الأمراض ومقاومتها، وبخاصة في البلدان الفقيرة5.

خبرة الحضارة الإسلاميةخبرة الحضارة الغربية الحديثة
-الخير مقصود لذاته، وهو مقصد عام وثابت للشريعة. وله وظائف اجتماعية. -له مقاصد اجتماعية متعددة منها: الحرية–التمدين – دعم السلم الأهلي –محاربة الفقر–الإسهام في بناء المجال العام. توفير التعليم مجاناً – دعم المؤسسات الدينية- رعاية اجتماعية – البيئة – الحيوان- الطيور- الصحة والعلاج – مياه الشرب-حماية الأسرة – الترفيه والثقافة العامة.-الخير مقصود لتحقيق منفعة مادية، وله دور وظيفي في النظام الرأسمالي. وله أهداف متنوعة: محاربة الفقر - دعم التعليم – توفير الخدمات الدينية والروحية - مقاومة الأمراض والأوبئة - الدفاع عن حقوق الإنسان - حماية البيئة - إعانات لذوي الاحتياجات الخاصة –الثقافة العامة والترفيه.
- يسهم العمل الخيري في بناء مجال مشترك بين المجتمع والدولة، ويقويمها معاً. -المنفعة يحققها العمل الخيري.     -ازدهر في الماضي، وأصابه الضعف في ظل هيمنة الدولة الوطنية الحديثة.-يسهم في تحقيق قدر من التوازن بين المجتمع والدولة، وبين الطبقات الاجتماعية. - المنفعة تحققها المنافسة، ويعالج العمل الخيري الآثار السلبية للمنافسة.   - تطور مع اشتداد أزمة الدولة الرأسمالية، وخاصة منذ الحرب  العالمية الثانية، وتراجع دولة الرفاه الاجتماعي.
 مقارنة بين فلسفة الخير ومقاصده بين (الحضارة الإسلامية، والحضارة الغربية الحديثة)


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الشريعة الإسلامية في العمل الخيري: رؤية حضارية مقارنة، 2016، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 81-88 .

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

حقوق الإنسان في التكافل الاجتماعي

محمد عمارة محتويات المقال:عدالة الاستخلافعدالة الوسطية المتوازنةالتكافل الاجتماعيبين التكافل والمساواةفرائض ... وليست مجرد حقوق- صندوق التنمية بالرّكاز- صندوق الزكاة العامة- الوقف- تحريم استثمار المال الإسلامي خارج ديار ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

اتفاقيّة منظّمة التّجارة العالميّة في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

عبد الرحمن يسري أحمد: أستاذ الاقتصاد والاقتصاد الإسلامي، قسم الاقتصاد- كلية التجارة- جامعة الإسكندرية محتويات المقال:مقدمة ضرورية عن مقاصد الشريعة، ومدخل مقترح لهذا البحثمقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الأموال والمعامل...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة ومؤتمرات السّكان: تحليل موقف الإسلام من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة - 1979

أحمد أبو الوفا: أستاذ القانون الدولي العام- كلية الحقوق- جامعة القاهرة محتويات المقال:أولًا: مقدمة عامةثانيًا: الأصل في الإسلام هو عدم الارتباط بأي ميثاق دولي يتعارض مع القواعد الإسلامية العليا _القواعد الدولية الآمرة في...

مقالات عن مقاصد الشريعة الإسلامية
إقرأ المزيد

العمل الخيري مقصد عام للشريعة الإسلامية

إبراهيم البيومي غانم سلكا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون- وأشرنا إليها فيما سلف- بحثاً عن موقع العمل الخيري من هذه المقاصد، ووجدنا أن «العمل الخيري» مقصداً عاماً وثابتاً من مقاصدها، وأن له في ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مدخل مقاصدي للتنمية

حسن جابر محتويات المقال:آيات التسخير وبؤس الاجتهادآيات الرّبا وانسداد باب الاجتهادفقه العمل والكدح والإنتاجالوسطية في الإنفاقغربة المقاصد الشرعيةالمعتقدات الإنسانية والتنميةالمراجع والمصادر استهلالاً، ينبغي توضيح العنوان...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد القرآن في مجتمع الخير العام

إبراهيم البيومي غانم إذا سلكنا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون بحثاً عن موقع «الخير» ومفهومه القرآني الذي سبق أن أوضحنا ملامحه العامة، سنجد أن «العمل الخيري» مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، وأ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الأموال في القرآن: رؤية تأسيسية

محمد أحمين: مراقب ومستشار شرعي في المصرفية الإسلامية. محتويات المقال:محاور البحثمنهج البحثالمبحث الأول: المقاصد العقدية للأموال في القرآنالمطلب الأول: مقاصد خلق الأموال في القرآنالمطلب الثاني: مقاصد التدبير الرباني للأمو...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تفعيل المقاصد في العمل الخيري

إبراهيم البيومي غانم: مستشار – المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. محتويات المقال:أو لًا: مجتمع الخير العام في القرآنثانيًا: مقاصد القرآن في مجتمع الخير العامثالثًا: تشريع الخير وبناء الخير العام1 – ((الحرية))2 – ...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top