مدخل مقاصدي للتنمية

شارك:

حسن جابر

محتويات المقال:
آيات التسخير وبؤس الاجتهاد
آيات الرّبا وانسداد باب الاجتهاد
فقه العمل والكدح والإنتاج
الوسطية في الإنفاق
غربة المقاصد الشرعية
المعتقدات الإنسانية والتنمية
المراجع والمصادر

استهلالاً، ينبغي توضيح العنوان الذي قد يثير الالتباس لجهة جدوى البحث عن البُعد التنموي لعلم المقاصد، طالما أنّ حاجة العالم الإسلامي إلى هذا البُعد هي من الضرورات العملية التي تنتظر المعالجات النظرية، والبحث في الضروريات يندرج في العادة في إطار الترف الفكري، لأنّه تحصيل للحاصل وتحصيل الحاصل في سيرة العقلاء، من الأعمال المبغوضة بل والعبثية، وهذا ما أشكل عليه الدكتور إبراهيم بدران في سياق ردّه على محاولة الدكتور حسن حنفي تأصيل التنمية من وجهة نظر الشرع1.

مع وجاهة ملاحظة الدكتور بدران، إلاّ أنّ زاوية غابت عن بال الباحث تمتلك قسطًا كبيرًا من الصحة، تستدعي من جانبنا المعالجة وهي وجود المحفِّز المعنوي والديني لمباشرة العمل التنموي بكافة أبعاده، ولا يخفي على المتابع، عمق تأثير هذين البُعدين في توليد الإرادة وتصليبها فضلاً عن الحرارة التي يولّدها البُعدان في نفوس المتلقين للخطاب الإلهي، وهذا ما لفت إليه المشتغلون بحقل النهضة الأوروبية المعاصرة، الذين أضاؤوا على ما أضفته البروتستانتية، بعد الحركة التصحيحية التي قادها كلّ من مارتن لوثر وكالفن، من قدسية على العمل والادخار والتي رأوا فيهما محرّكًا لإرادة معتنقي المذهب في مضاعفة الجهد وأداء الوظائف بحماس منقطع النظير.

ورغم مرور ما يزيد على القرنين من الزمن على النهضة الأوروبية، وبداية الوثبة التنموية الشاملة في تلك المنطقة الباردة من العالم، لم تظهر مؤشّرات جديّة لدى الأجيال المتعاقبة من الفقهاء والمسلمين لصياغة أو بالأحرى لاستنباط فقه خاص بالتنمية يكون مكمّلاً لأبواب الفقه الأخرى التي قتلها المشتغلون، بصناعة الاستنباط، بحثًا وتمحيصًا، حتّى باتت المؤلّفات المختصة بالفقه التقليدي تشكّل عبئًا على الباحث لكثرتها وقلّة عناصر الجِدّة فيها، فهي تتّسم بالتكرار والاستعادة المملّة لرؤى وتصوّرات أبدعها الجيل المؤسّس في القرون الأولى التي شهدت ولادة علم الفقه في العصرين العباسيين الأول والثاني. ففقه التنمية فضلاً عن كونه يضيء زوايا معتمة في الكيان التشريعي العام، فهو ضنين بخلق وعي ثقافي وديني بحقل، لم يعد كما يتوهّم البعض، مجالاً خارج المنظومة العامّة للفكر الإسلامي. والنأي عن قضايا العصر، لدى الفقهاء، لا يوحي بتوطّن الوعي خارج الزمن فحسب، بل يشي بعدم الإحساس بحجم التحدّي تواجهه المجتمعات الإسلامية إزاء التفاوت الهائل بالمنسوب الحضاري بين الشرق والغرب. ولدى تتّبعنا لمفردات الفقه المتوارث، تعترضنا أحكام لا تصبّ في مجرى تحفيز التنمية وإنّما قد تصنّف في خانة معوّقات النهوض، خصوصًا تلك التي تتعلّق بأحكام الربا والعلاقة بالمصارف والرؤية المجتزأة للاستثمار، إلى غير ذلك من الأحكام التي لا تسمح بحدوث تنمية فعلية.

فالتجديد الفقهي لا يطال الحقوق الجديدة التي تستدعيها القراءة المتجددة للنصوص القرآنية فحسب، وإنّما يطال بالمستوى عينه، الأحكام التي تقع عَرَضًا، في طريق العملية التنموية الشاملة والتي أوردها الفقهاء للاحتراز من الوقوع في المحذور.

بعبارة أخرى، لا تقف العملية التجديدية عند حدود الغايات والمقاصد، وإنّما تتعدّاها إلى الوسائل التي تساعد في الوصول إلى المرامي بأقل جهد ممكن.

والكلام عن التجديد يفترض مسبقًا الحديث عن المنهج الواجب اعتماده لنجاح المحاولة، لأنّ إصلاح البناء الفقهي العام لا يتم بحجارة منهجية قديمة لا تقوى على حمل العمارة الضخمة، والتي ثبت بالتجربة أنّها كانت قاصرة عن إحداث تحوّلات واسعة، فضلاً عن العجز في تقديم إجابات شافية على أسئلة معاصرة كثيرة ومعقّدة. والمعلوم أنّ ثمة طفرة في علم المناهج، غير مسبوقة، طالت كيفية تركيب الرؤية إلى جانب طرق قراءة النصوص وتأويلاتها، والتي لم يحسن الفقهاء طيلة القرن الماضي توظيفها والإفادة منها، ولذلك أخفق هؤلاء في إحداث كوّة في الجدار الفقهي المتداول، وما نراه أنّ طرق التفسير المعتمدة قديمًا لا تساعد في إنجاز المهمة الجديدة، وأنّ منطق الأمور يستلزم صياغة منهج جديد في قراءة القرآن الكريم لا يكتفي بالتفسير التجزيئي للآيات بل يتعداها ليس فقط إلى التفسير الموضوعي، الذي نظّر له السيّد محمد باقر الصدر، وإنّما إلى التفسير الكلي أو البنيوي، بمعنى استكناه الكليات الكبرى من الكتاب وشدّ بعضها إلى بعض في محاولة لصياغة رؤية كلية تسمح للفقيه بامتلاك منظومة معرفية وتشريعية متكاملة تؤهّله النظر في مختلف القضايا من زوايا مختلفة، خلافًا للمعهود من القراءات التي لا تعين الفقيه على النظر الشامل. فالتنمية التي نحن بصدد الحديث عنها لا يمكن الخوض فيها بمنأى عن رؤية الكون، والإنسان، وعمارة الأرض، والتسخير، والابتلاء، ومفاهيم الكرامة والعدالة والحرية، والاستثمار الفعلي لمختلف الاستعدادات والملكات والإمكانيات التي يمتلكها الإنسان.

تأسيسًا على ما تقدّم، يوفر القرآن الكريم، الذي لا ندّعي أنّ وظيفته الأساسية الإحلال محل الإنسان في توفير الوصفة الجاهزة لقضايا التنمية، لا بل ليس من الحكمة في شيء أن يتصدّى الكتاب العزيز لمسائل هي في طبيعتها سيّالة ومتحركة، والتي تندرج في إطار ما يعرف بـ «مقاصد السكوت2» أو «منطقة الفراغ»3 المتروكة طُرًّا للإنسان ليبدع فيها حلوله التي توائمه وتناسبه، ولا يخفي مدى التفاوت في استراتيجيات التنمية ووسائل تطبيقها بين منطقة وأخرى من العامل، فلا يعقل إزاء هذا الاختلاف استدعاء النمط نفسه والوسائل عينها لاختلاف الموارد من جهة وللتفاوت في المناخ فضلاً عن الحاجات التي قد ترتقي إلى مصافي الضرورة في مكان وتتدنّى إلى مستوى الكميات في مكان آخر. بناءً على ذلك لا تجوز المكابرة في إطلاق أحكام على القرآن الكريم أو على الدين نفسه والقول بأنّ ثمة وصفة جاهزة للتنمية تصلح لكل مكان وزمان، رغم المعرفة المسبقة بوجود الاختلاف. والمغالطة التي حاول البعض تركيبها، في هذا الشأن، منشؤها الخلط بين التشريعي والتدبيري الذي نبّه إلى فداحته بعض فقهاء القرن السابع الهجري4 إذًا، يوفّر القرآن الكريم المحفّزات التي تطلق ديناميتات قويّة في عقول وسواعد المؤمنين لتحقيق غرض أساسي ينسجم والغاية القصوى للكتاب العزيز وهي الهداية5، غير أنّ المؤمنين باستطاعتهم الإفادة من خطاب التحفيز هذا لإنجاز أشكال مختلفة من التنمية وإن بصورة عرضية.

فالبُعد التوحيدي والمحاصرة المكثفة لصور الشرك كانا يهيمنان في صورة مطلقة على الخطاب القرآني، والإشارات العلمية التي وردت في غير آية لم تكن مقصودة لذاتها وإنما لتقديم أمثلة لإظهار الإعجاز الإلهي، ولا يخفي البُعد التربوي لهذا الربط، الذي يستهدف وضع الإنسان في إطاره المحدود كي لا يطغى ويتسيّد على نظرائه من أبناء جلدته، وهو شرط لا بُدّ منه لممارسة الحرية بكافة أشكالها.

والربط بين الشرك والظلم6 يؤكد ما ألفتنا إليه قبل قليل من خطورة الإيمان بقوى مطلقة أخرى تنازع الخالق عَزَّ وَجَلَّ عظمته وقدرته وحاكميته على الكون والحياة، ومجرد تصوّر الإنسان بأنْ لا أحد في الكون سوى الله يحق له التحكّم بخياراته يولّد لدى الإنسان طاقة هائلة على الفعل والإبداع، ذلك أنّ المعضلة في الأساس، تكمن في الكوابح والمعوقات والموانع التي ينصبها طغيان بعض البشر على البعض الآخر، والتي غالبًا ما تبقي القدرات الهائلة للإنسان في غياهب الإمكان والاستعداد، وبناء عليه يضجّ الخطاب القرآني بمفردات الحرية التي تدفعنا جازمين إلى القول بأنّ المقصد الأساسي للتشريع بعد التوحيد هو الحرية عينها، مع ملاحظة أنّ التوحيد نفسه ليس منفصلاً عن منظومة الحرية بل يكملها إن لم نقل أنه شرطها الأول.

وإذا كانت التنمية الشاملة لا تستقيم خطوطها وتتكامل دون شرط الحرية، عرفنا أنّ إنجاز مناخات التنمية وديمومتها لا يتحققان إذا لم ترفع الإصر والأغلال عن العقل وعن التعبير والمشاركة والسوق وغيرها. قد يقول قائل أنّ ثمة مجتمعات باشرت خطواتها التنموية الأولى في ظل أنظمة شمولية تتولّى الدولة قيها مهمة إطلاق الحيوية دون الرجوع إلى النّاس وخياراتهم تمامًا كما هو شأن التجربتين الاشتراكيتين في كل من الاتحاد السوفياتي والصين، وهو قول لا يخلو من الصدقية، غير أنّ تجذّر العملية التنموية وتحوّلها إلى طاقة شاملة وغير محدودة تستلزم زيادة جرعة الحرية شيئًا فشيئًا إلى أن تصل إلى حدود لا سابق لها، وهذا ما حدا ربّما بالدكتور سعد طه علاّم إلى القول بأنّ «الهدف النهائي والأساسي لعملية التنمية هو تحقيق الحرية في المجتمع»7.

رسم القرآن الكريم إطارًا عامًّا للتنمية دون أن يدخل في الآليات والبرامج، التي هي شأن تدبيري تركه الخالق للنّاس كي يبادروا إلى تحديده وفق الظروف والمعطيات المتاحة، وليراكموا في خضمه الخبرات والتجارب التي سترشدهم بواسطة العبرة والاعتبار،8 إلى معطى علمي قابل للتعميم أو في أقل التقادير قابل للإفادة في غير مكان من العالم.

ولعلّ أبرز ما أحدثه الخطاب القرآني من صدمة في العقل، أو كان ينبغي له أن يحدثه لو أحسن المسلمون قراءة إيحاءاته ومراميه العملية، هو كسر الهالة والخوف من الظواهر الكونية، التي رفعتها شعوبُ مختلفة إلى مرتبة الآلهة، فعبدت الشمس والقمر والرعد والمطر والنجوم وغيرها، بينما أدرجها القرآن الكريم في خانة المسخرات، التي باستطاعة الإنسان قراءتها ودراسة قوانينها ليحسن التعامل معها والإفادة من خيراتها.

وتعبير التسخير الذي دأبت آيات كثيرة على تكراره لا يقف في دلالاته عند معنى الخدمة، بل يتعداها إلى التطويع والاستخدام، وهو ما غفل عنه المسلمون في القرون المتأخرة، ونجح الغرب، إلى حدود بعيدة، في الاشتغال عليه بدأب ومثابرة إلى أن نجحوا في غزو الفضاء واكتشاف قوانين ساعدتهم في تطوير وسائل الاتصال التي ننعم بخيراتها في حياتنا المعاصرة هذه.

آيات التسخير وبؤس الاجتهاد

إحدى وثلاثون آية تتحدّث صراحة عن التسخير لم تكن كافية كما يبدو، لتثير فضول المشتغلين في عالم الاستنباط، وليرسموا في مخيّلتهم سؤالاً عن الحكمة من تكثيف خطاب التسخير، وهم يدركون قبل سواهم أن ما من صغيرة أو كبيرة في كتاب الله إلاّ وللخالق عَزَّ وَجَلَّ فيها مقصد وغاية، فكيف يقرأون القرآن الكريم قراءة تدبّر وعناية، ولم يستوقفهم هذا الحضور الضخم لنصوص التسخير، التي ليست وحدها رغم كثافتها، التي تحمل معنى التأمّل والبحث في خلق الله، فثمة عدد وافر من الآيات جاءت في صيغ مختلفة؛ كالنظر في خلق السماوات والأرض والجبال والأراضي والإبل والنفس البشرية وآيات الله وهي كثيرة أيضًا، فإذا ما جمعت كلّها لشكّلت عددًا مهولاً من الآيات ونسبة قد لا يجاريها نسبة، فهل كان وجودها في الكتاب العزيز لمجرّد التزيين أم تكملة لعدد الآيات أم للتسلية كما يحلو للبعض أن يصف ما جاء في القرآن الكريم؟

لماذا يقيم الفقهاء الدنيا ولا يقعدونها إذا ما عثروا على حديث أو رواية وقد تكون مقبولة أو ضعيفة وينهمكون في فحص دلالاتها ليسارعوا، بعد ذلك إلى استنباط موقف فقهي منها، خصوصًا إذا كان متعلّق الرواية أو الحديث شأنًا سياسيًا أو اجتماعيًا ذات صلة بالزواج أو الأطعمة والأشربة، ويطوون كشحًا عن عشرات الآيات الصريحة بل قطعية الدلالة التي تحثّ على التأمّل والتفكّر والنظر العلمي في مخلوقات الله، فهل لهذا الموقف المسبق علاقة بآيات الأحكام التي تمّ حصرها في القرن السادس الهجري والتي لا يتجاوز عددها النيف والخمسمائة آية؟ وإذا كان الأمر كذلك هل يحق لفقهاء خلوا أن يرسموا لنا سقفًا للاجتهاد وإطارًا للآيات لا يجوز تخطّيه؟ أسئلة كثيرة يثيرها الحديث عن التنمية لم نعثر إلى اليوم على إجابة شافية عليها، ولا يلوح في الأفق القريب ما يبشّر بإمكانية اقتحام الفقهاء لمثل هذا العالم الذي يضجّ بالحيوية ويفتح عقول المسلمين على معضلات العالم المعاصرة.

إنّ مقارنة سريعة بين الآراء الفقهية في مختلف الحقول التي اشتغل عليها العقل الاجتهادي وبين الخطاب الصريح بالأمر والطلب من الناس بالنظر والإفادة من الظواهر الكونية المسخّرة، إنّ هذه المقارنة كفيلة بالكشف على مكامن القصور في العقل الاجتهادي لدى مدرسة الاستنباط التقليدية.

إنّ وقوع العقل الاستنباطي في أسر الإثارات التاريخية أو حدود العقل الذي كان منفعلاّ بقضايا محدّدة، فيه إيحاء أو تسليم عملي بعدم صلاحية القرآن الكريم لكل زمان ومكان، وإلاّ كيف نفسّر هذا التمترس خلف مسائل خلف مسائل وموضوعات محدّدة بعضها فقد صلاحيته، كأحكام الرق، وبعضها الآخر لا يستأهل هذا الكمّ من التفريع والتفصيل كأحكام الحيض والاستحاضة والنفاس، فيما ينأى هذا العقل عن المسائل الأكثر حيوية كالتنمية وحرية الاستثمار وضوابط التبادل التجاري وغيرها، مع التذكير، أنّ القرآن الكريم يُورِدْ هذه الأمور لذاتها، كما سلفت الإشارة، لأنّه ليس كتاب تنمية ولا اقتصاد، وإنّما يفتح كوّة، كان يفضّل الولوج منها لتحفيز العقل على النظر والبحث وأخذ العِبرة.

في الأبحاث الإنثروبولوجية لم يتوصّل العلماء إلى نتائج، كان يتمناها البعض، تشير إلى اختلافات في بنية الدماغ بين الشرقيين والغربيين، فالمنطق الذي يحكم العقل في الغرب هو نفسه الذي يحكم عقولنا، والدوافع والميول التي تثير الفضول هي لدى الجميع، وإذا كانت هذه هي خلاصة ما توصل إليه علماء الإنثروبولوجية والأعصاب والأنسجة، فلِمَ ينكبّ العقل الغربي، ومن باب الفضول، على كشف غير المنكشف وسبر أغوار المجهول في مختلف الميادين ويصرف السنوات الطوال لإنجاز مهمّة علمية يراكم بها ما سبق لسواه إنجازه؟ وقد تفرض خصوصية المنكشف ودقّة البحث وصعوبته أن يخوض الغربي غمار البحار أو يخترق الصحاري ويخرج إلى الفضاء ويغامر في دخول الغابات الموحشة والعيش بين الحشرات والحيوانات المفترسة وذلك لتحقيق إنجاز علمي دقيق، أليس في ذلك تجسيد للآيات القرآنية التي تحثّ على تسخير ما في السماوات والأرض وتذليل الصعب من المهمات والانتشار في الأرض،9 التي ما فتئ القرآن يصرح بها في كل سورة؟

ثمة طريق آخر للتنمية، أو مدخل مختلف يرسمه الإعداد الدائم لبناء القوّة العسكرية على قاعدة ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾، ورغم ظهور صيغة «وأعدّوا» بالأمر وبالتالي بالوجوب، فإنّ الفقهاء اكتفوا من الآية بحكم الوجوب، ولم يتوسّعوا في تفريعاتها بخلاف ما أقدموا عليه من أبواب الفقه الأخرى التي وصل خيالهم في الصلاة أو الوضوء إلى حدود افتراض حلول لاحتمالات متوهّمة كأنّ يكون المكلّف ذا رأسين أو أربعة أذرع إلى غير ذلك من التخيّلات التي ما أنزل الله بها من سلطان، إلاّ أنّهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء توسيع مدارك المكلفين في مجال الإعداد العسكري. قد يرى البعض في هذه الإشارة غرابة، إذ ما علاقة الإعداد العسكري بالتنمية؟ سؤال تبدّده التجربة الغربية التي كانت مدنية إلى النصف الأول من القرن الماضي للمؤسسة العسكرية بأنشطتها الصناعيّة والإبداعيّة؛ فالأوروبيون لم يخترعوا الطائرة، ابتداءً، لأغراض مدنية وإنّما كانت مجمل دوافعهم عسكرية، فالتجربة التاريخية تؤكد أنّ الاستخدامات الأولى للطائرة كانت في ميادين القتال، كان ذلك في الحرب الأولى، ولم تتحوّل إلى الميدان المدني إلاّ بعد ذلك بسنوات، كذلك السيارة التي بدأت نواتها بالآليات العسكرية والدبابة ومن ثم تمّ تحويلها إلى الأغراض المدنية، وكلنا يعرف أين كانت الاستعمالات الأولى للحاسوب الآلي، الكمبيوتر، فقد استخدمه الأمريكيون لأغراض عسكرية في الخمسينات، ومن ثم شرعوا في استخدامه في المؤسسات المدنية، والأمر عينه فيما يخصّ الإنترنت، الذي كانت وظيفته ربط القواعد العسكرية الأمريكية بواسطة «كابل» خاص، وفي العقدين الأخيرين سمح لهذه الوسيلة أن تستخدم لأغراض مدنية.

انطلاقًا ممّا تقدّم يتبيّن أنّ التقنية الأوروبية المتطوّرة ما كان لها أن تشهد هذه القفزة النوعية لولا الهواجس الدفاعية والرغبة الجامحة في التوسّع أو المنافسة مع الآخرين، ولا يُستثنى غزو الفضاء من هذا التحليل، فقد ساهم التنافس السوفياتي الأمريكي في تحقيق إنجازات هائلة على هذا الصعيد. ولا يخفى أنّ المسلمين، وعلى امتداد القرن الماضي، لم يضعوا أنفسهم على سِكّة المنافسة، وبذلك حرموا من نعمة المزاحمة في ميدان التكنولوجية العسكرية وتاليًا الميدانية، مع العلم أنّ الخطاب القرآني صريح في دعوته للإعداد والتهيّؤ ووجوب رَدّ العدوان والحذر من مؤامرات الأعداء وكيدهم. وهكذا ندرك حجم الخلل في توفير مقدّمات التنمية، لجهة الاستقالة من ميدان البحث العلمي، أو لجهة فتور الحماس في مجال الحفاظ على بيضة الإسلام والمسلمين والانكفاء إلى دائرة استهلاك الأسلحة بدل إنتاجها.

آيات الرّبا وانسداد باب الاجتهاد

دأب الفقهاء، وخلال عملية الاستنباط، على التعامل مع آيات الرّبا ودلالاتها، وكأنّها من الضروريات10 التي لا تقبل التأويل، وراحوا يغرفون من آراء السلف الصالح ويستريحون، وكأن الاجتهاد، الذي يعني بذل الجهد والسِّعَة، هو مجرد الوقوف على الآراء وتبنّيها، والكلّ يعلم أنّ مهمة الاجتهاد تتخطّى هذه الوظيفة إلى فضاءات أوسع، إلى حيث الإبداع وكشف المضمر من المعاني والدلالات، ومحاولة إيجاد علاقات جديدة للمعنى، لم يحدث أن عَثَر عليها أحدٌ من قبل. وعندما نصف حالة التراكم العلمي والمعرفي، نقصد الإبداعات الجديدة، أمّا التراكم الكّمي للمؤلفات والكتب فهي لا تدرج بالضرورة في خانة التطوّر العلمي.

في موضوعة الرّبا، حصل تاريخيًا خلط كبير بين البُعد الأخلاقي والتكافلي للمسألة وبين قضية الاستثمار وزيادة رأس المال، وقد سبق وأشرنا في طيّات المعالجة أنّ البُعد المحوري للقرآن الكريم هو ذاك المتعلّق بالشأنين الأخلاقي والتربوي، أمّا الأبعاد الأخرى فهي أجنبية عن المقصد الأساسي أي الهداية11، وفي حال حضورها في القرآن الكريم، لا يعني الخروج عن المقصد، وإنّما الإشارة إلى رابط ما أو غرض يمتّ بصلة إلى الغايات المحورية المرجوة.

فلدى مراجعة آيات الرّبا الإحدى عشر12 ومتابعة سياقاتها تتكشف حقائق لم يكلّف المشتغلون في حقل الاجتهاد أنفسهم عناء تصيّدها، فالآية (39) من سورة الروم جاءت في سياق الحديث عن الرزق والإنفاق على ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، أمّا الآية نفسها فتردّ في صيغة مقارنة بين الرّبا والزكاة، وهذا إنّ دلّ على شيء فإنّما يدّل على ذلك النوع من القروض والإنفاق الذي يحجب العطاء عن الفقراء والمساكين، ومُؤَدّى ذلك حرمة القروض التي تعطى لهؤلاء وتزيد فقرهم فقرًا وبؤسهم بؤسًا، وهي ليست في مورد الحديث عن الاستثمار وتنمية الرأسمال، والبَون شاسع بين التكافل الاجتماعي والإنفاق على المعوزين والمحتاجين وذوي القُربى وبين القروض التي تُعطى للميسورين والأغنياء لتنمية رؤوس الأموال وتحريك الاقتصاد ومضاعفة الإنتاج.

وإذا تابعنا التقصّي عن المعنى في الآيات الأخرى، ستزداد كثافة الضوء على المعنى المراد، فالآيات التي وردت فيها لفظة الرّبا في سورة البقرة جاءت في سياق واحد من الآية 260 إلى الآية 280، هو سياق الحديث عن الإنفاق في سبيل الله والصدقات ومحاولة محو الفوارق بين «أهل النعمة والثروة» و«معيشة الطبقة السافلة» بالنهي عن «الإسراف والتبذير»،13 واعتبار الرّبا من أعظم العوامل التي تؤدي إلى انسداد باب الإنفاق، الأمر الذي يؤكد البُعد الأخلاقي لحرمة الرّبا، ويرجح في الوقت عينه، الجانب التكاملي، دون أن يشير من قريب أو بعيد لعامل الاستثمار والاقتراض بهدف التجارة وتنمية رأسمال، الذي لم يميّزه الفقهاء وأدرجوه في خانة الرّبا المحرّم، ممّا أحدث إرباكًا في حركة الرساميل والإيداعات حرمت المسلمين من إمكانيات التوظيف السليم للمدّخرات في حقل التنمية.

فقه العمل والكدح والإنتاج

غاب عن عناية الفقهاء القراءة الدقيقة للنصوص القرآنية التي تحضّ على السّعي والكدح والإنتاج، وتنهى عن التواكل والتعطيل للطاقات، وقد فاخر الأوروبيون، بأنّ أحد مسبّبات النهضة الأوروبية الحديثة والمعاصرة، هو تقديس المصلحين البروتستانت للعمل، وقد عمّق الأمريكيون الذين ينتمي جلّهم لهذا المذهب الديني الإصلاحي من فكرة العمل، عندما ربطوا السعادة بالمثابرة والجدّ، فهم لا يرون السعادة خارج إطار الإنتاج والعمل، الأمر الذي أفضى إلى حيوية تكاد لا تتوقف، والحوافز نفسها نلمسها في دينامية الشعب الألماني. وثمّة شعب آخر ترفع معتقداته العمل إلى مستوى التقديس هو الشعب الياباني. في المقلب الآخر، أي في اجتماعنا الإسلامي عجز الفقهاء الذين يتولّون عادة مهام هندسة السلوكيات ورسم أطرها من خلال المنظومات الفقهية المستنبطة، عجز هؤلاء عن تثمير الخطاب القرآني الداعي إلى السعي والانتشار في الأرض ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: 15]، ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [الجمعة: 10]، والدعوة لم تكن بصيغة الإقرار بواقع الحاجة والإمضاء لعادات أَلِفَها النّاس، وإنّما بالطلب الذي يفيد الأمر والحثّ والمثابرة، وعندما يربط القرآن الكريم الدنيا بالكدح المتواصل الذي لا ينفك مطلقًا عن الحياة فمعنى ذلك أنّ السعادة مقرونة بهذا البذل المحبّب والملازم للحياة، مادام هناك عرق ينبض بدلالة «فاء» الفورية ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾.14 وتتّسق الآيات التي تربط بين الأكل الحلال والجهد، في المعنى نفسه الذي تبوح به النصوص القرآنية الكريمة كيفما اتّجهت وقلّبت المعنى، ألا يدل ذلك على التلازم بين العمل والسعادة التي هي مقصد مفصلي من مقاصد الدين.

وفرق كبير بين النظر إلى العمل باعتباره مفضيًا إلى الراحة، التي يتوهّمها الإنسان محقّقة في الدنيا، وبين توطين النفس على أنّ الراحة والطمأنينة لا يتوفران إلاّ بتفريغ الطاقة المودعة في الإنسان، سواء أكانت تلك عملاً ذهنيا مشفوعًا بالتجربة، أم عملاً عضليًا متواصلاً يفرغ الإنسان من خلاله طاقاته البدنية المختزنة في هيكل يمتلك كل مؤهّلات التجدد والتخزين.

الوسطية في الإنفاق

يولي علماء التنمية مسألة الادخار وترشيد الإنفاق أهمية استثنائية في مجال مراكمة الرأسمال، فبدونها لا تستطيع العجلة الاقتصادية متابعة حركتها، ذلك أنّ الرأسمال هو الذي يغذّي المشاريع الكبيرة، وهذا يفترض بالمواطنين رسم سياسات بحجمهم تتيح لهم ضبط الإنفاق وتأمين احتياط إلزامي تتمّ تنميته بواسطة المصارف والمشاركات المحدودة في الإنتاج، وقد وصل الأمر ببعض خبراء التنمية إلى القول بأنّ معدلات الإنفاق والادخار في الأسر هي التي تؤشّر إلى استقرار الدول وتوازنها وتطوّرها.

هذا في المبدأ، وهو صحيح إلى حدود بعيدة في المجتمعات المستقرّة التي يتوفّر فيها لكافة الأسر مداخيل ثابتة أو شبه ثابتة، أمّا في حال الاضطراب وعدم استواء المجتمع على ساق معين، فالمشكلة تكون مختلفة، بيد أنّها لا تلغي المبدأ القائم على التوازن بين الدخل والإنفاق مع ملاحظة هامش احتياطي يصار في ضوئه إلى توفير بعض الفائض لقادم الزمان أو لاحتياجات غير منظورة يمكن أن تقتحم الأسر دون سابق إنذار.

في هذا الإطار، أولى القرآن الكريم مسألة الإنفاق وترشيده حيّزًا يُعتَد به في خطابه ذات الأبعاد الأخلاقية العقلية والإنسانية، فألفت إلى مسألة التوازن والوسطية في الإنفاق ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29].

فالتوازن بالإنفاق هو حالة وسطية تقع بين سلوكين متطرّفين؛ التبذير15 من جهة والهوس المرضي في اكتناز المال وادّخاره ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ...﴾ [التوبة: 34]. فالحياة التعقلية التي يريد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الإنسان أن يسلكها تقتضي النظر بتدبّر إلى الأمور فلا تهمل المقصد التكافلي في علاقة المؤمن بأخيه والإنسان بالآخر، بمعنى تجسيد التعاضد ورفع من هو في القعر إلى مستوى الحياة الكريمة دون مِنّة أو أذى، وفي الوقت عينه مراعاة مقتضيات الحياة بما تستبطن من طوارئ وحالات استثنائية ينبغي أخذها بالحسبان.

فالقرآن الكريم، وكما سبقت الإشارة، يستهدف بناء حياة وازنة بنظر العرف والعقلاء، وهو ليس بصدد بناء نظرية في التنمية، وإن كانت العناصر التي يرشد إليها في عمليتي الإنفاق والادخار وحرمة التبذير تصلح مجتمعة لتشييد عمارة تنموية، تُرك أمر تصميمها وهندستها وإظهار ملامحها وتفاصيلها للعقل البشري.

والفقه، الذي أخذ على عاتقه مسؤولية البحث عن العناصر المفيدة لانتظام الحياة الكريمة في الكتاب والسُّنة لم يول هذا الحقل الحيوي ما يستحقّه من اهتمام، لا بل يُلحظ أنّ ثمة تغييبًا لهذا العالم، بكل ما يضجّ بالحيوية، عن مجالات معالجته ونظره، ومردُّ ذلك لا يعود إلى عالم الاستنباط نفسه، فهو صناعة مضبوطة القواعد والآليات، وإنّما يعود إلى اهتمامات الفقيه نفسه وشمولية نظرته، فالفقه ليس سوى مرآة تعكس صورة المجتهد ولا تعبّر بالضرورة عن إمكانيات الكتاب والسُّنة، كما يتضح من استعراضنا لمجمل العناصر المبثوثة في النص.

وإشارتنا إلى قصور الفقه المنجز، ليس سوى اعتراف صريح بفعّاليته وقدرته على التأثير، فهو وحده القادر على رسم الضوابط وكبح لجام التطرّف في الإنفاق وفي التقتير على حَدٍّ سواء، وهو بإمكانه تصحيح السلوكيات المنحرفة التي تطفو ظواهرها على سطح الممارسات اليومية للمسلمين في غير مجتمع من أقطارنا العربية والإسلامية.

فنظرة سريعة إلى أنماط الحياة السائدة، كفيلة بإدراك حجم الخلل الذي يصيب البنية الاقتصادية والتنموية لأسرنا المعاصرة. ولا بأس هنا من التوغّل قليلاً في بعض تفاصيل حياتنا لتستبين الصورة، ويَتَظهّر حجم الكارثة التي نحن فيها، والتي لا يمكن في حال استمرارها، أن تؤدّي إلى انبثاق مشروع تنموي واعد.

تتّجه الحياة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلى المزيد من فوضى الاستهلاك في ظل مؤثّرات لا حدود لها، للإعلان التجاري الذي يقتحم البيوت غير المحصّنة بثقافة الترشيد وضبط الإنفاقيين، وتكاد الأسر تستنفذ جزءًا أساسيًا من دخلها في المصارفات الهاتفية، بعد دخول المحمول إلى ميدان التداول، والإنفاق في نواحٍ لا ترتقي إلى مستوى الضروري والحاجي، وبما أن معدلات الدخل منخفضة، بصورة عّامة فإنّ فرص الادّخار أو الإنفاق في مجالات التنمية أو الإحسان والصدقات، آخذة بالتراجع.

أمّا الشرائح المتوسطة والغنية التي تراكم ثرواتها من العمل خارج البلاد أو في مجالات محدّدة داخل البلاد، فسلوكها الإنفاقي تشوبه عيوبٌ وتجاوزات تفوق الحصر؛ فبدلاً من بناء المسكن، على سبيل المثال، ليؤدّي وظيفة محددة في بيئة معيّنة، نرى أبناء هاتين الشريحتين يتغنّون في تزويق ومحاكاة المجتمعات الأخرى حتىّ وإن كان ذلك دون وظيفة على الإطلاق، أمّا الإنفاق على الأزياء والسيّارات ومظاهر الترف فهو يفوق الوصف، وقد يتجاوز معدلات الإنفاق في بعض الأسر أضعاف حاجة جماعة بكاملها.

والأسوأ من هذا كُلّه، أنّ نمط الاستهلاك هذا آخذ بالتزايد والتجذّر، إذ لم يتفق أن واجه صدمة معرفية أو مستقبلية من قادة الرأي وعلماء الدين والنظام السياسي، وهذا ما ينذر بنتائج سيئة على مستوى مشاريع التنمية.

أجمل مفارقة نشرت حديثًا عن سلوكيات السياسيين عندنا والسياسيين في الغرب، أنّ المنشغل بالسياسية بالغرب يمرّ بتجربة الأعمال والإنتاج وتكوين الثروة قبل دخوله ميدان العمل السياسي، فنجاحه في العمل والإنتاج يشكل له إجازة دخول إلى الحياة العامّة، بينما في بلادنا يتوخّى السياسي الدخول إلى السلطة لتكوين الرأسمال. سلوكان مختلفان بل متناقضان، والمؤسف أنّ تجربتنا هي التي تخالف المقصد الشرعي في اعتبار العمل هو الوحيد الذي يضفي على المال مشروعيته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ...﴾ [البقرة: 267].

غربة المقاصد الشرعية

في معالجتنا لسلوكيات التنمية في اجتماعنا العربي خصوصًا والإسلامي عمومًا، ومقابلتها بما يرشد إليه النص من سلوك وسطي في الادّخار والإنفاق، يتبيّن أنّ الثقافات المحلية المحمولة بالوراثة والأعراف، والتي يكون الدين أحد مكوّناتها، لكنّه بالتأكيد ليس جُلَّ مكوناتها، هي التي تتحكّم بسلوكيات الأفراد والأسر، الأمر الذي يدفع الباحث إلى التساؤل عن طبيعة الخطاب الذي يصوغه المرشدون والفقهاء وأهل العلم، وعمّا إذا كان ذا جدوى في إعادة بناء الشخصية الإسلامية وفق ضوابط ومحدّدات النهج الوسطي الذي يحثّ النص القرآني على التزامه، كخيار وحيد يعيد الممارسات الجامحة إلى جادة الاعتدال.

فالثنائيات المتطرفة التي نعانيها في مختلف تفاصيل الحياة، لا تلبث أن تنسحب إلى ميدان التنمية والتعامل معها، فالتطرّف بالتدّين الذي يقابله التطرّف بالتحلّل، والجموح في الباطنية الذي يناظره الإفراط بالظاهرية والشكلانية، والجنوح إلى التغريب الكامل الذي يوازيه الارتحال الكلي إلى الماضي والتاريخ، والممارسة الكلية للسلطة في البيت والمدرسة والدولة التي يواجهها تراخٍ في ممارسة هذا الحق إلى حَدّ الميوعة، والنزعة العدوانية في الخصومة التي يقابلها الاستسلام الكامل للمشاعر في الصداقة، كل هذه تؤكد وجود منهج عام، غير سليم وغير صحي، يحكم آليات تفكيرنا وسلوكنا في مختلف ميادين الحياة، ومع ذلك ندّعي لأنفسنا شرف الانتماء إلى أمةِ الوسط16. ثمة انفصام واضح بين ما نؤمن وما نمارس مردّه إمّا إلى عدم وضوح مقاصد الدين ومراميه وإمّا الاستسلام الكامل للهوى وإغواءات النفس وبهارج الدنيا وزخارفها.

وحتّى لا نقع في التطرّف عينه الذي نحكم به على اجتماعنا السياسي ومجتمعنا الأهلي، ينبغي الاعتراف بأنّ المشكلة ليست بسيطة، وإنّما مركبّة تتضافر في حياكة خيوطها جملة من العوامل تبدأ بمناخات السلطة وتمرّ بأزمة النص الفكري ولا تنتهي عند حدود العرف والتقاليد، وهذه المشكلة ليست عاصية على الحلول، فهي كسواها تفترض تصويبًا لمناهجنا وسلوكياتنا بما يتّسق ويتواءم مع مقاصد الشرع التي نحن بصدد بلورتها وتوجيه عناية أهل الرأي والمسؤولين إلى عمقها وتأثيرها في حياتنا العملية.

المعتقدات الإنسانية والتنمية

خاض بعض علماء الاجتماع وفي مقدمتهم ماكس فيبر في مسألة علاقة الدين بالتنمية، وقد انطلق فيبر ومن حذا حذوه، فيما بعد، من واقع الحال الذي عاشوه، فكانت استخلاصاتهم انعكاسًا لما عاينوه من ظواهر اقتصادية واجتماعية، وهذا الأمر مشروع ومسوّغ باعتبار أنّ علم الاجتماع لا يتعامل مع المقاصد والأفكار والفلسفات النظرية المجرّدة إلاّ من زاوية علاقتها بالمشهد الاجتماعي المعيوش، ومن الطبيعي أن تخرج الاستنتاجات متناظرة مع وقائع الحياة وظواهرها الطافية على السطح.

في هذا الإطار، تصدّى «غرافييه كوبليه» لموضوعة علاقة الدين بالنمو17، وقد انكبّ هذا العالم على إجراء مقارنة بين جملة عوالم معاصرة انطلاقًا من مستويات التطور ونسب الإنتاج والنمو الاقتصادي، وقد خلص إلى أنّ اليهود والبروتستانت والكونفوشيون يتربّعون على قمّة هرم التطوّر في العالم، فيما يأتي الكاثوليك في المرتبة الرابعة يليهم الأرثوذكس ومن ثم المسلمون، ويرى أنّ تراجع الكاثوليك عن المذاهب المسيحية الأخرى مردّه إلى تمسّك هؤلاء بالكنيسة وتعاليمها، وبناء على هذا الربط يخلص إلى معادلة مفادها؛ إنّ ارتفاع مستوى المعيشة يتبع بشكل مباشر مدى استعداد الشعوب للتخلّي عن الكنيسة.

وقد أظهر أبحاث «كوبليه» أنّ مستوى الإنتاج والدخل والثروة الفردية في دول أوروبا الغربية حيث البروتستانتية هي الدين المسيطر أرفع بكثير من شقيقاتها حيث السيطرة للكاثوليكية18، ثم يضع الإسلام والكاثوليكية في موقع واحد لجهة إيمانهما بالحساب الأخروي، الذي يدفع الكاثوليكي وبنسبة أكبر المسلم لنوع من عدم الاكتراث لما يحصل له على الأرض، وبالتالي فإنّه وفق قراءة «كوبليه» مستعدٌّ لتسخير نفسه ووقته للآخرة، الأمر الذي يرتّب عليه نسيانه لنفسه ومجتمعه19.

هذه النتيجة التي خلص إليها هذا العالم، لا تخلو من تبسيط وعجلة في قراءة الظواهر، فهو يأخذ بنسب النمو والتطوّر في الدول، ويرتّب عليها تحليله متجاهلاً الظروف التاريخية والسياسية التي يعيشها العالم الإسلامي، فضلاً عن وقوعه في التعميم الاعتباطي الذي يسقط من حسابه معدلات النمو في بعض الدول الإسلامية كماليزيا مثلاً الأمر الذي يزعزع المنطق الذي ارتكز عليه. في هذا الإطار، نسأل عن سبب تسجيل المسلمين نجاحات كبيرة ومثيرة في مجال الأعمال والاستثمار خارج أوطانهم، كأولئك المهاجرين الذين بزّوا أقرانهم من الغربيين رغم أنّهم ملتزمون ويمارسون عبادتهم في صورة لا تختلف عن أشقائهم المسلمين الذين لم تتوفّر لهم فرصة الهجرة، فهل هذا التباين في النجاحات والإخفاقات يعود إلى الدين أم إلى عوامل وظروف مختلفة، لم يتمكن «كوبليه» من ملاحظتها؟

المسلمون في العالم لا تنقصهم القدرة والمحفّزات والحماسة لتسجيل نجاحات في مجال الأعمال والاستثمار، وإنّما جُلّ ما ينقصهم هو البيئة الطبيعية والصحية التي تتيح لهم فرص تفجير طاقاتهم ومواهبهم الكامنة. فالمشكلة لا تكمن كما يزعم هذا العالم الاجتماعي، في الدين وإنّما في الظروف السياسية والمناخية والاجتماعية التي قد تحول دون المرء وما يريد ويرغب.

ونحن في المدخل الذي أردناه بابًا للتنمية لم نغطِّ كل العناصر التي سلّط القرآن الكريم عليها الضوء باعتبارها أساسية، وإنّما تخيّرنا بعضًا منها لأنّ المقام لا يتّسع لتغطية بقيّة العناصر وهي كثيرة، وهذا يستدعي معالجة مفصّلة ودقيقة لمختلف الجوانب التي ترفد التنمية بمسبّبات القوّة والتحقّق.

غير أنّ الولوج إلى التنمية من باب المقاصد لا يعني أبدًا أنّ مجرّد وعيها ومعرفتها، سيجعل التنمية أمرا محقّقًا، فثمة شروط أخرى، لا يجوز إغفالها في هذا المقام كدور الدولة ومستويات المعرفة والإرادة الحضارية والثقافة الشعبية والموارد الطبيعية وغيرها، ومجرد النظر إلى عامل وتغييب العناصر الأخرى، لا يجعل القراءة علمية والدراسة ذات صدقية يجوز الركون إليها والآخذ بنتائجها.

المراجع والمصادر

  • بدران، إبراهيم، النهضة وصراع البقاء، المركز الثقافي العربي، ط 1، بيروت، 2003م.
  • العوّا، د. محمد سليم، مقاصد السكوت، محاضرة ألقيت في كلية الحقوق، جامعة القاهرة.
  • الصدر، محمد باقر، حلقات الأصول، المقدمة، دار التعارف، بيروت.
  • علاّم، الدكتور سعد طه، التنمية والمجتمع، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2007م.
  • مغنية، الشيخ محمد جواد، فقه الإمام الصادق، ج 3، دار الجواد ودار التيار الجديدة، ط 5، بيروت 1984م.
  • الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، م 2، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط 3، 1973م.
  • Xavier Couplet, Religion et developement, economia Paris
  • تعريب موسى عاصي، قضايا النهار، تاريخ 2/7/2004.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الشريعة وقضايا العصر (مجموعة بحوث)، 2017، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 17- 91.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

حقوق الإنسان في التكافل الاجتماعي

محمد عمارة محتويات المقال:عدالة الاستخلافعدالة الوسطية المتوازنةالتكافل الاجتماعيبين التكافل والمساواةفرائض ... وليست مجرد حقوق- صندوق التنمية بالرّكاز- صندوق الزكاة العامة- الوقف- تحريم استثمار المال الإسلامي خارج ديار ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

اتفاقيّة منظّمة التّجارة العالميّة في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

عبد الرحمن يسري أحمد: أستاذ الاقتصاد والاقتصاد الإسلامي، قسم الاقتصاد- كلية التجارة- جامعة الإسكندرية محتويات المقال:مقدمة ضرورية عن مقاصد الشريعة، ومدخل مقترح لهذا البحثمقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الأموال والمعامل...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة ومؤتمرات السّكان: تحليل موقف الإسلام من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة - 1979

أحمد أبو الوفا: أستاذ القانون الدولي العام- كلية الحقوق- جامعة القاهرة محتويات المقال:أولًا: مقدمة عامةثانيًا: الأصل في الإسلام هو عدم الارتباط بأي ميثاق دولي يتعارض مع القواعد الإسلامية العليا _القواعد الدولية الآمرة في...

مقالات عن مقاصد الشريعة الإسلامية
إقرأ المزيد

العمل الخيري مقصد عام للشريعة الإسلامية

إبراهيم البيومي غانم سلكا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون- وأشرنا إليها فيما سلف- بحثاً عن موقع العمل الخيري من هذه المقاصد، ووجدنا أن «العمل الخيري» مقصداً عاماً وثابتاً من مقاصدها، وأن له في ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقارنات بين العمل الخيري في الحضارتين الإسلامية والغربية

 إبراهيم البيومي غانم ما من حضارة إنسانية إلا ولها في العمل الخيري «فلسفة نظرية» و«إنجازات عملية» تصدق فلسفتها. ينطبق ذلك بدرجات متفاوتة على جميع الحضارات التي عرفتها البشرية باستثناء واحد فقط-كما أسلفنا-هو «الحضارة...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد القرآن في مجتمع الخير العام

إبراهيم البيومي غانم إذا سلكنا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون بحثاً عن موقع «الخير» ومفهومه القرآني الذي سبق أن أوضحنا ملامحه العامة، سنجد أن «العمل الخيري» مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، وأ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الأموال في القرآن: رؤية تأسيسية

محمد أحمين: مراقب ومستشار شرعي في المصرفية الإسلامية. محتويات المقال:محاور البحثمنهج البحثالمبحث الأول: المقاصد العقدية للأموال في القرآنالمطلب الأول: مقاصد خلق الأموال في القرآنالمطلب الثاني: مقاصد التدبير الرباني للأمو...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تفعيل المقاصد في العمل الخيري

إبراهيم البيومي غانم: مستشار – المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. محتويات المقال:أو لًا: مجتمع الخير العام في القرآنثانيًا: مقاصد القرآن في مجتمع الخير العامثالثًا: تشريع الخير وبناء الخير العام1 – ((الحرية))2 – ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
Back to Top