حقوق الإنسان في التكافل الاجتماعي

شارك:

محمد عمارة

محتويات المقال:
عدالة الاستخلاف
عدالة الوسطية المتوازنة
التكافل الاجتماعي
بين التكافل والمساواة
فرائض ... وليست مجرد حقوق
- صندوق التنمية بالرّكاز
- صندوق الزكاة العامة
- الوقف
- تحريم استثمار المال الإسلامي خارج ديار الإسلام

عندما سقطت «الشمولية - الشيوعية»، ارتفع صوت «الليبرالية- الرأسمالية»، زاعمة أنها هي «نهاية التاريخ»، وأن «صراع الحضارات» هو السبيل إلى فرض وعولمة نموذجها على العالمين.

لكن المشهد «الاقتصادي - الاجتماعي» العالمي لهذه «الليبرالية- الرأسمالية» قد غذا مخيفاً في مظالمه المتوحشة، إلى الحد الذي دفع ويدفع قطاعات حتى من أنصار هذه «الليبرالية - الرأسمالية» إلى البحث عن «طريق ثالث» - غير الشيوعية والرأسمالية-لكنهم يلتمسونه طريقاً «رأسماليا معدلا».. ولم يفكر أي منهم في الانعطاف نحو فلسفة الإسلام في الثروات والأموال، ونموذجه في العدل والتكـافـل والمساواة وحقوق الإنسان.

وإذا كانت الماركسية وشيوعيتها قد سبق في ثلث الإنسانية روح المبادرة والخلق والإبداع، فضلا عن محاربتها للتدين ومطاردتها للإيمان، فإن الرأسمالية المتوحشة قد وضعت كل الإنسانية في «مأساة عبثية» لا أعتقد أن لها نظيراً في التاريخ.

  • إن 225 فرداً- من أبناء الشمال- يملكون ما يساوي ملكية مليارين ونصف المليارين من أبناء الجنوب - أي نصف البشرية المعاصرة - و3 أفراد في أمريكا - يملكون ما يساوي ملكية 48 دولة - أي قرابة ثلث أعضاء الأمم المتحدة!
  • ونفس المشهد نجده في الاستهلاك .. فـ 20% هم أبناء الحضارة الغربية - سكان الشمال- يستهلكون 81% من الإنتاج العالمي.
  • وبسبب تركيز الثروات، ومن ثم الاستهلاك المترف، في يد القلة، تركز الفقر وانعدام القوة الشرائية في جانب الكثرة الكاثرة .. الأمر الذي جعل رأس لمال العالمي ينصرف عن الاستثمار الإنتاجي والتجاري والخدمي إلى السمسرة والمقامرات والمضاربات وصناعة السلاح وتجارة المخدرات .. فلقد بلغ حجم الأموال السائلة الهائمة في المضاربات 100 تريليون دولار، بينما تقلص حجم الأموال الموظفة في الإنتاج والتجارة إلى 3،5 تريليون!
  • ونفس المشهد البائس والمتوحش نجده في نسبة ما ينفق – من الاقتصاد العالمي-على الدمار والترف إلى نسبة ما ينفق على ضرورات وحاجات الناس..
  • و 870 بليون دولار هي حجم الإنفاق على التسلح ..
  • و400 بليون دولار هي حجم الإنفاق عل المخدرات..
  • و105 بليون دولار وهي حجم الإنفاق على الخمور في أوربا وحدها ..
  • و67 بليون دولار هي حجم الإنفاق على القطط والكلاب المنزلية في أوربا وأمريكا وحدهما ..
  • بينما لا يزيد ما ينفق على التعليم في العالم كله عن 6 بليون دولار! .. وما ينفق على التغذية والصحة معاً لا يتعدى 13 بليونا! .. أي أن ما ينفق على التسلح والمخدرات والخمور والقطط والكلاب هو 1442 بليون دولار .. وما ينفق على كل من التعليم والتغذية والصحة لا يتعدى 19 بليونا فقط لا غير!..
  • وهذا الخلل الفاحش، في التملك .. وفي الاستهلاك .. وفي الإنفاق، قد أدى إلى ذات الخلل الفـاحش في توظيف طـاقـات العلم الكوني المعاصر، فـ 90% من علماء العالم يعمل أغلبهم –بشكل مباشر أو غير  مباشر- في صناعة السلاح والدمار.. بينما لا يعمل في العلم النافع- بمختلف ميادينه- سوى 10% من العلماء! ..
  • ولم يقف هذا الخلل الفـاحش عند هذه المعالم الكـالحة في توحشها .. وإنما انعكس في صورة نزيف «الديون وفوائدها الفاحشة» لحساب القلة الغنية، وعلى حساب 80% من سكان العالم-القاطنين في الجنوب-فالشركات متعددة الجنسية تقترض الدولارات من أغنياء «وال ستريت» بفائدة 6% وتقرضها بفائدة تتراوح بين 20% إلى 50% لفقراء الجنوب .. حتى غدت صادرات الفقراء- 80% من سكان العالم-لا تكاد تفي بسداد فوائد الديون وخدمتها .. وليس سداد نفس الديون! .. وفي دول أفريقيا جنوب الصحراء يخصص لسداد فوائد الــديون أربعة أضعاف ما يخصص للصحة والتعليم!..

وهذا التفاوت المتوحش بين الشمال والجنوب، نجده متجسدا في داخل حضارات الجنوب-بين تخمة الترف وبين الفقر المدقع- ففي داخل الحضارة الإسلامية تتفاوت دخول الأفراد ما بين 165، 31 دولار و100 دولار فقط لا غير! ...1

أمام هذا المشهد «المــــأساوي العبثي»، غير المسبوق في تاريخ الحضارات الإنسانية، والمنذر بتصاعد حدة ومخاطر الأزمات والمآسي- والذي تريد «العولمة» فرضه على الإنسانية بأسرها - بتزايد الإلحاح على العقل المسلم كي يقدم مبادئ الإسلام الاجتمـــــاعية في العدل والتكافل والمساواة، فاسفة الإسلام في الأموال والثروات، طريقا متميزاً لإنقاذ عـالم الإسلام-أولاً-من هذا المأزق الرأسمـالـي المتوحش، ثم لترشيد النظام المالي والاجتماعي العالمي بهدى الإسلام.

عدالة الاستخلاف

إن مفتاح الفلسفة الإسلامية في الاجتماع والاقتصاد يبدأ بنظرية الاستخلاف .. فاللّـه سبحانه وتعالى هو الحق البارئ والراعي والمدبر للخلق.. ولقد شاء اللّـه أن يستخلف الإنسان-مطلق الإنسان،  وليس فقط «الفرد» أو «الطبقة»- في عمران الأرض، وفي حيازة واستثمار الثروات والاموال والانتفاع بها، وذلك وفق بنود عقد وعهد الاستخلاف التي حددت الشريعة أصولها ومبادئها وقواعدها .. وتركت تفصيلاتها لفقه المعاملات ..

فعنــدما أراد اللّـه سبحانه وتعالـى خَلْق آدم عليه السلام، أنبأ ملائكته أنه سيتخذه في الأرض خليفة، يحمل أمانة العلم والاختيار والتكليف؛ نهوضا برسالة عمرانها وزينتها، فقال ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم مالا تعلمون﴾ (البقرة: 30).

ولقد تميزت مكانة الإنسان في الكون، وعلاقته بالثروات والأموال. امتلاكاً واستثماراً وإنفاقاً-بفلسفة الإسلام في الإستخلاف ..فمكانةهذا الإنسان هي مكانة الخليفة، المفوض في عمارة الأرض، الحر المختار المكلف المسئول؛ لأن هذه هي الشروط الضرورية التي تلزم لنهوضه برسـالـة استعمار الأرض - وأيضاً، فإن مكانة الخليفة تضع إطاراً ضابطاً على هذا التفويض والاختيار والحرية متمثلاً في بنود عقد وعهد الاستخلاف، أي الشريعة الإلهية التي تمثل معالم وضوابط وآفاق هذا الاستخلاف.

فهذا الإنسان المستخلف، ليس هو المجبر المهمش الذي ليس له من الأمر شيء .. وهو- كذلك- ليس سيد الكون، المكتفى بذاته والمستغنى باختياره عن رعاية وتدبير اللّـه الخالق والمستخلف لهذا الإنسان .. إنه سيد في هذا الكون، وليس سيد الكون .. وبعبارة الإمام محمد عبده (1265 – 1323 هـ/ 1849 – 1905م): «هو عبد للّـه وحده، وسيد لكل شئ بعده».

وتفريعاً على هذا المعنى الكلي للاستخلاف، تميزت وتتميز الرؤية الإسلامية لنطاق حرية الإنسان- الخليفة- وعلاقته بالثروات والأموال- ومن ثم النظام الاجتماعي في الإسلام .. فالإنسان-في هذه الرؤية- خليفة ومستخلف، تحكم حرياته وعلاقاته بالثروات والأموال بنود عقد وعهد الاستخلاف في العدل والتكافل والمساواة التي تحقق التوازن بين الفرد والطبقة والأمة في التملك والاستثمار والإنفاق.ة

إن المالك الحقيقي- مالك الرقبة-في الأموال والثروات هو خالقها ومفيضها في الطبيعة، اللّـه سبحانه وتعالى .. وهو الذي سخرها كغيرها من قوى الطبيعة وكنوزها، ليرتفق بها الإنسان- ارتفاق تسخير- بمعنى الأخوة- لا ارتفاق سُخْرَة- بمعنى القهر- استعانة بها على أداء مهام الاستخلاف- عمارة هذه الأرض وتزينها- ..

وللإنسان في هذه الثروات والأموال ملكية المنفعة المجازية، ملكية الوظيفة الاجتماعية، التي تتيح له حـرية الاختصاص والاستثمار والتنمية والانتفاع المحكومة ببنود عقد وعهد الاستخلاف من المالك الحقيقي لهذا الإنسان في هذه الثروات والأموال.

وهذا المعنى لـــلاستخلاف في الأموال والثروات- كما هو شأن الـــوسطية الإســـــلامية- لا يجرد الإنسان من حق الملكية للثروات والأموال .. وأيضا لايرفع الضوابط عن حريته في التملك والتصرف .. وإنما يقف بهذه الحرية عند «حرية الخليفة» المحكومة بإرادة وأوامر ونواهي المالك الحقيقي للأموال والثروات.

ولمعنى الاستخلاف هذا جاء التعبير بمصطلح «الحق» عما للآخرين في مال الإنسان ﴿والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم﴾ (المعارج:24-   25)، وجاءت إضـلفة مصطلح «المال» في القرآن الكريم إلى ضمير «الجمع» في سبع وأربعين آية-فالجمع هو الإنسان المستخلف – بينما جاءت إضافته إلى ضمير «المفرد» في سبع آيات كي لا يستأثر وينفرد ويستغنى-وأيضا- كي لايحرم من حق الاختصاص والحيازة والملكية المحكومة بفلسفة وضوابط الاستخلاف.

فلـــــلإنسان مال .. لـكنه في نفس الوقت مال الأمة .. وبعبارة الإمام محمد عبده: «إن تكـافل الأمة يعني: أن مال كل واحد منكم هو مال أمتكم2..وبعبارة الزمخشرى (467 – 538 هـ/ 1075 – 1144م)- في الكشاف- وهو يفسر قول اللّـه سبحانه وتعالى:﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ (الحــــديد: 7):» إن مراد اللّـه من هذه الآية هو أن يقول للناس: إنالأموال التي في أيديكم إنما هي أموال اللّـه، بخلقه وإنشائه لها،  وإنما موَّلكم إياها، وخوَّلكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي أموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب ..»3.

هذا هو معنى الاستخلاف في ميدان الثروات والأموال.

***

عدالة الوسطية المتوازنة

العدل- في المصطلح الإسلامي- هو الضد والمقابل للجور والظلم .. لا بـــالمعنى السلبـي-فقط-أي نفـى الجور والظلم وغيبتهما .. وإنما بالعنى الإيجابي المتمثل في سيادة «الوسطية الإسلامية الجامعة» التي لا تنحاز إلى قطب واحد من قطبي الظاهرة، وكذلك لا تنعزل عنهما معا ولا تغايرهما كل المغايرة، وإنما تجمع عناصر العدل  والحق فيهما، مكونة الموقف العادل بين ظلمين، والحق بين باطلين، والمعتدل بين تطرفين .. فالعدل: هو التوسط .. والوسطية الجامعة لعناصر الحق من أقطاب الظواهر موضوع الدرس ومحل النزاع والاستقطاب ...

وهذا المعنى للعدل-في المصطلح الإسلامي-هو الذي يشير إليه حديث رسول اللّـه ﷺ الذي يقول: «الوسط: العدل .. جعلناكم أمة وسطاً». رواه الترمذي والإمام أحمد.

والعدل- في شرعة الإسلام- فـــــريضة واجبة، وضرورة من الضرورات الاجتماعية والإنسانية، وليس مجرد «حق» من الحقوق التي لصاحبها أن يتنازل عنها إن هو أراد ذلك، أو أن يفرط فيها بالإهمال، دون وزر وتأثيم .. إنه فريضة واجبة فرضها اللّـه سبحانه وتعالى على الكافة دون استثناء، بل لقد فرضها على ذاته سبحانه بالمعنى اللائق

بذاته حتى لقد جعلها اسما من أسمائه الحسنى .. وفرضها على رسوله ﷺ وأمره بها: ﴿فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل  الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا  وبينكم﴾ (الشورى:15).وفرضها على أولياء الأمور، من الولاة والحاكم والرعاة تجاه الرعية والمتحاكمين: ﴿إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعمّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا﴾ ( النساء: 58).

بل لقد أنبأنا اللّـه سبحانه وتعالى أن هذه «الأمانة» التي فرض على الإنسان حملها وأداءها، كانت هي المعيار الذي تميز به الإنسان وامتاز عن غيره من المخلوقات غير المختارة: ﴿إناّ عرضنا الأمانة لى السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا﴾ (الأحزاب: 72) .. ومن المفسرين من قالوا: إنها أمانات الأموال، والعدل بين الناس فيها .. وفرضها معيار للعلاقة بين الرعية وبين أولى الأمر-الدولة والسلطان- يشبر إليه حديث رسول اللّـه صلى اللّـه عليه وسلم الذي يحدث الولاة عن تكافؤ «العقد» بينهم وبين رعيتهم، محذرا إياهم من التفريط بما عليهم تجاه الرعية في سياق حديثه إلى الرعية عن علاقتهم بـالولاة والأئمة: «إن لهم- (الأئمة)- عليكم حقا، ولكم عليهم حقا مثل ذلك، ما إن استرحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللّـه والملائكة والناس أجمعين ..» رواه الإمام أحمد.

والعدل فريضة في مجتمع الأسرة- الذي هو لبنة بناء مجتمع الأمة- يشير إليها حديث رسول اللّـه ﷺ الذي يقول فيه: «اعدلوا بين أبنائكم» رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والإمام أحمد .. تعينه الآية القرآنية التي تقرر ما للمرأة وما عليها: ﴿ولهن مثل الذي عليهن

بالمعروف﴾ (البقرة: 228).وتلك التي تعلق التعدد في الزوجات على تحقق العدل بينهن: ﴿فإن خفتم ألا تعدلوا فحدة﴾ (النساء: 3).

إنها- العدالة- فريضة شاملة لكل ميادين الحياة: عدل الولاة في الرعية .. وعدل القضاة في المتحاكمين .. وعدل الإنسان في أهل بيته .. ولهذا الشمول كانت إشارة حديث رسول اللّـه ﷺ الذي يقول فيه: «المقسطون عند اللّـه يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمنّ عزوجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا». رواه مسلم والنسائي والإمام أحمد.

ويستوى في وجوب العدل، أن يكون تجاه الغير أو حيال النفس .. بل إن تحريم الإسلام ظلم الانسان لنفسه لمن أكبر الأدلة على أن العدل ضرورة وفريضة، وليس مجرد «الحق» من الحقوق .. وإلا لجاز للإنسان أن يتنازل عن «حقه» فيه فيظلم نفسه! ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيهم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا.. إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوّا غفور اً﴾ (النساء: 97 – 99).

وحتى هؤلاء المستضعفين فرض اللّـه على القادرين الجهاد لتحريرهم من الاستضعاف: ﴿ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً﴾ (النساء: 75).

وتؤكد هذا المعنى-تأثيم ظلم الإنسان لنفسه-الآية الكريمة: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين﴾ (النحل: 28– 29).  كذلك يستوي في وجوب العدل أن يكون تجاه «العدو» كما هو واجب تجاه «المولى» .. فالعدل شيء، والمولاة - أي النصرة- شئ آخر .. وإذا كان الإسلام ينهى المسلمين عن موالاة أي نصرة - أعدائهم الذين يقاتلونهم في الدين أو يخرجونهم من الديار، أو يظاهرون على إخراجهم منها.. فإنه يوجب عليهم العدل حتى مع الأعداء ومع من يكرهون:﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولايجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ (المائدة:8)، ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾ (النساء: 135).

وإذا كان العدل فريضة واجبة، وضرورة اجتماعية للإنسان وعليه، تجاه نفسه، وتجاه الآخرين، موالين ومحبوبين كان هؤلاء الآخرين، أم معادين مكروهين، فإنه كذلك فريضة وضرورة في مختلف الميادين، في القانون وأمامه، وفي الشئون الأدبية والمعنوية، وفي أمور المال والثروة والاقتصاد والمعاش .. أي التكافل الاجتماعي ..

***

التكافل الاجتماعي

التكافل: هو التضامن والإعالة والرعاية، على النحو الذي يجبر القصور الحادث لدى طرف من أطراف علاقة التكافل .. فهو تفاعل بين طرفين أو أكثر .. والتكـافل الاجتماعي نظام يقيم عـلاقة التفــاعل والتضامن والإعالة والرعاية بين أعضاء الاجتماع الإنساني في مجتمع من  المجتمعات ..

وإلى هذا المعنـى تشير الآيات القرآنية:﴿وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم﴾ ( آل عمـران:44)، و﴿هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم﴾ (القصص: 12)، ﴿ولا تنقضوا الأيمان بـعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾(النحل: 91).

والتكافل الاجتماعي، في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية مؤسسة على القـاعدة الإسلامية الكلية، قاعدة إرادة اللّـه سبحانه وتعالى قيام التوازن والموازنة والميزان بين الأفراد والطبقات والجماعات والأطراف في مختلف أمم المخلوقات وأنواعها ..

لقد تفرد الخالق سبحانه وتعالى بالوحدانية لا يشاركه فيها مخلوق من المخلوقات .. فجميع من عداه وما عداه-في كل عوالم الخلق-قائم على التعدد والتزاوج .. ولـذلك كانت فلسفة الإسلام لإقامة العدل والعلاقة الصحية بين الأزواج والمتعددين في الميول والمصالح والطاقات والإمكانات والاحتياجات والمقاصد هي التوازن والموازنة؛ أي التكافل الذي يقيم ويحافظ على نسيج الاجتماع، وذلك حتى لا يسير التناقض والتنافر بالأطراف المختلفة إلى الصراع والدمار.

فعدل اللّـه سبحانه وتعالى هو «الميزان» الذي أنزله اللّـه مع الكتاب لتستقيم كل شئون الاجتماع، ومنها شئون الاجتماع الإنساني ﴿الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان﴾ (الشورى: 17)، ﴿وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط﴾ (الحديد:25) .. فالعدل الإلهي هو أداة «التوازن» في مختلف ميادين الحياة..

ولأن اللّـه قد استخلـف الإنسان –مطلق الإنسان- في الثروات والأموال، فلقد حدّد للخلفاء والوكلاء-المستخلفين في الثروات والأموال -المعالم التي تقيم التكافل بينهم وتحقِّق التوازن لهم في هذه الأموال والثروات، معالم التكافل والتضامن والاشتراك المؤسس على حل مصدر الحيازة، وحل أنواع الإنفاق والتـنـمـيـة والاسـتـثـمـار والاكتفاء فيالاختصاص بحد الكفاية، وتدوير ما زاد ذلك للصالح العام لعموم المستخلفين.. فما زاد عن كفاية «التكافل الخاص» ينفق ويوظّف لإقامة «التكـــافل العام».. والإنفاق-في العرف الإســـــلامي-لا يقف عند الصدقات، وإنما هو مطلق توظيف المال الحلال في كل وجوه الاستثمار في جميع ميادين التفع والتكافل العام.

وهذا التكــــافل الاجتمــــاعي الإسلامي في شؤون المعاش-المادية والاجتماعية-لايعني «المساواة الحسـابية» بين أفراد المجتمع، وإنما يعني «التوازن» الذي يحقق حد الكفــــاية للجميع، وضبط التفاوت بضوابط الحلال الديني والكفاءة في العطاء، مع وضع سقف للتفاوت يمنع الاحتكار والأثرة والطغيان .. إنه المحقق لغنى الكفاية للجميع، مع فتح أبواب الثراء أمام الكفاءات والإمكانات بعيدا عن «الكنز» المعطل لدوران عجلة التنمية والاستثمار وبعيدا عن «الاستفراد» الذي هو المقدمة للطغيان ..

وعن هذه الفلسفة التكــــافلية التي حققها الإسلام في الثروات والأموال، تحدث الفروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال: «والذي نفسى بيده، ما من أحد إلا وله في هذا المال حق، أعطيه أو منعه! وما أحد أحقّ به من أحد .. وما أنا فيه إلا كأحدهم! فالــــرجل وبلاؤه .. والرجل وقدمه .. والرجل وغناؤه .. والرجل وحاجته»4.

وتحدّث الإمام علي بن أبي طـــالب كرم اللـّه وجهه، فقال: «إن اللّـه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متّع به غني، إن الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة، وإن المقلَّ غريب في بلدته ..5»

إنه «الميزان» يعتدل «بالتكافل» ويختل بغيبته، فما جاع فقير إلا بما متّع به غني، وهو «حق» معلوم .. أي فريضة إلهية .. وتكليف شرعي.

أما خامس الراشدين، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فلقد رسم لهذا التكافل الاجتماعي-الذي أعاد العدل لموازينه بعد أن اختلت – صورة تجسد فلسفته الإلهية، عندما قال: «إن أهلي أقطعوني ما لم يكن لي أن آخذه، ولا لهم أن يعطونيه، وإن اللـّه تبارك وتعالى قد بعث محمداً ﷺ رحمة إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده فقبضه إليه وترك للناس نهرا شربهم فيه سواء .. ثم قام أبو بكر فترك النهر على حاله .. ثم ولى عمر فعمل على عمل صاحبه .. فلما ولى عثمان اشتق من ذلك النهر نهرا .. ثم ولى معاوية فاشتق منه الأنهار .. ثم لم يزل ذلك النهر يشق منه يزيد، ومروان، وعبد الملك، والوليد، وسليمان، حتى أفضى الأمر إلى وقد يبس النهر الأعظم .. ولن يروى أصحاب النهر حتى يعود إليهم النهر الأعظم على ما كان عليه6.

ذلك أن غيبة التكافل الاجتماعي إنما تعنى حلول «الخلل» محل «التوازن والاتزان والتضامن» بين الجماعة الإنسانية في المجتمع، فيتركز الثراء في جانب، ويتركز الفقر في جانب .. ولذلك كان مجتمع «التكافل الاجتماعي» هو النقيض لمجتمع «دولة الأغنياء» الذي تحدث عنه القرآن الكريم في كثير من الآيات ومنها: ﴿ما أفاه الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾ (الحشر: 7).

ومنها، تلك الآية التي تعلمنا سنة اللّـه في الاجتماع الإنساني .. سنة أن الاستغناء والاستفراد والأثرة والاستئثار لا بد وأن تكون المقـــــدمة المفضية إلى الطغيان: ﴿كلا إن الإنسان ليطغي أن رآه استغنى (العلق: 6– 7).

ومنها الآيات التي تتحدث عن أن غيبة «تكافل التوازن الاجتماعي» عندما تفضي إلى «خلل تركز الثروة في جانب، وتركز الفقر في جانب آخر» ستثمر ترف القلة المفضى إلى البطر والضلال والكفر: ﴿وما ارسلنا  في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون، وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾(سبأ: 34 – 35)، ﴿قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا  أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد﴾(هود: 87)..وهي-الترف- ذات السنة التي تؤدي إلى انهيار الحضارات وتراجع العمران ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرا﴾(الإسراء: 16) فالدمار هو اختلال التوازن وتقطيع روابط التكافل، الذي يتأسس عليه العمران.

***

بين التكافل والمساواة

وإذا كان هذا هو التكافل الاجتماعي المعبر عن فلسفة الاستخلاف الإسلامية في الثروات والأموال؛ فماذا عن موقف الإسلام من «المساواة»؟

إن المساواة هي: تشابه المكانة الاجتماعية، والحقوقية، والمسئوليات، والفرص أمام الناس في المجتمع، على النحو الذي تقوم فيه الحـــــالة المتماثلة بين هؤلاء الناس..

ولقد شاعت الحديث عن المساواة في فكر الحضارة الغربية، منذ أن أعلنت مبادئ حقوق الإنسان في الإعلام الذي أصدرته الثورة الفرنسية لذلك عام 1789م .. فــدخلت المساواة منذ ذلك التاريخ في الكثير من الدساتير والمواثيق القومية والدولية..

وفي ميادين المساواة تذكر- عادة - المساواة السيــاسية.. والمساواة  الاقتصادية.. والمساواة المدنية .. والمساواة الاجتماعية .. ويجرى الحديث

عنها في علاقات المواطنين الداخلية .. وبين الأمم والدول وبين الأجناس والقوميات والشعوب.

وبعض المذاهب والفلسفات قد نحت منحا خياليا «طوباويا» في الحديث عن تصوراتها لتطبيقات مبدأ المساواة بين الناس، فتصورت إمكانية تحقيق التماثل الكامل والتسوية المادية الحسابية بين الناس في كل الميادين، وبــالتحــديد في الميادين الاقتصادية-شئون المال والثروة والمعاش- وفي الميادين الاجتماعية التي تتأثر أوضاعها ومراتبها- عادة - بـأوضاع الاقتصاد والمعـاش والأمـوال والثـروات-لكن هـذه التـصـورات: «الطوباوية» قد استعصت على الممارسة الواقعية وعلى التطبيق في أي مجتمع من المجتمعات حتى تلك التي حكم فيها أنصار هذه المـذاهب والفلسفات ..

ولعل أقرب التـصـورات إلى الــــدقة والواقعية في مـــذهب المساواة وإمكانية وضع مبدئها في الممارسة هو التصور الذي يميز بين:

 (أ) المساواة بين الناس أمام القــــــــانون.. على النحو الذي ينفي امتيازات المــــولد، والوراثة، واللون، والعرق، والجنس، والمعتقد.. فهذه المساواة ممكنة؛ بل ضرورية، وواجبة التحقيق والتطبيق.. وهي قد تحققت بدرجات كبيرة في عديد من المجتمعات.

(ب) والمساواة في تكافؤ الفرص المتاحة بمختلف الميادين.. وذلك حتى يكون التفاوت ثمرة للجهد الذاتي والطـاقة المتاحة، وليس بسبب التمييز والقسر والحجب أو الامتياز.. وهذه المساواة ممكنة وهي هدف يستحق الجهاد في سبيل تحقيقه في الإطار الاجتماعي والدولي على السواء.

 (ج) أما المساواة فيما بعد الفرص المتكافئة فإنها هي التي تعد خيالا وحلما يستعصى على التحقيق، ويناقض السنن والقوانين الحاكمة لـسير الاجتماع والعمران... فبعد تكـــافؤ الفرص أمام الجميع يكون التكافل أي التوازن عند حدود العدل والوسطية؛ أي تحقيق الكفاية للجميع- وليس المساواة الحسابية-مع فتح الأبواب للتفاوت المؤسس على الحلال في الحيازة والاستثمار والإنفاق دونما إسراف أو اكتناز أو استئثار.

ففي المجتمع الذي تتكافأ فيه فرص تحصيل واكتساب وامتلاك العلم والمال والاشتعال بالشئون العـامة سياسية أو اجتماعية، نجد الطاقات لدى الناس متفاوتة، ومن ثم تتفاوت أنصبتهم وحظوظهم في الملك والكسب والمحصول بسبب تفاوت طــاقـاتهم المادية والــذهنية والإدارية .. الخ، فالمساواة في الفرص المتكافئة لا تثمر مساواة في مراكز الناس المالية والاجتماعية لتفاوت القدرات الموروثة والذاتية والمكتسبة بين هؤلاء الناس .. إنها مساواة في تكــافـؤ الفرص وليست مساواة في الأنصبة والحظوظ من هذه الفرص ..

وإذا جاز لنا أن نجسد المساواة فيما بعد تكافؤ الفرص- وهي التي يعبر عنها التكــــــافل الاجتمــــــاعي-فإن صورة «الجسد الواحد» هي المجسدة لهذا التكـافـل وهذه المساواة ... فـأعضاء الجسد تتكـافـأ في الفرص المتـاحة لها كي تستمد من القوى والطـاقـات، ومع ذلك فهـي متفاوتة في الأحجام والطـاقـات والاحتياجات والمسؤوليات ... ثم هي؛ مع ذلك وفوق ذلك، متكـافلة في الأخذ وفي العطاء وفي الشعور ... فبينها جميعـا التكـــافل الجـــامـع ثم إن لها بعد ذلك حظــوظا من التفاوت والامتياز ....لـــــذلك؛ كان حــديث رسول اللّـه ﷺ الذي صوّر التكــــافـل الاجتمــــاعـي الإســــــــلامـي - في الأمة - في صورة «الجسد الواحد»، هو التجسيد لفلسفة الإسلام المتميزة في هذا الميدان: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، رواه البخاري ومسلم.

فإذا غاب هذا التكـافل انحلت روابط الاجتماع في المجتمع، وتحلّلت أعصاب جسد الأمة ... ولقد بلغ الإسلام في التحذير من ذلك إلى الحد الذي جعله سببا في براءة ذمة اللّـه سبحانه وتعالى، وذمة رسوله ﷺ من الجمـاعـة البــشـرة لتي تسقط في مستنقع هذا الخلل الفاحش في علاقات الاجتماع ... وفي ذلك وعنه يقول الرسولﷺ «أيما أهل عَرِصة أصبح فيهم امرؤ جائع قد برئت منهم ذمة الله تعالى ...»، رواه الإمام أحمد.

فمجتمع التكـافل الاجتماعي هو مجتمع الجسد الحي... وإسهام كل عضو في حياة الجسد وحييته ليس متماثلا ولا متساويا، وحظ كل عضو ونصيبه من رصيد حياة الجسد وحيويته ليس متماثلا ... فالتوازن الارتتفاق الذي يصبح فيه كل عضو فـــاعلا ومنفعلا ومتفـــاعـلا مع الآخرين؛ وكأنه المرفق الذي يرتفق به وعليه الآخرون كما يرتفق هو بهم وعليهم مع التفاوت في الحظوظ والمقادير والدرجات في عملية الارتفاق والتوازن هذه ... إن هذه الصورة هي الممكنة والحقيقية والمـعادلة في مبدأ المساواة بالميادين التي تتفاوت في تحصيلها طاقات الناس وتتفاوت فيها - أيضا - احتياجاتهم لما يحصلون من هذه الميادين.

إن الإسلام هو «دين الجماعة»، ولا وجود «الجماعة» بدون التكـافل الاجتماعي؛ لأن هذا التكـافـل هو موحد النسيج الاجتماعي المحقق لوجود هذه «الجماعة» تتمايز حظوظ الأفراد والطبقات فيما وراء حد الكفاية للجميع ... وعن هذه الصورة الجامعة «للوحدة»، والتمايز» جاءت كلمات الإمام علي بـن أبـي طـــــالب رضي الله عنه إلـى واليه على مصر «الأشتر النخعي» (37هـ/ 657م)-في عهد توليته-التي قال فيها: «واعلم أن الرعية طبقات، لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولاغنى ببعضها عن بعض، فمنها: جنود اللّـه ... ومنها: كتـاب العـــامة والخـــاصة ... ومنها: عمـال

الإنصاف والرفق، ومنها: أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ...ومنها: التجار وأهل الصناعات... ومنها: الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة... فالجنود حصون الرعية وسبل الأمن ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج لهم من الخراج ... ثم لا قوام لهذين الصنفين إلا بالصنف الثالث من القضاة والعمال والكتاب ولا قوام لهم جميعا إلا بالتجًّار وذوي الصناعات ...»7.

فهي كلمات ترسم لــوحة الحقيقة الاجتمــاعية لمـذهب الإسلام الاجتمـاعي: التعددية القــــائمة عـــــلاقات أطرافها على «التوازن» أي التكـافل الاجتماعي، فلا قيام لطرف منها إلا بالارتفاق مع الجميع.

***

فرائض ... وليست مجرد حقوق:

وإذا كانت الفلسفات الاجتماعية غير الإسامية قد وضعت العدل الاجتماعي في إطار حقوق الإنسان ... فإن الإسلام قد وضعه في مرتبة الفـرائـض والوجبات والتكاليف التي يأثم الإنسان - فردا أو جماعة-إذا هو تنازل عنه حتى لو كان هذا التنازل طواعية واختيارا ...

كـــذلك، لم يقف الإسلام-في التكــافل الاجتمـــــاعي- عند حدود «الفلسفة» التي تحدد «المقاصد، والغايات»، وإنما وضع الفرائض التي تمثل «الآليات» التي تحقق هذه المقاصد والغايات ... وإذا كان استقصاء الحـديث عن هذه «الفرائض –الآليات» فيمـا فرض الإسلام على المسلمين، هو مما يخرج هذه الصفحات عن حيز المطلوب .. فــإننا نكتفي - في هذا المقام - بالإشارة إلى بعض الفرائض الإسلامية التي يمكن لها - في الواقع الاقتصادي والاجتمــلعي «المــــأساوي - العبثي» الـراهن-أن تخرج عـلمنا من الظلمات إلى النور ...

 إن المجتمع المسلم يجب أن يحقق «التنمية الاجتماعية» و»التكافل الاجتماعي» بالحلال الإسلامي وذلك بواسطة:

  • صندوق التنمية بالرّكاز:

ذلك أن معظم ثروات الأمة الإسلامية مركوزة في باطن أرضها ... والإسلام يفرض فيما يستخرج من هذا «الــــرّكاز» مقدارهـا 20%... وتستطيع الأمة أن ترصد زكاة الرّكاز-أي خمس قيمة المستخرج من البترول والغاز والفــــــوسفات والحديد والفحم والكـروم والبــوكسيت والمنجنيز والقصدير والنحاس والرصاص والذهب والفضة... الخ- في صندوق للتنمية الاقتصادية الشاملة لأوطان الأمة ... على أن يراعى في أولويات التنمية بمختلف الأقطار البدء بتحقيق الكفاية في الضروريات فالحاجيات فالتحسينات والكماليات...

وبصندوق التنمية هـذا تتحقق العدالة الإسـلامية بين كل أقطار الأمة وفق ما هو مستخرج من أرضها ... والعدالة في التنمية والتكافل الاجتماعي وفق سلم الضرورات فالحاجيات فالتحسينات، وبه- كذلك-

تتحرر الأمة من أسر الــديون الخارجية، وحـرام الــربا الفـاحش، اللذين يرهنان موارد الأمة وحريتها وإرادتها لدى الدائنين

وبهذا المصدر للتنمية والتكافل يزدهر عمراننا الدنيوي، ونرجو ثواب اللّـه ورضوانه يوم الدين.

  • صندوق الزكاة العامة:

في غير الــــرّكاز من الزروع ورؤوس الأموال والتجارات والعقارات والحيوانات والحلى المدخرة.. الخ .. الخ ومقادير هذه الزكوات تتفاوت بتنوع ما هي مفروضة فيه، فمنها مــــا هو 5،2%، وما هو 5%، وما هو 10%.. الخ ..الخ.

وباستطاعة خطة التنمية الإسلامية أن تقيم لهذه الزكوات مؤسسة توظف أموالها في التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة للفئات والمصارف التي حددها القرآن الكريم: ﴿إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين  والعاملن عليها والؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾(التوية:60).

ولخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية حرية توجيه أموال هذه الزكوات للاستثمار في الميادين التي تحقق التكافل الاجتماعي، إما لأن ذلك هو (سبيل اللّـه)، أو لأن وضع هذه الأموال في الإنتاج المحقق لتكافل مصارف الزكاة هو أفضل من إخراجها للاستهلاك.

  • والوقف:

الذي نهضت مؤسساته -في تاريخنا الحضاري- بتمويل صناعة الحضارة الإسلامية وتجــديـدها وبـإشـاعة مستويات من التكـافل الاجتمــاعي في عصور كان افتقادها إلى هذا التكــافل شديدا ... إن الوقف على المنافع العامة -إنتاجا واستهلاكا- هو النموذج الصادق لملكية الجماعة والأمة، بعد أن تمخضت اشتراكيات العصر عن ملكية «للدولة» أو«البيروقراطية» أو«الحزب» لأن الوقف هو إخراج المال-في الواقع- إلـى الأمة والجماعة التي هي المستخلف الأصلي في الثروات والأموال.

ومن الممكن إعطاء الوقف أبعادا حديثة، إن في المؤسساتوالآليات أو في الآفاق التي تنهض بتنميتها والإنفاق عليها مؤسساته ... كما أن بالإمكان إدخال نظام «الأسهم» و«الحصص» في تكوين رؤوس الأموال ومصادر الدخل الموقوفة على النفع العام ...

إن أمة تولّت صناعة حضاراتها أهليا وطوعيا بالأوقاف ... عمرانها الدنيوي فربة إلى اللّـه سبحانه وتعالى يحفِّزها إليها الاعتقاد الديني الجــدير بــإحياء هذا الشكل من أشكال التمــويل لتحقيق التكــافل الاجتماعي في الم أصبح غابة توظف فيها 97% من رؤوس الأموال في المقامرات والسمسرة، و90% من عقول العلماء في خدمة صناعة السلاح والدمار.. و86% من ثمرات الإنتاج العالمي لرفاهية 20% من السكان.

وبــإحياء الوقف-أيضا-ترجّح كفة «الأمة» على كفة «الدولة» في عصر غدت فيه «الدولة» «دينــــــاصوراً شموليا» يغتال الحـــــــريـات والخصوصيات، وخاصة عندما تسيطر على مصادر الأرزاق ...

  • وتحريم استثمار المال الإسلامي خارج ديار الإسلام:

فلا يحل- في واقع تستعيد فيه الـــــديون أمة الإسلام، وتستنزف ثروات المسلمين، وتهدر إرادتهم- أن توظف ثروات المسلمين خارج ديار الإسلام ... ويعظم هذه الضرورة من ضرورات التكافل الاجتماعي حجم الاستثمار الإسلامي خارج بلاد المسلمين مقارنا بحجم هذا الاستثمار في البلاد الإســـلامية ... ففي المدة من عام 1953م حتى نهــــاية عام 1993م، بلغت نسبة المستثمر من المال العربي خارج ديار الإسلام 670 بليوناً من الدولارات، بينما لم يتعد المستثمر من هذا المال ف البلاد العربية 12 بليوناً من الدولارات ... أي أن مقابل كل دولار مستثمر في الداخل هناك 56 دولارا مستثمرة في دعم الاقتصاديات اللا إسلامية بل والمعادية لنهضة المسلمين وعزة الإسلام8.

***

بهذه المصادر والآليات والمــؤسسات-وأمثالها –يحقق المجتمع الإسلامي التنمية الاجتماعية بالحلال الإسلامي وبها نقيم التكـافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع المسلم ... فنقيم الإسلام في واقعنا ...ثم نقول للعالم: هذا هو النموذج الإسلامي في التكـافل العادل بين بني الإنسان.  وبذلك – أيضا - نحول طاقات التدين ومخزون الاعتقاد الديني نحو إنجاز«المقاصد العامة» النافعة، بدلا من استهلاكها واستنزافها- ونحن معها - في «الأشكال» و«الجزئيات».


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
ندوة حقوق الإنسان في الإسلام: المنعقدة في مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 12_10 محرم 1420هـ / 28_26 نيسان 1999م. مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص9-64.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

اتفاقيّة منظّمة التّجارة العالميّة في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

عبد الرحمن يسري أحمد: أستاذ الاقتصاد والاقتصاد الإسلامي، قسم الاقتصاد- كلية التجارة- جامعة الإسكندرية محتويات المقال:مقدمة ضرورية عن مقاصد الشريعة، ومدخل مقترح لهذا البحثمقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الأموال والمعامل...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة ومؤتمرات السّكان: تحليل موقف الإسلام من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة - 1979

أحمد أبو الوفا: أستاذ القانون الدولي العام- كلية الحقوق- جامعة القاهرة محتويات المقال:أولًا: مقدمة عامةثانيًا: الأصل في الإسلام هو عدم الارتباط بأي ميثاق دولي يتعارض مع القواعد الإسلامية العليا _القواعد الدولية الآمرة في...

مقالات عن مقاصد الشريعة الإسلامية
إقرأ المزيد

العمل الخيري مقصد عام للشريعة الإسلامية

إبراهيم البيومي غانم سلكا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون- وأشرنا إليها فيما سلف- بحثاً عن موقع العمل الخيري من هذه المقاصد، ووجدنا أن «العمل الخيري» مقصداً عاماً وثابتاً من مقاصدها، وأن له في ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقارنات بين العمل الخيري في الحضارتين الإسلامية والغربية

 إبراهيم البيومي غانم ما من حضارة إنسانية إلا ولها في العمل الخيري «فلسفة نظرية» و«إنجازات عملية» تصدق فلسفتها. ينطبق ذلك بدرجات متفاوتة على جميع الحضارات التي عرفتها البشرية باستثناء واحد فقط-كما أسلفنا-هو «الحضارة...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مدخل مقاصدي للتنمية

حسن جابر محتويات المقال:آيات التسخير وبؤس الاجتهادآيات الرّبا وانسداد باب الاجتهادفقه العمل والكدح والإنتاجالوسطية في الإنفاقغربة المقاصد الشرعيةالمعتقدات الإنسانية والتنميةالمراجع والمصادر استهلالاً، ينبغي توضيح العنوان...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد القرآن في مجتمع الخير العام

إبراهيم البيومي غانم إذا سلكنا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون بحثاً عن موقع «الخير» ومفهومه القرآني الذي سبق أن أوضحنا ملامحه العامة، سنجد أن «العمل الخيري» مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، وأ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الأموال في القرآن: رؤية تأسيسية

محمد أحمين: مراقب ومستشار شرعي في المصرفية الإسلامية. محتويات المقال:محاور البحثمنهج البحثالمبحث الأول: المقاصد العقدية للأموال في القرآنالمطلب الأول: مقاصد خلق الأموال في القرآنالمطلب الثاني: مقاصد التدبير الرباني للأمو...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تفعيل المقاصد في العمل الخيري

إبراهيم البيومي غانم: مستشار – المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. محتويات المقال:أو لًا: مجتمع الخير العام في القرآنثانيًا: مقاصد القرآن في مجتمع الخير العامثالثًا: تشريع الخير وبناء الخير العام1 – ((الحرية))2 – ...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top