أيمن فؤاد سيِّد
تُمَثِّلُ النُّصوص الجغرافية الإسلامية مصدرًا أساسيًا لدراسة الحضارة العربية الإسلامية: أدبًا وتاريخًا وإدارة واقتصادًا، إضافة إلى مادتها الجغرافية البحتة. وتَعَرَّف المسلون على التراث اليوناني في الجغرافيا والفَلَك ونقلوه إلى العربية في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري/ الثامن الملادي.
وعرف المسلمون اعتبارًا من القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي نمط (( الجغرافيا الوَصْفيَّة)) الذي يرتبط به ارتباطًا وثيقًا أدب الرحلات. ويعد القرن الماضي والقرن الرابع للهجرة عصر الازدهار الخلاّق للأدب الجغرافي العربي، ولا يرجع ذلك فقط إلى العدد الوفير من المؤلّفين الذين أثروا المكتبة العربية بمؤلفاتهم، وإنما إلى ظهور حركة جديدة استمرت لمدة نصف قرن تُخْرج مجموعةً من المصنفات يسودها طابع الوحدة والانجسام أطلق عليها كراتشكوفسكي اسم (( المدرسة الكلاسيكية للجغرافية العربية)) وهي المدرسة التي اهتمت بوصف (( المسالك والممالك)) وصاحبها ظهور المُصَوّرات الجغرافية أو (( الخراطات))1.
وشهدت الفترة الممتدة بين القرنين السادس والعاشر للهجرة/الثاني عشر والسادس عشر للميلاد مؤشرات انهيار التأليف الجغرافي العربي. ففيما عدا بعض الاستثناءات-مثل مؤلفات الشريف الإدريسي وياقوت الحموي وأبو الفداء –تراجع مستوى الإنتاج الجغرافي كثيرًا مقارنًا بالفترة السابقة. ولم تعد أصالة المعلومات ونقدها – التي كانت أهم ما يُميّز المؤلفين السابقين-تعني المؤلفين الجُدُد في شيء وحلّ محلها تلخيص المعلومات التي توجد بتفصيل وافٍ في المؤلفات السابقة. ولكن أهم ما يميز هذه الفترة هو ظهور مؤلفات كبيرة الحجم اهتمت بإبراز المعارف الجغرافية الإقليمية بفضل العديد من المؤرخين والجغرافيين، رغم أنهم لم يُقدّموا أيّ إسهام ملحوظٍ ولا تظهر لديهم أية أصالة في المفهوم أو التطبيق كما أنه لم يطرأ أيّ تطورّ جوهري على الجغرافيا الفلكية أو الطبيعية البشرية.
ورغم أن العراق كان مركز النشاط الجغرافي في العصر السابق فإن دوره تراجع حلّت محله مصر والشام التي شهدت في عصر المماليك ازدهار نمط الموسوعات وأدب الخطط.
كتب الجغرافيا الرياضية
تقوم الجغرافيا الرياضية على أساس وَضْع صورة الأرض المعمورة بناء على الأطوال والعروض المستخرجة بالقياسات الفلكية، وقد وَصَل هذا العلم إلى العلماء المسلمين بعد ترجمة مؤلفات باطيلموس وخاصة كتاب (( الزيج)) الذي عمله ثاوون الإسكندراني، وكتاب (( المجسطي))، اللذين ترجما بين سنتي 175-180هـ، وكتاب (( الجغرافيا)) الذي ترجم مرتين أو ثلاث على يد كل من يعقوب بن إسحاق الكِنْدي وثابت بن قُرَّة الحَرَّاني وابن خُرداذبْه2.
وفي عهد الخليفة المأمون العباسي المتوفي سنة 218هـ/833م أسّس مَرصد فلكي في حي الشماشية ببغداد وعهد المأمون إلى الفلكيين الذين عملوا فيه بمهمة امتحان البيانات الواردة في زيج بطلميوس وكتاب المجسطي فيما يتعلق بحركات الشمس والسيارات. ونتيجة لذلك ألف العديد منهم جداول فلكية أي زيجات أطلق عليها تعبير (( الممتحن)). وأصبح هؤلاء العلماء معروفين بلقب (( أصحاب الممتحن))3. وقد فقدت كل هذه الزيجات ولم يبق منها سوى ما اقتبسه العلماء المتأخرون مثل المسعودي4 وأبي عبد الله محمد بن أبي بكر الزهري5 (من القرن السادس الهجري).
ومع ذلك فقد احتفظت مكتبة الأسكوريال بإسبانيا بنسخة من هذا الزيج تعد الثمرة الوحيدة التي وصلت إلينا من جهد هؤلاء الفلكيين القدماء، برقم 924 وضعها مؤلف فارسي الأصل هو يحي بن [ أبي] منصور المتوفي حوالي سنة 215هـ/830 م، قدّم لها سزجين في سنة 1986م نشرة بالفاكسميلي بعنوان (( الزيج المأموني الممتحن)).
وكان من نتيجة هذا العمل أن كلف المأمون سبعين من العلماء الفلكيين بعمل صورة الأرض التي تعد من أكبر إسهامات المسلمين في تاريخ العلوم، وقد احتفظت إحدى نسخ كتاب (( مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)) لابن فضل الله العمري المحفوظة في مكتبة أحمد الثالث بإستانبول برقم 279/1 بصورة لخريطة العالم المأمونية وهي مؤرخة سنة 740هـ/1340م بين صفحتي 293-294.
ومن أهم مصادر الجغرافيا الرياضية التي كانت لها تأثير كبير على الإنتاج الجغرافي اللاحق كتاب (( صورة الأرض)) المنسوب للخوارزمي6، ولم يظفر كتاب في الفلك والجغرافيا الرياضية بطبعة علمية نموذجية وتعليقات إضافية كما هو الحال مع (( الزيج الصابئ)) الذي نشره بين سنتي 1899و1907 كارلو ألفونسو نللينو7.
أما (( الزيج)) الذي عمله في مصر أبو الحسن علي بن يونس الصَّدفي والذي بدأ العمل فيه سنة 380هـ/990م على جبل المقطّم في المرصد الذي ضم فيما بعد إلى ((دار الحكمة)) التي أسسها سنة 395هـ/1005م الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله وعرف باسم (( الزيج الحاكمي الكبير)) فقط حفظ لنا في عدة مخطوطات غير كاملة، ولم تنشر منه سوى شذور قليلة ونقل جزء منه إلى الفرنسية كوسان دي برسفال Caussin de Percival سنة 1803-1804م.
❖ ❖ ❖
وتنقسم المُصنفات الجغرافية التي كتبت خلال القرنين الثالث والرابع للهجرة إلى نوعين كبيرين:
1 -مؤلفات تناولت جغرافية العالم مع تناولها تفصيليًا (( دار الإسلام))، وتعرض في الوقت نفسه للجغرافيا الفلكية والطبيعية البشرية والاقتصادية يمثلها ابن خرداذبه واليعقوبي وابن الفقيه وقدامة بن جعفر والمسعودي. كان العراق هو المركز الرئيسي الذي ظهرت فيه هذه المصنفات وينسب إليه العدد الأكبر من هؤلاء الجغرافيين، لذلك فقد أطلق على هذه المؤلفات (( المدرسية العراقية)).
2 -مؤلفات تمثلها كتابات أبي زيد البلخي والإصطخري وابن حوقل والمقدسي البشاري، تناولت فقط (( دار الإسلام)) وصفة كل إقليم بطريقة منفردة، ولم تعرض أبدًا للبلاد غير الإسلامية سوى للأقاليم المتاخمة لها8. يقدم لنا ممثلو هذه (( المدرسة الكلاسيكية للجغرافيا الإسلامية)) أفضل وصف للعالم الإسلامي استقوا مادتهم فيه عن طريق المشاهدة من خلال رحلاتهم التي انتظمت أقطارًا وأقاليم مختلفة، أو مما سمعوه من أهل تلك النواحي، وعالجوا فيه الحديث على جميع المسائل المتعلقة بالسكان والمواصلات والحياة العامة في صورتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
واستندت مصنفات هذه المدرسة على سلسة من الخارطات أطلق عليها كراتشكوفسكي اسم (( أطلس الإسلام)) تُمثل أوج ما بلغه فن رسم الخرائط الجغرافية (( الكارتوغرافيا)) عند العرب والمسلمين9.
ويحتوي هذا الأطلس دائمًا وفي نظام لا يتغيّر إحدى وعشرين خارطة متتابعة تبدأ بخارطة العالم المستديرة أو الخارطة المأمونية، والغرض الأساسي من هذا الأطلس هو تصوير (( العالم الإسلامي)) وفقًا لمفهوم هذا اللفظ عند الإصطخري وابن حوقل بوجه خاص10.
ورائد هذه المدرسة هو أبو زيد البلخي المتوفي سنة 322هـ/93م الذي كتب كتابه (( صور الأقاليم)) نحو سنة 308هـ/920م أو بعد ذلك بقليل. ولم يصل إلينا نص كتاب البلخي كما أن المخطوطات التي نسبت إليه في فترة ما ترجَّح أنها للإصطخري، ومع ذلك فإن رأي دي خويه يرى أن كتاب الأصطخري يمثل نسخة موسعة لكتاب البلخي أتمها بين سنتي 318-321هـ/930-933م في حياة البلخي نفسه يظل مقبولاً11.
وانحصر اهتمام ممثلي هذه المدرسة على وجه التقريب في وصف (( دار السلام)) خاصة إيران، باستثناء ابن حوقل الذي يعد الخبير الأول من بين جغرافيين هذه المدرسة بشؤون المغرب، ويبدو ذلك أكثر وضوحًا من خلال مخطوطة كتابته (( صورة الأرض)) التي نشرها كرامرز Kramers وذلك بمقارنتها بطبعة دي خويه حيث نجد فيها وصفًا مفصلاً لمنطقة البُحَة وتاريخهم ولإيرتريا مع ذكر أسماء ما لا يقل عن مائتين من قبائل البربر، كما يقدم لنا وصفًا مفصلاً لموضع صقيلية12. ويقدم لنا نص ابن حوقل كذلك صورة من أدق الصور للأندلس في العصر الأموي مما جعل الكثير من الباحثين يرجحون أنه كان يعمل بلا ريب جاسوسًا للفاطميين. كذلك فإن وصفه لأصفهان يمثل أهم إضافة في هذه المصنفات للجانب الشرقي في العال الإسلامي.
وتولى المستشرق الهولندي ميشيل دي خويه M. De Goeje (1836-1909م) مهمة إخراج (( مكتبة الجغرافيين العرب)) Bibliotheca Geographorum Arabicorum التي اشتملت على أهم مؤلفات هذه المدرسة (( للإصطخري والمقدسي والبشاري وابن الفقيه الهمداني وابن خرداذبه وقدامة بن جعفر وابن رسته واليعقوبي والمسعودي)) بين سنتي 1870 و1894، ثم أعاد نشر كتاب المقدسي البشاري (( أحسن التقاسيم)) في سنة 1906 اعتمادًا على مخطوطا ت جديدة.
وبرغم اعتماد دي خويه في إعداد طباعة ''مكتبة الجغرافيين العرب'' على مخطوطات فريدة، فقد شهدت الأعوام التالية لوفاته الكشف عن عدد كبير من مخطوطات مؤلفات هذه المدرسة بينها ما لا يقل عن اثني عشرة مخطوطة في مكتبات إستانبول وحدها بعضها قديم جدًا، وكلها تؤكد ازدياد الحاجة إلى طبعة جديدة للأجزاء الأولى من (( مكتبة الجغرافيين العرب))،مع ربطها بمصادرها ومقابلتها على نقول المتأخرين منها وعلى المصادر الموازية الأخرى. وعلى ذلك فقد قام كرامرز J.H. Karamers بإصدار طبعة ثانية الكتاب (( المسالك والممالك)) لابن حوقل بعنوان (( صورة الأرض)) سنة 1938 اعتمادًا على مخطوطة مكتبة متحف طوبقبو سراي بإستانبول رقم 3346 وهي نسخة قديمة مؤرخة سنة 479هـ/1086م،وأصدر محمد جابر الحيني طبعة ثانية لكتاب (( المسالك والممالك)) للإصطخري سنة 1961.
ومن بين الكتب التي نشرها دي خويه في هذه السلسلة (( مختصر كتاب البلدان)) لابن الفقيه الهمداني وهو المختصر الذي علمه في عام 413هـ/1022م شخص يدعي أبو الحسن علي ابن جعفر الشيرازي ربما كان هو نفسه الناسخ الذي نسخ نسخة (( إصلاح المنطق)) لابن السكيت المحفوظة في مكتبة كوبريلي ونسحة (( ديوان البحتري)) الموجودة في نفس المكتبة. وقد ذكر ابن النديم أن (( كتاب البلدان)) لابن الفقيه كان يقع في نحو ألف ورقة وأضاف أنه أخذه من كتب الناس وسلخ كتاب الجيهاني13، كما اطّلع المقدسي البشاري على نسخة من هذا الكتاب تقع في خمسة مجلدات14. ويبدو أن أصل كتاب ابن الفقيه الذي صنفه نحو عام 290هـ/903م قد فقد مند زمن بعيد، وإن كان ياقوت الحموي-في مطلع القرن السابع الهجري – قد وقف على المسودة الأصلية للكتاب ونقل عنها فقرات مطولة. ثم اكتشف العالم التركي زكي وليدي طوغان في المكتبة الرضوية في مشهد بإيران في مجموع جغرافي رقمه 5229 عرّف به سنة 1924 الجزء الثاني من مسودة الكتاب الأصلي يتناول العراق وأقاليم آسيا الوسطى؛ وقد نشر هذا المجموع-الذي يشتمل كذلك على نسخة ناقصة لرحلة ابن فضلان ورسالتين لأبي دُلَف مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبوعي تصفان رحلته إلى الصين ورحلته إلى أدربجان وفارس التي قام بها نحو سنة 331هـ/941م –الدكتور فؤاد سزجين سنة 1987 بطريقة الفاكسميلي.
كذلك فإن ما نشره دي خويه من كتاب (( المسالك والممالك)) لابن خرداذبه لا تمثل سوى المسودة الأولى للكتاب.
وإذا كانت هذه هي مصنفات هذه المدرسة التي وصلت إلينا وتمّ نشرها، فما هي الكتب الجغرافية التي ترجع إلى هذه الفترة وفقدت أصولها أو حفظت لنا منها نقولٌ في المؤلفات المتأخرة. يذكر ابن النديم أن (( أول من ألف في (( المسالك والممالك)) كتاباً ولم يتمه أبا العباس جعفر بن أحمد المرزوي))15 وأضاف أن كتبه عزيزة جدًا وأنه توفي بالأهواز وحملت كتبه إلى بغداد وبيعت في طاق الحراني سنة283هـ/897م16، ويتزامن هذا التاريخ مع التاريخ الذي كان ابن خرداذبة قد فرغ فيه من المسودة الأولى بل وربما من الثانية لكتابه الذي يحمل العنوان نفسه.
ويبدو أن كُتب المرزوي قد اختفت بعد بيعها في طاق الحراني، فلم يحفظ لنا التاريخ أية معلومات عنها فيما عدا إشارات ضئيلة واقتباسات حفظها لنا كل من ابن الفقيه الهمداني وياقوت الحموي تتعلق بالقبائل التركية وحجر المطر17، واستخلص كراتشكوفسكي من هذه الروايات أن آثار المرزوي كانت تضم مادة قيمة عن جغرافية آسيا الوسطى!.
ويرجع إلى هذه الفترة جغرافي بارز كان له تأثير عميق على نمو وتطور الجغرافيا العربية هو الوزير أبو عبد الله أحمد بن محمد بن نصر الجيهاني الكاتب وزير نصر بن أحمد الثاني السامالي صاحب خراسان الذي ذكر ابن النديم أنه ألف كتابًا في ((المسالك والممالك))18. ويرجح أن ذلك كان قبل عام 310هـ/ 922م، وذكر المقدسي أنه رآه في سبع مجلدات في خزائن عضد الدولة19، وللأسف فقد فُقِد كتابه اليوم. وبما أنه شغل رتبة الوزارة وكتب كتابه هذا وهو في بخارى فإنه تمكن من مدّ مجال بحثه إلى آسيا الوسطى والشرق الأقصى. واستخدم عدد كبير من الجغرافيين العرب كتاب الجيهاني فيما بعد والذي كان تبعًا لوصف المسعودي كتابًا (( في صفة العالم وأخباره وما فيه من العجائب والمدن والأمطار والبحار والأنهار والأمم ومساكنهم وغير ذلك من الأخبار العجيبة القصص الطريفة))20. وكانت المعلومات التي أوردها الجيهاني عن مناطق آسيا الوسطى المرجع الرئيسي الذي اعتمد عليه الشريف الإدريسي في (( نزهة المشتاق)) في وصف هذه البلاد21.
وإذا كانت كل كتب ((المسالك والممالك)) السابق الإشارة إليها قد كتب في العراق وفارس فإن جغرافيًا مصريًا عاش في أول عصر الدولة الفاطمية في مصر هو الحسن ابن أحمد (محمد) المُهلبي صنف كتابًا في (( المسالك والممالك)) للخلفية الفاطمي العزيز بالله لذلك فقد اشتهر باسم(( العزيزي)).
وكتاب المهلّبي أهم مصدر اعتمد عليه ياقوت في كلامه عن السودان حيث اقتبس منه في أكثر من ستين موضعًا،وهو لا يقتصر على إفريقيا وحدها فياقوت يرجع إليه مثلاً أكثر من مرة بصدد مواضع مختلفة عن الجزيرة العربية22، كما زار المهلبي سامراء وحفظ لنا ياقوت انطباعاته الشخصية عن أطلالها23.
ويمثل فقدان هذا المصنف خسارة جسيمة لا سيما أن ما حفظه لنا منه ياقوت ( ذكره في ستين موضعًا) وأبو الفداء (ذكره في 135 موضعًا) من مقتطفات كثيرة وقصيرة جدًا يجعلنا على يقين من أن هذين المؤلفين كانا يعتبران المهلّبي ندًا لأعظم الجغرافيين. وفي الوقت الذي نجد أبو الفداء لا يستشهد به إلا فيما يتعلق في البلدان الإسلامية، نعرف مما اقتبسه عنه ياقوت الحموي أن كتابه تجاوز حدود دار الإسلام ووصل إلى الشعوب المجاورة24.
وقد كشف الدكتور صلاح الدين المنجد في صيف عام 1957 ضمن مجموع يمني بمكتبة الأمبروزيانا بميلانو G3 عن قطعة من هذا الكتاب المفقود نقلها محمد بن الحسن الكلاعي المتوفي بعد سنة 404هـ/1013م، أولها: (( قال محمد بن الحسن الكلاعي: قرأت في كتاب المسالك والممالك العزيزي تأليف الحسن بن أحمد المهلبي)) ونقل عنه صفة بيت المقدس وذكر ولاة مصر وصفة دمشق25. وظلّ كتاب المهلّبي معروفًا معرفة مباشرة إلى أيام دولة التيموريين فاستعمله في بداية القرن التاسع الهجري حافظ أبرو عندما وضع مصنفه في الجغرافيا.
وإذا كان المهلبي من أوائل الجغرافيين الذين وصفوا بلاد السودان، فإن كتاب (( أخبار النبوة المَقْرَة وعَلْوَة والبُجَة والنيل ومن عليه وقرب منه)) للمؤلف المصري أبي محمد عبد الله بن أحمد ابن سُلَيم الأسْواني الذي عاش في منتصف القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي والذي بعثه القائد الفاطمي جَوْهر الصَّقْلَبي بكتاب قِبْيرقي ملك النُّوبة، يعرض عليه فيه الإسلام تسديد البَقْط الذي يجب أن يدفعه كل عام ملوك النوبة إلى حكام مصر، وعلى ذلك يكون قيام الأسواني بهذه البعثة في الفترة بين سنتي 358هـ (وصول جوهر إلى مصر) و363هـ (وصول المعز إلى مصر)، ويذكر المقريزي أن الأسواني ألَّف كتابه للخليفة الفاطمي الثاني العزيز بالله الذي حكم بين سنتي 365و 386هـ26. ويشمل الكتاب على وصف دقيق لكل النواحي التي رآها ولسكانها، ويوشك وصفه للنيل أن يكون هو الوصف الوحيد في الأدب الجغرافي العربي البكر الذي يبين لنا المدى الذي وصلة إليه العرب بالمجرى الأعلى للنيل. ويبدو أن هذا الكتاب الذي فُقِد اليوم لم يُعرف خارج مصر فوصف الإدريسي مثلاً لمجرى النيل الأعلى يدل دلالة واضحة على مدى النقص الذي كان يعانيه ذلك المؤلف في المصادر التي تحت يده؛ ولكننا نعرف كتاب الأسواني الآن بفضل النقول التي نقلها عنه ثلاثة من المؤلفين المصريين المتأخرين هم: المَقريزي وابن إياس والمنوفي27.
المعاجم الجغرافية
نشأ هذا الفرع من الأدب الجغرافي في بيئات الغويين العرب أو من أسماهم ياقوت الحموي (( طبقة أهل الأدب))28 في القرن الثاني للهجرة، وهم الذين قصدوا ذكر الأماكن العربية والمنازل البدوية. وتطور هذا الأدب تطورًا مستمرًا حتى ظهر في القرن الخامس الهجري كتاب (( معجم ما استعجم)) لأبي عبيد البكري، ثم في مطلع القرن السابع الهجري كتاب (( معجم البلدان)) لياقوت الحموي. وذكر ياقوت في مقدمة معجمه أهم الذين ألفوا في هذا الفرع وهم أبو سعيد الأصمعي وأبو عبيد السكوني والحسن بن أحمد الهمداني وأبو الأشعث الكندي وأبو سعيد السيرافي وأبو محمد الأسود الغُندجاني وأبو زياد الكلابي ومحمد بن إدريس بن أبي حفصة وأبو القاسم الزمخشري وتلميذه أبو الحسن العمراني، وأبو بكر محمد بن موسى الحازمي وأبو موسى محمد ابن عمر الأصفهاني وأبو الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري29.
وتوجد للمؤلفين الأخيرين نسخ من كتبهم لم تُنْشر بعد الأول(( كتاب الأمكنة والمياه والجبال)) لأبي الفتح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري المتوفي سنة 561هـ/1165م توجد نسخة من كتابه في المكتبة البريطانية برقم 23603، والثاني (( ما اتفق لفظه وافترق مُسمّاه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخط)) لأبي بكرمحمد بن موسى بن عثمان الحازمي المتوفي سنة 684 هـ/1188م وقد نشرها بطريقة الفاكسميلي فؤاد سزجين سنة 1986، 1990م.
أما كتاب ((معجم البلدان)) لياقوت الحموي المتوفي سنة 626هـ/1229م والذي أتمّ تأليفه سنة 621هـ/1224م واشتمل على معطيات تاريخية وجغرافية واجتماعية تمثل مجمل المعارف الجغرافية في هذا الوقت، فهو مرجع لا غنى عنه لأي شخص يدرس الجغرافيا التاريخية العربية.
وما نشر من ((معجم البلدان)) يمثل مسودة المؤلف للكتب التي نشرها فستنفلد بين عام 1866 و1873 والتي تعد من أجَلّ خدمات الاستشراق الأوربي للأدب العربي، ولكنها لا تستوفي تمامًا المطالب العلمية التي يجب أن يكون عليها نشر النصوص القديمة وتحقيقها مما يتطلب إخراج نشرة جديدة للكتاب على هذا الأساس يضاف إليها نص كتابه الآخر (( المشترك وَضْعًا والمفترق صَقْعًا)) أي معجم للمواضع التي تشرك في الاسم لأنه استخراجه من المعجم ليكون أسهل عند المراجعة.
ونشرت المعاجم الجغرافية اللاحقة لذلك نشرًا جيدًا مثل (( الروض المعطار في خبر الأقطار)) لعبد المنعم الحموي، و(( مراصد الاطلاع)) لابن عبد المؤمن وهو مختصر لكتاب (( معجم البلدان)).
كتب الجغرافيا في المغرب والأندلس
لم يصل إلينا –باستثناء ما كتبه الشريف الإدريسي- كتابٌ واحدٌ كامل ألفه أندلسي في جغرافية الأندلس في لغته العربية. فما كتبه أحمد بن محمد الرازي المتوفي سنة 334هـ/ 946م كمقدمة جغرافية لكتابه (( أخبار ملوك الأندلس)) لم يصل إلينا منه إلا ترجمات مقتضبة محرفة إلى البرتغالية والإسبانية ونقول متناثرة في ثنايا الكتب المتأخرة وخاصة عند المقري في (( نفح الطيب))30.
ولا نملك من الكتب ((الجغرافية)) لمحمد بن أبي بكر الزهري المتوفي بعد سنة 545هـ/1151م سوى قطعة صغيرة يظن أنها جزء من مختصر الكاتب الأصلي الذي بناه على أساس كتاب الجغرافية أو الخريطة المأمونية للعالم التي وضعها سبعون من فلاسفة العراق للخليفة المأمون31.
كما أنه لا يوجد من كتاب (( نظام المَرْجان في المسالك والممالك)) لأحمد بن عمر بن أنس العُذْري الدلائي المتوفي سنة 476هـ/1083م أو 378هـ/1085م ببَلَنسيه سوى مجموعة أوراق غير مرتبة أو مرقمة نشر عبد العزيز الأهواني ما يخص الأندلس منها باسم (( ترصيع الأخبار وتنويع الآثار والبستان في غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك)) في مدريد سنة 1965.
ولم يبق من مؤلفات محمد بن يوسف الوّراق المتوفي سنة 363هـ/973م إلا نقولٌ احتفظ ببعضها أبو عبيد البكري وابن عذارى، وكان الورّاق قد ألّف للحكم المستنصر كتابًا ضخمًا في ممالك إفريقية ومسالكها استصفاه أبو عبيد البكري في كتابه: (( المسالك والممالك))، ورغم أنه ينسب إليه أحيانًا ما يقتبسه منه فإنه لم ينسب إليه في أحيان أخرى ما أخذه عنه مما يجعلنا لا نتبين بدقة نصيب الورّاق من كتاب البكري، خاصة وأن البكري-كما يشير حسين مؤنس-لم يكن مجرد ناقل بل كان جغرافيًا متصرفًا يُعدِّلُ فيما ينقله ويزيد عليه وينقص منه32. ومحمد بن يوسف الورّاق هو أول من كتب في الغرب الإسلامي كتابًا بعنوان ((المسالك والممالك))، ومن المقتبسات التي نقلها عنه البكري يتبين أنه هو الذي ابتكر مزج الجغرافيا بالتاريخ، أي الوقوف عند كل موضع وقعت فيه واقعة تاريخية والحديث عنه بالتفصيل33.
أما أبو عبيد البكري، عبد الله بن عبد العزيز بن محمد المتوفي سنة 487هـ/1094م فقد اعتبره دوزي Dozy (( أكبر جغرافي أخرجته الأندلس قاطبة))34، وهو مؤلّف موسوعي انتظمت مؤلفاته في الأساس العديد من المصنفات اللغوية والأدبية، لذلك فقد اعتبر كراتشكوفسكي أن كتابه (( معجم ما استعجم)) ليس كتابًا في الجغرافيا بقدر ما هو كتاب لغوي، قصد به ضبط المواضع نتيجة لشيوع التصحيف فيها35، ولكن في الوقت نفسه عرّف بها وحدّدها وهو ما أضفى عليه كما يقول الدكتور عبد الله الغنيم صفته الجغرافية، فالمكان هو المحور الذي يدور حوله معجم البكري36.
وألّف البكري كتاب ((معجم ما استعجم)) في مقتبل حياته العملية وهو أول من رتّب المعاجم على الترتيب الألف البائي ورغم صدور طبعتين للكتاب الأولى بعناية المستشرق الألماني فستنفلد في جوتنجن بين سنتي 1870-1877 اعتمادًا على مخطوطات كمبردج ولندن ولايدن وميلانو، والثانية بعناية مصطفى السَّقا في القاهرة بين سنتي 1945-1951 اعتمد فيها في الأساس على نسخة المكتبة الأزهرية في القاهرة وهي نسخة قديمة ناقصة كتب سنة 596هـ بخط أندلسي جميل وصفها السقا بأنها (( في الغاية من الصحة والضّبط والوضوح ولو كانت كاملة لفاقت جميع الأصول الموجودة من هذا الكتاب، وان على هامشها ما يفيد أنها قوبلت على أصل بخط المؤلف)) كما أشار السّقا إلى أن هوامش النسخة حافلة بتعليقات تحتوي على زيادات وتصويبات كثيرة، أهمها تلك التعليقات المنقولة عن كتاب (( التعليقات والنوادر)) لأبي علي بعد الهجري ولكنه لم يستفد نسخة الأزهر وجد أن هذه التعليقات وهي أكثر من ثمانين تعليقًا عن مواضع جديدة مضافة إلى الكتاب كتب في الهامش أمام موضعها من الترتيب المعجمي37.
واعتمد بنو سعيد المغربي على كتاب (( المُسهِب في فضائل (أو غرائب) المغرب)) لعبد الله بن إبراهيم بن وَزْمَر الحَجَّاري المتوفي سنة 550هـ/1155م واتخذوه أساسًا لكتابهم الكبير (( المُغْرِب في حُلَى المَغْرب)) وأسماه علي بن سعيد ((جاحظ المغرب))38.
ويندر أن نجد مؤلفًا أندلسيًا كتب بعد الحجّاري دون أن يشير إليه، مما يدّل على أن كتابه كان مرجعًا وحُجَة. ومن المؤسف أن بني سعيد خلطوا كلامه بكلامهم وغيّروا ويدّلوا فيه ونسبوا إليه ما يزيد على 250 نقلاً ولكننا لا نعرف إن كان النقل أمينًا او مع تعديل وحذف وإضافة39.
كذلك فإن المَقَرّي أورد له في الفصل الذي خصه لجغرافية الأندلس في أول كتابه (( نفح الطيب)) ما يزيد على عشرين اقتباسًا كبيرًا تمثل أساس هذا الفصل. ونقل المقرّي في سائر كتابه(( نفح الطيب)) فقرات مطوّلة من (( مُسهب)) الحجّاري يتصل بعضها بالجغرافيا العامة للأندلس ويتصل بعضها الآخر بأوصاف المدن والنواحي وخواصها40. وما يتصل بالجغرافيا العامة ينفرد به المَقري أما ما يتصل بالنواحي فنجده في ((المُغْرب)) لبني سعيد كل فقرة في موضعها من ترتيب الكاتب41.
ويعتقد حسين مؤنس أن الفقرات الخاصة بالوصف الجغرافي العام للأندلس كانت موجودة أيضًا في ((مُغْرب)) بني سعيد في الفصل الناقص من مخطوطته المنشورة المسمى(( وَشْي الطِّرش في حُلى جزيرة الأندلس))42.
واستخدم المقري المتوفي سنة 1041هـ/1641م لكتاب الحَجّاري يدل على أن الكتاب ظلّ متداولاً إلى هذه الفترة المتأخِّرة وفُقِد بعد ذلك قليل،مثل كثير من النسخ التي ذكر أنه رآها واستخدامها وضاعت عنّا اليوم، ومنها أجزاء من (( تاريخ ابن خلدون)) ومن (( الإطاحة في أخبار غرناطة)) للسان الدين بن الخطيب43.
ومن مراجع بني سعيد الهامة التي لم تصل إلينا أيضًا الكتاب الهام المفقود للجغرافي ابن فاطمة الذي عاش في القرن السادس الهجري/الثاني عشرة الميلادي، ومن أسف أننا لا نعرف حتى اسم هذا الرجل الذي يعد كتابه أحسن ما كتب المسلمون عن المناطق الواقعة جنوب الصحراء الكبرى44. ويكاد ابن سعيد وابن خلدون أن يكونا أكثر من اعتمدوا عليه ونقلوا عنه. وتدل هذه النقول على أنه كان على علم دقيق بأحوال إفريقياّ وأهلها جنوب الصحراء فهو من أهل السودان الغربي وطاف في رحلات متعددة بالسواحل الإفريقية كلها حتى وصل إلى الصومال والحبشة ثم أوغل داخل القارة ورأى منابع النيل ويدل كلامه ولاحظاته على ذلك دلالة صريحة45.
أما أهم الجغرافيين العرب في الغرب الإسلامي فهو دون شك الشريف الإدريسي، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس المتوفي في سَبْتة مسقط رأسه سنة 560هـ/1160م، وكتابه(( نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)) يعد أشهر كتاب عربي في الجغرافيا في أوربا عامة وفي أوساط المستشرقين خاصة. وإن لم يكن أدق كتب الجغرافيا العربية، وجاءت شهرته من أنه من تأليف جغرافي عربي قضى معظم عمره في صقلية، أي في مدينة أوربية تأثرت بالحضارة الإسلامية إلى حد بعيد، ولأنه يحتوي تبعًا لذلك على أوفر المعلومات عن أوربا في حينه. وقد ألّف الإدريسي كاتبه هذا بناء على روجر الثاني RogerII ملك صقلية. وظلّ الإدريس لوقت طويل هو الممثل الوحيد للأدب الجغرافي العربي في الدوائر الأوروبية رغم أنه أبعد من أن يكون أكبر الجغرافيين قاطبة داخل الإطار العام لتطوير الأدب الجغرافي العربي46.
وإذا كان كتابه ((نزهة المشتاق)) قد نشر أكثر من مرة أهمها النشرة التي أصدرها المعهد الجامعي الشرقي بنابولي (1970-1984)، فإن كاتبه الآخر (( أنس المُهَج ورَوْض الفُرَج)) الذي ألّفه لغيوم الأول بن روجر الثاني Guillaume Ier ملك صقلية (1154-1166م)47 والذي اكتشف نسخة منه في مكتبة حكيم أوغلي باشا في استانبول المستشرق يوسف هوروفيتس J.Horovils تحت رقم 688 لم يُنْشر بعد، وقد ذكر المؤلف في مقدمته أنه يقتصر فيه (( على الاختصار وترك الهذر والإكثار)) مع استناده إلى نفس المصادر التي يذكرها في مقدمة (( نزهة المشتاق)). وقد كشف حديثًا عن نسخة أخرى للكتاب في مكتبة حسن حسنو باستانبول برقم 1289. وتحتوي نسخة حكيم أوغلي على أطلس مكون من ثلاث وسبعين خارطة نشرها Muller سنة 1926 وسمّاها (( أطلس الجيب)). ولم يَقم أحد حتى الآن بدراسة العلاقة بين مصنفي الإدريسي وإن كان الدكتور سزجين قد نشر نسختي الكتاب بطريقة الفاكسيميلي سنة 1984م.
كتب الخطط (الطوبوغرافيا المحلية)
وهي مصادر في غاية الأهمية حيث اشتملت مقدمات الكتب التي تناولت تاريخ المدن الإسلامية الكبرى على وصف طبوغرافي لهذه الكتب، وقد نشرت أغلب هذه الأوصاف الطبوغرافية مثل التي وردت في مقدمة (( تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي ومقدمة (( تاريخ مدينة دمشق)) للحافظ ابن عساكر بل كانت موضع دراسات متخصصة. مهما يكن من أمر فالتاريخ المختلط بالوصف الطبوغرافي فيها يُلْقي ضوءاً على الحاضر كما يُفسّر المعالم الأثرية.
ولم تُفرد مؤلفات خاصة للخطط سوى في مصر حيث نما وتطور بها هذا الفن منذ العصر الفاطمي وبلغ أوج ازدهاره في القرن التاسع الهجري/الخامس عشرة الميلادي على يد المؤرخ الطبوغرافي الشهير تقي الدين أحمد بن علي المقريزي48. وأول من ألف في خطط مصر كتابًا لم يصل إلينا هو الحسن بن أحمد ابن زولاق المتوفي سنة 386هـ/996م في بداية العصر الفاطمي. ثم تبعه أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القُضاعي المتوفي سنة 454هـ/ 1062م بكتابه (( المختار في ذكر الخطط والآثار))، وكتب القُضاعي كتابه قبل سنى الشدة المستنصرية في أواسط القرن الخامس الهجري التي غيّرت الكثير من معالم مصر الفسطاط، لذلك يقول عنه المقريزي إنه (( قد دُثر أكثر ما ذكره ولم يبق إلاّ يلمع أو موضع بَلْقَع مما حلّ بمصر من سني الشدة المستنصرية))49. ولم يُفقد هذا الكتاب مثل غيره من المصادر العصر الفاطمي إلاّ في فترة متأخرة فقد نقل عنه نقولاً مطولة كل من القلقشندي والمقريزي في القرن التاسع الهجري، بل إنه ظل متداولاً حتى العقود الأولى للقرن العاشر الهجري حيث نقل السيوطي المتوفي سنة 911هـ/ 1505م رواية فتح مصر في كتابه (( حُسن المحاضرة)) عن نسخة من كتاب القُضاعي بخط القُضاعي نفسه50.
ومن كتب الخطط المصرية التي لم تصل إلينا كذلك كتاب ((خطط مصر)) لمحمد بن بركات بن هلال النحوي المصري المتوفي عام 520هـ/1126م عن عمر يناهز المائة ، وان كان المقريزي قد اطلع على نسخة منه بخط الشريف محمد ابن أسعد الجوّاني51. وقد ألف الجوّاني نفسه المتوفي سنة 588/ 1092م كتابًا في الخطط عنوانه ((النقط بعجم ما أشكل من الخطط)) لم يصل إلينا وإن نقل المقريزي عن نسخة منه بخطه52. وكان أول من وضع كتابًا في وصف خطط القاهرة القاضي محيي الدين أبو الفضل عبد الله بن عبد الظاهر المتوفي سنة 692هـ/1293م، وعنوان كتابه (( الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة))، وحتى وقت قريب كان كتاب ابن عبد الظاهر في عداد الكتب المفقودة إلى أن أشار إلى وجود نسخة منه أضيفت حديثًا إلى مكتبة المتحف البريطاني الدكتور عبد الله يوسف الغنيم53، وقد نشرت هذا النص الهام في القاهرة عام 1996م.
كذلك فقد كتب القاضي تاج الدين محمد بن عبد الوهاب ابن المتوج المتوفي سنة 730هـ/1330م كتابًا في خطط مصر الفسطاط وعنوانه (( إيقاظ المُتَغَفِّلْ واتِّعاظ المتأمِّل)) ذكر المقريزي أنه كتاب كبير قطع فيه مؤلفه على سنة خمس وعشرون وسبعمائة54.
وكتب بعد ذلك صارم الدين إبراهيم بن محمد بن أيْدُمُر العلائي المعروف بابن دُقماق المتوفي سنة 809هـ/1409م كتاب (( الانتصار لواسطة عقد الأمصار)) وصل إلينا منه جزءان هما الرابع والخامس يمثلان مسودة الكتاب بخط المؤلف نفسه، ويعالج هذان الجزءان الحديث عن الفسطاط والقاهرة، وتبدو قيمة هذا المؤلف خاصة بالنسبة للفسطاط حتى اعتبره جورج سالمون G.Salmon أفضل دليل يمكن عن طريقه إعادة البناء الطبوغرافي لكل من الفسطاط والعسكر والقطائع عواصم مصر الإسلامية التي سبقت القاهرة55.
وهذه المسودة محفوظة الآن في دار الكتب المصرية تحت رقم1244 تاريخ وقد نشرها فولرز Vollers سنة 1893 من نشرة سقيمة في حاجة إلى إعادة نشرها مثل غيرها من الكتب التي نشرت في القرن التاسع عشر وفق القواعد العلمية لنشر التراث.
كان هؤلاء المؤلفون مهدون الطريق إلى الاكتمال الذي بلغه هذا الفرع من الأدب الجغرافي العربي في مؤلف شيخ مؤرخي مصر الإسلامية تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفي سنة 845هـ/ 1442م ((المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)) الذي يكاد يكون الأثر الأكبر في مجهود حياته العلمية والذي يرتبط بالتاريخ وبالجغرافيا التاريخية على حد سواء، وقد أعددت دراسة مستقلة عنه ونشرت لي مؤسسة الفرقان الغرّاء مسودة الكتاب التي وجدتها بخط المقريزي نفسه سنة 1995.
ومن أهم مصادر الخطط المصرية كتاب نشر جزءًا منه في أكسفورد سنة 1895م المستشرق Evetts عن نسخة محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس برقم 357 منسوبة إلى من يُدعى أبا صالح الأرمني، وهو كتاب يشتمل على وصف طبوغرافي لكنائس وأديرة مصر المهمة ومواضعها موزعة توزيعًا جغرافيًا. وفي سنة 1984م نشر الراهب صمويل السرياني نشرة جديدة للكتاب اعتبر فيها القسم الذي نشره Evetts الجزء الثاني للكتاب. ويشمل الجزء الأول الذي نشر لأول مرة على كنائس وأديرة الوجه البحري وقسم عن القاهرة، أما الجزء الثاني فيشتمل على كنائس وأديرة قسم من القاهرة والوجه القبلي.
اعتمد صمويل السرياني في نشرته التي نسخها بيده وعلق عليها على مخطوطة جديدة لم يذكر مصدرها ولم يقدم لها وصفًا كوديكولوجيًا، كان الجديد الذي قدمته هذه النشرة المتواضعة هو تحديد مؤلف هذا الكتاب الحقيقي وهو شخص غير معروف أيضًا يدعى الشيخ المؤتمن أبو المكارم سعد الله ابن جرجس بن مسعود، أما أبو صالح الأرمني الذي نسب إليه الكتاب قبل ذلك فليس إلا مالك الجزء الثاني من النسخة المحفوظة في باريس. وكتب أبو المكارم القسم الأساسي من كتابه بين سنتي 555هـ/1187م56.
واستقرت المخطوطة التي اعتمد عليها الراهب صمويل السريان الآن في المكتبة الوطنية البافارية في Bayerischen Staatsbibliothek ميونيخ تحت رقم 2570 وكانت قبل ذلك في ملك أحد أقباط طنطا هو جرجس فلتاؤس عوض، وعرف علي باشا مبارك هذه المخطوطة واطّلع عليها واسفاد منها كثيرًا في الجزء السادس من كتابه ((الخطط التوفيقية الجديدة))57.
وهذا الكتاب –في حاجة إلى إعادة نشره بالقواعد العلمية المعروف لنشر وتحقيق المخطوطات لأهمية موضوعيه وندرته.
وما زالت بعض الكتب التي تناولت خطط القاهرة بعد المقريزي مخطوطة لم تنشر مثل كتاب (( التحفة الفاخرة في ذكر رسوم خطوط القاهرة)) لشخص يدعى آقْبُغا الخاصكي ألفه السلطان الأشرف قانصوه الغوري، وتحتفظ المكتبة الوطنية في باريس بنسخة منه تحت رقم 2265 وهي لا تعدو أن تكون نسخة من الجزء الثاني من خطط المقريزي الذي يبدأ بذكر الحارات مع بعض الخلافات الضئيلة في الأسلوب.
وكتاب (( قطف الأزهار من الخطط والآثار)) لمحمد بن محمد بن أبي السرور البكري الصديقي المتوفي سنة1060هـ/ 1650م الذي اختصر فيه خطط المقريزي ولكنه أضاف إليه ما آلت إليه بعض المواضع وما استجدّ منها في العصر العثماني، منه نسخة في دار الكتب المصرية برقم 457 جغرافية وأخرى برقم 53 بلدان تيمور.
كتب الزيارات
ومن السمات المميزة لهذه الفترة ظهور عدد من المؤلفات التي تناولت المدن والمواضع المقدسة والتي تشد إليها الرحال للزيادة، وهي ليس مؤلفات جغرافية تمامًا وإنما تتناول الأماكن الإسلامية المقدسة وأضرحة الأولياء ومشاهد آل البيت ورباطات الصوفية حيث نجد فيها تفاصيل لغوية أو تاريخية حول أصل أسماء هذه المواضع. والغرض من هذه المؤلفات أن تكون دليلاً يرشد الأتقياء والورعين إلى كيفية زيارة هذه المواضع.
ومن أهم أمثلة هذا النوع من الأدب الجغرافي كتاب (( الإشارات إلى معرفة الزيارات)) لعلي الهروي المتوفي سنة 611هـ/ 1214م، و((الدارس في تاريخ المدارس)) لعبد القادر ابن محمد النعيمي المتوفي سنة 648هـ/1250م.
ونشأ هذا النوع من التأليف في أول الأمر في أواسط الشيعة إلا أن أهم كتب ((الزيارات)) وأكثرها تطورًا في طريقة تأليفها وعرضها هي كتب الزيارات الخاصة بالقاهرة وقرافتها الكبرى. وقد أحصى الباحث يوسف راغب كتب الزيارات الخاصة بالقاهرة وقرافة مصر في مقال نشره سنة 1973، وبلغ عدد هذه المؤلفات واحدًا وعشرين فقد قسم كثير منها58، ونشر قسم آخر في نشرات سقيمة في حاجة إلى إعادة نشرها مرة أخرى مثل: (( الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة في القرافتين الكبرى و الصغرى)) لابن الزيات المتوفي سنة 813هـ/ 1412م، و(( تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط المزارات)) لنور الدين الحسن بن علي السخاوي أحد علماء القرن العاشر الهجري/السادس الميلادي.
وما زال هناك كتاب (( مصباح الدياجي وغوث الراجي وكهف اللاجي)) لابن عين الفضلاء المتوفي سنة 696هـ/1297م ومنه نسختان في دار الكتب المصرية برقم 1461 تاريخ و87 بلدان تيمور. وأحدث ما نشر من هذه الكتب كتاب (( مرشد الزوار إلى قبور الأبرار)) للموفق بن عثمان المتوفي سنة 615هـ/ 1218م بتحقيق محمد فتحي أبو بكر في القاهرة سنة 1995م.
كتب الموسوعات
ازدهر نمط الموسوعات في العصر المملوكي كرد فعل لما تعرضت له الثقافة العربية الإسلامية من ضياع في أعقاب الغزو المغولي وسقوط الخلافة الإسلامية في بغداد. وإذا كانت مؤلفات الجاحظ وابن قتيبة وأبي الفرج الأصبهاني تمثل نمط التأليف الموسوعي القديم، فإن الموسوعات التي ظهرت في العصر المملوكي بداية بموسوعة ابن العطواط الكتبي وانتهاءً بموسوعة القلقشندي تمثل خير ما أنتجه هذا العصر والتي أفرد للجغرافيا دائمًأ مكانة مرموقة فيها. فقد أسفر النشاط الهائل لعلماء المسلمين على مدى عدة قرون عن قرون عن تأليف عدد ضخم من الكتب في كل حقل من حقول المعرفة، بحيث أن عمر العالم المختص لم يكن يكف لقراءة كل ما كتب في ميدانه، ناهيك عن دراسته. ومن هنا كانت الحاجة إلى طلب الكتب الموسوعية المختصرة59، وإن كان ابن خلدون قد عارض هذه الظاهرة في (( مقدمته)) وعدّها دليلاً على التدهور الذي وصلت إليه الحياة العلمية في عصره60!
ظهرت كل هذه الموسوعات في مصر كتبها عمال وعلماء حكومة سلاطين المماليك بغرض خدمة كتبة الدواوين للاستفادة بها في مجال عملهم، ولكن واقع الأمر أنها أفادت جمهورًا من المثقفين لأنها عالجت مسائل أعم وأكثر شمولاً في جميع فروع العلم التي يريد المؤلف أن يعرّف بها.
والظاهرة الملفتة للنظر أن مؤلفي هذه الموسوعات لم يروا في أنفسهم علماء، بل كانوا في حقيقة الأمر كتاّبًا نابهي الشأن في ديوان الإنشاء المماليكي واكتسبوا خبرة كبيرة في هذا المجال. وأدّت وحدة الوسط الذي نشأت فيه هذه (( الموسوعات)) إلى تشابهها في الترتيب، وهو ترتيب يعكس أحيانًا وبوضوح تام أثر التدريب الصارم في الشؤون الديوانية61. ويبدوا ذلك واضحًا أكثر ما يكون في مؤلف القلقشندي ((صبح الأعشى)).
أول موسوعات هذا العصر ((مباهِج الفِكَر ومناهِجُ العِبَر)) ألفها جمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الكتبي الوراق المعروف بالوطواط المتوفي سنة 718هـ/1318م؛ ولم يكن الوطواط من عمال الحكومة الذين مارسوا العمل في دواوينها بل كان -كما يدل على ذلك لقبه- من المشتغلين بتجارة الكتب ونسخها مثل ياقوت الحموي، يقول الصفدي: (( له معرفة بالكتب وقيمها))، (( وملكت بخطه تاريخ ابن الأثير المسمى بالكامل وقد ناقش المصنف في حواشيه وغلّطه وواخذه))62.
و(( مباهِج الفِكَر)) موسوعة في العلوم الطبيعة والجغرافيا معروضة بأسلوب أدبي وموضحة بالشواهد من شعر ونثر. وتنقسم إلى أربعة فنون: الفلك والأجرام السماوية، والجغرافيا، والأجناس، والحيوان، والنبات.
وأهم فنون هذا المصنف النقلي هو الفن الثاني الذي خصصه الوطواط للجغرافيا، أمدنا فيه بمعلومات بالغة القيمة عن نظام الزراعة، وجغرافية القطر المصري بصفة خاصة.
ولعب مصنف الوطواط دوراً كبيرًا في تطوير نمط التأليف الموسوعي، حيث نقل عنه مرارًا معاصرة النويري واستعارة منه طريقة التبويب إلى (( فنون)) محتفظًا أحيانًا بمحتويات الكتاب نفسها وخاصة في القسم الخاص بالنبات.
وللأسف فإن هذا الكتاب الهام لم يطبع منه سوى قسم صغير خاص بجغرافية مصر نشره في الكويت سنة 1981م عبد العال عبد المنعم الشامي.
وتوجد مخطوطات الكتاب في المكتبة المارونية بحلب ومنها نسخة مصورة على الفوتوستات في دار الكتب المصرية برقم 359 طبيعة وأخرى منسوخة عنها برقم 323ف. كما توجد أجزاء من الكتاب في دار الكتب تحت رقم 324 و420 طبيعة، وفي المكتبة التيمورية بدار الكتب وفي مكتبة “البوليان” بأكسفورد برقم March 560. وتحتفظ مكتبة الفاتح بإستانبول تحت رقم 4116 بنسخة كاملة للكتاب في جزأين كتبت في أغلب الظن في حياة المؤلف نشرها بطريقة الفاكسميلي فؤاد سزجين سنة 1990م.
أما أهم الموسوعات التي أنتجها عصر المماليك على الإطلاق فكتاب (( مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)) لأحمد ابن يحي بن فضل الله العمري المتوفي سنة 749هـ/1349م، رغم أنها لم تلق ما بناسبها من الشهرة ووصفها الصفدي – معاصر العمري – بأنها (( كتاب حافل ما يعلم أن لأحد مثله))63.
قسّم العمري كتابه إلى قسمين كبيرين جعل أحدهما: (( في ذكر الأرض وما اشتملت عليه برًا وبحرًا))، والثاني (( في سكان الأرض من طوائف الأمم)) وكل من القسمين ينقسم بدوره إلى أقسام أطلق عليها العمري اصطلاحًا((النوع))، وهو نفس الاصطلاح الذي استخدمه معاصراه الوطواط والنويري.
ويهمنا هنا من هذه الموسوعة القسم الأول الذي خصصه للأرض بنوعيه: (( ذكر المسالك)) و(( ذكر الممالك)). فهذه الموسوعة مصدر من الدرجة الأولى لدراسة عصر المماليك وعلى الأخص المعلومات التي يوردها عن البلاد التي ربطتها صلات دبلوماسية منتظمة أو متقطعة بدولة المماليك.
وأوضح العمري في مقدمته المنهج الذي اتبعه في القسم الجغرافي من موسوعته يقول: (( ولم أقتصر بذكر الأقاليم عند ذكري الممالك مقصد الجغرافيا، كالأول والثاني والثالث، ولا بما نطلق عليه المسميات كالعراق وخراسان وأذربيجان، بل أذكر ما اشتملت عليه مملكة كل سلطان جملة لا تفصيلاً، على ما هي عليه المدينة التي قاعدة الملك... أو ما لابد من ذكره معها، والغالب في تلك المملكة من أوضاعها، والأكثر من مصطلح أهلها))64.
(( ولم أقصد في المعمور سوى الممالك العظيمة، ... وقنعت بما بلغه ملك هذه الأمة، وتمت بكلمة الإسلام على أهله النعمة، ولم أتجاوز حدها، ولا مشيت خطوة بعدها... وإن كان في العمر فسحة وفي الجسم صحة... لأذيلن بممالك الكفار هذا التصنيف)).
ولم ينشر من القسم الجغرافي من ((المسالك)) سوى الجزء الأول بتحقيق العالم المصري أحمد زكي باشا في القاهرة سنة 1924، ومازال بقية القسم الجغرافي يحتاج من ينهض لنشره وتوجد مخطوطات في مكتبات عديدة، ولكن أهما نسختين: نسخة مكتبة آيا صوفيا بإستانبول وهي نسخة في 23 مجلدًا ملفقة من نسختين مختلفتين تنقص الجزء الأول وتحمل الأرقام من 3415 إلى 3439، ونسخة مكتبة أحمد الثالث رقم 2797. ويشتمل الجزء الأول من هذه النسخة بين صفحة 342 -343 على رسم الربع المعمور وهو أثر يصل إلينا لخريطة العالم المأمونية، وهذه النسخة بخط المؤلف كتبها سنة 740هـ/1340 م، وقد نشر فؤاد سزجين الكتاب من نسخة ملفقة بطريقة الفاكسميلي سنة 1988م.
كتب الجغرافيا الإدارية
يثير الانتباه في عصر المماليك كذلك انتشار نمط الجغرافيا الإقليمية الإدارية La Geographie Administrative Regionale الذي نما نموًا مطردًا في أوساط عمال دولة المماليك. وهي مراجع إدارية واقتصادية عملت من أجل كُتّاب الدواوين لعل أقدمها كتاب (( المناهج في أحكام علم خراج مصر)) الذي كتبه في نهاية العصر الفاطمي علي بن عثمان بن يوسف المخزومي المتوفي سنة 585هـ/1189م. ويوجد لهذا الكتب تأليفان، تأليف أول في آخر عصر الفاطميين نحو سنة 565هـ/1169م والنظام الفاطمي ما زال سائدًا، ثم أضاف إله إضافات ومراجعات في سنة 581هـ/1185م أو بعد ذلك بقليل بعد أن مضى وقت طويل على النظام الأيوبي ودخلت العديد من التحسينات عليه. وهذا الكتاب يُعَدّ مصدراً لا نظير له عن النظم الإدارية والزراعية والمالية في مصر في القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي. ونشر كلود كاهن منتخبات من النسخة الوحيدة للكتاب المحفوظة في المكتبة البريطانية برقم Add.23483 سنة 1986م، ولكن الكتاب في تمامه في حاجة إلى نشر علمي وفقًا لقواعد تحقيق النصوص المعروفة.
وقد نُشرت سائر كتب هذا الفن وهي (( قوانين الدواوين)) لابن مَمّاتي المتوفي سنة 606هـ/1209م، و(( لُمع القوانين المضية في دواوين الديار المصرية)) لعثمان ابن إبراهيم النابلسي المتوفي بعد سنة 632هـ/1234م، ومع ذلك فهناك كتابان في غاية الأهمية في حاجة إلى نشر علمي جديد أولها كتاب (( تاريخ الفيوم وبلاده)) للنابلسي السابق الإشارة إليه، ثم كتاب (( التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية)) للشيخ شرف الدين يحي ابن المقر بن الجَيْعان المتوفي سنة 885هـ/1480م. فقد عرفت مصر هذا النوع من المؤلفات المتعلقة بمسح الأراضي حيناً في شكل رسمي جاف وحينُا آخر موضحة بمعلومات إضافية، خاصة بعد عمليات (( الروك)) وهي إعادة فك زمام الأراضي الزراعية وربطه والتي بدأت بـ (( الروك الأفضلي)) سنة 501هـ/1107م، ثم (( الروك الحُسامي)) سنة 696هـ/1296م، وأخيرًا ((الروك الناصري)) سنة 714هـ/1314م.
فقد نشر برنارد موريتز B.Moritz الكتاب الأول في القاهرة سنة 1899م اعتمادًا على مخطوطة دار الكتب المصرية وهي نسخة مؤرخة سنة 851هـ/1447م في غاية السِّقم، ولم يراجع النسخة الثانية المحفوظة في آيا صوفيا بإستانبول برقم 2960 والمؤرخة سنة 691هـ/1292م والتي تحمل عنوان ((إظهار صَنْعَة الحي القَيُّوم في ترتيب بلاد الفيوم))، فالكتاب مصدر من الطبقة الأولى حول طريقة جمع الضرائب في العصر الأيوبي ويقدم لنا بإسهاب معلومات ثمينة حول الحياة الاقتصادية والاجتماعية لأحد الأقاليم المصرية في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي.
ونشر موريتز Moritz أيضًا الكتاب الثاني في القاهرة نشرة لا تختلف كثيرًا عن نشرة كتاب النابلسي، وحَدّد مؤلفه في مقدمة كتابه منهجه فيه، يقول: (( فهذا الكتاب أذكر فيه ما بإقليم مصر من البلدان وعِبْرَة كل بلد وكم مساحتها من فدان، أولاً بذكر الإقليم على وجه الإجمال، وأذكر عِبْرَة الأقاليم المذكورة على ما استقر عليه الحال في الأيام الأشرف شعبان، وإن تغيّرت عبرة بلدة عما كانت عليه ذكرت عبرتها الآن)) ومرجعه الرئيسي في ذلك هو (( تقويم البلدان المصرية في الأعمال السلطانية)) الذي تم تأليفه بالديوان السلطاني حوالي عام 777هـ/1375م في أيام السلطان المملوكي الأشرف شعبان.
وتوجد من الكتاب نسخة نفيسة لم يراها موريتز، وهي نسخة خزائنية كتبت برسم خزانة الأمير يَشْبَك السيفي الدودار في زمن السلطان الأشرف قايتباي في شعبان سنة 883هـ محفوظة في مكتبة “البودليان” بأكسفورد برقم 697 (Huntingdon) توجب إصدار طبعة جديدة للكتاب.
ويدخل في نفس هذا الإطار مؤلف خليل بن شاهين الظاهري المتوفي سنة 872هـ/1468م (( زبدة كشف الممالك)) والذي يعد القسم الذي خصصه لنظام البريد في عهد المماليك أقيم ما في الكتاب بأجمعه وخاصة تعداده لمنازل البريد ومحطاته التي يقدم لنا عنها تفاصيل ذات أهمية كبرى65. وقد نشر بول رافيس P.Ravasse هذا المختصر في باريس سنة1894م. ولكن من حسن الطالع فقد كشف أخيرًا في إيران عن نسخة من أصل كتاب ابن شاهين بعنوان (( كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك)) في مجلدين تقع في عشرين بابًا بينما تقع ((الزبدة)) في اثني عشرة بابًا فقط، ويعكف على نشره الآن الدكتور سهيل زكّار بجامعة دمشق.
كتب العجائب والغرائب
أهم كتب العجائب والغرائب التي لم تنشر بعد، وهي مؤلفات إبراهيم بن وجف شاه وهو مؤلف مصري اختلف الباحثون في تحديد العصر الذي عاش فيه، وإن كان يبدو اعتمادًا على نسخة من كتابه (( العجائب الكبير)) محفوظة في لينينجراد مؤرخة في سنة 607هـ أنه عاش قبل هذا التاريخ.
وينسب إليه حاجي خليفة الكتب الآتية: كتاب (( العجائب الكبير)) ومختصر يسمى (( عجائب الدنيا))، و(( أخبار مدينة السوسة))، و((جواهر البحور ووقائع الدهور في أخبار الديار المصرية))66 الذي يبدو أنه هو نفسه كتابه (( تاريخ مصر)) الذي ينقل عنه المقريزي67 وابن الياس68 فيما يخص تاريخ الفترة الفرعونية.
ويبدو مما نقله عنه ابن إياس أن ابن وجف شاه خصص في كتابه ((تاريخ مصر)) فصلاً لكل مدينة هامة في مصر تناول فيه تاريخها القديم، وهي توضح لنا ميل ابن وجف شاه إلى تسجيل الأخبار الغربية وعلى الأخص في مجال كشف الكنوز بعد الفتح الإسلامي للبلاد، ومع ذلك فلا يمكننا تقديم وصف أشمل لمحتويات هذا الكتاب –الذي لم يصل إلينا-في ضوء المعلومات المتوافرة عنه حتي الآن.
وتوجد مخطوطات من مؤلفاته الأخرى وعلى الأخص ((كتاب العجائب الكبير)) في لينجراد برقم 740، و((عجائب الدنيا)) في المتحف البريطاني 1526.
وإذا كان المؤلفون المصريون أطلقوا عليه اسم إبراهيم بن وجف شاه، ولقبوه بالأستاذ وبالعلامة، فإن المؤلفين الأندلسيين ابن سعيد وأمية ابن أبي الصلت عرفوا مؤلفاته أيضًا ولكن سموه (( الوصيفي)).
أدب المرشدات البحرية (الراهنامجات)
يرى كراتشكوفسكي أن الأدب الجغرافي العربي استنفد طاقته الخلاقة بشكل نهائي خلال القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، ولم يبق منه سوى النماذج المقتصرة على الجغرافيا الإقليمية ووصف الرحلات. وفي الوقت الذي شهدت فيه نهاية القرن الخامس عشر الميلادي نجاح البرتغاليين في الطواف حول القارة الإفريقية وكشف كولومبس الطريق إلى أمريكا، فإن العرب كانوا بعيدين تمامًا عن هذه الأحداث أو على الأقل لم يقدّروها حق قدرها.
ولكن فاسكودا جاما لم يتمكن من اكتشافه الطريق البحري إلى الهند بدون الإفادة من التجربة العلمية للعرب من خلال استخدامهم للبوصلة والخارطات البحرية،فقد دله على الطريق من ملندي إلى كاليكوط مسلم من كجرات يدعي المعلم كانا69.
ولكن الأدب الجغرافي العربي وجد مجاله في ميدان آخر في هذه الفترة هو ميدان ((الجغرافيا الملاحية)). وظهرت مؤلفات هذا الفن في المنطقة الجغرافية للمحيط الهندي والبحار والخلجان المتفرعة منه. ولم تبرز الجغرافيا الملاحية في تلك الظروف التاريخية فجأة. بل كانت لها جذور ترتبط بتلك المجموعة من القصص والأسفار البحرية التي ترجع إلى القرنين الرابع والخامس للهجرة/ العاشر والحادي عشر للميلاد من أمثال قصص التاجر سليمان وأبي زيد السيرافي، ويطلق على هذا الأدب الجغرافي (( أدب المرشدات البحرية)) أو(( الراهنامج)) وهي تشملعلى خبرة الربانية في جميع المسائل الملاحية بما فيها مرشدات الطرق البحرية70.
وكان موطن هذه ((الرهنامجات)) وهو سيراف وعُمان، ورغم تقدمها، فإن ما وصل إلينا منها يرجع إلى القرنين التاسع والعاشر للهجري/الخامس عشر والسادس عشر للميلاد وندين به لاثنين من المؤلفين هما: ابن ماجد، وسليمان المَهْري: ولم يكشف عن الأصول العربية لمصنفات الربان أحمد بن ماجد السعدي البنجدي إلا في عام 1912م. وتبلغ مؤلفات ابن ماجد المعروفة حوالي أربعين مؤلفًا صيغ أغلبها شعرًا ولم يُنشر منها سوى كتاب (( الفوائد في أصول علم البحر والقواعد)) و(( ثلاثة أزهار في معرفة البحار )) و(( حاوية الاختصار في أصول علم البحار)).
وسليمان المهري لم يصل إلينا من مؤلفاته سوى خمسة كتب محفوظة في مخطوطة باريس رقم 2559، وهي من حيث مضمونها تكرر إلى حد كبير مادة ابن ماجد، نشر منها: (( تحفة الفحول في تمهيد الأصول شرحها))، و(( العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية))، و(( قلادة الشموس واستخراج قواعد الأسوس))، و((المنهاج الفاخرة في علم البحر الزاخر))71.
❖ ❖ ❖
مما سبق يتضح لنا أن الكتب الرئيسية لمصادر الجغرافيا العربية عرفت طريقها إلى النشر والدراسة على أيدي المستشرقين مند أواسط القرن التاسع عشر. ولم يسهم العلماء العرب في هذا النشاط سوى العقود الأخيرة فقط، كما أنه لم يشارك من الجغرافيين العرب في هذا النشاط سوى باحثين معودين؛ لأن قضية النشر العلمي للمصادر الأصلية ينظر إليها المؤرخون والجغرافيين العرب على الأخص على أنها أعمال غير إبداعية؛ علمًا بأنها المدخل الرئيسي للتعرف الحقيقي على مدى إسهام الجغرافيين العرب في تاريخ الجغرافيا الإنسانية.
وجميع المصادر التي نشرة في القرن الماضي في حاجة إلى إعادة نشرها نشرًا جديدًا وفقًا للقواعد العلمية لنشر وتحقيق النصوص اعتمادًا على المخطوطات الجديدة التي ظهرت لها، وعلى الدراسات الجزئية التي تناولتها هي ومؤلفيها، وعلى الأخص ما كتبه كل من: جابرييل فران وكراتشكوفسكي وأندريه ميكل، ومقبول أحمد، وحسين مؤنس، وفؤاد سزجين.
وتنبّه المستشرقون كذلك منذ القرن الماضي إلي أهمية بعض المصادر الجغرافية من خلال نقول الجغرافيين المتأخرين عنها، فقاموا على قدر ما أتاح لهم الباقي منها بجمعها ونشرها ودراستها وتقييم محتواها. وهو عمل يجب استكماله عن طريق إعادة بناء الكثير من المصادر القديمة بغرض نسبة المعلومات الموجودة في هذه المصادر إلى عصورها الحقيقة التي ترجع إليها.
فضياع العديد من التراث الجغرافي المكتوب جعل من الصعب علينا تتبع واقع تطور هذا التراث بدقة بدون إعادة بناء هذه المصادر التي ضاعت عنا أصولها، وإن بقيت منها نقول مطولة عند المتأخرين. كما أن العديد من المصادر الجغرافية غير المنشورة والموجودة لها مخطوطات في مكتبات العالم المختلفة لا تستحق دائمًا الاهتمام بنشرها؛ لأنها في أغلبها مصادر نقلية لا تجدد دائمًا معلوماتنا الجغرافية، فكتاب (( نَشْق الأزهار في عجائب الأقطار)) لابن إياس المتوفي سنة 930هـ/1524م مصنف نقلي ثانوي للغاية، فمادة الكتاب نقلية صرفة، ولكنه يرجع أحيانًا إلى مصادر فقدت اليوم مثل كتاب: (( أخبار النوبة)) لابن سُلَيْم الأسواني، وربما يكون قد رجع إلى مسودة للإدريسي غير معروفة لنا (من نسخ في دار الكتب المصرية 439 جغرافيا والوطنية بباريس 2207، 2208، 2209، 2210، 2211، 3513، المتحف البريطاني 7503).
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: علوم الأرض في المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الخامس لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي– 24-25 نوفمبر 1999 – النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 203-250. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |