إحسان عباس
لم أكن أعرف كتاب (( الروض المعطار)) في صورته الكاملة، ولكني كنت قد عرفت أنه قاموس جغرافي مما استخرجه من المستشرق الفرنسي لافي بروفنصال Levi Provençal من أسماء الأماكن الأندلسية، حين قام بحقيقه وترجمته إلى الفرنسية (1937ط. القاهرة)، ثم ممّا قام به من بعد المستشرق الإيطالي أمبرتو رتزيتانو حين استخرج منه الأماكن الصقلية ونشرها في مجلة كلية الآداب. جامعة القاهرة 18(1956م ص129-181).
إن اختيار هذين المستشرقين للاعتماد على الروض المعطار جعلني أظن -خطأ- أن هذا الكتاب قد يكون كتابًا جغرافيا ذا أهمية استثنائية، ولهذا حفزني عملهما إلى مزيد من التعرف على هذا الكتاب. كانت صورته العامة في نفسي أنه قاموس جغرافي ربما كان مرتبّا على ترتيب حروف الهجاء عند أهل المشرق، وكل ما أعرفه عن مؤلفه أنه قد يكون هو الفقيه العدل أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن عبد المنعم الصنهاجي الحميري.
تنامت لدي الرغبة في الوصول إلى حقيقة الكتاب وحقيقة مؤلفه، حتى إذا كنت في إستانبول (سنة1968م) كان من بين اهتماماتي الكثيرة مخطوطة للروض وجدتها في مكتبة بيرم باشا، التابعة لنور عثمانية(ورقم المخطوطة 44 وهي تضم 409 ورقات). ومن أن أعرف شيئًا عن العلاقة بين الروض الكتاب نزهة المشتاق للإدريسي، صورت من هذا الكتاب الثاني نسختين وجدتهما في بعض مكتبات السليمانية، وعدت بهذه الحصيلة أدراجي إلى بيروت. ثم كان الحصول على نسخة ثانية من الروض هدفًا ملحًا، ومن حسن الحظ أن وجدت أن في مكتبة صديقي الشيخ زهير الشاويش نسخة مصورة من الكتاب عن نسخة محفوظة بمكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة.
وبدأ البحث عن ترجمة لمؤلف الكتاب، وتحديد العصر الذي عاش فيه، بعد أن قرأت الكتاب في إحدى النسختين، وسجلت ملاحظات تفيدني لدى الدخول في خطوات جادة للتعرف على المؤلف وطبيعة الكتاب، مفيدًا في كل ذلك من المقدمتين اللتين كتبهما المستشرقان المذكوران لنشرتيهما.
كانت الصعوبة في العثور على ترجمة المؤلف تتمثل في اختصار المصادر لنسبه الطويل نسبيًا، وكانت لدى نسخة خطية من كتاب الإحاطة للسان الدين بن الخطيب مصورة عن نسخة المكتبة الكتانية، ومن حسن الطالع وجدت فيها ترجمت لمحمد بن عبد الله بن عبد المنعم صاحب الروض، وفيها توضيح أنه كان سبتيًا وأنه جاء في وفد من أهل بلده إلى غرناطة حين قرر السبتيون أن يكون بلدهم تابعًا لبني نصر أصحاب غرناطة، وأن هذا الوفد أدركهم موتان عند مغادرتهم المغرب، ويبدو أن ابن عبد المنعم كان من الناجين، ولكن إلى أجل يسير. وأكد هذه الحقائق وغيرها كتاب (( اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سني الآثار)) (ص: 5باريس 1932)، وفي سبيل من الاطلاع استشرت مصادر أخرى1.
ها قد تأكد لدينا أن المؤلف سبتي وأنه من رجال المائة الثامنة وأن ابن حجر حدد وفاته (في ذي القعدة سنة 727هـ) وأنه درس على شيخين من سبتة هما أبو إسحاق الغافقي وأبو القاسم بن الشاط، وأنه كان مثل أستاذيه نحويًا يداوم قراءة كتابّ سيبويه، لغويًا يستظهر صحاح الجوهري، مقرئًا ولابد أن تكون له ترجمة في طبقات القراء، مفسرًا ولا بد أن يرد ذكره في طبقات المفسرين، محدثًا حافظًا، وأن قبره بسبتة بشهادة صاحب ((اختصار الأخبار)).
ولكن ما هو الموقف من أخبار أخرى تناقض ما وصل إليه البحث والتنقيب:
1 - أنه ليس سبتيًا في نظر المقري صاحب نفخ الطيب، وإنما هو أندلسي، إذ يقول صاحب النفخ (( لنرجع إلى صاحب الروض المعطار فإنه أفقه بتاريخ الأندلس إذ هو منهم وصاحب البيت أدرى بالذي فيه)) وصاحب النفخ متأخر الزمن، وقد ظن أن مؤلف الروض أندلسي لاهتمام هذا المؤلف اهتمامًا خاصًا بذكر الأماكن الأندلسية.
2 - أنه استنتاجًا ليس سبتيًا، لأنه حين تعرض لذكر سبتة في الروض، لم يقل فيها جملة واحدة من عند نفسه، وإنما نقل ما قاله البكري فيها وما جاء عنها في كتاب (( الاستبصار)) ثم ما قاله الإدريسي؛ وهذا الاستنتاج لا يثبت للجدال لأنه يفترض أن ابن عبد المنعم جغرافي متمرس وهو ليس كذلك، وليست لديه جرأة أن يقول شيئا من عند نفسه ولو في بلده.
3 - أنه لم يكن من رجال القرن الثامن وأدرك التاسع لأنه يذكر في مادة (( أيلة)) أن السلطان الأشرف قانصوه الغوري آخر ملوك الجراكسة، أصلح فيها طريق الحجاج. والسلطان الغوري توفي سنة 922هـ، وهذه العبارة يمكن أن تعد إضافة من متأخر، لأنها لم ترد في إحدى النسختين، ووردت غير مكتملة في النسخة الأخرى.
4 -أن حاجي خليفة يجعل وفاته سنة 900هـ في كشف الظنون، ولكن مما يضعف هذا أن المؤلف (في طبعة فلوجل من هذا الكتاب) يذكر وفاته مرة أخرى في غير هذا العام، وقد ثبت لدي أن حاجي خليفة ذكر وفاة أبي حيان التوحيدي عند ذكر أحد كتبه في عام، فلما ذكر له كتابًا آخر ذكر لوفاته تاريخًا مختلفًا. إن هذا الاضطراب في كشف الظنون يجب أن يكون مدخلاً لرفض بعض تواريخ الوفيات فيه.
ومن ثم تنهار جميع الفروض التي خالفت ما تصلنا إليه في نسبته وتاريخ وفاته، ولكن ما صلته بالروض المعطار؟
لم يذكر أي مصدر ترجم له أن له مؤلفا بهذا الاسم، ولم يصفه أي منها أنه كان ذا ثقافة جغرافية،وإن كانت تلك المصادر قد وقفت عند مهارته في الشطرنج. ومن اطلع على كتابه لا يستطيع أن يقول إنه جغرافي لأنه لم يرحل ولم يسجل مشاهداته، ولكن الكتاب في المخطوطتين اللتين اطلعت عليهما يحمل اسمه، وكذلك هو الحال في المخطوطات التي اطلع عليها بروفنصال. والقلقشندي صاحب صبح الأعشى (توفي: 821) ينقل عنه، لأن مادته ميسرة بعد أن كانت أصعب منالاً في مصادرها الأصلية.
لقد خيل إليّ أن ابن عبد المنعم وجد لديه نسخة من (( نزهة المشتاق)) للإدريسي فشمر عن ساعد الجد لاستخراج أسماء الأماكن المشهورة منها، ثم قام بترتيب هذه الأماكن هجائيا واستعان بالمسالك والممالك للبكري وغيره على نقل ما يحتاج إليه من أخبار لم ترد عند الإدريسي. أو وردت ووجد فيها اختلافًا في المصادر الأخرى؛ ومن الأدلة القوية على أنه ينقل من نسخة خطية، ولا يأخد العلم بالسماع (أو بالقراءة على شيخ) أنه حين يجد الأسماء مصحفة لا يعرف وجه الصواب فيها، وينكشف جهله بسهولة لأنه يرتب الأسماء حسب الترتيب الهجائي، والأمثلة على ذلك غير قليلة في الروض: إذ يضع (( علوة بالعين المهملة)) في حرف الغين (أي غلوة) لأنه وجدها كذلك، ويتحدث عن حبرون (بالحاء المهملة بعدها باء) في مادة جيرون (حتى أوهم من نقلوا عنه في هذه المادة)، ويجعل (باب)، (يابة) في حرف الياء ويقرأ (( الزبداني)) بالياء فيجعلها (( الزيدان))، ويقول بعد حديث طويل عن سلا الواقعة على مقربة من الرباط، حين يذكر سلا التي في بلاد التكرور يقول (( ولا أدري هل سلا هذه هي التي ذكر أنها على ضفة النيل وشماله ببلاد السودان)). (الروض: 319).
وقد اتبع في كتابه منهجًا يدل على أن تقديره لدور الجغرافي كان ضئيلاً.
1) إذا اشترط في منهجه أن يذكر المكان إذا كان مشهورًا، والجغرافي يذكر المكان المشهور وغير المشهور، ولعل سبب هذا الشرط إحساسه أنه مقدم على علم قد يوقعه عدم معرفته به في أخطاء.
2) أن يكون اسم المكان مما اتصل به قصة أو حكمة أو خبر مشهور، وذلك يعني أنه يبحث عما يجلب للقارئ التسلية أو ما يتعلق بها.
هذا، وقد أوقعه عدم تعمقه في الشؤون الجغرافية- أوقعه في التكرار إذا وجد اسم المكان يكتب في صورتين مختلفتين (الياج-لياج)، وكذلك أوقعه في تكرار الأخبار لأنه وجد الخبر في نزهة المشتاق، ثم وجده بشيء من الاختلاف في المسالك والممالك للبكري، فما كتبه في مادة ((دامغان)) مكرر في مادة ((قومس)) .
فعلى الرغم من كل ذلك، فإن الروض المعطار حافل بالفوائد، وقد أفادني خطؤه مثلما أفادني صوابه، كل ما هناك أنني أقبلت على بذل الجهد الذي خصصته لإخراجه بغير ما انتهت أليه من فتور في الحماسة،وشيء من خيبة الأمل.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: علوم الأرض في المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الخامس لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي– 24-25 نوفمبر 1999 – النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 251-258. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |