إبراهيم البيومي غانم: مستشار – المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.
معايير الخير في القرآن الكريم واضحة لا لبس فيها، وأهمها معياران أساسيان هما: الشمول، والأفضلية. فالخير الذي ورد لفظه مائة وثمانية وثمانين مرة في آيات الذكر الحكيم (منها ثمان مرات في صيغة أخيار وخيرات وخيرة) جاء في سياقات متنوعة بقدر تنوع سياقات الحياة المدنية والدنيوية، والدينية والأخروية. وباستقراء تلك السياقات عرفنا أن معنى ((الخير)) في القرآن له صفة شمول.
وكما لاحظ الشيخ شاهد بوشيخي فإن القرآن الكريم قد استوعب معاني ((الخير)) بدلالاته اللغوية والاجتماعية التي عرفها لسان العرب في الجاهلية وقبل نزول الوحي، ثم انتقل بها إلى معان جديدة، وتدرج بها إلى أن استقرت في معنى ((الأفضل)) بمقاييس القرآن ذاته. وبتحليل دلالات ((الخير)) ومقاصده القرآنية العليا عرفنا أنه ((الأفضل قولًا وعملًا؛ الذي يُحمد ضاحبه شرعًا)). وعلى أي فإن الخير بمعناه العام: هو ((الأفضل))، هو كل سعي وكل جهد يستهدف تحقيق ((الأفضل)) في كل قول وفي كل عمل. هو بهذا المعنى الشامل يحتوي بالضرورة على كل ما فيه مصلحة ونفع للإنسان، هو أيضًا نقيض لكل ما فيه ضضر أو أذى. فكل ما يفتح طريقًا إلى الأفضل هو خير، وكل ما يسد بابّا من أبواب الشر والأذى هو ((خير)).
وقصدنا هنا أن نفتح أبواب البحث والتدقيق في بعض مسائل ((فقه المصلحة ومقاصد الخير)). وخاصة في مسألة ((مجتمع الخير العام)) بحسب ما نفهم أنه التصور القرآني لمعنى ((الخير)). ولا نقصد هنا تقديم دراسة مصطلحية/ لغوية، وإن كنا سنعرض لمعنى الخير في لغة العرب بما يساعدنا على استجلاء تلك المعالم التي تضمنتها ىيات الذكر الحكيم، وسعى في بيانها مفسرون وفقهاء ومتكلمون ومتصوفة وفلاسفة ومصلحوت على مر التاريخ. ورغم أهمية وثراء التراث النظري لمفهوم الخير، إلا أننا لا زلنا بأشد الحاجة إلى استنباط نظرية أصيلة في ((الخير)) بمعناه القرآني، وفي مجتمع ((الخير العام)) وفق مقاصد القرآن الكريم.
وحسبنا أن نجتهد ومن الله التوفيق، وعليه نتوكل، وإليه ننيب.
أو لًا: مجتمع الخير العام في القرآن
الخير في اللغة
تشير كلمة ((الخير)) في اللغة العربية إلى كل ما فيه نفع وصلاح، كما تشير أيضًا إلى كل ما كان أداة لتحقيق منفعة أو جلب مصلحة1. فالمال خير. والمال الوفير خير كبير. ومن هنا قالوا إن الخير بمعنى ((المال)) هوما انعطفت ناحيته النفوس، ومالت إليه، ووقع اختيارها عليه. وربما كان هذا المعنى هو ما دفع المقري التلمساني صاحب نفح الطيب إلى القول بأن المال فيه ((قوة سمأو ية تصرف الناس لصاحبه))2. والخير بمعنى المال هو الذي شاع استعماله والعمل به في عصر الجاهلية وقبل نزول القرآن الكريم.
الراغب الأصفهاني ينظر إلى الخير نظرة فلسفية عامة. ففي ((المفردات في غريب القرآن)) يقول: ((الخير ما يرغب فيه كل البشر؛ كالعقل، والعدل ، والنفع، والفضل. وضده الشر))3، وقال آخرون أن الخير هو ((العمل الذي يعم نفعه)). وكثيرون من فلاسفة الإسلام. وحكمائه أقاموا ضربًا من التوحيد بين ((الخيرية)) والإبداع؛ فكلمًا كان الإنسان خيرًا، ومحبًا للخير، كان أقدر على الإبداع والابتكار والتجديد وإفادة البشرية وإعمار الأرض. يقول ابن سينا إن الخير هو ((ما يتشوقه كل شيئ ويتم به وجوده))4.
وللشاهد بوشيخي اجتهاد معتبر في النظر إلى ألفاظ القرآن ومفاهيمه بصفة عامة. وله نظرات عميقة وجديدة في محأو لة فهم الخير وفق معايير الذكر الحكيم5. فهو يرى أن القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين لم ترد فيه الألفاظ العربية فقط بمعناها اللغوي الذي كان مستعملًا في الجاهلية، وإنما نقلها القرآن الكريم إلى آفاق جديدة ودلالات لم تكن معروفة قبل نزوله، أو كانت معروفة ولكن على سبيل الاستثناء وعلى نطاق ضيق من الاستعمال. ومن ذلك لفظ ((الخير)) الذي ورد في القرآن اسمًا ووصفًا وفعلًا بما يدل على المال وحبه. ومن ذلك مثلًا قوله تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِاَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ [ الأحزاب من الآية 19]. والمقصود هو أنهم يمتنعون عن إنفاق المال. وهذا هو المعنى الذي ساد وشاع في الجاهلية قبل الإسلام ولهذا ورد استعماله في القرآن في الآية المذكورة وفي بعض آيات أخريات بالمعنى نفسه. وباستقصاء مختلف السياقات التي ورد فيها لفظ المال في القرآن وجدناه قرين الأثرة، والشح والأنانية ومؤشرًا على التنازع والاستحواذ والصراع. وهي المعاني نفسها التي تحف بالمال في فلسفة الحضارة المادية المعاصرة.
نعود مرة أخرى إلى الشاهد بوشيخي الذي يرى أن القرآن الكريم قد استوعب المعنى الذي كان متدأو لًا للخير قبل نزول آياته الكريمة، وأنه انطلق ونقلها إلى معان جديدة تنسجم مع مقاصد القرآن من الخير، ووصل إلى أعلى وأسمى هذه المقاصد عندما نقل الخير من الحيز المادي إلى الحيز الروحي في مثل قوله تعالى: ﴿ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾، فالخير هنا هو الطاعة، أو الإيمان، أو الإسلام بحسب تأو يلات المفسرين و((الخير)) هو في أغلب تلك التأو يلات يعني ((الأفضل)) في ميزان الله عز وجل، وبمقاييس القرآن الكريم.
بتتبع تطور دلالة ((الخير)) من معناه العربي الذي كان متدأو لًا في اللسان العربي قبل نزول القرآن، إلى التنبيه إلى أبعاد جديدة لهذا اللفظ، نصل إلى أن ذروة المقصد القرآني من الخير هو ((الأفضل في كل شيئ قولًا وعملًا ودعوة إليه)). ولدى الشاهد بوشيخي أطروحة أخرى تشد الانتباه في مسألة ((الخير)). فهو يذهب إلى أن القرآن الكريم يخبرنا عن مرحلة جديدة قادمة سيكون فيها الخير أكبر وأشمل مما مضى، باستثناء المرحلة النبوية6. وهي أطروحة تحتاج إلى الكثير من الاجتهاد والتدبر.
علماء اللغة العربية بحثوا في الفرق بين الخير والنفع لاقتراب اللفظين وتشابه حقولهما الدلالية. ومما وجدوه أن: الخير يرتبط بحسن الاختيار وتعدد البدائل التي يمكن الاختيار من بينها إلى جانب دلالته على المال. فأبوهلال العسكري مثلا يشير إلى بعض الفروق بين الخير والمنفعة فيقول إن ((كل خير نافع، ولكن ليس كل نفع خيرًا))، واستشهد بقوله تعالى عن الخمر والميسر: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعَ لِلنَّاسِ وإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة:219]؛ فلا تكون المعصية خيرًا وإن جلبت نفعًا، ويقول أبوهلال أيضًا: ((إن الإنسان يجوز أن يفعل بنفسه الخير، كما يجوز أن ينفع نفسه بالخير، ولا يجوز أن ينعم عليها؛ فالخير والنفع من هذا الوجه متسأو يان، والنفع هو إيجاب اللذة بفعلها، أو السبب إليها، ونقيضه الضر، هو يجاب الألم بفعله أو التسبب فيه))7.
كتاب الحكمة السياسية، وليس اللغويون فقط، انتبهوا أيضًا إلى الصلة الوثيقة التي تربط بين ((الخير)) ومكارم الأخلاق ،والعدل، وعمارة البلدان؛ أي بناء مجتمع الخير العام. فابن هذيل مثلًا يقول: ((إن كل خصلة من خصال الخير، وخلة من خلال البر، وشيمة تعزى إلى مكارم الأخلاق، وسجية تضاف إلى محاسن الطبائع والأعراق، فهي واقعة على اسم الكرم))8. أما سبط بن الجوزي فيربط الخير بعمارة البلدان، يقول: ((إذا اتسع الرزق، كثرت الخيرات، وإذا كثرت الخيرات عمرت البلدان))9.
وبنظرة مقارنة، نجد أن ثمة قاسمًا مشتركًا للخير بين البشر على اختلاف حضاراتهم وفلسفاتهم في الحياة. ومن ذلك مثلًا كلمة ((العمل الخيري)) Philanthropia في اللغات الأو ربية، نجدها مشتقة من مصدرين في اللاتينية: الأول هو كلمة Philein وتعني ((حب)) ، الثاني هو كلمة Anthropon وتعني الإنسان، ومعنى الكلمتين معًا هو((حب الإنسان)). وتكون كلمة خير بمعنى ((الطيبة)) Kindness؛ أي إن الخيرية هي صفة لم يشعر بآلام الآخرين، ويرغب في تحقيق سعادتهم، أو في دفع الأذى عنهم10. وتختلف أساليب العمل الخيري في تجار المجتمعات الغربية بتباين الخلفيات التاريخية والأعراف الخاصة بكل دولة، أو بكل مجموعة من الدول.
ثانيًا: مقاصد القرآن في مجتمع الخير العام
إذا سلكنا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون – ونحن نبحث عن ((الخير)) بمفهومه القرآني – سنجد أن ((الخير)) مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة، وأنه له في ذاته مقاصد أخرى كلها تصب باتجاه بناء مجتمع الخير العام الذي تهنأ فيه الإنسانية بالسعادة في الدارين.
فالخير وعمله مقصده عام من مقاصد الشريعة11؛ وذلك بدلالة كثرة الأمر به الحض عليه ومدح فاعليه، والتحذير من منأو ئيه في كثير من آيات الكتاب العزيز، وفي عديد من أحاديث النبي الكريم ﷺ. وقد ورد لفظ الخير 180 مرة في القرآن الكريم. وورد فيه أيضًا لفظ ((أخيار))، و((خيرات))، و((خيرة)) 8 مرات في سياقات متنوعة تربط ((الخير)) بجوانب أساسية من الحياة المدنية التي يعيشها الناس. كما ورد في بعض الحالات ضمن سياقات (أقل عددًا) تربطه بالحياة الآخرة.
-من الآيات القرآنية التي تحض على فعل الخير: قوله تعالى:﴿وافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾[ الحج: 77]، وقوله تعالى: ﴿ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾ [آل عمران:115].
-ومن الآيات التي تأمر بالدعوة للخير قوله تعالى: ﴿ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ [آل عمران:104].
-ومن الآيات التي تحث على المسارعة في عمل الخير قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعَا﴾[المائدة:48].
-ومن الآيات التي تثني على الذين يسارعون بعمل الخيرات قوله تعلى في وصف بعض مؤمني أهل الكتاب ﴿يُؤْمِنُونَ باللهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاِت﴾[آل عمران:114]، وفي وصف أهل الخشية من ربهم ﴿أو لَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[المؤمنون:61].
أما عن السياقات التي ورد فيها ذكر الخير، فمنها ما ورد في القرآن عند الحديث عن العلم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الصف:11]. ومنها ما ورد عن الحديث عن العمل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7]. وورد في سيق الحديث عن الكفاءة والمقدرة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص:26]. وفي سياق الحديث عن العدالة جاء قوله تعالى: ﴿ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأو يلًا﴾ [الإسراء: 35]. وللحض على المنافسة والسبق في الأعمال المفيدة قال تعالى : ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتَ﴾ [البقرة:148]، وقوله: ﴿ومِنْهُمْ سَاِبقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ }[فاطر:6]
وفي سياق الحديث عن الإنفاق قال تعالى ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾ [البقرة:21]. وقال الرسول ﷺ: « من دل على خير فله مثل أجر فاعله ». وثمة مواضيع أخرى كثيرة، علمنا من اطراد ورود الأمر فيها بعمل الخير ، والحض عليه، والثناء على من يقوم به، أن ((العمل الخيري)) مقصدًا عامًا – وثابتًا - من مقاصد الشريعة الغراء.
وقد أدرك فلاسفة الإسلام وحكماؤه هذا المعنى الواسع لمفهوم الخير. ومن ذلك قول ابن سينا أن ((الخير هو ما يتشوقه كل شيئ ويتم به وجوده)). وتنظر الفلسفة الإسلامية إلى العمل الخيري نظرة عميقة إذ تربطه بمفهوم الحرية؛ فالعمل الخيري عندما يكون عطاءً بلا مقابل مادي هو تحرير للنفس إما من قيد الأثرة وحب التملك، أو من قيود الآثام واجتراح الخطايا، أو من قيود الكبرواستعلاء النفس على الآخرين ممن يشاركونها الإنتماء إلى أصل واحد ((كلكم لآدم ودم من تراب)).
ونحن نلاحظ أن عمل الخير يطرح في النفس الارتياح والطمأنينة، ويطرح في المجتمع الاستقرار والسكينة، ويجعله مهيأ لعيشة هنيئة، ولحياة أفضل، ويجعله مكانًا يسمح للناس بالإبداع والابتكار، ويساعدهم على القيام بالمبادرات التي تستهدف تحسين نوعية الحياة والتغلب على مشكلاتها، والإسهام في سعادة أهلها. وهذا هو جوهر مفهوم ((مجتمع الخير العام)) الذي تسعى البشرية للوصول إليه.
في مقابل الفلسفة الإسلامية، نجد أن فلاسفة الأنوار في عصر النهضة من أمثال: توماس هوبز، وجون لوك، وبنثام،وغيرهم، لا يتحدثون عن مفهوم ((الخير)) ، ولا عن مفهوم ((الخير العام))؛ لأن جل اهتمامهم كان منصبًا على ((اللذة)) و((المنفعة)) الفردية، وكل شيئ يجب أن يقاس بحاجة الفرد أو لًا وقبل كل شيئ. يقول موريس كرانستون ((ليست لفكرة الخير العام أي مكان عند المفكرين السياسين من أصحاب النزعة الفردية كهوبز ولوك وبنثام؛ لأن كل قضية يجب أن تقاس بحاجة الفرد))12. ومرجعية قياس الخير والشر هو ذات الإنسان وتقديره للمنفعة التي تعود عليه في إطار عام من تبادل المنافع والمصالح الفردية13.
ويتعارض منطق العطاء بلا مقابل مع منطق السوق والكفاءة الاقتصادية في الرؤية الراسمالية الحديثة عمومًا. ولكن التجربة الإسلامية تؤكد أن المنفعة ليست فقط حصيلة مبادلات مادية بين الأفراد والجماعات، وإنما يمكن أن تكون هذه المنفعة حصيلة فعل خيري بدون مقابل مادي. وهذه الممارسة تتطلب بطبيعة الحال الإيمان العميق بعمل الخير، كما تتطلب إدراك المضمون الواسع لمفهوم العمل الخيري الإسلامي؛ الذي يبدأ بالأشياء المادية وبأقلها قيمة ولوكانت ((شق تمرة)) كما في حديث للرسول ﷺ، ويستوعب كل ما يملكه الفرد من أموال، ويصل إلى ذروة الخير بمعناه الروحي والإيماني الذي يرتكز في عمل ((الأفضل)) وقول ((الأفضل)) ، والدعوة إلى ((الأفضل)) وفق معيير القرآن الكريم.
ثالثًا: تشريع الخير وبناء الخير العام
عرفنا أن العمل الخيري مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة. ونضيف اجتهادًا من عندن: إن الخير العام حسب مقاصد القرآن له في ذاته خمس مقاصد كبرى هي: الحرية، والتمدين، والسلم الأهلي، ومحاربة الفقر، والإسهام في بناء المجال العام14.
إن ((مقاصد العمل الخيري)) التي نتحدث عنها هنا هي التي تنقل ((العمل الخيري)) من حيز التشريع – باعتباره مقصدًا عاما وثابتًا من مقاصد الشريعة – إلى حيز المشروعات والممارسات العملية. أو هي التي تنقل مقصد العمل الخيري من حيز الأفكار إلى حيز المؤسسات والتطبيقات، أو من حيز النظرية إلى حيز الفعل والعمل. ويجب أن نكف عن تكرار المقاصد ومنها مقصد العمل الخيري فقط من منطلق الحيز الأول، ونغض الطرف عن الحيز الثاني، فبدون الخير الثاني ومتابعة انتقال المقصد إلى التطبيق فلا قيمة له، وسيكون قطعة محفوظات لا تغني ولا تسمن من جوع.
علينا أن نجتهد في معرفة ما الذي يحدث من حين ينتقل المقصد المشروع إلي تشريع في القانون، أو في الأعراف والقيم، وفي السلوكيات، وفي المؤسسات، وفي جهات المحاسبة والمراقبة والتدقيق، كيف ينتقل ؟ وما هي الآليات التي تضمن انتقاله من حيز التجريد، إلى حيز الحياة حيث تنداح الأعمال وتتداخل المصالح ، وحيث تمتلئ بالمشكلات والتحديات التي يجب أن ينخرط فيها المتخصصون في كل علم من العلوم، وفي كل مجل من مجالات المعرفة، للبحث عن بدائل لحلها والتغلب عليها.
ذلك هو التحدي الرئيسي. ولا أزعم أنني أقدم فيه شيئا كبيرًا – الآن – ولكن ادرك تمام الإدراك أن هذه المسألة مهمة، ويجب أن نجتهد في البحث والتفكير في كيف ننقل المقاصد من حيز النظرية إلى حيز التطبيق ؟. ولا يُفهم من كلامي هذا أبدا أنني أقول إن الذين سيدرسون ذلك سيكونون مشاركين في صنع واتخاذ القرارات، أو في تحمل المسؤولية والسلطة التنفيذية. فالمطلبومن جماعة العلوم الاجتماعية والشرعية أن يكونوا على مستوى إنتاج المعرفة المفيدة. وهذه المعرفة يجب أن تنتشر في المجتمع بأدوات نشر العلم والمعرفة المطبقة في كل المجتمعات المعاصرة؛ بما في ذلك أدوات نشرها ونقلها لصناع القرار.
وإليك فيما يلي بعض التفصيل لكل لبنة من اللبنات الخمسة التي تسهم في بناء ((مجتمع الخير العام)) بحسب رؤية اجتهادنا في استنباطها من ظلال المعاني القرآنية لمقصد الخير ومقاصده.
1 – ((الحرية)):
الحرية هي أو ل لبنة في بناء مجتمع الخير العام الذي يقصده القرآن الكريم. وهي أكثر اللبنات قوة وأعلاها منزلة. ففي مقدمة الأهداف التي يتوجه إليها عمل الخير بدلالاته القرآنية أن يسهم في ((تحرير)) النفس الإنسانية من الأغلال التي قد تكبلها لسبب أو لآخر، وتعوق حركتها، تهدر طاقتها.بعض هذه القيود معنوي ينتج عن إرتكاب الذنوب والآثام ،وبعضها مادي ينتج عن حب المال وتمكن شهوة التملك من الإنسان، وبعضها سياسي ينتج عن الحروب وصراعات القوة.
ونتيجة لتلك الأسباب فإن بعض بني آدم تقضي عليهم الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشونها أن تكون حريتهم مقيدة معنويًا ومنهم العصاة والمذنبون، أو مقيدة ماديًا، ومن هؤلاء: الرقيق، والفقراء، واليتامى ،والمساكين ، والأسرى، والجهلة، والمرضى، والمدينون، وفي جميع هذه الحالات يجب شرعًا المساعدة في تحريرهم، ورفع الإصر عنهم، وتحطيم الأغلال التي وضعت عليهم؛ كي يكونوا محلًا صحيحًا للأيمان، وكي يكونوا قادرين على استقبال التكاليف الشرعية وأدائها كما يريد الله سبحانه وتعالى؛ لأن غير الحر يكون غير قادر قدرة الحر على إقامة التكاليف الشرعية ــ أو هو ليس مثله على الأقل ــ ولهذا يريد الإسلام أن يكون الإنسان حرًا أو لًا، ثم يخاطبه بالأحكام الشرعية ويكلفه بها.
ولسائل أن يسأل: كيف يكون مقصد الحرية من مقاصد العمل الخيري ؟ وكيف يسهم العمل الخيري في تحقيق هذا المقصد ؟ ونجيب فنقول: دلت آيات القرآن الكريم على أن من أعظم القربات إلى الله: تحرير الأرقاء. ومن الأدلة على ذلك ما جاء النص عليه في سورة البلد وعبرت عنه بـ: ((فك الرقبة)) قال تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. ومَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةَ. فَكُّ رَقَبَةٍ﴾. ولسنا مع قصر معنى فك الرقبة على ((تحرير الرقيق)) أو ((عتق العبيد والإماء)) كما ذهب أغلب المفسرين. فسورة البلد مكية، ومن الأهداف العامة للسور المكية أنها تمهد لاستقبال العقيدة الجديدة، وتهيئ النفوس كي تثبت فيها هذه العقيدة على صفحة نقية. وضمن هذه الغاية نعت آيات السور على بعض كفار مكة الذين أنفقوا أموالهم الكثيرة للمباهاة والمفاخرة ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾، ضنا منهم أن مجرد إنفاق المال الوفير يضمن لهم الفوز والنجاة. ولكن لما لم يكن هذا الإنفاق متضمنا ((فك الرقاب)) خاب سعيهم. وعبر القرآن عن هكذا إنفاق بـ ((الإهلاك)) إظهارًا لعدم الاكتراث. والنتيجة هي أن من انفق ماله دون أن يخصص جزءًا منه للمشاركة في فك الرقاب؛ أي تحريرها، فلن يكون من الناجين. يقول الإمام محمد عبده في تفسيره: ((ورد في فضل العتق ما بلغ معناه حد التواتر، فضلًا عما ورد في الكتاب، هو يرشد إلى ميل الإسلام إلى الحرية، وجفوته للأسر والعبودية))15. وهذا ما أكدته آيات سورة البلد قال تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * ومَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أو إِطْعَامٌ في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة * أو لئك أصحاب الميمنة﴾[ البلد:11ــ 18].
وقد ذهب أغلب المفسرين إلى أن المقصود بفك هو((العتق)) وإطلاق من يقع في أسر الرق والعبودية. والعتق علم من الأعمال العظيمة التي لها عند الله رفعة ومنزلة؛ فمن أعتق رقبة كانت له فداءًا من النار، ومثله الذي يطعم الفقير في يوم عصيب ذي مجاعة. يتيمًا ذا مقربة، أو مسكينًا ذا متربة؛ أي فقير بائس قد لصق بالتراب من فقره وضره، هو كناية عن شدة الفقر والبؤس قال ابن عباس: هو المطروح على ظهر الطريق لا يقيه من التراب شيء. ومثل هذه الأعمال العظيمة مطلوبة على سبيل السرعة وبلا روية. وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى:
﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾؛ والاقتحام في الأصل: الدخول في الشيئ بسرعة وشدة من غير روية16.
ونضيف إلى ما سبق أن دلالة ((فك الرقبة)) لا تقتصر على تحريرها من أسر العبودية والرق بالمعنى الاصطلاحي الذي قصده أغلب المفسرين والفقهاء؛ وإنما هي أو سع وأشمل من ذلك بكثير. إن فك الرقبة يشمل كل ما يقيدها؛ أيًا كان نوع هذا القيد؛ مثل قيد الجهل؛ فالجهل يقيد حرية الإنسان، كما يقيد الرق حريته. وقيد المرض؛ فالمرض قيد على حرية الإنسان وحركته، وقد يقعده، أو يمنعه من الاستمتاع بالكثير من الحريات التي لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بها. ويكون فك الرقبة أيضًا من قيد الديون؛ فالديون تقيد الحرية وتستذل المدين. وأخيرًا وليس آخرًا: يكون فك الرقبة من قيود الاستبداد التي تمارسها السلطات الطاغية؛ سواء كانت سلطة التقاليد وسطوة الآباء الأولين، أو سلطة الحكام المتجبرين، أو سلطة الخرافات والأو هام والأساطير؛ التي تستذل الكبير وتسترذل الصغير. وتلك هي أهم الحالات الاجتماعية التي يكون بعض بني الإنسان عرضة لها في كل زمان ومكان.
وقد صنفت آيات سورة البلد الأعمال التي تستهدف فك الرقاب ضمن ((أعمال الخير)) الطوعية التي يقوم بها الإنسان باختياره الحر، واستجابة لنداء فطرته.
وهذا هو معنى قوله تعالى: ((وهديناه النجدين))؛ أي طريق الخير الذي يشمل مثل الأعمال المذكورة، وطريق الشر المقابل لذلك. ولما كان الإسلام متشوفًا إلى الحرية ، فقد جعل المسارعة في ((فك الرقبة)) بالمعنى الواسع الذي ذكرناه من أفضل الأعمال الخيرية الطوعية؛ ولهذا أكثر المسلمون على مر التاريخ من بذل الصدقات، وتخصيص قسم معتبر من ريوع الأو قاف للإنفاق على التعليم، والعلاج، وعتق الرقيق، وافتداء الأسرى من يد الأعداء حتى لا يصيروا رقيقًا، ومساعدة أصحاب المغارم والديون17. وتحولت هذه الأعمال الخيرية إلى مؤسسات ذات أنظمة ووظائف ، ولها أهداف وغايات تصب كلها في اتجاه بناء مجتمع الخير العام، ودعم أسباب الحرية، وبخاصة للفئات التي أشرنا إليها.
لا يقبل الإسلام أي مساس بحرية الإنسان؛ لأن أي مساس بها يزلزل إنسانية الإنسان. والإسلام يريد للإنسان – مطلق الإنسان – أن يكون حرًا كامل الحرية. وتؤكد مبادئ الإسلام وتعاليمه وتوجيهاته على أن أي إضرار بالحرية يفسد تعبير الإنسان عن ذاته، وأن الإنسان لا يكتمل إحساسه بذاته الحرة إلا بالتعبير الحر عن فكره واختياره دون إكراه. ومن الثابت أن التطور الروحي غير ممكن دون اتصال حر بالآخرين، ودون تبادل الأفكار وتقاسمها بين بني البشر. وعليه فإنه لا يجوز تقييد الحرية، ناهيك عن إلغائها بحجة تصحيحها. هو الجوهر الأصيل الذي جاءت به رسالة الإسلام. هو بكلمة واحدة: الحرية18.
ونجد في آراء واجتهادات علماء السلف الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة ما يدل على إدراكهم العميق للحرية باعتبارها جوهر الرسالة الإسلامية إلى الإنسانية كلها؛ فمن غير الجائز عند أبي حنيفة – مثلًا – الحجر على السفيه. ومعروف أن الحجر نوع من أنواع تقييد حرية الإنسان في التصرف. ويعلل أبوحنيفة ذلك بأن الحجر إهدار لآدمية هذا السفيه ! ويقول إن الحجر عليه ((إلحاق له بالبهائم))، والضرر الإنساني الذي يترتب نتيجة الحجر عليه أكبر بكثير من الضرر الذي يترتب على سوء تصرفه في أمواله. ولا يجوز دفع الضرر الأقل بضرر أكبر منه.
ومن المستغرب استمرار تغاضي الفقهاء – أو سكوتهم، أو غفلتهم – لأزمنة طويلة عن الحديث في مقصد ((الحرية)) كأحد المقاصد العامة للشرعية. وفي العصر الحديث فطن العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور إلى هذا المقصد، وحأو ل تأصيل ((الحرية)) باعتبارها مقصدًا عامًا من مقاصدها19. يقول الشيخ بعد أن استوفى حديثه عن مقصد المسأو اة: ((لا تتحقق فيما مضى أن المسأو اة من مقاصد الشريعة الإسلامية، لزم أن يتفرع عن ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة؛ وذلك هو المراد بالحرية))20. واستطر الشيخ في بيان مضمون ((الحرية)) التي يقصدها الشارع ويتشوف إليها21.
وقد أعدتُ قراءةَ ما كتبه الشيخ ابن عاشور في هذه المسألة عدة مرات وخلصت إلى أنه وإن سبق إلى إدراك مقصد الحرية، إلا أنه قدمه بمضمون ضيق في كتابه ((مقاصد الشريعة)). ففي ذلك الكتاب حصر الشيخ مقصد الحرية في جانبين فقط؛ أحدهما التحرر من العبودية، والثاني تمكين الشخص من حرية التصرف في نفسه وشؤونه. واسهب في الحديث عن تكثير أسباب تقليل الرق، وتخفيف آثاره. ثم تحدث عن حرية الاعتقادات وحرية الأقوال وحرية الأعمال. وجاءت معالجته لتلك المسائل كلها من منظور ضيق جدًا، وفردي أساسًا. ولكننا وجدنا الشيخ في كتاب آخر له بعنوان ((أصول النظام الاجتماعي في الإسلام)) قد نبه إلى أن للحرية مفهوما واسعًا جدًا. وتحدث عن أربعة أنواع منها: حرية الاعتقاد، وحرية التفكير ، وحرية القول، وحرية الفعل22. وألمح إلى أثر الحرية في المشاركة في المجال العام ، وفي تقييد سلطة الحكام، وإفساح المجال أمام المبادرات الفردية والجماعية الخلاقة ، وتهيئة فرص مناسبة للإبداع والابتكار والتجديد؛ وبما يسهم في ترقية حياة الإنسان ، واحترام إنسانيته. وعلينا أن نتابع البحث والتأصيل في نظرية الحرية كمقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة؛ لأن المسلمين تأخروا كثيرًا في البحث في هذا الباب ، وتأخروا أكثر بسبب غياب الحريات عن حياتهم في أغلب الأحيان.
2 – التمدين والتعمير
إن ((عمل الخير)) بمعناه القرآني العام – الذي سبق أن وضحناه - يسهم في تحقيق درجة أرقى من التمدن الإنساني ورفع كفاءة المجتمعات في إعمار الأرض. ويأخذ إسهام العمل الخيري في تمدين المجتمعات صورًا متعددة: منها ما هو مادي في شكل تبرعات ومساعدات تعين غير القادرين على تحسين مستوى معيشتهم، ولا تتركهم نهبًا للمرض أو للجهل أو للفاقة والعجز. ومنها ما هو غي مادي في شكل مساهمات معرفية وعلمية تهدف إلى تنوير المجتمع ورفع قدرات أبنائه بصفة عامة. وغالبًا ما كان تمويل إنتج العلم بالمعرفة معتمدًا على العمل الخيري تحديدًا في الاجتماع السياسي الإسلامي ، وذلك إلى ما قبل نشوء الدولة الوطنية في العصر الحديث.
ويمكننا القول باطنئنان: إن أغلبية صور الأعمال الخيرية التي أسهمت في ((تمدين)) المجتمعات الإسلامية، وفي بناء حضارتها الشامخة، قد تجلت في ((نظام الوقف)) في معظم مراحل تاريخ هذه المجتمعات. فمن خلال الأو قاف وبتمويل منها نشأت أغلبية مؤسسات العلم والثقافة؛ داخل المساجد وخرجها في صورة مدارس ومعاهد، وكليات جاميعة للمتخصصين، ودروس ومكتبات عامة. ومن بين أو لئك الذين تلقوا تعليمهم في تلك المؤسسات الخيرية تخرج رواد كثيرون في مجالات علمية وتطبيقية متنوعة، شملت الطب، والهندسة، والكيمياء، والزراعة، والصناعة ، والفلك، والصيدلة، إلى جانب مختلف الفنون والىداب والمعارف النظرية الأخر23.
ويهمنا هنا أن نفند الرأي الذي يؤكد أنصاره على أن العمل الخيري الإسلامي هو عمل ديني بالمعنى الضيق الذي يقصره على مجموعة من الأنشطة الإغاثية، وتقديم مساعدات عينية لذوي الخصاصة وقت الحاجة (غذاء ــ كساء ــ مأو ى... إلخ). ويؤكد أنصار هذا الرأي أيضًا على أن العمل الخيري هو مرحلة أو لية تتسم بالبدائية على سلم مراحل العمل الإجتماعي التطوعي المعني بالشأن العام. ولهذا السلم درجات أكثر رقيًا من مرحلة العمل الخيري تتمثل في:العمل من أجل التنمية، والعمل من أجل التمكين والتأهيل، والعمل من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات العامة والمطالبة بها.
ونحن نرى أن العمل الخيري الإسلامي ليس ((مرحلة أو لية)) من مراحل تطور الاجتماعي الطوعي المعني بالشأن العام. وإنما هوركن أصيل في بناء المجتمع وفي تمدينه وبناء تقدمه العلمي والمعرفي، كما أنه يتسع معناه لمختلف المراحل التي يشيرون إليها. وقد أثبتت التجربة التاريخية أن تطبيقاته تشمل مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك الأعمال الإغاثية ــ ولها أهميتها التي لا يجادل فيها أحد ــ والأعمال التنموية، وأنشطة التأهيل والتكمين، والدفاع عن الحقوق، وتحصيل الحقوق السياسية، والدفاع عنها. وثمة العديد من الأدلة والبراهين التي تثبت صحة ما نذهب إليه. فالمدارس والمستشفيات والمشاغل ومراكز التدريب المهني، ودور الإيواء، وكثير من الأشغال العامة (الطرق، والقناطر، وقنوات المياه ، والإضاءة... إلخ) كل ذلك أسهمت الأعمال الخيرية الإسلامية في تشييده، وتحول
العمل الخيري في هذه المجالات وفي غيرها إلى نظام مؤسسي متكامل الأركان إداريًا، وإقتصاديًا، وقانونيًا، وتجسد في ((نظام الوقف))24. وقد انتشر هذا النظام ــ غير الحكومي ــ على امتداد العالم الإسلامي، وأسهمت مؤسساته المختلفة في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وتمديد مجتمعاتنا لقرون طويلة، ولم يتحول إلى ((نظام حكومي)) أو نظام تسيطر عليه الحكومات إلا في العصر الحديث مع ظهور ((الدولة الوطنية)) الحديثة في بلدان العالم الإسلامي25.
والحاصل أن الأو قاف وسائر عقود التبرعات الخيرية تندرج ضمن وسائل المصالح (المقاصد)، الضروري منها والحاجي والتحسيني. وهذا وجه آخر من وجوه تعلق العمل الخيري الإسلامي بنظرية المقاصد العامة للشريع. ومن هنا ــ في رأينا ــ تلقت الامة نظام الوقف بالقبول. وانتشر العمل به في مختلف الأقطار والأمطار بالرغم من أن التوجيه الشرعي الخاص به قد جاء في سبيل الندب،وليس على سبيل الوجوب أو الفرض. وما كان هذا القبول وذلك الانتشار إلا أثرًا من آثار تعلقه بمقاصد الشريعة السمحة. ولعلنا نزيد فنقول: إن القوة الوقف وفعاليته ارتبطت دومًا بنضج الوعي الاجتماعي بالمقاصد التمدينية للشريعة، فكان ازدهاره مؤشرًا على مراعاة تلك المقاصد وما تتضمنه من مصالح، وكان تدهوره مؤشرًا على سوء تقدير للمصالح والمقاصد في آن واحد.
3 ــ إرساء السلم الأهلي
في مجتمع الخير العام الذي يدلنا عليه القرآن، يعزز عملُ الخير حالةَ السلم الأهلي بين الفئات الاجتماعية المختلفة بطرق متعددة لعل من أهمها أن حصيلة المبادرات الخيرية تشكل شبكة من العلاقات التعأو نية، وتدعم روح الأخوة والتراحم والتعاطف في الاجتماع السياسي الإسلامي بصفة عامة. وإلى ذلك أشار العلامة ابن عاشور؛ حيث يقول: ((عقود التبرعات قائمة على أساس المواساة بين أفراد الأمة، الخادمة لمعنى الأخوة؛ فهي مصلحة حاجية وتحسينية جليلة، وأثر خلق إسلامي جميل؛ فبها حصلت مساعفة المعوزين، وإغناء المقترين ،وإقامة الجم من مصالح المسلمين))26.
وإذا كان بعض فلاسفة النهظة الأو روبية الحديثة ــ مثل توماس هوبز ــ يرون أن الإنسان ((ذئبًا)) لأخيه الإنسان، فإن الإسلام يؤكد على أن الإنسان عون لأخيه الإنسان وسند له؛ يسعى لإسعاده ويتعأو ن معه على عمل الخير، ومحرم عليه أن يتعأو ن معه على الشر أو الإضرار بالغير. قال تعالى ﴿وَتَعَأو نُوا عَلَى الْبِرِّ والْتَقْوَى ولَا تَعَأو نُوا عَلَى الْإِثْمِ والْعُدْوَانِ﴾. وفي سورة الزلزلة يقول تعلى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة:7،8].
وقد تكررت وصايا الرسول ﷺ التي تحض على فعل الخير لنفع الناس ، مطلق الناس جميعًا دون التمييز بينهم بسبب اختلاف عقائدهم أو ألوانهم أو انتماءاتهم العرقية أو الاجتماعية. قال ﷺ: « خير الناس، أنفعهم للناس ». وروى البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: « كل معروف صدقة ». كما حض النبي على المبادرة بفعل الخير ولوكان شيئًا بسيطًا جدًا. ومن ذلك قوله ﷺ: « لا تحقرن من المعروف شيئًا ولوأن تلقى أخاك بوجه طلق (أو:بوجه طليق) »، وقوله: « اتق النار ولوبشق تمرة ». واعتبر الرسول ﷺ أن من الصدقات التبسم في وجه الآخر، فقال: «تبسمك في وجه أخيك صدقة »، وغير ذلك كثير من الأحاديث الشريفة التي تركز على المبادرة بعمل الخير بشكل عام، وتنبه إلى ضرورة أن ينتشر على أو سع رقعة ممكنة من النسيج الاجتماعي عبر المبادرات التي يستطيع أن يقوم بها كل إنسان مهما بلغ ضيق ذات اليد؛ إذ أرشد ﷺ إلى كثير من المبادرات الخيرية القليلة التكلفة ( شق تمرة )، أو التي لا تكلف شيئًا ماديًا بالمرة (وجه طلق )، أو (البسمة الصدقة)؛ وذلك لما لهذه المبادرات الخيرية المتنوعة في قيمها المعنوية والمادية من تأثير كبير في إشاعة جومن الطمأنينة والسلام والأمن بين عضاء ا لمجتمع مهما اختلفت مواقعهم الوظيفية، ومهما تباينة مراتبهم الاجتماعية. ومن ذلك ومن مثله عرفنا أن من مقاصد العمل الخيري الإسهام في تعزيز السلم الأهلي، وتقوية شبكة العلاقات الودية والتعأو نية بين أبناء المجتمع.
ويسهم العمل الخيري في تحقيق مقصد ((السلم الأهلي)) بصورة أخرى متعددة منها: المسارعة في إزالة التوتر، ودفع الحراك الاجتماعي نحودرجات أعلى وأو سع من العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية.
بالنسبة للمسارعة إلى إزالة نقاط التوتر من المجتمع، نجد أن العمل الخيري يسهم فيها بشكل مباشر؛ وذلك في أو قات الأزمات التي قد يتعرض لها المجتمع، أو عند وقع كوارث والأو بئة التي قد تصيب فئة أو أكثر من فئاته. وهنا تظهر أهمية الأعمال الخيرية الإغاثية التي توفر للمحتاجين المساعدات العاجلة من كساء وغذاء ومأو ى وإسعافات أو لية وماشابه ذلك.
ويُحدثُ العمل الخيري أثره الإيجابي ليس فقط في الوسط الاجتماعي الذي يقدم له الفرد مبادرته الخيرية، وإنما يحدث هذا الأثر أيضًا عن معنويات فاعل الخير نفسه؛ إذ يكون عمل الخير سببًا من أسباب سعادته في الحياة، وتزكية نفسه، وانشراح صدره؛ وتقوية حبه للآخرين، والسعي في جلب النفع لهم، ودفع الأذى عنهم، إلى جانب أن عمل الخير يشعر فاعله بمكانته ودوره في محيطه الذي يعيش فيه، ويدعم إحساسه بأن لديه مقدرة – حتى وإن كانت محدودة – على مواجهة مشكلات مجتمعه والإسهام في إصلاحه.
وأما عن أثر العمل الخيري في دفع الحراك الاجتماعي، فيكشف لنا عنه نظام الوقف الخيري قبل أن تسيطر عليه الحكومات المعاصرة في العالم الإسلامي ، وقبل أن تنقله من حيزه المجتمعي المدني إلى حيزها الحكومي البيروقراطي. فالوقف - كما هو معروف – كان القاعدة الصلبة التي قامت عليها أكثر المؤسسات المدنية قوة وأقدارها على الاستمرارية في تاريخ الحضارة الإسلامية، وفي مقدمتها مؤسسات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وكانت الأولوية دومًا في الحصول على الخدمات التي تقدمها تلك المؤسسات للفقراء والمساكين وغير القادرين ماديًا.
وكثيرًا ما نص مؤسسوا الأو قاف في حجج وقفياتهم على وصف الفقر والمسكنة كشرط من شروط من يتولى وظيفة من الوظائف الإدارية للوقف من جهة، وكشرط أيضًا من شروط الاستحقاق في ريع وقفياتهم أو الاستفادة من خدماتها التعليمية والصحية من جهة أخرى27. وبهذه الطريقة استطاع كثيرون من غير القادرين، يحسنوا أو ضاعهم الاجتماعية، وأن يرتقوا في سلم التعليم ويصلوا إلى أعلى درجاته، وكذلك في سلم الوظائف والأعمال التي تتطلب مؤهلات خاصة أو معارف ومهارات متخصصة.
وقد أسهم ذلك كله في ضخ الحيوية في ((الحراك الاجتماعي)) إلى أعلى لأبناء الفئات الأفقر أو غير القادرين28. وأثر هذا الحراك بشكل إيجلبي في المحافظة على السلم الأهلي؛ إذ كانت ثمرات العمل الخيري تفتح باب الأمل باستمرار في مستقبل أفضل لمن قعدت بهم إمكاناتهم المادية عن تحصيل العلم والمعرفة، وكانت تتيح الفرص لمن لديه المهارة والكفاءة ليصل إلى أقصى ما يمكن أن تتيحه له مهارته وكفاءته، ومن ثم تضاءلت احتمالات إقصاء الضعفاء والفقراء، بمن فيهم غير المسلمين من اليهود والنصارى؛ وظل نظام الوقف الإسلامي مفتوحًا أمام الجميع دون تمييز29.
وقد كشفت التجربة الحضارية الإسلامية عن أنه كلما اتسع نطاق العمل الخيري وتعددت مؤسساته، ضاق نطاق الاستعباد الاجتماعي لبعض الفئات بسبب الفقر أو العجز، وتراجعت بالتالي فرص القلاقل والنزاعات الأهلية والإنقسامات الأهلية، وتعزز الاستقرار، وتهيأت فرص الإبداع والابتكار.
4 - محاربة الفقر
لا مكان للفقر المدقع في مجتمع الخير العام، فالخير والفقر المدقع ضدان لا يجتمعان. ولهذا كان العمل الخيري بمختلف صوره التي عرفتها الممارسات التاريخية في المجتمع الإسلامي هو أحد السياسات الاجتماعية التي تستهدف القضاء على الفقر، وتسعة بشكل دائم ومستمر لتجفيفه منابعه، وإخراج من يجخل في دائرته ، وإعادة إدماجه في دورة العمل والانتاج، كي يصبح معتمدًا على ذاته، مسهمًا في بناء مجتمعه وفي مساعدة غيره. وقد حثت آيات الرقآن الكريم وأحاديث للرسول ﷺ على وجوب مقأو مة الفقر ونددت بمن يستسلمون له، وحذرت من أن علة الفقر تصحبها علل أخرى كثيرة مثل الجهل والمرض والبطالة والجريمة30. وهي علل ذات آثار سلبية، تدمر قدرات المجتمع، وتعوقه عن التطور والنمو؛ لذا وجب بذل أقصى ما في الوسع للتخلص من الفقر واجتثاثه في جملته، أو على الأقل لمحاصرته في أضيق نطاق دون الاستسلام له مهما كانت الظروف قاسية.
إن مجتمع الخير العام الذي ينشده القرآن يسعى إلى اجتثاث الفقر بوسائل متعددة، وكلما نبتت بوادر جديدة للفقر – وهذا أمر يتكرر ولا يمكن تحاشيه – نهض من بين أبناء هذا المجتمع من يقأو مها، أسرع إلى محاصرته وتجفيف منابعه. والمثل الأعلى للمجتمع الإسلامي من هذه الزأو ية هو أن لا يكون فيه فقراء31.
إن أو ل مصرف للزكاة المفروضة هم ((الفقراء والمساكين)) بنص قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الْصَدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والمْسَاكِينِ...﴾ [ التوبة: من الىية رقم 60]. وقد ورد الأمر بالزكاة والثناء على من يؤديها في 32 موضعًا في القرآن الكريم، منها 27 موضعًا جاءت مقرونة بالصلاة. ووردت في أكثر من 80 موضعًا أخر ضمن سياقات عامة تشترك مع الزكاة كليًا أو جزئيًا في المعنة مثل النفقة والصدقة التي استعملت للحض على معالجة مشكلة الفقر على وجه التحديد.
وليست الزكاة عملًا طوعيًا، وإنما هي الركن الثالث من أركان الإسلام. ويرتكز نظام الحماية الاجتماعية الذي ينشأ عنها ((على الاحترام الكلي لكرامة الإنسان وحريته، ويتعلق الأمر هنا بتنظيم المساعدة للفقراء، والمحتاجين، والمرضى، والمعوقين، والمسنين، والأرامل، واليتامى، إلى جانب الفئات الستة الأخرى المذكورة في القرآن، في إطار مؤسسات تشرف عليها الدولة))32.
وإلى جانب الزكاة المفروضة حثت شريعة الإسلام على المبادرة بالأعمال الخيرية الطوعية للإسهام في مواجهة مشكلة الفقر، ومن أهم صور هذه الأعمال الخيرية: الصدقة التطوعية، والوقف، والهبة، والانتفاع بفائض رؤوس الأموال والمنح التي تعطى لغير القادرين بدون تحصيل فوائد منهم (القرض الحسن). ومن ذلك كله عرفنا أن محاربة الفقر مقصد أساسي من مقاصد العمل الخيري. وتتجلى في ميدان مكافحة الفقر الجدوى الاجتماعية والاقتصادية للعمل الخيري الذي يثاب فاعله بالأجر الجزيل من رب العالمين.
ويمتلئ تراثنا الفقهي بمطارحات عميقة حول مشكلة الفقر والمسائل والمشاكل التي ترتبط به؛ بدءًا بتعريف الفقر ما هو ؟ مرورًا بكيفية قياسه وما أهم مؤشراته ، وكيفية مواجهته، وصولًا إلى مناقشات فلسفية عميقة حول المفاضلة بين الغني والفقير، وأيهما بحاجة إلى الآخر: الغني إلى الفقير، أم الفقير إلى الغني ؟ أم أن كلًا منهما بحاجة إلى الآخر ؟33.
ومن الملفت للانتباه أن ما تتنأو له البحوث والدراسات الاقتصادية الحديثة تحت عنوان معضلة قياس الفقر، وكيفية تحديد ((خط الفقر))، وقد تنأو لها فقهاء الإسلام منذ قرون طويلة خلت. فالحسن البصري وأبوعبيدة مثلًا كانا يحددان ما نسميه اليوم ((خط الفقر)) برصيد نقدي مقداره أربعون درهمًا، واسيتدلا على ذلك بقوله ﷺ: « لا يسأل رجل أو قية، أو عدلها إلا سأل إلحافًا »34. وذهب الحنفية إلى أن الفقير هو من يملك أقل من نصاب الزكاة؛ ربع أو خمس النصاب كما قال البصيري وأبوعبيدة، والمسكين عندهم هو من لا يملك شيئًا. أما الطبري فيرى أن الفقير هو المحتاج المتعفف. وجمهور المالكية والشافعية والحنابلة يقولون إن معى الفقر مرتبط بمستوى الكفاية، ومدى تلبية احتياجات الإنسان الأساسية ، هو أمر يختلف تقديره من زمن لزمن ومن مجتمع لآخر.
وثمة من قدماء العلماء من اهتم بتحليل ظاهرة الفقر تحليلًا اجتماعيًا واقتصاديًا؛ بل ونجد في كتب التراث بحوثًا شبه ميدانية تتضمن معلومات وآراء تساعد على فهم الأبعاد المختلفة التي تنطوي عليها مشكلة الفقر وتداعياتها السياسية والنفسية، وكيف تؤثر على بعض الفئات وخاصة العلماء والمثقفين، وكيف تؤثر أيضًا على مجمل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية35.
وللفقر صلة وثيقة بالقهر، وليس فقط بالجهل وبالمرض. وقد استغرق عبد الرحمن الكواكبي في تحليل مخاطر الفقر، وشرح صلته الجدلية بالقهر وبالحرية والاستبداد. وأسهب في بيان سلبيات اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وكشف ببراعة دقة الخيوط التي توثق الفقر بالقهر، وتربط الفقراء بأو تاد الاستبداد، وقارن بين أحوال مجتمعات الشرق والغرب في الفقر والغنى، وتباين قدرة كل مجتمع على التخلص من شرور الفقر، ومن أو زار الاستبداد36.
وعلى أية حال، فقد توصلنا – في دراسات سابقة لنا – إلى أن ((التصدي للفقر)) كان في مقدمة أو لويات العمل الخيري في الممارسة الاجتماعية في الاجتماع السياسي الأسلامي. وتجلى ذلك بأو ضح ما يكون في نظام الوقف الإسلامي عبر أغلب مراحله التاريخية. واكتشفنا أيضًا أنه بفضل تراكم الخبرات الاجتماعية في ممارسة العمل الخيري تبلورت أربع وسائل لتنظيم إسهام العمل الخيري في محاربة الفقر، واختصت كل وسيلة بشريحة أو أكثر من شرائح الفقراء37.
الوسيلة الأولى هي ((المساعدات النقدية)) التي تقدم للفقراء موسميًا، وخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية، أو تقدم لهم في أو قات الكوارث والأزمات العامة أو الأسرية أو الفردية.
والوسيلة الثانية هي ((المساعدات العينية)) التي تشمل: الطعام، والماء ، والكساء، وبعض أدوات الإنتاج البسيطة، والدواء، والمأو ى أحيانًا، وهي تقدم للفقراء والمعوزين موسميًا أيضًا أو في أقات حاجتهم إليها أثناء الكوارث والأزمات؛ شأن المساعدات النقدية.
أما الوسيلة الثالثة فهي ((المساعدات المؤسسية))؛ ونقصد بها تلك المساهمات التي يقوم بها فاعلوا الخير من أجل دعم أو تمويل أو إنشاء مؤسسات تقدم خدمات عامة مثل: المساجد، والمدارس، والمستشفيات ومستوصفات العلاج، ودور الإيواء والرعاية الاجتماعية التي تقدم خدماتها للأيتام والعجزة والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة.
والوسيلة الرابعة هي ((المساعدات الفنية))، وتشمل ما يتطوع به فاعلوا الخير من خبرات واستشارات ومشاركات يقدمونها بدون أجر مادي، ويسهمون بها في تدريب وتأهيل الراغبين في العمل، ولكنهم غير قادرين على تحمل نفقات التأهيل المهني اللازم لدخولهم سوق العمل.
وجرى تمويل هذه المنظومة الخيرية عبر طرق متعددة منها: الزكاة، والوقف ، والوصايًا، والهبات الخيرية، والنذور، والكفارات، والصدقات التطوعية الأخرى.
5 – الإسهام في بناء المجال العام:
علينا أن نعرَّف ((المجال العام)) قبل أن نَعْرِفَ كيف أن الإسهام في بناءه هو أحد أهم ملامح ((مجتمع الخير العام)). ((المجال العام)) هو الحيز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي المشترك. هو المسؤولية المشتركة، والمصلحة المشتركة؛ التي لا يختص بها فرد دون آخر، ولا تحتكرها مجموعة أو فئة دون أخرى؛ لسبب بسيط هو أن ((النفع المشترك)) لا يمكن تحقيقه بجهد منفرد، كما لا يمكن قصر الانتفاع به على فرد دون آخر، أو فئة اجتماعية دون أخرى. ((المجل العام)) بهذا المعنى تحكمه منظومة ((قيمية)) تتقاسمها فئات المجتمع وأفراده، و((منظومة)) أخرى من المؤسسات والمرافق العامة التي يجب أن تتسم بالتطور والكفاءة حتى يكون المجال العام متطورًا وفعالًا.
وللمجال العام في رأينا بنيتان: الأولى معنوية تشتمل على مجموعة من القيم ، والثانية مادية تشتمل على مجموعة من المؤسسات والأطر المكانية التي تكون بمثابة ساحة لممارسة تلك القيم.
ثمة مسلك آخر لتعريف المُسمى الذي نسميه بإسم ((المجال العام))، هو التعريف بالضد؛ فنقول إنه كل ما يخرج عن ((المجال الخاص)). وتسير تكوينات المجال الخاص في اتجاه معاكس لتكوينات المجال العام؛ إذ تؤكد على ما يقع في الحقول الدلالية لعدد من التركيبات اللفظية التي تشترك دلالاتها، أو بعضها، مع دلالات ((المجال الخاص))، وأهمها: الحيز الخاص، والنظام الخاص، والمصلحة الخاصة، والقانون الخاص، والحقوق الخاصة، والرأي الشخصي. وجميعها ترتكز في دائرة الفرد أو دائرة العائلة على أقصى تقدير38.
وتوضح لنا نشأة المجال العام في الخبرة الحضارية الإسلامية أن ((العمل الخيري)) كان من كبار مؤسسي هذا المجال منذ البدايات الأولى لنشأته في مجتمع المدينة على عهد النبي ﷺ بعد هجرته من مكة المكرمة. وقد تنوعت مبادرات العمل الخيري التي أسهمت في تكوين ((المجال العام))، وكان من أهمها: المبادرة بوقف مسجد قباء، ومن بعده وقف مسجد الرسول ﷺ في المدينة، ووقف بئر رومة للمنفعة العامة، ومبادرة الأنصار لاقتسام ما يملكون مع إخوانهم المهاجرين استجابة لتوجيهات الرسول ﷺ، رغم أن توجيهاته بهذا الخصوص لم تكن على سبيل الإلزام، وإنما كانت على سبيل الندب. وقد اسهمت هذه ((المبادرات الخيرية)) في إرساء البنية المادية للمجال العام، بعد أن كانت بنيته المعنوية (القيمية) قد ترسخت حول معاني التعأو ن، والتضامن، والتكافل والأخوة الإنسانية والدينية. وقديمًا أطلق علمائنا على هذه الأعمال التي تستهدف الخير العام مصطلح ((حقوق الله))39. وهذه الحقوق تشمل – فيما تشمل – كل ما احتاج إليه الناس حاجة عامة؛ مادية أو معنوية، ولا غناء لهم عنها. وصنف بعض العلماء هذه ((الحقوق العامة)) أيضًا ضمن ما شُرع ((تنبيهًا على مكارم الأخلاق))، ومنها الخض على المسأو اة، وعتق الرقاب ، والهبات والأحباس، والصدقات، ونحوذلك من مكارم الأخلاق))40.
وتشير الخبرة التاريخية إلى أن الممارسة الاجتماعية لمنظومة ((حقوق الله)) ، ومنها ((أعمال التضامن العام)) قد تجلت في مجموعة كبيرة من المبادرات الطوعية التي تستهدف دومًا ((الخير العام))، والتي من شأنها أن تسهم في تكوين ((مجال مشترك)) بين المجتمع والدولة، ولمصلحتهما معًا41. وأخذت هذه المبادرات أنماطًا متنوعة من البر والمبادرات الخيرية. وتعرض ((المجال العام)) الذي أسهمت في تكوينه تلك المبادرات الخيرية للازدهار أحيانًا والانحسار حينًا آخر في ضوء ما مرت به المجتمعات الإسلامية من تحولات اجتماعية وصراعات سياسية. وبناء على ذلك كان المجال العام يزدهر ويقوى كلما اقتربت ممارسات المجتمع من المقاصد العامة للشريعة؛ حيث اقترن هذا الاقتراب بدرجة أعلى من التمدن وقوة روح التضامن الاجتماعي، كما اقترن بانحسار عوامل التنازع والانقسام والفرقة.
وإذا كان العمل الخيري في أغلب التجارب الحضارية هو في جوهره ((إلزام ذاتي للنفس لمصلحة الغير دون مقابل مادي)) – باستثناء الحضارة الغربية الحديثة التي يرتبط فيها العمل الخيري بأهداف مادية مباشرة أو غير مباشرة – فإن الخبرة الإسلامية تؤكد بوضوح على أن من أهداف هذا الإلزام تمكين الفرد من المشاركة في بناء ((المجال العام)). فمن خلال نظام الوقف مثلًا – قبل أن تسيطر عليه الحكومات المعاصرة – استطاع الفرد أن ينقل إرادته بيسر وسهولة من الحيز الخاص إلى المجال العام، وأن يشارك بقدر أو آخر في بناء هذا المجال على نطاق محلي محدود، أو على نطاق المجتمع كله إذا كان وقفًا كبيرًا يقوم بتمويل مؤسسات واسعة التأثير مثل الدرارس والمستشفيات وغير ذلك من المرافق العامة. ولهذا اكتسبت ((شروط الواقف)) أهمية كبيرة، وأضفى عليها الفقهاء صفة الحرمة وأكسبوها قوة الإلزام بقولهم ((شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به ومن نافلة القول أن الشروط المعتبرة شرعًا هي ا لتي تكون منضبطة بالمقاصد العامة للشريعة42، وهذا وجه آخر من وجوه ارتباط مجتمع الخير العام بمقاصد الشريعة.
ولسائل أن يسأل: لماذا يكون ((مجتمع الخير العام)) بالمعنى القرآني قادرًا على استيعاب وتحقيق تلك المقاصد الخمسة الكبرى التي استنبطناها من مفهوم الخير وفق معاييره القرآنية ؟ والجواب يعيدنا مرة آخرى إلى ((الحرية)) باعتبارها النواة الصلبة للرؤية الإسلامية في الاجتماع والسياسة. إن المجال العام هو ميدان ممارسة ((الحرية)) والحرية من صميم المقاصد العامة للشريعة. ولا يقبل الفرد على مبادرة طوعية يلزم بها نفسه لمصلحة الغير تستهدف النفع العام إلا عندما يبلغ مستوى الولاية على نفسه، أي يكون حرًا مختارًا غير مكره. أما عندما يفقد حريته، أو يشعر أنها مهدرة أو مهددة تهديدًا لا قبل له بدفعه، فإن أو ل ما يفعله هو أن ينسحب من المجال العام، وينكفيء على ذاته، ولا يبادر بمشاركة عامة، ناهيك عن أن يبادر بمشاركة خيرية ليس لها جزاء مادي. أو قد يلتحق – أحيانًا – بجماعة السلطان، ويصبح أداة من أدواته في ممارسة البطش والتنكيل بالآخرين. وفي الحالين يفقد المجال العام جزءًا من حيزه؛ لأن هذا المجال لا ينشأ ولا يتكون إلا بمجموع ذوات إنسانية حرة، تتشارك هموم الجماعة وتسعة لتحقيق مصالحها، وتتكاتف من أجل الدفاع عنها عندما تتعرض للتهديد. وفي المقابل تكسب السلطة الطاغية ذلك الجزء المفقود من المجال العام؛ لأنه تنازل عن حريته، ومن تنازل عن حريته لا ((خير)) فيه، وفاقد الشيئ لا يعطيه.
وإنْ تعجب فاعجبلغلبية البلادن العربية التي باتت – منذ أكثر من نصف قون – تتبنى سياسات تقيد بها حرية العمل الخيري، وتحد بها المبادرات التي يتطلع المحسنون من خلالها إلى المشاركة في الحياة العامة لمجتمعاتهم. ووصل الأمر ببعض الدول – مثل تونس – إلى تحريم إنشاء الأو قاف العامة والخاصة، الخيرية والأهلية والمشتركة. وكان ذلك بموجب قانون إلغاء ((جمعية الأو قاف)) بتاريخ 20 شوال 1375هـ - 31 مايو1956م. وكانت تلك الجمعية بمثابة ديوان عمومي يرجع تأسيسه إلى خير الدين باشا التونسي في نهايات القرن التاسع عشر. وكان من اختصاصها الاشراف على عموم الأو قاف التونسية والسعي لرفع كفاءتها وتمكينها من تحقيق أهدافها. ثم صدر قانون تونسي آخر لإلغاء ((نظام الأحباس الخاصة والمشتركة)) بتاريخ 20 من ذي الحجة 1376هـ - 18 يوليو1957م، ولا يزال ساريًا حتى اليوم. وليس مصادفة أن تأتي تونس وغيرها من البلدان التي قيدت الأو قاف في مقدمة الدول التي تعاني من نقص الحريات العامة والخاصة، والتي تناضل أيضًا من أجل انتزاع حريتها من براثن الاستبداد.
وحب الحصيد هو أن فقد الحرية أهم أسباب انحطاط مجتمعاتنا، هو علة أساسية من علل انحسار المجال العام، وسبب رئيسي لتدهور المؤسسات العريقة في عمل الخير ومنها المؤسسة الوقفية. وقد عبر الكواكبي عن فداحة الثمن الذي تدفعه مجتمعاتنا نتيجة فقدان الحرية في كتابه ((أم القرى)) على لسان ((المولى الرومي))، يقول: ((وعندي أن البلدية فقدان الحرية، وما أدرانا ما الحرية؛ هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه،... ومن فروع الحرية تسأو ي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة... فالحرية هي روح الدين،... وأعز شيئ على الإنسان بعد حياته، وإن بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين43. وحب الحصيد هنا هو أن الأصل القرآني للعمل الخيري – بمختلف أنماطه - هو الأساس المتين لبناء مجتمع الخير العام الذي يشمل بظلاله كل بني الإنسان.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مَقَاصِدُ الشَّرِيعَة الإسْلَاميَّة ، المبَادئ والمفَاهِيم، مجموعة بحوث ، 2014، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 287-324. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |