سيد نعمان الحق
يعرف المؤرخون مجموعة كبيرة من الأعمال العربية التي ترجع إلى العصور الوسطى، وتنسب إلى شخصية طالما لفها الغموض، هو جابر ابن حيان. وهذه الأعمال المثيرة متناثرة في مخطوطات عديدة حول العالم، والموقف الأكاديمي السائد هو أن أغلب تلك النصوص وربما تكون كلها موضوعة (Apocryphal)، وأن مؤلفها المزعوم ربما كان شخص لا وجود له، وأن هذه الأعمال يغلب عليها معالجة موضوع الخيمياء (Alchemy).
شغل عدد من الباحثين المحدثين بتحديد الهوية الحقيقية لمؤلف (أو مؤلفي) تلك الأعمال، وكان أول تقدم حقيقي في هذه القضية في النصف الأول من القرن العشرين، على يد بول كراوس (Paul Kraus)،الذي يظل مؤلفه الضخم جابر بن حيان:(( مساهمة في تاريخ الأفكار العلمية في الإسلام)) (القاهرة 1943) حتى يومنا هذا، بلا منازع في شموله ودقته العلمية1. توصل كراوس إلى أنه باستثناء رسالة واحدة منسوبة إلى جابر، هي كتاب الرحمة الكبير، فإن مجمل مدونة جابر (Corpus Jabirianum) هي من عمل مجموعة من المؤلفين ينتمون إلى الطريقة الإسماعيلية، وأن تلك الأعمال لم تكتب في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي كما كان شائعًا، وإنما ظهرت إلى الوجود كأجزاء متعددة، عبر حقبة تمتد حوالي مائة عام، تبدأ في النصف الثاني في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي أو ربما بعد ذلك.
ينطوي هذا البيان المختصر الذي سقناه في الفقرة السابقة على أنواع متعددة من الأسئلة والإشكاليات ذات المغزى العميق عند المؤرخ الذي يأخذ على مهمة إصدار نشرة محققة (Caritical edition) من الرسائل الجابرية، أولها أن دراسات حديثة وجدت كثيرًا مما يستوجب النقد في منظور كراوس؛ وقد بيّنت ذلك باستفاضة في إحدى دراساتي-وهي الدراسة الموسعة الوحيدة عن جابر باللغة الإنجليزية-أن منظور كراوس2 يحتاج إلى إعادة فحص3،وقبل ذلك فقد أثار بيير لوري (Pierre Lory) احتمال وجود نواة صغيرة من الأعمال الأصلية لجابر حيث نمت حولها باقي النصوص الدخيلة4، مما يعيد طرح سؤال: من هو مؤلف المدونة الجابرية؟ متى عاش ذلك المؤلف أو أولئك المؤلفون؟ والسؤال الأشد صعوبة في التناول هو: من الذي كتب كل النص من نصوص تلك المدونة؟ وإذا كانت هناك بالفعل نواة صغيرة من الأعمال الأصلية فكيف نتعرف عليها؟ وأخيرًا هل حقًا ما استقر في التراث العربي من أن جابر بن حيان اسم لشخص تاريخي عاصر الإمام الشيعي السادس جعفر الصادق (المتوفي 147هـ/765م) وكان من مريديه؟
ليست هناك إجابات ميسرة على الأسئلة التي طرحناها، كما لا يمكن تجاهلها أو اعتبارها هامشية بالنسبة لمحقق النصوص الجابرية ,فهذه النصوص لا يمكن فهمها في فراغ تاريخي , وإنما نتساءل عن الوسط التاريخي الذي أحاط بها وما هو سياقها المنهجي في تاريخ الفكر؟ إذا لم يتمكن المحقق من تحديد تاريخ رسالة ما بدرجة مقبولة من الثقة , فكيف يتسنى له تنقيح النص؟ وكيف ينتقي حين يختلف النص من مخطوطة لأخرى؟ وما الذي ينير له السبيل حين يفتقر النص إلى الوضوح ؟ أيّ المصادر التاريخية يلجأ إليها ؟ ويعرف الباحثون أن نشر نص محقق لا يقتصر على مهمة لغوية؛ بل هو بحث في تاريخ و موضوع النص.
وليس ما ذكرناه إلا جزاءً يسيرًا من الصعوبات التي يلقاها من يتصدى لتحقيق المدونة الجابرية , فاتساع نطاق المادة المعالجة في ذلك النص يشكل كذلك عقبة يصعب على المحقق تجاهلها. يوصف موضوع المدونة الجابرية عادة بأنه الخيمياء، وعلينا هنا أن نتحلى عن التصور الدارج للخيمياء على أنها تعني أساسًا بتحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب وأنها تشكل ماضي ما قبل التاريخ لعلم الكيمياء, فالنصوص تزخر بالأدلة التي تنقص هذه النظرة. فمن جهة تعالج الكتابات الجابرية نظرية وممارسة الإجراءات (التدابير) الكيميائية, وتصنيف المواد، والطب وعلم الصيدلة والتنجيم والسحر وعلم خصائص المادة (علم الخوص), وعلم التكون ويتخلل كل هذا فقرات مطولة عن المنطق والفلسفة واللغات الطبيعية والشكلية والفلك والحساب والهندسة والموسيقى وعلم الكون، من جهة أخرى تحوي تلك الكتابات مقطوعات كبيرة تعالج مواضيع دينية وسياسية وأجناس التكوين الشيعي وكمّاً مختلطاً من الدعاية المذهبية، وكذلك حديثا عن اختفاء الإمام وعودته كمخلص في نهاية الزمان، هذا إلى جانب تاريخ المقدسات الشيعية، وموضوع حق الخلافة الشائك سياسياً، وتفسيراً للقرآن برؤى شيعية خاصة.
كما تشير المذونة الجابرية إلى عدد من المرجعيات أو يقتطف منها، وبعض تلك المصادر تاريخية بينما بعضها أسطوري، فيظهر زوسيم (zosimus) مثلاً في كتاب الحجر5 و ديموقريطس (Democritus) في المجردات6 وهرمس (Hermes) في الحجر7 وأغاثودمون في القرار8، ومن المرجعيات التي تذكر أيضاً سقراط الذي يشار إليه على أنه أبو الفلاسفة ومعلمه في التجميع9 وكذالك أفلاطون10 والمدعو أبولونيوس الطيلني11 Pseudo (Apollonius of Tanya) وبليناس. وفي كل أجزاء المدونة الجابرية نجد تضمينًا لنصوص من كافة أعمال أريسطو12 ومن تفاسير اسكندر الأفروديسي13 (Alexander of Aphrodisias) وثميستيوس14 (Themistius) وسيمبليسيون15 (Simplicius) وبورفيوس16 (Porphyre)، كما نجد حضورًا بارزًا لجالينوس Galen حيث يشتشهد بتوسيع بكل من De pulsibus و De pulsibus ad tirones في كتاب إخراج17 و De compositione medicamentorum secundum في كتاب التجميع18 و De simplicum medicamentorum temperamentis et facultibus في كتاب الحاصل19 و De elementis secundum في السبعين20 وكذلك De usu partium في السبعين21 وDe facultybus naturalibus في كتاب البحث22.
ولا يكتفي بالاستشهاد بكل من أرشميدس وأقليدس وإنما تخصص لكليهما رسالة منفصلة، كما هو الحال لسقراط وأفلاطون وأريسطو وباليناس وغيرهم23،بالإضافة إلى ذلك يحتفظ الحاصل نصًا طويلاً من Placita philosophrum التي كتبها بلوتارك Pseuds Plutarch، وبالطبع تحفل المدونة الجابرية بإشارات إلى الإمام الشيعي جعفر الصادق (المتوفي 137هـ/765م)، والذي يقول المؤلف إنه معلمه وأستاذه وسيده وقد كتب الكتاب عملاً بإرشاده24.
هذه طبيعة الموسوعية، والاستشهاد الواسع بالمصادر الموغلة في القدم؛ وضخامة المادة التي تعالجها تلك النصوص، تجعل من الصعب رسم صورة أكثر إحاطة وشفافية لمحتوياتها؛ فمثلاً يتضح أن هذه الكتابات يجب أن تعالج من زاويتين مختلفتين على الأقل: (أ) من منظور التاريخ الديني للإسلام، (ب) باعتبارها مسألة في تاريخ العلم. ولكن في كلتا الحالتين، كثيرًا ما يضطر الباحث إلى تحسّس طريقه في الظلام، فالتاريخ البكر للخيمياء يلفّه الغموض، وكذلك شأن الأصول التاريخية للمذهب الشيعي في الإسلام، ويدرك المؤرخون المعاصرون جيدًا مدى الجدل والتخبط والفوضى التى تحيط بهذين الموضوعين.
يضاف إلى كل ما سبق الصعوبات اللغوية التي تعترض محاولة فهم النص الجابريّ، فرغم أن الخميائيين الهلينيين وبعض كتابات الخميائيين المسلمين اللاحقين مثل ابن أميل وذي النون المصري ( المتوفي 245هـ/859م) إلا أن أسلوبه فقير وغريب وغير متجانس، وكتيرًا ما نجده يخرج على القواعد النحوية المعروفة، وأهم من ذلك مشكلة المصطلحات التي لا تعين معاجمنا على فهم معناها، فلكي نفهم اللغة التي يستخدمها جابر، نضطر ألى اللجوء إلى ما لدينا من كتابات غيره من الخيميائيين وعلماء النبات وعلماء مفردات الأعشاب الطبية، وهي علمية مضنية. كما أنها قد لا تكون مجزية، فإذا كان جابر هو أول خيميائي في الإسلام-وهو احتمال ليس بوسعنا استبعاده-فإن محاولة استيضاح معانيه بالستعانة بكتابات لاحقة ليس إلا عملاً معكوسًا لا يرجى منه الكثير في الإجابة على تساؤلاتنا، وخاصة فيما يتعلق بحديد زمن كتابة النص، أما أعمال الخيميائيين السابقين له فلا تجدي كثيرًا في إلقاء الضوء على جابر، لأنها يكتنفها الغموض كذلك.
وهناك عقبة كؤود هي نمط الباطنية الخاص بجابر، ومعروف أن الخيمياء تمارس عادة تحت ستار من السريّة، لذا نجد في مواضيع عديدة من النص الجابري تحذيرات-تنسب إلى أستاذه المزعوم جعفر-من وقوع هذه الكتابات في أيدي من لا يستحق أو لا يتحمل المسؤولية25. فقد كان القدامى يستخدمون كنى وأسماء حركية، إلا أن باطنية جابر تأخذ الشكل الذي يطلق عليه هو تبديد العلم، مبدأ بَعْثَرة المعرفة: فالحقيقة لا تكشف أبدًا كاملة في مكان واحد، وإنما يهدف الكاتب إلى تقسيمها إلى أجزاء صغيرة وتوزيعها في مجمل النص الضخم؛ يقول الكاتب في الخواص26، إن كتبه كثيرة وعلمه مفرق عليها، لذا فليس هناك رسالة تكتمل بمفردها وإنما تظل كل منها بطبيعتها جزئية.
ويشدد الكاتب دائمًا على ضرورة أن يرجع القارىء إلى أعمال أخرى من أعماله حتى يستوعب المعنى والمغزى الكامل للموضوع المعالج في الرسالة التي هو بصددها، وتلك الأعمال بدورها تحت القارىء على اللجوء إلى غيرها،وهكذا.
يقول كراوس: كثيرًا ما يدرج جابر هامشًا طويلاً عن مرجع من المراجع في وسط رسالةٍ مَا دون ما مبرّر27، فمثلاً في الميزان الصغير، يحث الكاتب قارئه على تجميع كلّ كتبه وقراءتها، فيجب أن تُقْرأ الكتب معًا حتى يتكشف للقارىء سرّ الخليقة وصَنْعة الطبيعة من خلال الدراسة المطولة28.
غلى جانب الإحالات المستفيضة إلى أجزائها المختلفة فإن المدونة الجابرية ترد عليها تعليمات واضحة عن الترتيب الذي يتحتّم اتباعه عند قراءة الكتابات المختلفة، بل ويحدد عدد مرات القراءة الواجبة لكل كتاب منها، فطبقًا لكتاب ميدان العقل لن يجني القارىء فائدةً ما لم يكن قد سبق له قراءة عدد من الرسائل الجابرية الأخرى29، وتجب قراءة الأفاضل بعد كل الآخرين30، بينما نقرأ في الحجر أن المهمة لا يمكن إجازها دون قراءة الحدود، وأن قراءته تختلف عن قراءة أي كتاب آخر، فبينما غيره من الكتب تقرأ مرة واحدة كل شهر، يجب أن يظل الحدود تحت نظر القارىء طول الوقت31. ويذكر الحجر أيضًا أن الحاصل يفيد في التعليم أكثر من الأفاضل، ويبرر ذلك بأن الأفاضل كالعبير الذي يفوح من الأشياء، بينما الحاصل مثل جوهرها، وغيابه يكون كغياب المصدر32. إذن على الذي يسعى إلى معرفة الحقيقة الكاملة حول تعليم الكتاب أن يضع أمامه كل الكتابات الجابرية. ومن الناحية النظرية فإنه ممكن إعادة بناء كل النصوص الجابيرة، ولكن على المستوى العلمي تظل تلك المهمة مستحيلة.
ربما يفسر تطبيق مبدأ تبديد العلم بلا هوادة حقيقة أن المؤلف ينتقل من موضوع لآخر دون ضرورة يفرضها عليه السياق، ففي المجيد يعتدر الكاتب لقارئه ويرجو ألا يغضبه الخروج من حوار الخيمياء دون استكماله وتغيير الموضوع ألى الدين هكذا، فمن طبيعة الرسائل الجابرية أن تتعامل مع مواضيع متفرقة في نوع من النسيج المرقع الذي تشكله حوارات متعددة، وفي مثل تلك الحالة يجب أن يكون من يتصدى لتحرير تلك النصوص ذا كفاية في كم موسوعي من الموضوعات، مما يشكل وضعًا مثاليًا لا يمكن تحقيقه علميًا. فالحجر غلى رأي بالنياس، وهو النص الذي سبق لي تحقيقه وتحريره33 يعالج اللغة والمنطق والنحو والموسيقى والعروض والهندسة ونظرية الاتزان والفلسفة الطبيعية والتوليد الاصطناعي والتدابير الكيميائية وعلم الكون وما وراء الطبيعة، وهذه ليست حالة شاذة، فالمدونة الجابرية مليئة بالاستطراد وتغير وجهات النظر ونقاط الانفصال، وكذلك أنصاف الحقائق.
من الصعوبات التي تواجه المحقق الذي يرغب في تفسير النصوص الجابرية، عدم الاتساق في تلك النصوص، ففي تصنيف المواد على سبيل المثال، يعد الزئبق مرة من الألأرواح34 (Spirits) ومرة أخرى من المعادن35 ويحل محله أحيانًا الزجاج36 وأحيانًا السبيكة الصينية الخارصيني37، وأحيانًا يصنف الزئبق دون لبس، بينما أحوال أخرى يثير التردد، ففي استقصاء الأس يكتب جابر أن هناك شكًا بالنسبة للزئبقأنه روح بين الأرواح ونفس بين النفوس38 مثال آخر من السبعين ففي بعض التأملات العددية يعطي العدد 18 مكانة خاصة، بينما يعلن في كتب الموازنة أن العدد 17 هو أساس كل شيء في الطبيعة39. ومثل هذه التضاربات يصعب تفسيرها. برغم ما أوردناه من تحديات، لا يسعنا أن ندع هذه الكتابات يطويها النسيان، فهي تحوي مادة خصبة ومثيرة تفيد مؤرخي العلوم والأديان والفلسفة والثقافة والمذاهب الباطنية، وكذلك الباحثين في الأنثروبولوجيا، ويشعر المرء بالإحباط إذ نذكر أن صدور عمل كرواس الفذ تبعته مدّة من الإهمال النسبيّ، وأن حقل الدراسات الجابرية-الذي جدب إليه عددًا من أفضل الباحثين في جيل سابق-شبه مهجور اليوم. فلا نجد بين أيدينا سوى كتابين فقط يقدمان تحقيقًا لنصوص جابرية، كتاب بيير لوري وهو كتاب صغير يحوي 14 رسالة قصيرة40، وتحقيقي لكتاب الحجر على رأي بليناس الذي اعتمدت فيه على كل المخطوطات المتاحة41، ولا يمكننا أن Geschichte der Alchemy . Holmyard .E.J arabischen. نسمي ذلك حصادًا جيدًا، إلا جزءًا ضئيلاً من مدونة ضخمة.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: علوم الأرض في المخطوطات الإسلامية: أعمال المؤتمر الخامس لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي– 24-25 نوفمبر 1999 – النسخة العربية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 259-272. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني |