عبد الرحمن الكيلاني: أستاذ الفقه وأصوله بكلية الشريعة، الجامعة الأردنية
محتويات المقال: مقصد إعمار الأرض مقصد بناء القيم الأخلاقية المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية مقصد التعارف الإنساني الخاتمة والتوصيات قائمة المراجع |
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
تمثّل مقاصد القرآن الكريم المدخل السليم للتعريف بالدين الإسلامي تعريفاً صحيحاً لا يشوبه التشويه، وبيانه بيانا سليما لا يعتريه الخلل، وتوضيحه توضيحا كاملا لا يرد عليه النقص أو الزلل.
ذلك أن مقاصد القرآن هي الكاشفة لحقائق الإسلام ومعالمه، وهي المرشده إلى معانيه وقيمه، وهي الهاديه إلى أسراره وغاياته. والتعريف العام بدين الإسلام إنما يعتمد ابتداء على التصور الصحيح لمقاصد القرآن الكريم نفسه، وإدراك غاياته ومعانيه، ومعرفة أهدافه ومراميه.
وهذا يعني أنه إذا كانت المعرفة بمقاصد القرآن الكريم صحيحة وسليمة كانت المعرفة بالإسلام نفسه صحيحة وسليمة، وإذا كانت المعرفة بمقاصد القرآن ضعيفة ومختلة كانت المعرفة بالإسلام نفسه ضعيفة ومختلة، ولعل هذا هو ما حدا بالإمام الشاطبي إلى القول1:
الْكِتَابَ هو كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ، وَعُمْدَةُ الْمِلَّةِ، وَيَنْبُوعُ الْحِكْمَةِ، وَآيَةُ الرِّسَالَةِ، وَنُورُ الْأَبْصَارِ وَالْبَصَائِرِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَلَا نَجَاةَ بِغَيْرِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ بِشَيْءٍ يُخَالِفُهُ، (…) وإن كان كذلك لزم ضرورةً لمَنْ رَامَ الِاطِّلَاعَ عَلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَطَمِعَ فِي إِدْرَاكِ مَقَاصِدِهَا، وَاللِّحَاقِ بِأَهْلِهَا، أَنْ يَتَّخِذَهُ سَمِيرَهُ وَأَنِيسَهُ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ جَلِيسَهُ عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي؛ نَظَرًا وَعَمَلًا، لَا اقْتِصَارًا عَلَى أَحَدِهِمَا؛ فَيُوشِكُ أَنْ يَفُوزَ بِالْبُغْيَةِ، أَنْ يَظْفَرَ بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين في الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ.
ولأجل هذا، كان الاهتمام بمقاصد القرآن الكريم، تعيينا وإدراكا وتوضيحا وبيانا، أمراً ضروريا لفهم الإسلام نفسه ومعرفة حقيقته، ثم تبليغ دعوته ورسالته للناس تبليغا يوافق مقصود الشارع ويحقق مراده من رسالته التي أنزلها رحمة للعالمين.
وإن الناظر في آيات الكتاب الكريم يجد أن من جملة مقاصده العامة: بناء المشتركات الإنسانية الواحدة التي يمكن أن تكون جسورا للتواصل والتفاعل بين شعوب الأرض وأممها، على اختلاف أعراقهم وألوانهم ومذاهبهم وانتماءاتهم الدينية والفكرية.
وهذا واضح في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم، كما في قول الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات : 13].
وقوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].
إلى غيرها من الشواهد القرآنية الكثيرة التي تؤكد على أن القرآن الكريم قاصد إلى إيجاد الروابط الإنسانية العابرة للخصوصيات الدينية والثقافية والمذهبية، وقاصد إلى إيجاد المساحات المشتركة التي يمكن أن تتسع لجميع شعوب الأرض وأممها ومجتمعاتها، وقاصد لتحقيق التعاون بين الناس، وقاصد إلى بناء القيم الإنسانية الواحدة التي يمكن أن يلتقي عليها الجميع.
كما يظهر جلياً عند النظر في مقاصد القرآن: أن طبيعة العلاقة بين الشعوب والأمم، مبنيةٌ على أساس التعارف والتعاون، وتحكمها معاني البر والعدل والقسط، وأن الاختلاف بين الناس في أعراقهم وألوانهم ومذاهبهم لا يسوّغ العدوان ولا البغي ولا الظلم للآخرين.
وإذا نظرنا في العطاء العلمي الذي قدمه علماء الأمة، جزاهم الله خير الجزاء، نجد الإشارات الواضحة إلى أثر المقاصد القرآنية في بناء المشتركات الإنسانية الواحدة، وفي إيجاد القواسم المشتركة والتأسيس للتعاون الإنساني، ومن ذلك مثلا ما ذكره العلماء في المقاصد الضرورية الخمسة وأنها مما اتفقت عليه الملل والشرائع التي يراد منها إصلاح الخلق، قال الغزالي: «وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق. ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر»2.
ونجد عند العلماء المعاصرين بيانا أوضح وأصرح في إبراز القضايا الإنسانية المشتركة التي قصد القرآن الكريم إقامتها، ومن هؤلاء الشيخ محمد رشيد رضا الذي حدد مقاصد القرآن الكريم، وذكر منها:
«الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي الذي يتحقق بالوحدات الثماني وهي: وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ»3.
فالإصلاح الإنساني، ووحدة الجنس البشري، والمساواة والعدل، هي قيم إنسانية كلية، ومساحات مشتركة تصلح أن تكون أرضية واحدة للتعاون والعمل الإنساني.
كما بيّن الشيخ يوسف القرضاوي المقاصد التي أكدها القرآن الكريم، وانتهى إلى أنها تتجلى في سبعة مقاصد كبرى، وذكر منها: «التعاون الإنساني» باعتباره واحدا من المقاصد القرآنية4.
ولا ريب أن التعاون الإنساني يجب أن يكون واردا على قضايا مشتركة، وعلى قيم متفق عليها، وعلى موضوعات واحدة هي محل قبول الجميع، لأن التعاون إنما يكون في المتفق عليه لا في المختلف فيه، ومن هنا جاءت فكرة هذا البحث لترصد القيم المشتركة، وتحدد الأسس الواحدة التي يمكن أن تكون منطلقات للتعاون الإنساني.
ويمكن أن أحدد نطاق البحث في الأسئلة الآتية، والإجابة عنها:
- هل اعتنى القرآن الكريم بتأسيس الكليات الجامعة للتعاون الإنساني؟
- ما المقاصد القرآنية التي يمكن أن تكون منطلقات للتعاون الإنساني؟
- كيف يمكن تفعيل هذا المقاصد عمليا ؟
- هل بالإمكان توظيف المقاصد القرآنية في بناء المجتمع الإنساني المعاصر؟
وقد جعلت خطة البحث وفق المطالب الآتية التي تعبر عن أربعة من المقاصد الكبرى ويمكن أن تندرج فيها عدة مقاصد وكليات جامعة أخرى، وهذه المطالب هي:
المطلب الأول: مقصد إعمار الأرض. المطلب الثاني: مقصد بناء القيم الأخلاقية. المطلب الثالث: المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية. المطلب الرابع: . مقصد التعارف الإنساني. |
والله أسأل أن يوفقني فيما أنا بصدد بحثه ودراسته إنه نعم المولى ونعم النصير.
المطلب الأول: مقصد عمارة الأرض
تمثل عمارة الأرض مقصدا عظيما يرتبط بأصل خلق الإنسان ووجوده في هذه الحياة، وقد تتابعت آيات القرآن الكريم على تقرير هذا المقصد وتأكيده وإثباته بأساليب مختلفة وصيغ قرآنية متنوعة، منها:
قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].
وقوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30].
- وقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ [الأعراف: 56]، وقوله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: 22].
وهذه الآيات الكريمة، وغيرها كثير، ظاهرة في دلالتها على الدعوة إلى عمارة الأرض وإصلاحها ومنع تخريبها وإفسادها، وصريحة في الحض على فعل الخير فيها، وفي التأكيد على أن من مهام الإنسان الأولى التي خلق من أجلها، تعمير الأرض بشتى صنوف الخير والبر.
وهذا ما حدا بالرّاغب الأصفهاني إلى اعتبار «عمارة الأرض» واحدا من مقاصد ثلاثة يدور حولها خلق الإنسان وإيجاده، وأن تفاوت الناس فيما بينهم هو بمقدار تحقيقهم لهذه المقاصد وإقامتهم لها، حيث ذكر تحت عنوان «ما لأجله أوجد الإنسان»:«الإنسان من حيث هو إنسان كل واحد كالآخر، كما قيل: «فالأرض من تربة، والناس من رجل»، وإنما شرفه بأنه يوجد كاملًا في المعنى الذي أوجد لأجله»... إلى أن قال: «والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:
1 - عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61]، وذلك تحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.
2 - وعبادته المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل في أوامره ونواهيه.
3 - وخلافته المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 129] وغيرها من الآيات، وذلك هو الاقتداء بالباري سبحانه على قدر طاقة البشر في السياسة باستعمال مكارم الشريعة»5.
وعمارة الأرض مقصد من أصل الخلق والتكوين، ومقصد من أصل الأمر والتشريع، فهي من مقاصد الخلق لأنها من مقاصد خلقه سبحانه للناس وإيجاده لهم في هذه الحياة، وهي من مقاصد الشرع لأن الله تعالى أراد من كتابه المنزل عمارة الأرض وتشييدها وإصلاحها وتنميتها وذلك عن طريق صلاح الإنسان المستخلف فيها والمكلف بإصلاحها، وهذا ما عبر عنه الشيخ علال الفاسي بقوله: «المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، وصلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة ومن صلاح في العقل وفي العمل وإصلاح في الأرض واستنباط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع»6.
وتدور جل عبارات المفسرين في معنى «إعمار الأرض» الورادة في قوله تعالى: ﴿واستعمركم فيها﴾ حول معنى عمارة الأرض ماديا ببناء المساكن والغرس والزرع وحفر الأنهار، وغيرها من الصور والوسائل التي يتحقق فيها إعمار الأرض وبناؤها7. قال الجصاص: «واستعمركم فيها: يَعْنِي أَمَرَكُمْ مِنْ عِمَارَتِهَا بِمَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ عِمَارَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ وَالْغِرَاسِ وَالْأَبْنِيَةِ»8.
ولا ريب أن إعمار الأرض أوسع من أن يختص بالجانب المادي فقط، فهو يشمل كل ما فيه تنميتها ورقيها ماديا كان أو معنويا أو روحيا، وهو أمر لا يتأتى إلا بإصلاح الإنسان نفسه المكلف بإصلاح الأرض وإعمارها.
وهذه الدعوة إلى إعمار الأرض التي ترتقي إلى درجة التكليف الملزم –على وفق ما بيّنه الجصاص وغيره من المفسرين– تنطوي على الدعوة إلى التأسيس لعدد من المشتركات الإنسانية التي يمكن أن يتعاون عليها الناس كافة ويتحقق فيها بناء الأرض وإعمارها، كالتعاون في المجال الزراعي والصناعي والتجاري والصحي والبيئي والعلمي وغيرها من مجالات الحياة التي تتحقق فيها منافع الناس.
وقد أومأت آيات القرآن الكريم إلى أن عمارة الأرض لا تتحقق إلا بقدر من التعايش والتساكن والألفة بين الناس، وهذا ما نجده في دعاء نبي الله ابراهيم S: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [ابراهيم: 37].
ففي دعائه S بهوي الأفئدة إلى حيث يسكن زوجه وابنه: إشارة إلى طلب الألفة والحضور الإنساني للمساعدة في تكوين المجتمع الناشئ، والتعاون في تعمير المدينة الجديدة، لتكون عاصمة التوحيد في العالم.
كما أن في طلب الرزق من الثمرات تنبيها إلى أسباب البقاء المادي من ثمر وغرس ومادة كافية تسكن نفس الإنسان إليها ويستقيم أوده بها. وهذه في حقيقتها من دعائم العمران: الألفة الجامعة، والوفرة الكافية.
ولقد بين ابن خلدون أن طبع الإنسان وفطرته ينزعان نحو الاجتماع والتعاون الإنساني لتحقيق حاجاته المختلفة، لأن الفرد لن يستطيع أن يستغني عن بقية أفراد جنسه لتلبية حاجاته الكثيرة، قال ابن خلدون: «الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبر عنه الحكماء بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وبيانه: أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه، ولو فرضنا منه أقل ما يمكن فرضه وهو قوت يوم من الحنطة مثلاً، فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن والعجن والطبخ، وكل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري»9.. إلى أن قال: «فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم، فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف»10.
و ما يصدق على حاجة الإنسان الغذائية يصدق أيضا على حاجاته الأمنية والصحية والعلمية، ولذا قال ابن خلدون: «كذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه».. إلى أن قال: «و إذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء، والسلاح للمدافعة، وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه.
فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم، وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعاً لهذا العلم»11.
وهذا التفصيل الذي ذكره ابن خلدون لأحوال الأفراد يصدق أيضا على أحوال الجماعات والشعوب التي لا تستغني عن بعضها في تأمين حاجاتها الإنسانية، وهو ما يجعل اجتماعها وتعاونها ضرورة للمجتمعات الإنسانية على اختلافها وتنوعها، مثلما هو ضرورة لآحاد الأفراد والأشخاص.
وإننا لنجد عديداً من الشواهد والصور والتطبيقات التي تزخر بها الحضارة الإسلامية في مجالات التعاون الإنساني في إعمار الأرض وتنميتها واستثمارها علميا وصناعيا وزراعيا وتجاريا، ما يدل على أن هذا المقصد القرآني قد وجد محله وأثره في الحضارة الإسلامية.
ومن هذه الصور ما فعله عمر بن الخطاب I في أراضي العراق عندما أمر أن تبقى بيد أهلها مع ضرب الخراج عليهم، ووجّه ذلك وعللّه بقوله: «يكونون عمّار الأرض فهم أعلم بها وأقوى عليها»12.
أي أنه قدّر أن أراضي العراق حتى تبقى عامرةً ومثمرة ومنتجة، فينبغي أن تبقى بيد أهلها لأنهم الأقدر على ذلك بسبب توافر الخبرة والقدرة عندهم أكثر من الجنود الفاتحين.
هذا فضلا عما في تقسيم الأراضي بين الفاتحين من تخوف على حق الأجيال القادمة التي ستحرم من هذه الأموال وخيراتها، وما فيه من التفات إلى المفاسد العظيمة التي ستنشأ عند التوزيع بين الغانمين13.
وهذا نظر مقاصدي دقيق من أمير المؤمنين عمر I حين قدر أن مقصد الإعمار، وهو مقصد قرآني معتبر، لن يتحقق على وجهه الصحيح فيما لو دفعت الأراضي إلى الجنود وقسمت بينهم قسمة الغنائم، لأنه تنقصهم الخبرة العملية في كيفية استغلالها، فتكون قسمتها بينهم سببا في موات الأرض وضياعها بدلا من أن تكون سببا في إعمارها وإحيائها بالزراعة.
ولذا أقام شراكة حقيقية بين الدولة الإسلامية وبين أهل الأرض الذين يتمتعون بالخبرة الكافية في أصول زراعتها وتنميتها على أحسن وجوه الاستثمار والتنمية، ويكون للدولة جزء من الناتج من غلال الأرض في مقابل ما تقدمه لأهلها من حماية وأمن على أموالهم وأنفسهم.
وهذا يؤكد أن إعمار الأرض، بما هو مقصد قرآني، يمثل منطلقا لتبادل الخبرات الإنسانية التي تتفاوت في إمكاناتها وعلومها وقدراتها ومواهبها، وللتكامل في سد الثغرات التي تعتري الخبرات الإنسانية في بعض المجالات الحيوية، كما أنه يسهم في إغناء المسيرة الإنسانية من خلال حفز طاقاتها الفاعلة وتوظيفها في العمل الدؤوب الهادف، والجهد الإنساني المشترك.
المطلب الثاني: القيم الأخلاقية وبناء المشترك الإنساني
يعدّ الإصلاح الأخلاقي واحدا من أبرز مقاصد القرآن الكريم وأهدافه وغاياته، حيث بين الله تعالى في كتابه الكريم أن تزكية الأمة وتحليتها بالفضائل والقيم من أعظم مقاصد بعثة النبي الكريم ﷺ وأهداف رسالته، وهذا ظاهر في كثير من آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].
وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].
كما نجد في آيات أخرى إبرازاً لبعض الفضائل الأخلاقية، باعتبارها مقاصد كبرى للدعوة والرسالة، كمقصد تحقيق الرحمة للعالمين، في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]،ومقصد إقامة العدل بين الناس في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز﴾ [الحديد: 25].
ومقصد الإحسان إلى الناس في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل: 90].
وهذه الآيات وغيرها كثير تؤكد على مركزية الأخلاق في الشريعة الإسلامية وعلى مكانتها المحورية في الاعتبار المقاصدي حتى إنها مثلت غاية الشريعة الكبرى ومقصدها الأول وأكد على هذا النبي ﷺ بقوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»14.
ولأجل هذا فقد اعتبرت الدعوة إلى إصلاح القيم وتهذيب الأخلاق وتحصيل التزكية مقصدا قرآنيا كليا، ومحورا تشريعيا ثابتا تدور حوله أحكام الشريعة وتفاصيلها الكثيرة.
وبالرغم من الفروق الجوهرية بين النظرية الأخلاقية في القرآن الكريم وبين النظرية الأخلاقية في الفلسفات المادية والمذاهب الوضعية15، فإن ثمة مساحة واسعة للاشتراك والالتقاء الإنساني في عديد من القيم والفضائل، ذلك أن الفطرة الإنسانية التي خلق الله الإنسان عليها، هي مصدر أساس من مصادر تكوين الأخلاق وتشكيلها واعتبارها، ومهما اختلف الناس -أفرادا أو أمما- في تقييم بعض الأفعال، فإن هناك فضائل وأخلاقا يشتركون جميعا في حبها وتقديرها، كالصدق والأمانة والوفاء والعدل. ومهما اختلفوا في عقائدهم وفلسفاتهم ومناهجهم فإن هناك رذائل وأخلاقا سيئة يشترك الناس جميعا في بغضها وقبحها، كالظلم والعدوان والكبر والكذب والخيانة والأثرة والغدر.
وإن اشتراك الناس -بمختلف أجناسهم وأديانهم وأوطانهم وعصورهم وطبقاتهم وأحوالهم- في هذه الميول الخلقية، وتجذُّرُها في نفوسهم، هي بسبب فطريتها التي يشتركون جميعا فيها، فجيمع الناس يشتركون في المعاني الفطرية والطبائع الفطرية.
والملاحظ أن جميع الأخلاق الفطرية هي أخلاق قرآنية أيضا، لأن القرآن يؤكد على مقتضيات الفطرة وموجباتها، كما أن جميع الأخلاق القرآنية هي أخلاق فطرية أيضا، لأنه لا توجد قيمة خلقية قرآنية إلا والفطرة تنزع إليها وتتوافق معها وتحض عليها، وهذا ما يجعل القيم الأخلاقية القرآنية أساسا قويا لبناء الأرضيات المشتركة الجامعة بين الناس باعتبارها قيما فطرية إنسانية.
وإننا لنجد تنبيه القرآن الكريم إلى دور القيم الأخلاقية في بناء المشتركات الإنسانية وذلك في إشارته إلى عديد من القيم التي تلتقي عليها جميع الشرائع السماوية وإن اختلفت في زمانها واختلفت وفي مكانها واختلفت في رسلها وأنبيائها، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [البقرة: 83]. وقال أيضا: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ [الأعلى: 14-19].
فالإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، وقول الكلمة الطيبة، وتزكية الأنفس هي جميعها مشتركات أخلاقية بين جميع أتباع الشرائع السماوية.
ويوجه أستاذنا الريسوني سبب هذا الاشتراك في القيم والأخلاق الكبرى بين جميع الشرائع المنزلة، فيقول: «الكتب المنزلة متعددة مختلفة باعتبارات، ومتحدة مشتركة باعتبارات أخرى. الكتب المنزلة –والشرائع المبثوثة فيها– تتفق في أمور وتختلف في أمور.
وما دام موضوعها هو: الإنسان،في جوهره وطبيعته، في خصائصه ونقائصه، وفي صفاته ومقوماته، في ميوله واحتياجاته الأساسية، في هذه الأمور كلها: الإنسان هو الإنسان، من آدم إلى آخر ولد آدم.
ما دام الأمر كذلك، فلا بد أن تكون هناك أشياء كثيرة يشترك فيها الناس، على الأقل في أصولها وجملتها»16.
ونجد تجليات هذا الوعي والفهم لأهمية الأصول الأخلاقية في إيجاد القواسم والقواعد المشتركة بين الناس، في المرافعة الناجحة التي قدمها الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب I، أمام النجاشي، إذ كان بيانه وخطابه مرتكزا على إبراز القيم الأخلاقية المشتركة التي يلتقي عليها كل أصحاب الفطر السوية، وتقررها جميع الشرائع السماوية، وارتكزت مضامين خطابه على جملة القيم الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام، وذلك بقوله:
«أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات؛ وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك»17.
لقد نجح هذا الخطاب الذكيّ والحكيم في الوصول إلى عقل النجاشي وقلبه، وفي تشكيل قناعة لديه بصحة الرسالة وعظمتها، لأن الداعية الذي تربى على يد رسول الله ﷺ، كان ناجحا في أسلوبه وخطابه وفي انتقاء مضامين بيانه، وعرف كيف يبرز المعاني الجامعة التي يتوافق عليها كل أصحاب الفطر السليمة، وأن يركز على المحاور الجامعة والقضايا المشتركة، والأصول الراسخة، والقيم الإنسانية الكريمة التي لا يختلف على حسنها أحد.
وكان من ثمرات هذا النجاح ونتائجه المباركة أن أعلن النجاشي نفسه تأييده للدعوة الجديدة وأتباعها، لأنه آمن بأن دفاعه عنهم هو دفاع عن ذات القيم والأخلاق التي جاء بها المسيح S، بل دفاع عن كل الرسل والرسالات، وعبر عن ذلك بقوله: «إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا، فَلَا وَاَللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْكُمَا، وَلَا يُكَادُونَ».18
هذا، ويؤكد الرسول ﷺ على قوة القيم الأخلاقية في تشكيل المشتركات الإنسانية الكبرى، وصلاحيتها في البناء عليها وتأسيس التكتلات والتحالفات بالتعاون مع كل من يؤمن بالقيم الإنسانية الجامعة، بقطع النظر عن دينه ومعتقده ومذهبه، وذلك من خلال إشادته S بحلف الفضول الذي حصل في الجاهلية وكان فيه دعوة للانتصار من الظالم للمظلوم، حيث قال، بعد أن أكرمه الله بالنبوة والرسالة: «شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ»19.
وسبب هذا الحلف: أن رجلا من زبيد (بلد باليمن) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة، فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه، وأبرموا هذا الحلف، الذي سمي بحلف الفضول لأن من قام به كان في أسمائه الفضل، كالفضل بن الحارث، والفضل ابن وداعة، والفضل بن فضالة.
لقد أثنى رسول الله ﷺ على حلف الفضول بالرغم من وقوعه في الجاهلية، لأنه كان تجمعا أخلاقيا، وميثاقا إنسانيا، تنادت فيه المشاعر الإنسانية الكريمة لنصرة المظلوم، والدفاع عن الحق، والأخذ على يد الظالم، وهي قيم تتطابق مع جوهر دعوة الإسلام ورسالته.
وهذا يدعو المسلمين اليوم لإنشاء مثل هذه التحالفات والتكتلات والمواثيق والمعاهدات التي تخدم أصولا أخلاقية، وتنتصر لقضايا قيمية، وتخدم مشتركات فطرية وإنسانية، حتى لو كان بعض أطرافها غير مسلمين ولا موحدين20.
فالانتصار للقيم الأخلاقية هو انتصار للإسلام نفسه، وهو تحقيق لمقاصد القرآن وتعزيز لأهداف الدعوة وغايات الرسالة، وتجديد لمعاني التزكية التي أرسل من أجلها الرسل، وأنزلت من أجلها الكتب.
المطلب الثالث: المقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية
أن من أعظم القيم التي تؤسس للمشترك الإنساني الجامع: ما قرره الأصوليون في بيانهم لمراتب المقاصد الشرعية الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينيات
حيث إن هذه المصالح الكبرى يمكن أن تشكل مرتكزات وقواعد كلية لبناء القيم والمصالح الإنسانية المشتركة التي يلتقي عليها الجميع، بقطع النظر عن انتماءاتهم وهوياتهم وأعراقهم وأجناسهم ومعتقداتهم.
فالمصالح الضرورية تمثل المصالح الإنسانية الأساسية التي فيها قوام حياة الإنسان، وهذا وجه ضروريتها فهي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُـقدت لم تَـجْرِ مصالحُ الدنيا على استقامة21.
ويأتي في طليعتها الكليات الخمس، أو الأصول الخمسة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال22.
وقد تتابعت عبارات العلماء على التأكيد على المكانة الأساسية والمحورية لهذه الضروريات الخمس، وأنها مرعية ومحفوظة في جميع الشرائع المنزلة،أي أنها من قبيل المشترك الإنساني الجامع، على وفق ما نص عليه عدد من الأصوليين والفقهاء.
وهذا ما نبّه إليه الغزالي بقوله: «وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب المسكر»23.
وقد أكد هذا المعنى القرافي بقوله: «الكليات الخمس: حفظ الدماء والأعراض والأنساب والعقول والأموال، وأنواع الإحسان كإطعام الجوعان وكسوة العريان، وغير ذلك مما لم تختلف فيه الشرائع»24.
ولقد نبهت آيات الكتاب الكريم إلى البعد الإنساني المشترك في هذه الكليات الكبرى، ففي جريمة القتل العمد مثلاً: بيّن القرآن الكريم أن الاعتداء على نفس واحدة يعدّ جريمة في حق الإنسانية كلها، وذلك في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة 32].
وفي هذا إيماء إلى وجوب التكافل الإنساني للعمل على استئصال شأفة هذه الجريمة النكراء من المجتمع البشري كله، لأنها تعتبر تهديدا خطيرا لوجوده، وتحديا لمشاعره، وتقويضا لأمنه واستقراره25.
ومن أجل هذا كان الحفاظ على الحياة الإنسانية أصلا مقررا في جميع الشرائع السماوية، لأنه لا يمكن أن يقوم الوجود الإنساني وتتحقق مصالحه إذا ارتفعت العصمة عن حياة الإنسان، قال ابن العربي: «ولم يخل زمان آدم ولا زمن من بعده من شرع، وأهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص كفاً وردعا للظالمين والجائرين. وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع والأصول التي لا تختلف فيها الملل»26.
وإذا كانت المصالح الضرورية هي في المرتبة الأولى من مراتب مقاصد الشريعة الإسلامية ولها أثرها في بناء القيم الإنسانية المشتركة، فإن للمصالح الحاجية ذات الأثر والفاعلية.
والمصالح الحاجية ‒كما يعرفها الشاطبي‒ «مفتقرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب؛ فإذا لم تراعَ دخل على المكلفين ‒على الجملة‒ الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة»27.
وقال في موضع آخر: «ومن تشوف إلى مزيد فإن دوران الحاجيات على التوسعة والتيسير ورفع الحرج والرفق»28.
وعلى هذا فإن كل ما فيه تيسير الحياة وتذليلها وإشاعة معاني الرفق ورفع الحرج فيها منتظم داخل دائرة الحاجيات.
أما التحسينيات التي هي في الدرجة الثالثة من حيث الأولوية فإنها تستوعب كل ما يعود بالتحسين والتكميل والتزيين للمرتبتين السابقتين -الضروريات والحاجيات-، كآداب الأكل والشرب، والمجاملة والتسامح، والتنظف والتطيب، وحسن العشرة، والرفق مع الخلق.
وهذه المقاصد القرآنية الكبرى بمراتبها الثلاث، وبكل كلية من كلياتها الجامعة، تصلح لاستيعاب ما لا يحصى من الوسائل والأساليب التي تحقق المشترك الإنساني إن على المستوى الضروري أو المستوى الحاجي أو المستوى التحسيني29:
ففي مجال حفظ النفس: يمكن أن يكون التعاون الإنساني في تأمين الإنسان بالغذاء واللباس والمسكن، والتعاون الإنساني في مقاومة الأمراض الخطيرة كالسرطان والإيدز والسّل وغيرها من الأمراض الفتاكة الأخرى.
كما يمكن أن يتحقق التعاون الإنساني في الحفاظ على النفس الإنسانية من خلال التصدي للآثار والمآسي التي تنجم عن المجاعات والنكبات والفيضانات والزلازل والحروب التي تصيب الدول والشعوب، وتكون وبالا وخيما على النفس الإنسانية.
كما يكون التعاون في تأمين الإنسان بمصالحه الحاجية والتحسينية كالتعاون في وسائل النقل والاتصال والبيئة، والتعاون في مجال الفنون والقضايا الجمالية التي لا تتعارض مع نصوص الشرع وقطعيات الدين.
وفي مجال الحفاظ على النسل يمكن اتخاذ عدد من التدابير على المستوى الإنساني؛ كالحضّ على الزواج وسنّ التشريعات والأنظمة ووضع السياسات التي تيسر إجراءات الزواج وتسهله، وتشجع المقبلين على الزواج بمنحهم القروض الميسرة، وعقد الدورات التثقيفية للمقبلين على الزواج، والحث على حسن رعاية الأبناء وتربيتهم، ووجوب حضانتهم وكفالتهم ونفقاتهم، وإقامة المراكز الصحية الخاصة بالأمومة والطفولة، وإيجاد المحاضن التربوية المجانية التي تعنى بتعليم الأولاد، وإيجاد مراكز التوجيه الأسري التي تشيع الثقافة الأسرية التي تبني أسرة قوية ومتماسكة، إلى غيرها من الوسائل الكثيرة التي تخدم مقصد الحفاظ على النسل وتقويه وتعززه.
وفي مجال الحفاظ على العقل فيمكن اتخاذ جملة من التدابير الإنسانية، كالعمل على إلزامية التعليم، والعناية بالطلبة المتميزين عن طريق توفير المنح العلمية لهم حتى يواصلوا دراستهم، وتأمين فرص العمل المناسبة لهم، وتنشئة الأفراد على حب القراءة وحثهم عليها، وكمحاربة الأمية، والتصدي لظاهرة المخدرات وتعاطي المسكرات، ومحاربة الخرافات والأفكار المنحرفة والمعتقدات الفاسدة، ومقاومة والاستبداد ومنع حرية الرأي وتغييب فريضة الشورى، باعتبار جميع ما تقدم يشكل خطرا على العقل الإنساني.
المطلب الرابع: مقصد التعارف والتعاون الإنساني
قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
بينت الآية الكريمة وحدة الجنس الإنساني والأصل الواحد الذي انبثقت عنه قبائل الأرض وشعوبها، وأن لهذا التنوع والاختلاف مقصدا وغاية تتمثل في التعارف والتعايش والتساكن بين شعوب الأرض وأممها.
وهذا الخطاب القرآني الجامع الذي يؤكد على القواسم المشتركة بين شعوب الأرض يعالج مشكلة قديمة جديدة واجهت التجمعات البشرية وهي: أن اختلافها يغري دائما باقتتالها وتصادمها، وذلك انتصارا للعرق أو اللون أو الإقليم أو الدين.
وقد قدّم القرآن الكريم نظرة جديدة تؤسس لتفاهم المجتمعات الإنسانية وتصالحها وتعاونها على الخير عندما رفض كل أشكال التصنيف العنصري بناء على اللون أو العرق أو الدم، ودعا إلى أن يكون اختلافها سببا في تعاونها لا تصادمها واقتتالها.
فالاختلاف وفق المنهج القرآني، ووفق المقصد القرآني، لا يصح أن يكون سببا للتصادم والاقتتال أو البغي والعدوان، وإنما هو دافع للتعارف والتعاون والتكامل.
وبهذا فإن القرآن الكريم يسقط جميع الاعتبارات والدوافع التي تحض على ممارسة العنف أو الإرهاب ضد الآخر لإذلاله أو إقصائه من الوجود، وذلك عندما يربي أتباعه على قبول الآخرين والتعاون معهم على كل ما فيه خير الإنسان ونفعه وصلاحه.
ولقد غذّى القرآن الكريم هذا الاتجاه الإنساني الإيجابي في العلاقة بين الشعوب والأمم من خلال الخطابات الجامعة الموجهة للناس كافة ولبني آدم أجمعين، بقطع النظر عن انتماءاتهم وأجناسهم وألوانهم، وهذا ظاهر في الكثير من الخطابات القرآنية كما في:
قول الله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
وقوله سبحانه ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف : 158].
وقوله سبحانه: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الحج: 49].
وقوله سبحانه: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27].. إلى غيرها من الخطابات القرآنية التي تظهر فيها النظرة الحانية لكل بني آدم على امتداد وجودهم في هذه الحياة، وتؤكد على وحدة الجنس الإنساني ووحدة أصله وأساسه، وأن بني آدم هم أبناء أسرة واحدة أبوهم واحد وأمهم واحدة، وأنه ينبغي أن يكون بين أفراد الأسرة الإنسانية الكبيرة والممتدة من علاقات الود والبر والاحترام، ما يكون بين أفراد كل أسرة تشترك في وحدة الأصل والأساس.
وهذا ما يمكن أن نعبر عنه بالدعوة إلى (التراحم الإنساني) الذي يتسع لسائر الشعوب والأمم الإنسانية.
وهذا المعنى هو ما أكدّه الرسول الكريم ﷺ بقوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟ »، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ»30.
ونجد أثر هذا التوجيه القرآني في فكر الفيلسوف المسلم الفارابي الذي يرى أن سعادة الإنسان إنما تكون بالاجتماع في مدينة فاضلة، وكلما زاد عددُ المجتمعين زاد حصول السعادة شريطة تعاون أفراد هذا الاجتماع على عمل الخير، وإن أكمل اجتماع إنساني هو ذاك الذي يجمع كل أمم الأرض31.
وتعد فكرة الفارابي هذه تقدما على فكرة أفلاطون وفلاسفة اليونان المتأثرين بكتاب المدينة الفاضلة؛ ذلك أن اليونان قصروا فكرة المدينة الفاضلة على الأمم اليونانية في حين أن الفاربي قد ارتقى بهذه الفكرة لتكون رابطة للأمم كلها، وتجاوز دولةَ المدينة عند أفلاطون إلى رابطة الأمم كلها32، ومرد ذلك لتأثر الفارابي بالفكر الإسلامي العالمي الذي جاء ليكون للناس كافة مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رحمة للعالمين﴾[الأنبياء: 107].
ولعل من أبرز مجالات التعارف بين المجتمعات الإنسانية تبادل الخبرات الإنسانية في كافة مجالات الحياة، والتواصل السلمي بين الشعوب بما يحقق نفع الإنسان وخيره حيثما كان.
ولقد طبق رسول الله ﷺ هذا المعنى في الإفادة من تجارب الأمم ومعارفها، في الكثير من القضايا، منها: ما روته جُدامة بنت وهب الأسدية J أنها سمعت النبي ﷺ يقول: «لقد هممت أن أَنْهَى عن الغِيلةِ، حتى ذكرتُ أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم ».
وفي رواية قالت: «حَضَرْتُ رسول الله ﷺ في أُناس، وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغِيلة. فنظرت في الروم وفارسَ، فإِذا هم يُغيلُون أولادهم فلا يَضُرُّ أولادَهم ذلك شيئا»33.
والغيلة هي أن ترضع المرأة صبيا وهي حامل، حيث لم يمنع رسول الله ﷺ هذا الفعل بناء على تجارب الأمم التي فعلته فلم يضر أولادها.
وهذه دعوة واضحة للإفادة من تجارب الأمم وخبراتها والبناء على تراثها الإنساني المتراكم في كل ما ينفع الإنسان ويفيده.
وإن مقصد التعارف الإنساني مقدمة وتوطئة لتحقيق جملة من المقاصد الأخرى التي تعزز من بناء المشتركات الإنسانية الجامعة، ففي التعارف تحقيق لمبدأ التفاهم الإنساني والوصول إلى الأرضية المشتركة التي تقبل البناء عليها والانطلاق منها إلى مجالات أرحب وأوسع.
كما أن في التعارف حضا على التعاون في تدبير أمور التعايش المشترك في جميع المجالات الحيوية، بحيث لا يبقى التعارف مجرد مجاملات وملاطفات، وإنما يتحول إلى إنجاز إنساني يجد آثاره وشواهده وتجلياته في مجالات الحياة المختلفة.
وإني لأختم حديثي في هذا المقصد العظيم بما نبه إليه الشيخ محمد أبو زهرة V، حيث بين أن التعارف الإنساني لن يتحقق إلا في ظل التكريم للإنسان، فبغير تكريم الإنسان في هذه الأرض لا يوجد تعارف، فتكريم الإنسان هو أساس للتعارف، وأن انتهاك كرامة الإنسان يعد تناكرا لا تعارفا، وأنه لا بد أن يحترم أهل الأرض حرية أهلها، فلا يكون التعارف إذا لم تحترم الحرية الدينية، لأنه إذا كان أساس العلاقات الإرهاق النفسي وعدم احترام الحرية الشخصية لا يكون ذلك تعارفا بل يكون استعبادا أو استرقاقا أو استعمارا بلغة العصر34.
الخاتمة والتوصيات
وبعد هذا البحث في أثر مقاصد القرآن في إقامة المشترك الإنساني أنتهي إلى النتائج والتوصيات الآتية:
أولا: اعتنى القرآن الكريم بالتأسيس للمقاصد الجامعة التي تساعد على إعداد الأمة المؤهلة لأداء مهمتها الإنسانية، والقادرة على للتفاعل الإيجابي مع الشعوب والأمم، والمدركة للمساحات الواسعة التي يمكن أن تشكل ميادين مشتركة يلتقي عليها الجميع ويتعاون فيها الجميع.
ثانيا: يشكل مقصد إعمار الأرض باعثا على التعاون الإنساني في جميع مجالات الحياة التي تتحقق فيها تنمية الأرض واستثمارها وتأمين الحاجات الإنسانية فيها، كما تشكل دافعا لتبادل الخبرات الإنسانية للنهوض بواجب إعمار الأرض على الوجه المناسب المطلوب.
ثالثا: القيم الأخلاقية الإسلامية هي قيم إنسانية عابرة للخصوصيات الثقافية والحضارية، ويشترك فيها كل أصحاب الفطر السوية الذين يدركون حسن هذه القيم وفضلها، وهذا يدعو إلى استثمار هذا الرصيد القيمي العظيم في التأسيس للتحالفات والتكتلات الإنسانية التي تخدم قيما وأصولا أخلاقية.
رابعا: إن الاختلاف بين الناس وفق المنظور القرآني يدعو إلى التفاعل والتعارف الإنساني في المجالات المشتركة، ويحض على سدّ الثغرات بين المختلفين حتى يتحقق التكامل بينهم، فمجرد الاختلاف ليس مسوغا للاقتتال والتصادم.
خامسا: إن من المعايير التي ينبغي الاحتكام إليها في مدى التزام الأمة بهدي القرآن الكريم وتوجيهاته: النظر إلى مدى قدرتها على بناء المشتركات الإنسانية الجامعة وفي إقامة جسور التواصل الإنساني وفي تعزيز التعاون بين الشعوب، وكلما كانت الأمة أقدر على تحقيق التعاون الإنساني والتكافل على معاني الخير والبر، كانت أقرب إلى مقاصد القرآن وغاياته.
يوصي الباحث بما يأتي:
أولا: ضرورة انخراط المسلمين في التحالفات الدولية والتكتلات الإنسانية التي تخدم مقاصد شرعية، أو تنتصر لقيم إنسانية، أو تدعو لفضائل أخلاقية، كالجمعيات والهيئات التي تدعو إلى محاربة الفقر والأمية والجريمة، وإلى مقاومة الاستبداد والفساد، وإلى نشر التوعية الأسرية، وإلى الحفاظ على البيئة وإلى منع الإجهاض والشذوذ الجنسي، وغيرها كثير من المجالات الإنسانية الفاعلة التي يمكن التعاون فيها.
ثانيا: تفعيل الحفاظ على مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية في مجالاتها الإنسانية، والحرص على فتح أبواب جديدة لمراتب المقاصد الثلاث على المستوى الإنساني، وذلك تحقيقا لواجب التكافل والتراحم الإنساني.
والحمد لله رب العالمين.
قائمة المراجع
ــ اجتهاد عمر بن الخطاب في أرض السواد وصلته بالسياسة الاقتصادية الشرعية، عبدالله الكيلاني، دار التراث،عمان.
ــ أحكام القرآن، أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي، تحقيق محمد صادق القمحاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405ھ.
ــ أحكام القرآن، محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي، تحقيق محمد عبد القادر عطا، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان 1424ھ/2003م.
ــ الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، ط3، دار البشائر الإسلامية، بيروت.
ــ تفسير المنار، محمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب،: 1990م.
ــ الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط2، 1384ھ/1964م.
ــ الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، المكتبة الأزهرية للتراث تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، المكتبة السلفية، القاهرة، ص154.
ــ خصائص التشريع في السياسة والحكم، فتحي الدريني، ط1، موسسة الرسالة 1402ھ/1982م.
ــ دلالة المدينة الفاضلة عفاق قادة، www.awa_dom.org
ــ الذريعة إلى مكارم الشريعة، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى، تحقيق د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي، دار النشر: دار السلام، القاهرة.
ــ السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط2، 1375ھ/1955م.
ــ شفاء الغليل، للغزالي، تحقيق حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد بغداد، 1390ھ/1971م.
ــ شرح تنقيح الفصول، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس الشهير بالقرافي، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، ط1، 1393ھ/1973م.
ــ الكليات الأساسية للشريعة الإسلامية، د. أحمد الريسوني ط1، دار الأمة، 1431ھ/2010م.
ــ كيف نتعامل مع القرآن العظيم، يوسف القرضاوي، دار الشروق.
ــ المجتمع الإنساني في ظل الإسلام، للشيخ محمد أبو زهرة.
ــ المستصفى، الغزالي: أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، ط1، دار الكتب العلمية، 1413ھ/1993م.
ــ مقاصد الشريعة ومكارمها، علال الفاسي.
ــ مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، عبد المجيد النجار، ط2، دار الغرب الإسلامي، 2008م.
ــ مقدمة ابن خلدون، العلامة عبد الرحمن ابن خلدون، دار الكتاب اللبناني، 1979م، ص69.
ــ الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، تحقيق: مشهور حسن آل سلمان، ط1، دار ابن عفان.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد القرآن الكريم (3)، 2018، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 121- 251. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني |