الأسرة وحفظ الإنسان

شارك:

جميلة تلوت

محتويات المقال:
المبحث الأول- الحفظ الوجودي والاستمراري
أولا- الحفظ الوجودي: مقصد حفظ النوع
ثانيا- حفظ الاستمرار التكاثري: مقصد حفظ النسل
المبحث الثاني- الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكية
المبحث الثالث: حفظ الانتماء البيولوجي أو حفظ الانتساب
أولا- مقاصدية حفظ النسب
ثانيا- الآليات التشريعية الحِفظية
ثالثا- الانتساب في واقع سائل

يعد الاهتمام بالأسرة اليوم أساس الاهتمام بالإنسان، فبعد المحاولات الحثيثة لهدم «الأسرة»، انتقلنا اليوم للحديث عن هدم الإنسان، وذلك بترسيخ فلسفة ما بعد الإنسانية التي بدأت تنشر سرادقها اليوم1.

ولو تأملنا السياق المعاصر لظهر لنا أن التطور المعرفي المتسارع اليوم لم يكن تماما لصالح الإنسان كما توهمنا، فرغم القول بمركزية الإنسانية وتسخير الكون لخدمته، وما خلفته هذه الفلسفية المركزية من آثار كارثية على البيئة والإنسان، انتقلنا للحديث عن انتهاء النوع البشري وخطره على الكون.

وعليه؛ فإن الناظر لهذا السياق المتغير، والسائر نحو العدمية والتلاشي، يتشبث بأكثر الأنساق المعرفية ثباتا وإحكاما، وهذا الثبات يتأتى من التشبث بمصدر متعالٍ وهو المصدر الإلهي، فالحديث اليوم عن حفظ الإنسان ضرورة إنسانية ومعرفية؛ إذ إننا لأول مرة في التاريخ صرنا نناقش ما بعد الإنسانية كنتيجة طبيعية وحتمية لفلسفة «نهاية الإنسان»، وتصاعد هيمنة الآلة، وتركيز الدراسات أن العالم سيكون أفضل إذا انعدم البشر من على الكوكب؛ هكذا تبشر الدراسات بالحديث عن ما بعد الإنسان، في إطار استمرار فلسفة «النهايات» و«المابعد»، ومن ثم؛ فإن الحديث عن حفظ الإنسان ضرورة علمية واقعية، ولو تأملنا هذا الإنسان لوجدنا أن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الصلبة التي تحفظ الإنسان عن طريق ثلاثة أنواع من الحفظ:

  1.  حفظ الوجود البيولوجي والاستمراري للإنسان بحفظ النوع وحفظ النسل.
  2. وحفظ الوجود القِيمي والأخلاقي بالتزكية؛ ذلكم أن ماهية الإنسان تتشكل من الوجود البيولوجي والتخلق القِيمي؛ فالإنسان خَلق وخُلق.
  3. حفظ الانتماء البيولوجي بمعرفة الفرع  انتسابه لأصل، بحفظ النسب.

وهذه المقاصد معلومة، لكن ارتأيت إعادة ذكرها بالتأكيد أنها مقاصد لحفظ الإنسان أساسا، وتتجلى أهميتها خصوصا بالنظر للسياق المعاصر. ومن ثم؛ فإن إيرادها في هذا المقام ليس تكرارا ولا اجترارا لما سبق ذكره في أدبيات الدرس الأصولي والمقاصدي، وإنما هو تجديد مضموني يرتكز على الجمع بين المقاصد الكلية المعروفة وإعادة نظمها في دوائر ومجالات وفق تصور قرآني كلي. وارتكزت هنا على الأسرة باعتبارها موضوعا مركزيا في النسق القرآني.


المبحث الأول- الحفظ الوجودي والاستمراري:

أولا- الحفظ الوجودي: مقصد حفظ النوع

من المقاصد المقررة في الفكر المقاصدي قديما وحديثا «حفظ النوع الإنساني»، ولم يكن الحديث ملحّا عن هذا المقصد قديما كما هو اليوم، إلا أن النظر المآلي والاستشرافي يحتم الاستفاضة في شرح هذا المقصد في ضوء التحديات العالمية باعتباره ضرورة دينية وإنسانية.

ويعد الزواج الآلية التشريعية الأبرز لحفظ النوع؛ قال تعالى:﴿يا أيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكُم الذي خلقَكُم من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زوجَها وبثّ منهما رجالاً كثيرا ونساءً﴾[النساء: 1]، فالزواج ضرورة إنسانية لحفظ النوع الآدمي، وتحقيق الاستمرار البشري، وضرورة حضارية لتعمير الأرض والتمكين من الخلافة البشرية النافعة، وتظهر عُمرانية الزواج إذا قارنّاه بمقابله، وهو الرهبنة؛ فلئن كانت «الرهبنة حالة نقيض للحضارة، هي طغيان في المجال الإنساني له نتائج مدمرة على حياة الإنسان تشبه في نتائجها ما يقع زمن الحضارة. فلأن كانت الرهبنة تصل بصاحبها في نهاية المطاف إلى رفض العالم ورفض حتى الاهتمام بذلك الرفض، ثم رفض الإضافة فيه حيث تعانق القداسة رفض الزواج نفسه»2، ولا يكون حفظ النوع إلا بالتناسل.

ثانيا- حفظ الاستمرار التكاثري: مقصد حفظ النسل

يعد حب الأبناء غريزة مركوزة ومغروسة في الفطر السوية، لما في ذلك من معاني الامتداد المادي والمعنوي، فالأبناء زينة الحياة الدنيا كما قال الحق: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الكهف:46]، وزينة الأبناء تكمل بأن تقر بهم الأعين ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾[الفرقان: 74] ومنه، كان الحث على الإنجاب مقصدا من مقاصد الإسلام في الزواج، قال سبحانه: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ﴾[البقرة: 223]، ( حرث لكم) أي: مزرع ومنبت للولد.3

ولذلك نجد علماءنا أولوا هذا المقصد عناية كبرى؛ يقول الشاطبي: «النكاح مشروع للتناسل بالقصد الأول»4، ويقول في موضع آخر: «والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع؛ من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني»5، والعلة في ذلك، كما يقول ابن قيم الجوزية، هي «دوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم»6.

ومن الآليات التشريعية لحفظ هذا المقصد:

  • النهي عما يعطل النسل اختيارا:

وأقصد بذلك الموانع الاختيارية لا الاضطرارية، ولو بقصد التقرب إلى الله سبحانه والاجتهاد في العبادة، نحو الإخصاء والتبتل وغير ذلك من موانع التناسل الإرادية الاختيارية الدائمة، فقد ورد في النهي عن الاختصاء ما ذكره الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، : «رد النبي ﷺ على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا»7.

مع العلم أن القصد كان سليما وهو التقرب من الله عز وجل، وليس مغالاة في الشهوة، أو رفضا لسنن الطبيعة البشرية، ومع ذلك رفض الفعل لمخالفته سنة الله في خلقه، ومباينته لمقتضيات الطبائع التي غرسها الله في عباده، فأي خروج عن مقتضى الجبلة فهو ضرب لهذه السنن الخلقية بعرض حائط الأهواء والشهوات، فالأنبياء، وهم أتقى الناس، لم يحيدوا عن هذه السنة، وأثبت القرآن هذه الحقيقة بقوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾[الرعد:39]، فكانت «طريقة الأنبياء ۏ التي ارتضاها الله للناس هي إصلاح الطبيعة ودفع اعوجاجها لا سلخها عن مقتضياتها»8، ومنه كانت كثرة النسل وسيلة لتحقيق المصلحة المدنية والمِلية، بتعبير الدهلوي9.

وفي نفس السياق نفهم حديث النفر الثلاثة الذي جاؤوا إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ﷺ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله ﷺ فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سني فليس مني» 10. فجعل النكاح سنة والرغبة عنه، ولو بعلة التفرغ للعبادة والتقرب إلى الله، ابتعادا عن السنة وابتداعا في الدين.

فالأبناء جعل إلهي وهبة ربانية ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ﴾[النحل:72]، وكل قصد يقصي النسل والتناسل الطيب المبارك من الزواج فإنه مخالف لمقتضيات الجعل الرباني.

  • النهي عن العلاقات الشاذة:

معلوم في الشريعة الخاتمة تحريم اللواط والسحاق، وذلك لمقاصد كثيرة وحكم عديدة منها عدم تحقيق التكاثر عن طريق الإنجاب، فنجد القرآن شدد النكير على قوم لوط لأنهم خالفوا مقتضيات الفطر السليمة، قال جلّ جلاله: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) ﴾[الأعراف: 80، 81] ، وقال سبحانه: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾[العنكبوت: 28، 29]، يعني: «تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد من النساء المشتمل على المصلحة التي هي بقاء النوع»11، «فالاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات يقطع النسل»12.

ونجد في القرآن إنكار هذا السلوك/الفاحشة في أكثر من موضع، لأنه خروج عن سنن الله في خلقه، ومخالفة للشارع في قصده، فهو تلبية لداعي الشهوة في غير محلها.

كما أن هذا السلوك يضرب بأسس العمران الإنساني القائم على الاختلاف لأن «ثراء الاجتماع البشري وغنى الحياة ناتج عن التنوع والاختلاف والتمايز وليس العكس، إن الاختلاف التنوعي والتمايز ينتظم في علاقة التجاذب والتكامل والتزاوج، في حين أن التطابق والتماثل والتشابه ينتج عنه التنافر والتباعد والتصارع»13.

  • تحريم التبني:

يذكر دومًا منع التبني بالنظر إلى حفظ النسب، ولا يذكر بالنظر إلى حفظ الإنسان من حيث تكاثرُه، لكن في السياق المعاصر نرى أن هذا الحكم يرتبط بشكل كبير بحفظ النسل، إذ تشير الإحصائيات في فرنسا إلى أن هنالك حوالي ثلاثمائة ألف طفل متبنى في «أسرة وحيدة الجنس»14، فصار الحديث اليوم عن حفظ النوع؛ أي ضمان الوجود البيولوجي للإنسان ضرورة بشرية في عالم تطبّع مع المِثلية ونَظّر لما بعد الإنسانية، أو «نهاية الإنسان».

وقد كان التبني فعلا مشروعا في الجاهلية، وبقي الأمر مسكوتا عنه في بداية الإسلام، حتى إن النبي ﷺ كان متبنيا لزيد بن حارثة ، فنزلت آيات تحريم التبني: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾[الأحزاب: 4، 5]. ومن ثم، صار التبني فعلا محرما تحريما قاطعا، وألزم الإسلام الانتساب إلى الآباء الأصليين في تعبير واضح لا لبس فيه.

ويعزز هذا التحريم ما روي عن أبي ذر أنه سمع النبي ﷺ يقول: «ليس من رجل ادعي لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله15، ومن ادعى قوما ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار»16.

وفي ختام هذا المقصد يتأكد لنا أن حفظ النوع الإنساني هنا بمعناه العام الشامل وليس بمعناه الجزئي الكمي العددي، وقد أحاط الشرع هذا الضروري بجملة وسائل من أجل تحقيقه وجودا بالأمر بما يحققه ويوجده، وحفظه عدما بالنهي عن الوسائل التي تتعارض مع هذا المقصد وتحريمها.


المبحث الثاني- الحفظ الأخلاقي: مقصد التزكية

إن التزكية المقصودة في هذا المقام ذات دلالة شاملة17؛ تشمل التربية الصالحة والإعداد النافع للنشء بالتركيز على ترسيخ الإيمان وتنمية المهارات العقلية وغرس المعاني الرسالية، فتجتمع معاني العلم والمعرفة يزكيهما الإيمان ويوجههما، والتزكية مصطلح قرآني أصيل وهو أخص من مفهوم التربية من وجه؛ إذ إنها خاصة في التربية على مقتضى أحكام الدين وأخلاقه، وهذا ما قرره طه عبد الرحمن حيث قرر أن «هذا المفهوم أدل على المقصود ب«التربية على مقتضى تعاليم الدين» من مصطلح «التربية» الذي شاع وذاع مع أنه في السياق القرآني أقرب إلى إفادة معنى «رعاية» الفرد في صباه منها إلى إفادة معنى «تنمية» كامل قواه»18.

وأرى أن تحديد طه عبد الرحمن هنا تمّ بالنظر إلى الاستعمال الحالي، أما بالنظر إلى الاستعمال القرآني، سنجد أن التزكية جزء من التربية، وإن كان بينهما عموم وخصوص، فقد جاء في الآية ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾[الإسراء:24]، فأنيط دعاء الأبناء لآبائهم على الكبر بتربية الآباء لهم في الصغر، فالتربية هنا لا يقصد بها مجرد الأكل والشرب وغيره لأن هذه أمور تشترك فيها المخلوقات، وإنما تكمن خصوصية التربية الإسلامية في التركيز على الأبعاد الأخلاقية، خصوصا التزكوية، لذلك كانت التزكية جوهر التربية الإسلامية.

فالتزكية من مقاصد بعثة الأنبياء؛ وقد جاء في دعوة إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 129]،لذلك كان من أهم أهداف الإسلام تحقيق وإيجاد 'إنسان التزكية' القادر على تحقيق التوحيد، وإقامة العمران19، والتزكية لا تتحقق دون التوحيد، ولا تظهر دون فعل عمراني ينبه إلى الأبعاد الفكرية والعقدية والنفسية والعقلية للإنسان الذي قام به.

وقد جاء في الخطاب القرآني وصف الابن بالزكي، حيث جاء على لسان جبريل مخاطبا مريم، ڽ: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾[مريم: 19]،فوصفُ الابن بالزكي له دلالته وخصوصيته؛ فكانت أنجع أضرب التزكية تلكم التي تكون منذ الصغر حتى يرتقي الإنسان في مدارج الإيمان بخلفية توحيدية ورؤية عمرانية تنمو مع مرور الأيام، فتخرج التزكية من الجانب النفسي الوجداني إلى الجانب الفعلي العملي، متعدية الفرد إلى المجتمع، فتكون التزكية بذلك فعلا إنمائيا وعملا بنائيا؛ يبني الإنسان وينمي الحضارات، ولا بناء للإنسان خارج مؤسسة الأسرة باعتبارها المحضن الأساس للتربية الصالحة، التي تكون نجاحا في الدنيا، وفلاحا في الآخرة، فهي سبب للارتقاء في الدرجات العلى، ودخول جنات عدن خالدين فيها أبدا ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾[طه: 75-76].

ونلحظ في أدعية الأنبياء الواردة في القرآن بخصوص الأبناء، أنها لا تقتصر على طلب «الذرية» وحسب، أي ذرية كيفما كانت، بل نجدهم يدعون الله سبحانه بأن يهبهم «ذرية صالحة» و«ذرية طيبة»، دون التشديد على عددها أو تعيين جنسها، وإنما أن تكون صالحة وطيبة وحسب؛ فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يدعو ربه: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[الصافات:100]. وللصلاح دلالة قرآنية متميزة، تدل على الفعل والعمل؛ فهو ليس مفهوما سكونيا كما ترسخ عند كثيرين بحيث تكون صورة العبد الصالح في الأذهان لذلكم الرجل الزاهد المتفرغ للشعائر الذي لا يؤذي أحدا ولا يحرك ساكنا، وهي صورة تظل في أحسن أحوالها مثالية وأقل فاعلية، فضلا عن مخالفتها للمطلوب القرآني من الإنسان﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[التوبة:105].

لذلك فنحن إذا تأملنا معنى الصلاح في القرآن سنجده مفهوما حركيا، بحيث إن الإنسان الصالح يتغيى تحسين أوضاع المجتمع وجعل العالم مكانا أفضل للعيش..

وهذا زكريا عليه الصلاة والسلام يدعو ربه:﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾[ آل عمران:38]، والطيب في اللغة نقيض الخبيث، ويقال الأرض الطيبة التي تصلح للنبات20، ومعاني الإنبات تدل على معنى الإثمار، وقد جاء قريبا من هذا المعنى ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾[آل عمران: 37] »،فهذه إشارةٌ إلى أنّ الإنسان كالنبات، ولكي ينبث ويثمر يجب الاعتناء به من وقت أن كان بذرة بتعهّده، والاعتناء به في كل مراحل نموه، إلى أن يصبح شجرةً مثمرةً، فكذلك الطفل في عَمليّة التربية، فينبغي التّعامل معه من منطلق الرّعاية والعناية، وذلك بتعهده منذ طفولته ومتابعته في كل مراحل رشده  إلى أن يصير إنسانا طيبا معمرا.

فحين نتحدث عن ذرية طيبة فإننا نتحدث بالدرجة الأولى عن إنسان فاعل مثمر، إنسان مغير مصلح، يترك أثر إصلاحه وثمرة وجوده على الأرض لتدل عليه، فيكون كالنبات الحسن، أينما حل فهو يفيد..﴿وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾[الرعد: 17]. ومن النماذج القرآنية للذرية الطيبة إسماعيل ڠ باعتباره من خيرة الصالحين، رفع قواعد الإيمان مع أبيه إبراهيم، ڠ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة: 127] فكان صلاح إسماعيل، ڠ، عملا عمرانيا يتغيى الرفعة، وهي رفعة منطلقة من القاعدة تنظر إلى السماء..

وهذه الأوصاف «الصلاح» و«الطيبة» لا تتحقق دون جهد تزكوي تربوي من الآباء نحو الأبناء ابتداء حتى يكونوا زهرة الحياة الدنيا، وتقر بهم الأعين انتهاء، فيتحقق الامتداد الأبوي المنشود، ولا امتداد زمنيا دون صلاح إنساني يتعدى الإنسان نفسه إلى مجتمعه، ويتأكد هذا المعنى بما جاء في الحديث النبوي: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم يُنْتفَع به، أو ولد صالح يدعو له»21، فاقتران الولد بالصلاح هنا متمم ومؤكد لما ورد في الكتاب المجيد.

ومنه، فإن الفعل التزكوي هو الذي يرقى بالإنسان، كما يرقى بمؤسسة الأسرة بكل تشعباتها وامتداداتها، فتعود على قيم البنوة والأخوة وغيرها بالصلاح والفلاح، فتصير كالشجرة المثمرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ومن ثمّ؛ فإن وجود الإنسان حقّا لا يتحقق فقط بالإنجاب البيولوجي، وإنما التزكية هي أساس حفظ الإنسان كَمَّا وكيفا، فلا يمكن الحديث عن الثاني دون الأول والعكس، لذلك فإن الحديث عن ضرورة «حفظ النوع» و«حفظ النسل» بالتركيز عن الجانب الكمي العددي وإهمال الجانب الكيفي التزكوي ليصير الزواج عملا تكاثريا، والكثرة في حد ذاتها ليست محلا للمباهاة ولا للمفاخرة، بل تصير الكثرة الكمية الخالية من «الإنسان الزكي» غثائية لا يؤبه بها، وضررها أكثر من نفعها، كما جاء في الحديث: «يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها» فقال قائل: «ومن قلة نحن يومئذٍ؟» قال : «بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاءٍ كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة لكم و ليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن قال: حب الدنيا وكراهية الموت»22.فالفعل التزكوي هو الذي يرقى بمؤسسة الأسرة فتصير كالشجرة المثمرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..

والتركيز على التزكية في الحفظ الأخلاقي  للإنسان هو  ما يمكن اعتباره بتفعيل «المقصد الإيماني» و«المعيار الإلهي» في الحياة، فهو الذي يوحد القيم ويضبط الأفعال ويوجه السلوك الأسري نحو الغاية الأسمى وهي «العبادة»، مصداقا لقوله تعالى﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56] ، وكل عمل معوج الوجهة، أو بلا قبلة، فلا يندرج ضمن التصرفات التوحيدية.


المبحث الثالث: حفظ الانتماء البيولوجي أو حفظ الانتساب

 يعد حفظ النسب المستوى الثالث من مستويات حفظ الإنسان؛ إذ «إن النسب آصرة متينة من أواصر البشر، ألهمهم الله تعالى العناية بها والدفاع عنها وتعزيزها، لحكمة إلهية تعلقت بها إرادته لبقاء النوع الإنساني»23 ، ويعتبر النسب من حقوق الأبناء، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا  وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾[الفرقان:54]، وقال سبحانه: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾[الأحزاب:5]، وقال ﷺ: «الولد للفراش»24؛ أي الزواج.

وقد تفشّت بعض الظواهر في المجتمعات الحداثية نحو «الطفل الطبيعي» و«المراهقة الحامل» و«الأم العازبة»، وسبب ذلك ترسيخ الفصل بين الزواج والعلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى، وفشوّ العلاقات الحرة، وعدم تجريم هذه الأخيرة بعيدا عن مؤسسة الزوجية المدنية أو الشرعية، ومن الطبيعي أن يظهر عندنا طفل لا يعلم له نسب بيولوجي، ومن ثمّ، صار هذا الطفل في مفترق الطرق نحو التيه والضياع، وكما يقول أوليفي تيوكوكريف: «لا يمكن بأي حال من الأحوال خلق عالم جدير بالأطفال خارج إطار الأسرة»25، فإذا كان هذا شأن الطفل في بيئة لا تولي اعتباراً كبيرا للنسب، فكيف سيكون شأنه في عالم يعتبر فيه النسب مكونا من مكوناته الدينية والثقافية والاجتماعية؟ !

أولا- مقاصدية حفظ النسب:

إنّ حفظَ النسب مقصدٌ تكويني وتشريعي في آن واحد؛ فهو مقصد تكويني لأن حاجةَ الإنسانِ إلى الانتساب إلى أصلٍ معلومٍ فطريّةٌ بالأساس، وجُبلَ عليها البشرُ منذ الأزل كيفما كانت ديانتهم وقوميتهم؛ وفي هذا المعنى يقول شاه وليّ الله الدّهلوي: «اعلم أن النسب أحد الأمور التي جبل على محافظتها البشر، فلن ترى إنسانا في إقليم من الأقاليم الصالحة لنشء الناس إلا وهو يُحِبُّ أن ينسب إلى أبيه وجده، ويكره أن يقدح في نسبته إليهما، اللهم إلا لعارض من دناءة النسب أو غرض من دفع ضر أو جلب نفع ونحو ذلك، ويجب أيضا أن يكون له أولاد ينسبون إليه ويقومون بعده مقامه، فربما اجتهدوا أشد الاجتهاد، وبذلوا طاقاتهم في طلب الولد، فما اتفق طوائف الناس على هذه الخصلة إلا لمعنى في جبلتهم، ومبنى شرائع الله على إبقاء هذه المقاصد التي تجري بجري الجبلة، وتجري فيها المناقشة والمشاحة والاستيفاء لكل ذي حق حقه منها والنهي عن التظالم فيها، فلذلك وجب أن يبحث الشارع عن النسب»26، والحاجة إلى الانتساب لا تقتصر على الطفل، وإنما تتعداه للأب، فهي حاجة فطرية متبادلة بين الولد ووالده.

كما أن حفظ النسب مقصد تشريعي؛ فقد سُنَّت مجموعة من التشريعات لمنع أن يدخل فيه ما ليس منه، أو يخرج منه ما هو فيه، إذ تترتب على النسب أحكام شرعية يبلغ بعضها درجة الكبائر نحو «عقوق الوالدين»، بالإضافة إلى عدد من الأحكام الأخرى المختصة بالزواج والنفقة والميراث وسقوط القصاص والولاية والحضانة والرعاية وغيره27ا.

وقد عمل أهل الأصول والمقاصد على بيان مقاصدية حفظ النسب، واختلفوا في رتبته ودرجته ضمن سلم المقاصد بين رأي يقول إنه يندرج في «المقاصد الضرورية»، وآخر يراه ضمن «المقاصد الحاجية»28، ويلخص ابن عاشور الخلاف قائلا: «وأما حفظ الأنساب، ويعبَّر عنه بحفظ النسل، فقد أطلقه العلماء، ولم يبينوا المقصود منه، ونحن نفصل القول فيه، وذلك إن أريد به حفظ الأنساب: أي النسل من التعطيل، فظاهر عدّه من الضروري؛ لأن النسل هو خِلقة أفراد النوع، فلو تعطل يؤول تعطيله إلى اضمحلال النوع وانتقاصه، كما قال لوط لقومه: ﴿وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ﴾[العنكبوت:29]. على أحد التفسيرين، فبهذا المعنى، لا شبهة في عده من الكليات؛ لأنه يعادل حفظ النفوس...أما إن أريد بحفظ النسب: حفظ انتساب النسل إلى أصله، وهو الذي لأجله شرعت قاعدة الأنكحة، وحرم الزنا، وفرض له الحد، فقد يقال: إن عدّه من الضروريات غير واضح، إذ ليس بالأمة من ضرورة إلى معرفة أن زيداً هو ابن عمرو، وإنما ضرورتها في وجود أفراد النوع وانتظام أمرهم[...].

فيكون حفظ النسب بهذا المعنى، بالنظر إلى مجموع جوانبه، من قبيل الحاجي، ولكنه لما كانت لفوات حفظه من مجموع هذه الجوانب، عواقب كثيرة سيئة، يضطرب لها أمر نظام الأمة، وتنخرم بها دعامة العائلة، اعتبر علماؤنا حفظ النسب في الضروري؛ لما ورد في الشريعة من التغليظ في حد الزنا، وما ورد عن بعض العلماء من التغليظ في نكاح السر، والنكاح بدون ولي وبدون إشهاد»29، وفي مقالة ابن عاشور حول «النسب» ذكر أن حفظ النسب «عند التحقيق من قبيل الحاجي ولكنه شبيه بالضروري، وإلى ذلك الأصل ترجع الأحكام الشرعية الحائلة حول حياطته من الانخرام والشك في واقعيته، مثل تشريع الزواجر على الاعتداء عليه كحد الزنى وتعزير الاغتصاب، وشرع عدة الوفاة، وإيجاب الإشهاد على النكاح عند العقد أو قبل البناء (على الخلاف). وقد تقرر من قواعد الفقه أن الشارع متشوف للحاق النسب»30.

وعليه؛ فإن الانتساب مقصد شرعي، فهو ضرورة من ضرورات حفظ النسل، بل هو «ضرورة من ضرورات حفظ المجتمع؛ إذ بالإضافة إلى ما لجهالة النسب واختلاطه من أثر في انحلال الرابطة الأسرية بانحلال عواطف الأبوة والبنوة، فإن علم النفس أصبح يثبت على وجه اليقين ما لجهالة النسب من تأثير نفسي مدمر على شخصية المجهول نسبه»31.

لذلك كان من معاني حفظ النسل حفظ النسب، وذلك بأن تكون نسبة الابن معلومة لأبيه بالضوابط الشرعية، التي لا تكون إلا عن طريق الزواج، وكل تلفيق للنسب خارج الأسرة فإنه يكون مدعاة للتنقيص، فباستقراء مقصد الشريعة في النسب يتبين لنا أنها تقصد إلى نسب لا شك فيه ولا محيد به عن طريق النكاح32، ومن شأن هذا أن يعزز الكرامة الإنسانية بحيث يرجع كل فرع إلى أصله الحقيقي، وهذا مدعاة لئلا تختلط الأنساب وتشتبك الأعراض، فحفظ النسب «الراجع إلى صدق انتساب النسل إلى أصله سائق النسل إلى البر بأصله، والأصل إلى الرأفة والحنو على نسله –سوقا جبليا وليس أمرا وهميا، فحرص الشريعة على حفظ النسب وتحقيقه ورفع الشك عنه نظر إلى معنى عظيم نفساني من أسرار التكوين الإلهي علاوة على ما فيه ظاهره من إقرار نظام العائلة ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن الغيرة المجبولة عليها النفوس، وعن تطرق الشك من الأصول في انتساب النسل إليها والعكس»33.

ثانيا- الآليات التشريعية الحِفظية:

حرص الشارع على حفظ «الانتساب» من جهة الوجود بإقامة أركانه وتثبيت قواعده، وهو ما يمكن وسمه ب«الحفظ الوجودي»، وذلك عن طريق:

أ- الزواج: واعتباره المدخل الشرعي للنسل الشرعي، ومن ثمّ النسب الشرعي.

ب- تشريع العدة: وقد حدد الشارع مدد العدة بثلاث مقاييس زمنية اختلفت باختلاف أصناف النساء: عدة الأقراء، وعدة الأشهر، وعدة الحبل34.

كما عمل الشارع على حفظه من جهة العدم بأن درأ عنه الاختلال الواقع أو المتوقّعَ فيه، وهو ما يمكن تسميته ب«الحفظ العدمي»، وذلك عن طريق:

أ- تحريم التبني: التبني هو نسبة الطفل لغير أبيه، وهو أمر محرم في الإسلام. لقوله تعالى:﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾[الأحزاب:5]

ب- تحريم نسبة المرأة لزوجها من تعلم أنه ليس ابنه:  قال ﷺ: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته»35.

ج- النهي عن نفي النسب كذبا وزورا:  قال ﷺ: «أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه به على رؤوس الخلائق بين الأولين والآخرين»36.

د- النهي عن الانتساب إلى الأب كذبا وزورا:  قال ﷺ: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام»37، «ولعل الحكمة في ذلك أن انتساب الولد إلى غير أبيه عقوق للأب وإساءة إليه، وترك لشكر نعمته»38.

ه- تحريم اشتراك رجلين فأكثر في عصمة امرأة، وذلك إبطال لنوع من النكاح كان في الجاهلية يسمّى الضِّمَاد39.

فالانتساب جزء من منظومة تشريعية متكاملة لحفظ الأسرة، «فالسكن والمودة والرحمة لا تتحقق في العلاقات العشوائية الجنسية بين الطرفين، فهي علاقات سرعان ما تنتهي بسبب انبنائها على الشهوة، وتوصيفها الصحيح أنها علاقة مؤقتة تخالف وتنقض ما جاء به الشرع من الديمومة القاصدة إلى كمال شمولية الإطار التراحمي وما جاء به من حسن العشرة والمعروف والحنان والأمان المتواصل بين الطرفين والارتقاء به أدبيا وأخلاقيا واجتماعيا»40، والحفاظ على الأسرة حفظ للأمة.

فالنسب إذن جزء من نسق كلي، يشترك فيه القصد التكويني المرتبط بالفطرة الإنسانية بالقصد التشريعي المؤطر للأمة الإسلامية، ولا سبيل إلى هذا الحفظ من غير تثبيت أركان الأسرة، فهي« المحل الذي يتعلق فيها الإنسان بغيره تعلق نسَب ويتخلق فيها بحسب هذا التعلق»41.

ثالثا- الانتساب في واقع سائل:

إن الناظر في أحوال العمران في السياق المعاصر لا يخفى عليه أنّ مشكلة «النسب تعبر عن أزمةٍ أخلاقيةٍ أكثر تركيبًا وأشدّ خطورةً، وهي أزمة هشاشة العلاقات الإنسانية، وعلى رأسها الزواج، فمن الآثار السلبية للحداثة على المجتمعات الإنسانية أن صارت العلاقات مبنية على تكريس فكرة «الرغبة» ونيل «الشهوة» بأسرع الطرّق وأقلها تكلفةً، ومن ثمّ، كان فك الارتباط بين الزواج وتحقيق الشهوة اللحظية والمتعة الفورية، مما نتج عنه بالضرورة الفصل بين الالتزام والرغبة، فإذا كان الدين شرّع تحقيق الشهوة في إطارها الشرعي، وهو الزواج، فإن المجتمعات السائلة اليوم صارت تكرس فكرة تحقيق الشهوة بأقل تكلفةٍ وفي أقصر أمدٍ وفق منهج استهلاكي سريع يحقق المتعة اللحظية من غير الدخول في علاقة أبدية والتزامات إنسانية، وهذا ما عبر عنه عالم الاجتماع البولندي «زيجمونت باومنZygmunt Bauman» بالحب السائل فتمّ «الانتقال من عصر «الزواج» إلى عصر «المعاشرة» بكل ما يصاحب ذلك من مواقف وتبعات استراتيجية، بما في ذلك افتراض الطبيعة المؤقتة للمعاشرة، وإمكانية انتهاء العلاقة في أيّة لحظة ولأيّ سبب ما إن انقضت الحاجة أو انطفأت الرغبة»42، وتغدو العلاقات ذات طبيعة مؤقتة غرضها إشباع الذات، فلم تعد «الروابط الإنسانية، مثل كل الموضوعات الاستهلاكية الأخرى، شيئا يتحقق عبر الجهد الطويل والتضحية من حين إلى آخر، بل شيئا يتوقع المرء منه أن يحقق الإشباع الفوري، في الحال»43، وهكذا انقلب حال الأسرة، كما قال طه عبد الرحمن، فصارت «محلًّا للهناء لا محلًّا للبقاء كما كان الشأن في الأسرة التقليدية، إذ كانت أدوار الأفراد وأوضاعهم في هذه الأخيرة محددة سلفًا من أجل حفظ الوجود الجماعي، ترسيخا لتراثه وتخليدا لنسَبِه»44.

وتجدر الإشارة إلى أن الانتساب صار استثناء في بعض المناطق في أمريكا إلى حدود أواخر القرن العشرين؛ ففي عام 1993 بلغت نسبة الأطفال غير الشرعيين للأمريكان من أصول إفريقية إلى 68.7 بالمئة، حتى قيل إن وجود أب هو زوج أم الطفل اعتبر شيئا نادرا في بعض المناطق الفقيرة جدا45، ولا تشكل أمريكا حالة غريبة؛ فقد شهدت جميع الدول المتقدمة صناعيا؛ باستثناء اليابان والبلدان الكاثوليكية مثل إيطاليا وإسبانيا أيضا، زيادة سريعة جدا في معدلات الأطفال غير الشرعيين46، وعند النظر في الإحصاءات نجد دوما أن نسبة هؤلاء في البلدان ذات الأكثرية الكاثوليكية منخفضة، مما يؤكد أهمية الدين في ترسيخ سبل الأسرة، إذ تشترك الأديان في التركيز على أهمية الأسرة وضمان صلابة علائقها؛ لذلك جاءت الحداثة لتعوض الفكرة الدينية وتخاصمها جهرًا أو سرّا.

كما تكرست النظرة الوظيفية للأب، وحصر دوره في توفير الدخل المادي وإمكانية إسهام المرأة في تحقيق هذا الأمر، وصرف النظر عن الوظائف المعنوية المهمة والرئيسة المنوطة بالأب، على رأسها كونه عماد الأسرة، إلى جانب الأم، ومصدر القوة والهوية للطفل، ومن ثمّ؛ فإن خروج المرأة للعمل وتحقيقها للاكتفاء المادي لم يجعلها مستغنية عن الأب؛ وإنما جعلت الحاجة مزدوجة ومضاعفة ليصير أكثر حضورا في التكوين الاجتماعي للطفل وتربيته، خصوصا مع تقلص امتداد الأسرة47.

لذلك ينبغي دراسة فقدان النسب باعتباره ظاهرة تعبر عن تفكّك الروابط الإنسانية وتبرئ المرء من كل ما قد يصير هذه العلاقة أشبه بالارتباط على رأس ذلك «الأطفال»، ومن هنا يفرق «باومن» بين أنواع المعاشرة إذ قال: «الحياة المشتركة في إطار المعاشرة من دون زواج والحياة المشتركة في إطار النسب يمثلان عالمين مختلفين ومتباعدين، ولكل منهما قانونه ومنطقه الخاص»48.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران، 2017، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 37-68.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وأشكال الزَّواج المعاصِرة

محمد نبيل غنايم: أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم- جامعة القاهرة، مستشار المجلس الأعلى للجماعات. محتويات المقال:أولًا: بيان مقاصد الشريعة الإسلامية في الزواج الشرعيثانيًا: أشكال الزواج المعاصرةثالثًا: مقاصد الشري...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المساواة بين المرأة والرجل في ميزان الإسلام

الشيخ أحمد زكي يماني محتويات المقال:الأول: عن وضع المرأة في العهد النبويالثاني: عن دور المرأة المسلمة في العصور الـلاحقةالثـالـث: عن المـرأة في نطاق الزوجية ومقارنتها بالرجلأ – إبرام الزواجب – الحقوق والواجباتجـ – تعدّد ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأسرة: مفهومها وطبيعتها

جميلة تلوت محتويات المقال:أولا: التعريف اللغويثانيا: التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة والامتداد العلائقي لم يرد مصطلح الأسرة في القرآن الكريم، وإنما وردت الكلمة في الحديث النبوي في موضع واحد يدل على جماعة الرجل1، لكن نجد م...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الاجتماع الأسري

جميلة تلوت المبحث الأول - مقصد الإحصان والعفافأولا- التعريف اللغويثانيا- التعريف الاصطلاحيثالثا- الأسرة حصن وحضنالمبحث الثاني: مقصد السكنأولا: مفهوم السكنثانيا: الأسرة سكن ومسكنثالثا- السكن الأسري والاستقرار المجتمعيالمب...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مدونة الأسرة عند الطاهر بن عاشور من خلال كتابه مقاصد الشريعة

أحمد عوض هندي لدينا قانونان ينظّمان الأحوال الشخصية في الفترة الأخيرة: قانون 1 لسنة 2000م لتنظيم بعض إجراءات التقاضي فيما يخص الأحوال الشخصية، الذي أعاد تنظيم إجراءات التقاضي في دعاوى الأحوال الشخصية أمام المحاكم، ولدينا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد أحكام الأسرة عند الطاهر بن عاشور

جابر عبد الهادي الشافعي مقدمة يعتبر محمد الطاهر بن عاشور في نظر كثير من العلماء هو المعلم الثاني لعلم مقاصد الشريعة الإسلامية بعد الإمام الشاطبي، ويعتبر كتاب ابن عاشور «مقاصد الشريعة الإسلامية« بحق من أهم كتب ومراجع مقاص...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الأسرة في القرآن: من الإنسان إلى العمران

جميلة تِلوت: دكتوراه في مقاصد الشريعة، وباحثة في الفكر الإسلامي محتويات المقال:الفصل الأول: دراسة المفاهيم التأسيسيةالمبحث الأول: الأسرة: مفهومها وطبيعتهاالمبحث الثاني: مقاصد القرآنالمبحث الثالث: مفهوم العمرانالفصل الثان...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top