عبد الرحمن يسري أحمد: أستاذ الاقتصاد والاقتصاد الإسلامي، قسم الاقتصاد- كلية التجارة- جامعة الإسكندرية
وقعت اتفاقية منظمة التجارة العالمية، في مراكش عام 1994، في أعقاب الدورة الختامية لمفاوضات الجات GATT، التي كانت منعقدة لمدة سبع سنوات في أوروجواي بمشاركة 123 دولة. واستهدفت الاتفاقية إنشاء منظمة تستهدف استكمال عملية تحرير التجارة بين الدول من كثير من القيود التي تعوقها. لذلك اشتملت الاتفاقية على نصوص خاصة باستكمال عملية تحرير التجارة السِّلعية، والتي بدأت منذ توقيع اتفاقية الجات في 1947، واستحدثت ثلاث اتفاقيات جديدة، إحداها تختص بتحرير التجارة في الخدمات GATs، والثانية تختص بحقوق الملكية الفكرية TRIPs، والثالثة تختص بإزالة قيود الاستثمار TRIMs.
وتعبر الاتفاقية بشكل عام عن قبول الدول الأعضاء بالالتزامات المتبادلة بواجبات وحقوق وأفعال محددة في مجال تحرير التجارة الدولية، وأن الأحكام في الخلافات الناشئة عن التطبيق سوف يُنظَّم بالرجوع إلى سكرتارية المنظمة في جنيف1.
وقد انضمت الدول الإسلامية إلى هذه الاتفاقية كما فعلت دول العالم الأخرى، واحدة بعد الأخرى، على أساس أن إزالة القيود عن التجارة والاستثمارات الدولية، وحماية الملكيات الفكرية، يشجع الإنتاج على أسس من الكفاءة، ويعمل في اتجاه مزيد من النمو والرفاهية على مستوى العالم.
والسؤال المطروح في هذا البحث ليس مقتصرًا على مدى تحقق هذا الهدف، أو إمكانية تحققه بالنسبة للدول الإسلامية في أوضاعها الحالية، بوصفها دولًا نامية. ذلك لأننا نتوقع أنه إذا اقتصرنا على هذا الأمر ألا نجد اختلافًا كبيرًا بين وقع الاتفاقية على الدول الإسلامية؟ وبين وقْعها على العديد من الدول الأخرى النامية. فهناك مشكلات وآثار مترتبة في تطبيق الاتفاقية بسبب الفجوة الاقتصادية والتقنية الكبيرة القائمة بين الأعضاء: الدول النامية، ومن بينها الدول الإسلامية من جهة، والدول المتقدمة من جانب آخر.
إن السؤال المطروح في هذا البحث هو: هل حققت هذه الاتفاقية مصالح الدول الإسلامية؟ وإلى أي مدى اقتربت الاتفاقية من تحقيق هذه المصالح في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية. إنه سؤال صعب ويحتاج إلى معالجة دقيقة لسببين: أولهما أن الاتفاقية لم تأخذ أصلًا في الحسبان اعتبارات الشريعة الإسلامية ومقاصدها. وثانيهما لأن الفكر الإسلامي في مقاصد الشريعة قديمًا أو حديثًا لم يتناول- على أي درجة من درجات التعمق- هذه المقاصد في إطار التعامل الاقتصادي الدولي بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم. لهذا يلزم لنا وضع مقدمة عن مقاصد الشريعة بما يسمح بالولوج في هذا الميدان.
مقدمة ضرورية عن مقاصد الشريعة، ومدخل مقترح لهذا البحث:
ظل فكر الإمامين الجليلين الغزالي والشاطبي، وما زال، يحتل مكان الصدارة عند التطرق إلى مقاصد الشريعة. ووفقًا لهذا الفكر فإن حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، من الضروريات التي تُعد في مقدمة المقاصد الشرعية. ثم يأتي بعد ذلك في ترتيب مقاصد الشريعة بعد الضروريات ما يمكن إضافته إلى الضروريات ليخفف من مشقة الحياة وهي الحاجيات، ومِن بَعْدها كل ما يجعل الحياة أحسن أو أفضل، وهي التحسينيات.
ولقد تناول فقهاء وعلماء آخرون، جاؤوا من بعدهم، هذه المقاصد بالمناقشة، فصدقوا عليها وإن اختلفوا في ترتيبها من حيث الأهمية أو في تفاصيلها. وأرى أن مدخل الضروريات والحاجيات والتحسينيات لا يضع إطارًا يحصرنا أو حدودًا نتوقف عندها في بحث مقاصد الشريعة وتحليلها، وإنما يفتح بابًا يمكن الولوج منه إلى ما هو وراء ذلك. فالمدخل أو المنهج لدى الإمامين الجليلين، ومن سار على نهجهما أصلح ما يكون لرؤية مقاصد الشريعة وتحليلها أولًا؛ على المستوى الجزئي (الفرد أو العائلة) بدلًا من المستوى الكلي (الأمة أو المجتمع). وثانيًا؛ بافتراض إطار السكون، بدلًا من إطار الزمن والحركة أو التغيرات المستمرة التي تلازم حياتنا على الكوكب الأرضي والتي تواكبها ولا تنفك عنها تغيرات في عقولنا وفهمنا لأمور حياتنا ولديننا الحنيف. وثالثًا؛ بافتراض الاهتمام بالأمة أو المجتمعات الإسلامية وحدها، وكأن غيرها من الأمم أو المجتمعات في هذا العالم غير موجودة أو غير ذات أهمية، وليس هذا نقدًا لمدخل الإمامين الجليلين الغزالي والشاطبي في المقاصد بأي حال؛ لأن كل فكر يقوم في زمانه ويتأثر بالتراث الفكري في مجاله واجتهادات المجتهدين في نفس العصر2.
وفي إطار هذه الثغرات في المنهج التقليدي، لا بد من الاعتماد على مدخل مناسب في مقاصد الشريعة، يصلح لفحص اتفاقية منظمة التجارة العالمية أو تقويمها. ذلك لأن مضمون الاتفاقية وهدفها يقع في مجال الاقتصاد الدولي، والذي تنتمي نظريته إلى الاقتصاديات الكلية. ولا يعني الحديث عن مدخل آخر مناسب لمقاصد الشريعة أننا لن نستفيد من فكر الغزالي والشاطبي، بل سيكون ذلك ممكنًا وضروريًّا. ذلك لأن المدخل المقترح لن يهمل المقاصد الخمسة في الضرورات، وإنما سيعمل على إعادة هيكلتها وترتيبها، وبيان أهمياتها النسبية في إطار التصور اللازم للكل (الأمة أو المجتمع) وإطار الزمن.
في البداية لا بد من التأكيد على أن مقصد الشارع سبحانه وتعالى من خلق الإنسان، هو عبادته وحده، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وكل ما فرضه الله بعد ذلك على عباده من فرائض في التنزيل، أو ما سنَّه رسوله (صلى الله عليه وسلم) في سنته الشريفة إنما هو القيام بهذه المهمة خير قيام حتى ينجو الناس من عذاب النار. قال تعالى: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]. ومن ثم فإن مقاصد الشريعة يجب أن تتوجه أولًا وأساسًا إلى ما يرمي إلى الوفاء بهذا المقصد الأسمى. وهذا هو المدخل الذي سنعتمد عليه في هيكلة مقاصد الشريعة التي وردت في فكر الغزالي والشاطبي، وإعادة ترتيبها وصياغتها.
من هذا المنطق يأتي مقصد حفظ الدين على رأس المقاصد جميعًا، حيث يتعلق مباشرة بمقصد الشارع في عبادته، ورضي الله عن الإمام الغزالي حينما أعاد في «المستصفى» عرض هذه المقاصد بشكل أكثر إحكامًا، فلم يقسمها إلى دينية ودنيوية، كما فعل أولًا؛ لأن من المؤكد أنه عرف أنها كلها دينية ودنيوية في آنٍ واحد، وقام بوضع «حفظ الدين» في مقدمة مقاصد الشريعة الضرورية3.
وكما يقرر الشاطبي فإن «مصلحة الدين، أو ضرورة الدين، هنا تعني: أصل الدين، وهو المتمثل في الإيمان بالله وتوحيده وعبادته». ومما قاله الشاطبي بحق إن «حفظ أصل الدين يكون أولى» في المقاصد، نظرًا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار ربِّ العالمين. وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيرها. فإنما كان مقصودًا من أجله، على ما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].4
ويأتي في الترتيب بعد ذلك مقصد «حفظ الناس»، وإن كان فلسفيًا ملازمًا لحفظ الدين. فالناس هم المكلفون بعبادة الله وحده إلى يوم القيامة، ومن دون حفظهم على المستوى الكلي للبشرية وعلى المدى الطويل للزمن، لن تكون هناك عبادة لهذا الصنف من الخلق، ولما كانوا قد خلقوا في الحقيقة لذلك، فلا بد من استمرارهم5.
ويستلزم مقصد حفظ الناس التناكح والتناسل وإلا نقصوا وفنوا قبل النهاية المقدرة للحياة البشرية، وانقطع مقصد الشارع من خلقهم، وهذا محال.
ويستلزم مقصد «حفظ الناس» إنتاج كل مستلزمات الحياة البشرية والذي بدوره يمكن اعتباره مفصدًا تكميليًّا تحت مسمى «مقصد الإنتاج». ثم إن مقصد «حفظ الناس» بالمعنى اللازم للعبادة، يستلزم حفظ العقل، فالتكليف مقتصر على العاقل.
ونلاحظ ارتباط مقصد «حفظ الدين» وتداخله مع مقصد «حفظ الناس». فحفظ الدين يتطلب سلامة العقل وتعليم الناس وإرشادهم إلى كيفية عبادة الله وكيفية المحافظة على دينهم في حياتهم اليومية وفي علاقاتهم الاجتماعية ومعاملاتهم المالية، وإلى إقامة الأحكام الشرعية. والحق سبحانه وتعالى يقول: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [التغابن: 2]. والمؤمنون هم الذين يحفظون دين الله في الأرض، ويلزمهم في ذلك حفظ العقل، والعلم، وتعلم الدين، وإقامة وحفظ المؤسسات أو المصالح الرسمية كافة التي تقيم العدل وتحفظ الأمن على أساس الشريعة.
وبناء على ما سبق فإن لدينا مقصدين أصليين للشريعة، أولهما يتفق مع المقاصد التي بيَّنها الغزالي والشاطبي من قبل، وثانيهما، وهو حفظ الناس، يعني حفظ الأنفس البشرية، سواء من الأصول أو من الذرية. ومن هذين المقصدين تتفرع مقاصد أخرى تابعة، يمكن أن نسميها تكميلية؛ لأنها ليست أصلية6.
ومن بين أهم هذه المقاصد التكميلية مقصد «الإنتاج». وهذا الأخير لم يبرز إطلاقًا في تناول الغزالي والشاطبي لمقاصد الشريعة، على النحو الذي سوف نبيِّنه على «المستوى الكلي» في هذا المقال.
إن مقصد الإنتاج على المستوى الكلي يستلزم «العمل»، وما يلزمه من حماية وتعليم وتدريب، و«المال» (وهو أحد مقاصد الشريعة عند الإمامين الجليلين) وحفظه وتنميته، وكذلك حشد الطاقات العقلية للبحث والابتكار والقدرات التنظيمية للإدارة. وهذا المقصد «الإنتاج» يشمل مجموع المصالح العامة اللازمة لحفظ الأنفس والنسل في كل زمن ومكان، بالطعام والشراب والملبس والمسكن، وتوفير مستلزمات الصحة والعلاج عند المرض، إلى آخره من ضرورات الحياة. وبالتالي فإن «حفظ المال» ليس مقصدًا أصليًا كما هو عند الغزالي والشاطبي، وهو جزء لا يتجزأ من مقصد حفظ الإنتاج. ومن ثم فهو تابع أو ثانوي ولا بد أن يتكامل بالضرورة مع حفظ قوة العمل وحفظ القدرة على التنظيم والإبداع أو الابتكار؛ لأن المال وحده لا ينتج.
ومن أهم المقاصد التكميلية المتفرعة من مقصد «حفظ الدين» و«حفظ الناس» في هذا التحليل: مقصد «حفظ العقل»، والتعليم، والبحث، ومقصد حفظ العدل والأمن بما يتوافق مع الشريعة وكما يتوافق مع المصالح العامة للمجتمع. وكل هذه المقاصد الفرعية أو التكميلية يمكن في الواقع التطبيقي الاجتهاد في تفاصيلها وتأديتها اعتمادًا على منهج المصالح المرسلة.
مقاصد الشريعة الإسلامية على مستوى الأموال والمعاملات التجارية والاقتصادية الدولية:
نستخلص من المقدمة السابقة أن «الإنتاج» مقصد تكميلي ملازم لمقصد «حفظ الناس»، الذي هو أحد مقصدين أصليين للشريعة، ويأتي من بعده مباشرة في ترتيب الأهمية، فلا يمكن تجاوزه في تحليل مقاصد الشريعة.
وعلى المستوى الكلي وأخْذًا عنصري الزمن والحركة في الحسبان، يمكن الحديث عن ثلاث مراتب للإنتاج: مرتبة الضروريات، ومرتبة الحاجيات، ومرتبة التحسينيات. وفي المرتبة الأولى ينتج المجتمع الحد الأدنى من السلع والخدمات اللازمة للمعايش، وهو ما يمكن تسميته بحد الكفاف.
وفي المرتبة الثانية يزداد الإنتاج إلى المستوى الذي يحقق الكفاية للناس من حاجيات المعايش فيتمتعون بمستويات أفضل من الطعام والشراب والملبس والمسكن، وبامتلاك كل ما يزيل عنهم مشقة الحياة.
وفي المرتبة الثالثة يزداد الإنتاج ويتنوع من طيبات الرزق (سلعًا كانت أو خدمات)، ويعيش الناس في درجة من الرفاهية.
وفي إطار مفهوم الميزان كما ورد في القرآن؛ فإن التوازن بين مقصد «حفظ الناس» ومقصد «حفظ الدين» يصبح أمرًا في غاية الأهمية؛ لتحاشي التصادم بين الرفاهية و «حفظ الدين»، أي للتحقق من أن زينة الحياة الدنيا والطيبات من الرزق التي أحلها الله- عز وجل- لم تؤدِّ إلى إخلال بمقصد «حفظ الدين» ولن تؤدي إليه.
ويعتمد الإنتاج في كل مرتبة من مراتبه على ما لدى المجتمع من قوة عمل ومال وقدرات تنظيمية وعقول قادرة على التجديد والابتكار. والمال كلمة عربية شاع استخدامها بين الفقهاء وأهل العلم، ويشمل المستوى الكلي ما نسميه في لغة الاقتصاد الحديثة «الأصول الإنتاجية»، التي هي من صنع الإنسان، وهو ما نطلق عليه: «رأس المال Capital، والثروات الطبيعية، والنقود المدَّخَرة».
وفي إطار التحليل الاقتصادي الكلي Macro Analysis (على مستوى المجتمع)، فإن الإنتاج على مستوى الضروريات يتطلب- على الأقل- حماية حقوق العمل، وتوافر مناخ أمني مناسب لحماية مصالح أصحاب رؤوس الأموال والمشروعات، ومناخ تشريعي واقتصادي ملائم يشجع على استثمار المدَّخَرات المتاحة. أما عند المستويات الأعلى من الإنتاج التي تتجه إلى إشباع الحاجيات ثم إلى إنتاج التحسينيات أو الكماليات، فإن الأمر يتطلب الارتقاء بمهارات العمال والقدرات التنظيمية والطاقات البشرية التي تعمل في مجالات البحث والابتكار، والعمل على استخدام الأصول الإنتاجية بكامل طاقتها Full Employment، وزيادة المدَّخَرات والاستثمارات بما يسمح بنمو مطَّردٍ في رؤوس الأموال ومزيد من الانتفاع بالموارد الطبيعية التي خلقها الله. والقيام بمعظم هذه الأمور يستلزم الإحالة إلى فكر المصالح المرسَلة، والتأكد من عدم مخالفة نصٍّ شرعي أو التعارض مع روح الشريعة في الكليات أو الجزئيات.
ولا نستطيع في تحليلنا لمقاصد الشريعة فيما يخص «الإنتاج» أن نهمل انفتاح المجتمعات أو الدول بعضها على بعض وتشابك مصالحها العامة والاعتماد المتبادل القائم بين اقتصاداتها، أو نتجاهل ذلك.
والعلاقات التجارية والاقتصادية بين المجتمعات المختلفة في العالم قائمة منذ العصور القديمة على أساس المنافع المتبادَلة، ولكنها تطورت تطرًا متلاحقًا منذ أواخر القرن التاسعَ عَشَر مع الثورة التي حدثت في وسائل النقل والاتصالات على المستوى الدولي. ولم تهدأ هذه الثورة، بل ازداد عُنْفوانها بعد أنِ الْتحَمَتْ مع الثورة في مجال الإلكترونيات وصناعة الأقمار الفضائية، وهذه من أهم عناصر العولمة Globalization.
وفي هذا الإطار يتطلب «مقصد الإنتاج»، الذي هو أهم مقاصد الشريعة الملازِمة لمقصد «حفظ الناس»، بحث تأثر النشاط الإنتاجي داخل المجتمعات الإسلامية بمناخ الانفتاح على العالم، وهل يسمح هذا الانفتاح بفرص أفضل في التجارة والاستثمار وتحقيق الرفاهية، وفي إطار ما تسمح به الشريعة، أم لا؟
وبالنسبة لهذا البحث فإنه يتناول هذه القضية من خلال اتفاقية منظمة التجارة العالمية، التي تنظم- إلى أقصى حد عُرف في تاريخ العالم الحديث- عملية الانفتاح وتحرير النشاط التجاري بين الدول. لكن هل يتوافق الالتزام بهذه الاتفاقية من جانب الدول الإسلامية المنضمة إليها، أم يتعارض مع ما يتطلبه المفصد الشرعي للإنتاج؟
رؤية انتقادية لاتفاقية منظمة التجارة العالمية من منظور مقاصد الشريعة الإسلامية:
تقدم فيما سبق أن «الإنتاج» مقصد شرعي إسلامي متعلق بمقصد «حفظ الناس» كما شرحنا. والدول الإسلامية كلها مصنفة في عداد الدول النامية الفقيرة أو المتوسطة الدخل، وإن كانت قلَّة قليلة منها تتمتع بمستويات معيشية مرتفعة، تتقارب مع ما هو معروف وسائد في دول العالم المتقدمة اقتصاديًّا.
إذًا فالإنتاج في الدول الإسلامية يحتاج إلى تنمية، وهذه تستلزم في النظرية الاقتصادية الوضعية تغيرات هيكلية في النشاط الإنتاجي، لا تتحقق إلا بإعادة توزيع عناصر الإنتاج ووضعها في أفضل الاستخدامات الممكنة (قضية أفضل تخصيص للموارد Best Allocation of Resources). وفي هذه الظروف يتحقق اقصى ناتج كلي ممكن للدولة.
وبافتراض حرية التجارة، وسيادة المنافسة في الأسواق العالمية، يتحقق أيضًا لكل دولة أقصى صادرات ممكنة، وأكبر مكسب ممكن من التجارة الخارجية، إذا وضعت مواردها في أفضل الاستخدامات الممكنة. وهكذا يتفق منطق التنمية الاقتصادية ومطلبها تمامًا مع نظرية التجارة الخارجية ومنطقها في أهمية تحرير التجارة العالمية.
ومن المنظور الاقتصادي الوضعي تثار أسئلة كثيرة أولًا حول إمكانيات استخدام الموارد على أحسن وضع ممكن في الدول النامية بسبب العديد من العقبات الهيكلية، وغياب المنافسة من الأسواق، وتخلُّف الأسواق المالية. كما تثار تساؤلات عديدة، مها: هل يمكن للتنمية الاستفادة من الانفتاح التام على العالم الخارجي، أم أن السماح بالتجارة الحرة في السلع والخدمات وتدفق الاستثمارات الأجنبية دون قيود، سوف يسهم في تنمية صادراتها وتنمية نشاطها الإنتاجي على نحو أفضل؟
أما من المنظور الإسلامي فإنه أولًا: لا يمكن التسليم بهذا الفكر الوضعي إلا مع أخذ قيود الشريعة في الحسبان. بمعنى الابتعاد عن المجالات الإنتاجية والمعاملات المحرمة. وثانيًا: مع أخذ ظروف الدول الإسلامية الفقيرة والمتوسطة الدخل في الاعتبار، إذ إنها تستدعي إعطاء الأولوية والاهتمام بإنتاج الضروريات والحاجيات في مراحل التنمية الأولى، بغض النظر عن الأوضاع المرتبطة بأفضل توزيع ممكن للموارد الاقتصادية، والذي يتحقق معه أعلى مستوى ممكن من الناتج القومي والصادرات.
أما بالنسبة للدول الإسلامية المرتفعة الدخل- وهي الاستثناء من القاعدة الآن- فإنها أيضًا بحاجة إلى التنمية بمعناها الاقتصادي، الذي يستلزم التغير الهيكلي في النشاط الإنتاجي وتجارتها الخارجية، غذ إن هذه الدول تعتمد في معظم إنتاجها وصادراتها على نشاط استخراج البترول. لكن هل تستفيد هذه الدول في تنميتها للنشاط الإنتاجي من تحرير التجارة، على النحو الذي تنظمه الاتفاقية؟ سؤال تحتاج إجابته إلى بحث تجريبي.
وهناك سؤال أبعد من هذه الأسئلة جميعًا يخص رؤية مصالح الدول الإسلامية النامية، وهو أنه: إذا تصورنا إمكانية تعاونها أو تكاملها اقتصاديًّا فهل ستكون في وضع أفضل؟
إن اتفاقية منظمة التجارة العالمية لا تمنع التكامل الاقتصادي بين أعضائها ولكن وَفْقَ شروط هذه الاتفاقية التي تعمل على تحقيق مصالح الدول الأعضاء جميعًا، ولا تسمح لمجموعة منها أن تسعى لتحقيق مصالح كتلتها أو اتحادها، دون النظر إلى مصالح الآخرين.
وبالرغم من أهمية هذا السؤال للدول النامية عمومًا، إذا توفر لديها فرص أخرى بديلة للاتفاقية، له- كذلك- أهمية أكبر بالنسبة للدول الإسلامية النامية الأخرى، إذا وجد لديها فرصة حقيقية للتكامل الاقتصادي فيما بينها، مع أخذها في الحسبان مقاصد الشريعة من جهة حفظ الدين، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: 52]. والتحذير من التفكك كما قال جل شأنه: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: 53].
ومن وجهة نظر المدافعين عن مشروع التكامل الاقتصادي الإسلامي، هناك فرصة أمام الدول الإسلامية عليها أن تحققها، وسوف تمثل بديلًا أفضل من الدخول في اتفاقية دولية تذوب فيها الهوية والمصالح الإسلامية. لكن من الوجهة الاقتصادية الواقعية قد تكون هذه الفرصة الآن بعيدة المنال؛ لظروف عديدة سياسية واقتصادية. وقد لا تتحقق قبل سنوات عديدة قادمة. وبالتالي علينا- في الظروف الحاضرة- تبيين الفرق بين الإجابة عن السؤال المطروح من جهة «ما ينبغي»، و «ما هو ممكن واقعيًّا». ومن ثم فإننا نسعى الآن إلى تقويم الاتفاقية في ظروف الواقع الذي فرض نفسه، مع عدم ترك- أو إهمال- بحث ما ينبغي مستقبلًا، والمكاسب المتوقعة منه، مقابل تلك التي تتحقق، أو قد لا تتحقق، في إطار اتفاقية منظمة التجارة العالمية.ما بين الجات ومنظمة التجارة العالمية
بعد تحرير التجارة السلعية من كثير من القيود المفروضة عليها من خلال اتفاقية الجات (GATT الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة)، من أبرز الإنجازات في مجال التجارة الدولية خلال الفترة التي بين توقيعها عام 1974 إلى أن استُبْدِل بها اتفاقية منظمة التجارة العالمية عام 1995. وقد ساهمت اتفاقية الجات- بلا شك- في تحقيق معدلات النمو المرتفعة في كتلة الدول المتقدمة، ولكنها للأسف لم تسهم في تحسين الأوضاع النسبية للدول النامية، خاصة الدول الفقيرة والدول ذات الدخل المتوسط، ومنها الدول الإسلامية. وأثبتت التجارب الدولية أن خفْض التعريفة الجمركية والقيود الكمية على الواردات في اتفاقية الجات لم يؤثر بأي شكل معنوي في الهياكل الاقتصادية القائمة في كتلة الدول النامية، أو في نمط العلاقات التجارية والاقتصادية بينها وبين كتلة الدول المتقدمة.
لقد استمرت الفجوة الاقتصادية بين كتلة الدول المتقدمة وكتلة الدول النامية في الاتساع خلال خمسة وأربعين عامًا من تطبيق مبادئ الجات. وأظهرت شروط التبادل الدولي Terms of Trade تغيرًا بصفة شبه مستمرة لصالح الدول المتقدمة، مما يعني أنها أخذت النصيب الأكبر من مكاسب التجارة الدولية.
والخلاصة أن اتفاقية الجات لم تنفع الدول الإسلامية، مثلها في ذلك مثل الدول النامية، بل ربما أسهمت في اتساع الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة، وتشير الدراسات والأبحاث أن الدول المتقدمة استفادت من خفض القيود الجمركية وغير الجمركية على التجارة الدولية.
ولذلك أثير سؤال بعد توقيع اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وهو: هل يمكن أن تحقق هذه الاتفاقية لهذه الدول وضعًا أفضل نسبيًّا؟
مناقشة بعض جوانب الاتفاقية في ضوء مقاصد الشريعة7:
أولًا: في مجال تحرير التجارة السلعية:
(1) إزالة التعريفة على المنتجات الدوائية جاء متمشيًا مع مقصد «حفظ الناس» وموافقًا له، إذ إنه يعني- في حد ذاته- تيسير العلاج والرعاية الصحية8. لكن من جهة أخرى نلاحظ أن شركات الأدوية العالمية العملاقة تتمتع بمراكز احتكارية عالمية، وأن اتفاقية TRIPs (سيأتي ذكرها لاحقًا) تحمي حقوق ملكيتها الفكرية في المنتجات الدوائية بقوة. وهذه الشركات رائدة في أبحاث الدواء وتقنياته، وجميع الدول النامية كانت تقلد منتجاتها أو تشتري منها براءات الاختراع بشروط ميسرة. أما في ظل اتفاقية TRIPs فإن الشروط تغيرت، وهو ما يضع صناعة الدواء في الدول الإسلامية (وفي غيرها من الدول النامية) في موقف ضعف تجاه الشركات العالمية، ويهدد مستقبلها، بالرغم من أهمية هذه الصناعة وضرورتها من جهة المقصد الشرعي لحفظ الناس.
وهكذا فكأن غزالة التعريفة على المنتجات الدوائية يتضمن رسالة من شركات الأدوية العالمية التي تتمركز في العالم المتقدم اقتصاديًّا، مُفادها: «استمر أيها العالم النامي في استهلاك ما ننتجه من دواء وقد أزيلت التعريفة عليه، وهذا أفضل لك، فلن تستطيع منافستنا في الإنتاج!».
(2) خفض التعريفة على السلع الزراعية بنسبة 24% في حالة الدول النامية. وبنسبة 36% في حالة الدول الصناعية، يشجع الإنتاج الزراعي في المجموعة الأولى. ومع ذلك، ولكي يكون لهذا النص أثره الإيجابي ووزنه في تنمية الإنتاج فيها، يجب تطوير الزراعة واختيار المنتجات الزراعية الأعلى إنتاجية.
وبالنسبة للدول الإسلامية النامية فإن مقصد الإنتاج يستلزم إعطاء أولوية لإنتاج الغذاء الضروري، وتحقيق الأمن الغذائي منه. ويعد هذا أهم من تنمية إنتاج المنتجات الزراعية التي تعطي إيرادات أكبر في مجال التجارة العالمية. لذلك يصبح تحرير التجارة في هذا المجال هدفًا ثانويًّا.
(3) ألزمت الاتفاقية حكومات الدول المتقدمة (أوروبا والولايات المتحدة على وجه الخصوص) بوقف دعم إنتاجها الزراعي، مما يثير قضية ارتفاع أسعار السلع الغذائية المستوردة منها. ويلاحظ أن واردات كثير من الدول الإسلامية النامية (ومنها مصر) من الغذاء تمثل نسبة عالية من وارداتها (في مصر نحو 25% إلى 30%). ومن ثم فإن تطبيق الاتفاقية يصبح- في حد ذاته- سببًا في ارتفاع مدفوعات واردات الغذاء. وهذا في حد ذاته مناقض لهدف تيسير معايش الناس في الدول الإسلامية النامية، لكنه- في رأينا- له أثر إيجابي إذا قامت هذه الدول بتنمية النشاط الإنتاجي الغذائي المحلي، وهو مقصد شرعي.
(4) تم الاتفاق على أن الدعم الذي تمنحه الحكومات للبحث في مجال الصناعة لا يجب أن يتجاوز 50% من تكليف الأبحاث التطبيقية. وهذا بلا شك يأتي موافقًا لهدف تحقيق التنافسية الدولية على أساس الكفاءة النسبية في مجال الصناعة، وهو أمر منطقي بالنسبة لمجموعة الدول المتقدمة اقتصاديًّا وصناعيًّا، أما بالنسبة للدول النامية التي ما زالت متأخرة تقنيًّا وفي مراحلها الأولية من التنمية الصناعية، ومن بينها معظم الدول الإسلامية، فإنها قد تحتاج إلى إنشاء بعض الصناعات ودعمها في مجال البحث أو غيره من المجالات، بأكثر من النسبة المذكورة. وقد سمحت الاتفاقية- على أية حال- لهذه الدول بحماية صناعاتها الناشئة، بشرط تقديم الأدلة الكافية على أن هذه الصناعات واعدة، وينتظر أن تتمتع بقدرة تنافسية فيما بعد.
(5) من مزايا الاتفاقية أنها تبنت محاربة الإغراق Dumping ومواجهة المشكلات التي يمكن أن تنشأ في هذا المجال أو تترتب على تطبيق القوانين التي تحاربه بآليات أكثر شدة وحزمًا مما كان في عصر «الجات». كذلك تضمنت الاتفاقية نصوصًا تسمح للدولة العضو بفرض قيود مؤقتة (تعريفة جمركية وغيرها) في حالة تعرضها لتدفق غير عادي من سلع مستوردة، وهو الأمر الذي قد يعكس شكلًا آخَرَ من أشكال الاحتكار الخارجي والرغبة في غزو السوق المحلي. ومن ثم يتسبب هذا في لحوق أضرار بالنشاط الإنتاجي الداخلي، وهو يناقض مقاصد الشريعة. وفي هذا الصدد نقول: إن الشريعة الإسلامية كانت أول شريعة في العالم تسن تشريعات ضد الاحتكار بأنواعه، وأن فقهاء المسلمين ناقشوا حالة خفض سعر السوق، وخشوا أن يكون ذلك وسيلة للاحتكار، وهذا ما يماثل «الإغراق» في الفكر الحديث.
ثانيًا: في مجال تحرير تجارة الخدمات (اتفاقية الجاتس GATS):
تم الاتفاق بشكل عام على تحرير التجارة في الخدمات (GATS) General Agreement on Trade in Services واستثنت الاتفاقية الخدمات التي تمارسها الحكومات بصفتها السيادية على أسس غير تجارية Non-Commercial. وفيما عدا ذلك تشمل الاتفاقية الخدمات في جميع القطاعات: الخدمات المالية Financial Services، وخدمات النقل والاتصالات، ونشاط السياحة، وأنشطة إصلاح المعدات والآلات والمركبات، وغير ذلك من الأنشطة الخدمية في مجال الإنتاج.
وتبعًا للكمِّ الهائل من الحالات والمشكلات في مجال التطبيق هذا، تم الاتفاق عام 1999 على بدء المفاوضات المتعددة الأطراف، لتسويتها والاتفاق على الإجراءات المناسبة بشأنها. وما زالت بنود هذه الاتفاقية تخضع للمفاوضات.
وتزعم الدول المتقدمة أنها سوف تفيد الدول النامية من خلال اتفاقية الجاتس؛ وذلك لأنها قادرة على تقديم خدمات عالية الجودة لهذه الدول. ويلاحظ أن قطاع الخدمات في معظم الدول المعاصرة يمثل نحو 50% أو أكثر من النشاط الاقتصادي القومي، وأن كفاءة الخدمات تؤثر مباشرة في كفاءة النشاط الإنتاجي السلعي. هذا إذًا مما يتفق- في حد ذاته- مع مقاصد الشريعة بصفة عامة، ولكن يتعين علينا التدقيق في الخدمات نفسها، وفي مدى اتفاقها مع الشريعة ومقاصدها.
ونبدأ بالخدمات في القطاع المصرفي فنقول: إن خطورة الاتفاقية تبدو واضحة في هذا المجال من عدة جوانب:
أولها: السماح بدخول البنوك الأجنبية في الأسواق المصرفية للبلدان الإسلامية دون شروط أو قيود (ما زالت المفاوضات جارية في هذا المجال). والمعروف أن ثمة عددًا قليلًا من البنوك العالمية تسيطر على الصناعة المصرفية العالمية، وأن فروع هذه البنوك حينما يتاح لها الدخول في الدول الإسلامية النامية سوف تسيطر على الأسواق المصرفية. وهذا الأمر له خطورته لأسباب، منها:
عدم وجود أي ضمان في مثل هذه الظروف على توجُّه الموارد المالية المتاحة لخدمة النشاط الإنتاجي القومي. ذلك لأن كثيرًا من فروع البنوك الأجنبية الكبيرة في الدول النامية تتمتع بثقة ائتمانية كبيرة، خاصة من المواطنين الذين يحتفظون بحسابات شخصية بالعملات الأجنبية. ومن ثم يتجمع لدى هذه البنوك موارد مالية معتبرة، تستطيع استخدامها بحرية ومرونة خارج الدولة. وحتى في حالة استخدام هذه البنوك الموارد المالية في الداخل، فَلٍنا نملك ضمانًا على أنها سوف تستخدم في أنشطة استثمارية وفقًا لأولويات التنمية، أو وفقًا لمقاصد الشريعة التي تقضي بأولوية الاستثمار في الضروريات ثم الحاجيات، وذلك قبل الكماليات9.
وثانيها: أن هذه البنوك الدولية تتعامل بنظام الربا (الفائدة)، ووجودها داخل الدول الإسلامية سوف يزيد البنوك التجارية التي تتعامل بالنظام نفسه قوة إلى قوتها. وبالتالي فإن وجود فروع قوية للبنوك الأجنبية سيمثل عقبة أمام نمو مشروع «المصرفية الإسلامية»، ما لم تقم هذه البنوك بإنشاء فروع إسلامية لها كما حدث في الدول العربية الخليجية10.
ويلاحظ أن البنوك الإسلامية ما زال أمامها الكثير حتى تقف على قاعدة تنافسية قوية، وتتمكن من السيطرة على السوق المصرفي الداخلي، ولن يكون هذا هدفًا يسيرًا في ظل انفتاح كبير على السوق العالمي. لذلك يلزم في إطار مقاصد الشريعة أن تضع الدول الإسلامية شروطًا أو قيودًا تنظم بها نشاط فروع البنوك الأجنبية فيها.
إن الاتفاقية سوف تفتح- أيضًا- الأبواب واسعة أمام دخول المؤسسة التعليمية الأجنبية وانتشارها في الدول الإسلامية. وهذا له جانبان، أحدهما إيجابي يتمشى مع مقاصد الشريعة. والآخر نخشى أن يكون سلبيًّا ومعارضًا لها تمامًا.
أما الجانب الإيجابي فهو أن التعليم العالي في مجالات العلوم البحتة والمعملية العملية يحتاج إلى دفعة قوية في الدول الإسلامية النامية، كي تتمكن من النهوض بالبحث العلمي والتقدم تقنيًّا واقتصاديًّا.
وأما الجانب السلبي فيتمثل في دخول الفكر الأجنبي والثقافات الأجنبية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهو أمر له خطورته في تثبيت دعائم التبعية الفكرية لدى الطبقة المتعلمة في الدول الإسلامية. وهذه التبعية الفكرية موجودة الآن في الدول الإسلامية، وهي من مخلَّفات السيطرة الاستعمارية، ومن نتائج الضعف السياسي والاقتصادي، وهي أيضًا من أسباب التخلف الفكري والاقتصادي11. فهل من صالح المريض أن يتعرض لمزيد من أسباب المرض؟ هناك فرق كبير بين ما نحن فيه الآن وبين قراءة الفكر والثقافة الأجنبية حين تكون الشعوب ناضجة ثقافيًّا وقويّة سياسيًّا واقتصاديًّا، على سبيل المثال في صدر الدولة الإسلامية كان فكر الإغريق والروم والفرس يُترجَم إلى العربية ويَستخلص منه علماء المسلمين الصالح ويَنْبِذون منه الرديء.
هناك أيضًا الكثير الذي يمكن قوله عن الجوانب السلبية لدخول الشركات الأجنبية في مجالات الخدمات الترفيهية والسياحة، وما يمكن أن ينشأ عن ذلك من سلوكيات مخالفة للشريعة. ولذلك فإن هناك حاجة لوضع بعض القيود التي تحفظ مقاصد الشريعة في الإنتاج الضروري والنافع دينًا ودنيا. والرأي عندي أن ما يُخشى منه ليس نابعًا من الاتفاقية في حد ذاتها، غذ ما زالت كثير من بنودها في تحرير الخدمات محل مفاوضات، وإنما من ضعف التكوين الشخصي والفكري والديني لدى من يحملون مسؤولية هذه المفاوضات من الدول الإسلامية، بالإضافة إلى الضغوط السياسية، التي يتعرض لها من الداخل والخارج.
ثالثًا: إزالة القيود على المستثمر الدولي (اتفاقية TRIMs).
اهتمت اتفاقية WTO أيضًا بالأمور التي تخص حقوق المستثمر على المستوى الدولي. وفي هذا الإطار عقدت التجارة الخاصة بالاستثمار المعروفة باسم (TRIMs) “Agreement on Trade Related Investment Measures”. وهكذا أرسيت عدة مبادئ لضمان معاملة المستثمر الأجنبي على نحو ييسر له نشاطه في البلد الذي يذهب إليه، ويضمن عدم التفرقة بينه وبين المستثمر الوطني. ومن ذلك عدم إلزام المستثمر الأجنبي بشراء مستلزمات إنتاجه من البلد الذي يستثمر فيه، وضمان حقوقه في تحويل رأسماله أو أرباحه على المستوى الدولي.
الحقيقة الماثلة أمامنا هي حاجة معظم الدول الإسلامية النامية إلى الاستثمارات الأجنبية، وذلك لعدة أسباب، منها أهمية الاستثمار لتنمية الناتج القومي، وفي ظروف انخفاض معدلات الاستثمار الوطنية بسبب انخفاض معدلات الادخار، يلزم إما الاقتراض من الخارج، أو تشجيع الاستثمارات الأجنبية. أما عن القروض الأجنبية فهي ديون يصعب سدادها إذا أخفقت المشروعات الممولة بها، ويلزم سداد الفوائد الربوية المقررة عليها. أما عن الجانب الآخر فإن الاستثمار الأجنبي لا يحمِّل الدولة تلك الأعباء، بل يتحمل المخاطرة، فإذا تحقق النجاح والربح تحققت الفائدة لاقتصاد الدولة، وفي حالة الفشل والخسارة يكون عبء ذلك على المستثمر الأجنبي وحده. وعلى ذلك فإن الاستثمار الأجنبي يتفق مع مقاصد الشريعة حينما نتوقع مساهمته في النشاط الإنتاجي، وحينما نقارنه بالقروض الربوية. بالإضافة إلى ذلك تتوقع الدول النامية من المستثمر الأجنبي أن يسهم في إدخال تقنيات حديثة إلى النشاط الاقتصادي بصفة عامة، والصناعي بصفة خاصة.
لذلك هناك منطق في تشجيع دخول الاستثمار الأجنبي في الدول الإسلامية التي تستهدف تنمية نشاطها الإنتاجي بصفة عامة، والصناعات ذات التقنيات العالية بصفة خاصة. لكن من جانب آخر فإنه وفقًا لدراسات كثيرة وجد أن الاستثمار الأجنبي يدخل إلى البلدان النامية ليزاحم المشروعات الوطنية في مجالات الأنشطة سريعة الربحية (مثل صناعات التشييد والبناء والسياحة والفنادق والترفيه والنقل والاتصالات)، ويعزف عن دخول الصناعات ذات التقنية العالية. ومن ثم كان للدول النامية (ومنها الدول الإسلامية) سياسات لتوجيه المستثمر الأجنبي والاستفادة منه، تتمثل في إلزامه بشراء نسبة من مستلزمات إنتاجه من الداخل، والاستعانة أساسًا بعمال من الدولة، بالإضافة إلى اشتراطات أخرى تخص تحويل الأرباح إلى الخارج وغير ذلك. واتفاقية TRIMs تلغي كل هذه الاشتراطات، وتعمل على معاملة المستثمر الأجنبي معاملة المثل للمستثمر الوطني. والحقيقة أن هذا المنطق لا يتفق أو يختلف في إطلاقه أو في شكله العام مع مقاصد الشريعة الإسلامية. القصد أننا حينما نبحث عن مصالح المسلمين لا بد من التدقيق في الاستثمار الأجنبي وتصنيفه من جهة نفعه للنشاط الإنتاجي للدولة، ونقله للتقنيات المتقدمة ومساهمته في التوظف إلى آخره.
ويستلزم هذا وضع قواعد عامة تسمح لنا بتشجيع أنواع من المستثمرين الأجانب بلا قيود أو شروط، ومنع آخرين تمامًا، أو السماح لهم، في حالات أخرى، ولكن بشروط. وإذًا، لا يمكن الحكم على الاتفاقية بأنها سيئة ومخالفة لمقاصد الشريعة على إطلاقها أو عكس ذلك. ويجب أن تسعى الدول الإسلامية إلى تعديل TRIMs بما يجعلها مرنة وقادرة على تحقيق المصالح العامة الراجحة لهذه الدول.
رابعًا: الإجراءات الخاصة بحماية الملكية الفكرية TRIMs:
استحدثت اتفاقية WTO لأول مرة اتفاقية لحماية حقوق الملكية الفكرية، تعرف باسم اتفاقية (TRIPs) “Trade-Related Aspects of Intellectual Property Rights”.
وفي هذا الإطار اتخذت الاتفاقية الإجراءات لحماية براءات الاختراع Patents Rights والماركات المسجلة Trade Marks وحقوق النَّسْخ أو الطبع Copyrights لمدة عشرين عامًا. وبالنسبة لمجال إنتاج الدواء خفضت الفترة الزمنية للحماية إلى عشر سنوات فقط، لحماية براءة الاختراع، وذلك بالنسبة للدول النامية.
ومن الناحية الشرعية الإسلامية، لا يمكن حرمان الأشخاص أو الشركات- ممن أنفقوا من أموالهم على البحث والتنمية حتى توصلوا إلى ابتكار منتجات جديدة- من حقوقهم الخاصة في مبتكراتهم. لكن من جهة أخرى لا يمكن المبالغة في حماية هذه الحقوق لفترات طويلة مثل العشرين عامًا المحددة في جميع الحالات، فيما عدا حالة واحدة مخصصة. إن مثل هذه الحماية طويلة الأجل تنشئ في الحقيقة أوضاعًا احتكارية للفكر والاختراع، وتَحْجُر على الابتكارات لأجل تحقيق أرباح احتكارية لفترة طويلة، وهذا ينافي مقاصد الشريعة الإسلامية في خدمة الإنسانية وحماية العنصر البشري.
وفي حالة المنتجات الدوائية نجد أنه بالرغم من قصر فترة حماية براءات الاختراع للدول النامية (عشر سنوات بدلًا من عشرين سنة)، فإن الاتفاقية أدت إلى ارتفاع أسعار الأدوية في الدول النامية (ومنها الدول الإسلامية) بشكل ملحوظ. ويمكن الإشارة إلى حالة مصر، ذلك لأن شركات الأدوية في مصر تعمل حتى الآن على تصنيع أدوية بتوكيل من الشركات الدولية الكبرى في أوروبا وأمريكا أو تفويض منها، والموقع أن تستمر أسعار الأدوية في الارتفاع إلى أن تبدأ الشركات المصرية في تخطي الحاجز التقني مستقبلًا.
إن حقوق الملكية الفكرية (اتفاقية TRIPs) ما زالت بحاجة إلى مفاوضات مكثفة بين الدول المتقدمة من جهة، والدول النامية من جهة أخرى. فالمعروف أن الفجوة التقنية بين البلدان المتقدمة والنامية ضخمة، وأن حماية حقوق الملكية الفكرية للدول المتقدمة لفترات تصل إلى عشرين عامًا، يزيد هذه الفجوة عمقًا، ويسبب مشكلات ضخمة في نقل التكنولوجيا الحديثة والاستفادة منها، ومن ثمّ في التقدّم «الاقتصادي وتنمية الإنتاج.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد الشريعة والإتفاقيات الدولية (مجموعة بحوث)، 2013 مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 231-252. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |