أحمد كافي: أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، الدار البيضاء، المغرب.
الناس عموما، إما محتقر للتفكير أو غال فيه؛ جانح عن وجه السداد من طريقه. وإن احتقار التفكير هو تصريح ناطق بنوع التفكير الذي يراد لنا أن نعيش معه وتحت ظلاله. وللأسف الشديد فإن الضريبة القاسية، منها:
بلية الآبائية: ﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾[الزخرف: 22]،﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾[الزخرف: 23].
ومصيبة الكفر:الذي اختار بعض الناس في هذه الأرض، ومنهم ملأ يتصدرون المجالس، ويؤمون أقوامهم.
وعبادة الأوثان: إذ لو أعمل الوثنيون تفكيرهم ما اختاروا الصمود للوثن، والخشوع أمامه، والاستسلام لما وقر من الأوهام في قلوب هؤلاء وعقولهم.
واتباع الزعماء: ومن الأمراض اتباع الزعماء من غير بذل الجهد في التفكير في هذا الاتباع، أعَلى بصيرة هو فنمضيه نحن وإياهم على كلمة سواء سوية. أم على غير هدى، فنحجم عن السير وراء ذيولهم، والتمرد عليهم حتى ولو امتلكوا من وسائل البطش ما يخيل إليهم أنه بمقدورهم فرض القناعات على الأتباع. قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾[الأحزاب: 67-68].
كل هذه المظاهر التي هي عندنا يقينا انحرافات، إنما هي دلالات ناطقة على نوع التفكير الذي يقود إليه احتقار التفكير أو شروده، وما أعمله من السيئات في حياة الأفراد والجماعات في دنياهم، وما ستكون عليه سوء العاقبة في الآخرة.
وأما أنه أساس جل الأعمال والأقوال والأحوال، فذلك جلي في كون إنتاجات البشر في الحضارة تفوقا أو تقهقرا، سعادة وشقاء، إنما هو ثمرة لجهود تفكير المفكرين من أبنائها.
وهذه الورقة البحثية تروم تتبع الآيات القرآنية حصرا في موضوع التفكير، للتأكيد على أنه مقصد قرآني، ويبتغي من ورائه مقاصد، يحق لنا أن ننسبها إلى القرآن الكريم. وقد بذلت الوسع في البيان من خلال محورين كبيرين:
المحور الأول: المقاصد الفكرية: جهود سابقة في المفهوم والمضمون |
عالجت فيه مبحثين، هما:
المبحث الأول: جهود في المصطلح وجذوره
المبحث الثاني: المقاصد الفكرية: جهود سابقة
المحور الثاني: المقاصد الفكرية للقرآن الكريم |
تناولت فيه هو أيضا مبحثين، هما:
المبحث الأول: قراءة في آيات التفكير القرآنية
المبحث الثاني: المقاصد الفكرية للقرآن الكريم
ثم ختمت بخلاصة، ولائحة للمصادر والمراجع. والله ولي التوفيق والسداد.
المحور الأول: المقاصد الفكرية: جهود سابقة في المفهوم والمضمون
سأحاول في هذا المحور أن أتناول المصطلح من حيث مفهومه وجذوره في هذا الدين الخاتم في مسائل ترتبط به. ثم أنتقل معرجا على الجهود التي بذلت في مجال مقصد التفكير ومقاصده.
المبحث الأول: جهود في المصطلح وجذوره
الفكر القرآني وباقي الأفكار الأخرى
مما كثر الحديث عنه، ووضعت العناوين له، وزبرت الكتب من أجله، استلهاما من مصطلح الفكر ومضمونه:
- الفكر المقاصدي
- الفكر الأصولي
- الفكر التربوي
- الفكر الإسلامي
- المدارس الفكرية ... إلخ.
وهكذا دخل الفكر والتفكير كل مجال، ووجد لنفسه سوقا رائجة في كل علم وفن. ولا يرتبط الحال بعلماء هذا العصر، فإن النحت من مصطلح الفكر قديم عند العلماء لمن ألقى نظرة عابرة على عناوين كتبهم1.
فهل هذه البحوث والكتب والموضوعات المؤلفة في مضامينها الفكرية، فكر آخر غير هذا الفكر القرآني الذي نتلمس خيوطه، ونحاول أن ننظم فروعه، ونجمع قواعده وأصوله، أم أنهما متحدان في الروح والمقصود، ويتباينان في الجزئيات؟
والحقيقة عندي عند الفحص والنظر أن مقصد التفكير القرآني ومقاصده يجب أن تكون مهيمنة على كل الكتب والبحوث والمقالات والمناهج والمؤسسات، حاكمة على فكرها وتفكيرها، بما هو لها أو عليها، لأن من خصائصه هيمنته على كل المكتوبات والمقالات والأقوال .. ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾[المائدة: 48].
يجب أن تخدم هذه الأعمال إبراز التفكير القرآني، وأن تحاط بعناية مقاصده، وأن تشتغل على ضوئها وفي إطارها، وأن لا تعارض ثمراتها ونتائجها. وإلا كانت فكرا، نعم. ولكنه فكر يعرِّض أصله وركنه وأساسه للنقض والهدم.
مفهوم التفكير
تذهب غالب المعاجم إلى شرح التفكر بأنه التأمل، حيث جاء: «التَفَكُّرُ: التأملُ. والاسم الفِكْرُ والفِكْرَةُ. والمصدر الفَكْرُ بالفتح»2.
قال الغزالي في الإحياء في بيان معنى الفكر والمراد منه: «أما التدبر والتأمل والتفكر فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة... وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة»3.
وأما قوله بأن التدبر والتأمل والتفكر فعبارات مترادفة، فعندي أن هذا الإطلاق منه فيه شيء من التجوز. إذ عند التحقيق نجد منطقة اشتراك، ومناطق مختلفة، أوجبت مصطلحا مغايرا، بسبب الاختلاف في جميع ماهيتها.
ثم قال: «فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، وهذا هو الذى يكشف لك فضيلة التفكر، وأنه خير من الذكر والتذكر، لأن الفكر ذكر وزيادة»4.
وقد عبر القوم في تاريخنا عن التفكير، بأنه ذلك الجهد الجواني الذي يقوم به الذين تطهرت جوانحهم، أو أدركتهم لحظات الصفاء، فرأوا الأمور على حقيقتها، أو أمكنهم أن يهتدوا إلى طريق آخر غير الذين كانوا عليه.
ومن أهل العلم من اعتبر التفكر لا يكون إلا بالاهتمام ومزيده، لأن المعاني لا تتحصل إلا به. وفي هذا يقول الجرجاني: «التّفكّر: تفعّل من الفكر، وهو البحث عن المعاني بالاهتمام»5.
التفكير عبادة، أو التعبد بالتفكير
لا يقل مقصد التفكير عن العبادات التي جاء بها هذا الدين، بل هو من جملتها. يشهد لهذا قوله تعالى:﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران: 191].
ويؤكد هذا أن ابتداء الرسالة سبق بالتفكر والتفكير. حيث حرص ﷺ على القيام به قبل أن يفاجأ بالوحي في غار حراء. ففي الصحيحين: «وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد الليالي ذوات العدد ـ قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزودُ لذلك»6.
قال الخطابي: حبب إليه الخلوة لأن معها فراغ القلب، وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويخشع قلبه، ويجمع همه7».
وتساءل بعض أهل العلم عن هذا التحنث، ما هو؟ وما هي صفته؟
فهذا الحافظ العراقي يقول: «(الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ) فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَليْت شِعْرِي كَيْفَ تِلْكَ الْعِبَادَةُ؟ وَأَيُّ أَنْوَاعِهَا هِيَ؟ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهَا؟ يَحْتَاجُ ذَلِكَ لِنَقْلٍ، وَلا أَسْتَحْضِرُهُ الآنَ»8.
ولا توجد بين أيدينا صفة تحنثه (أي تعبده) حتى نرجع إليها، وننتهي إليها. ولكن الأكيد أنه كان يترك أهله: زوجه وأبناءه ومعارفه وما اكتسبه في هذه الدنيا. يدع ذلك كله وراءه، لكي ينطلق في هذه العبادة الليالي ذوات العدد. وما لم يستحضره الحافظ العراقي، أكده بالقطع الشنقيطي في كوثر المعاني، بأن قال: «ولم يأت التصريح بصفة تعبده عليه الصلاة والسلام»9.
ومن أهل العلم من ذهب أن تحنثه ﷺ قبل البعثة كان على بقايا الحنيفية التي بقيت بيضاء نقية، والتي تمسك بها حنفاء زمن الفترة، ومنهم ورقة بن نوفل، وزيد بن نفيل..10. غير أنا لا نجد مرة أخرى عند القوم في هذا القول من حجة تعتمد، ولا دليل يحتج به ويعول عليه.
وإذا كنا لا نعرف صفة تحنثه، فإننا مستيقنون من خلوته. فالحديث الذاكر للتحنث ذاكر للخلوة. وفي الصحيحين من حديث عائشة J: «ثم حُبِّبَ إليه الخَلاَءُ11، وعند الترمذي عن عائشة J: وَحُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلْوَةُ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ»12.
والخلوة كما قال الخطابي: «معينة على التفكر». وفي هذه الخلوة تصفو نفسه وروحه، ويستجمع جوارحه، بعيدا عن المشوشات والشواغل. قال أبو زهرة: «وقد كان يعبد الله تعالى بالتأمل فى خلقه، والتدبر في ملكوته، واهتدى إليه، وأن يهتدي ابتداء إلى طريق عبادته، فإن ذلك فوق طاقة المعقول، ولابد فيه من المنقول»13.
وعد ابن أبي جمرة في بهجة النفوس أن الخلوة في حد ذاتها وبمفردها عبادة من العبادات14.
ونقل السيوطي في شرحه لصحيح مسلم ما جزم به الطيبي حين قال: «قَالَ وَلم يَأْتِ التَّصْرِيح بِصفة تعبده، لَكِن فِي رِوَايَة عبيد بن عُمَيْر عِنْد بن إِسْحَاق: فيطعم من يرد عَلَيْهِ من الْمُشْركين. وَجَاء عَن بعض الْمَشَايِخ أَنه كَانَ يتعبد بالتفكر15».
وهذا الذي نستفيده، أن التفكر تنفق فيه نفيس المكتسبات، حتى إن الأهل؛ من أزواج وأبناء وأموال لا تتقدم عليه، ولا تشغل المفكرين عنه.
وقد صح أن التفكر مقصد ابتدأ به في الشريعة الإسلامية، ودلت عليه الآيات القرآنية الكريمة. وهذا ما يؤكده الكرماني بالقول: «قَوْله:﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون﴾، وَبعدهَا ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يعْقلُونَ﴾، لأن بالتفكر فِي الآيَات يعقل مَا جعلت الآيات دَلِيلا عَلَيْهِ، فَهُوَ الأول الْمُؤَدِّي إِلَى الثَّانِي»16.
وممن أكد على أولية الفكر عند كثير من أهل العلم حجة الاسلام أبو حامد الغزالي، حيث قرر: «وكثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار، والنظر والافتكار. ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته، لكن جهلوا حقيقته وثمرته»17.
الخلل الفكري داء العطب القديم
وما شاع أو وجد من الغلو والتطرف والإرهاب والكفر والابتداع، فهو ثمرة طبيعية سيئة لأعطاب الفكر. فعندما جنح الفكر، ووقعت له العلل والأعطاب، فقد أسلم هذا الفكر المعطوب تلكم التصرفات والسلوكات والأحوال إلى ما لا ترتضيه الشريعة وفكرها، وتنفر منه الفطر السليمة.
والمدارس الفكرية الإسلامية المتناقضة إنما ظهرت حينما أصاب أصحابها من المؤسسين والتابعين لها أعطاب في الفكر. فالخوارج والشيعة والمعتزلة... وغيرهم في القديم، وجماعات التكفير والهجرة، والدواعش... وغيرهما في العصر الحاضر، يشتركون في صور الإخلال الفكرية التي لحقت التفكير السليم، فأصبحوا مع الانتساب إلى الإسلام، بعيدين عن مقصد التفكير القرآني، بعيدين عن مقاصد هذا التفكير.
المبحث الثاني: المقاصد الفكرية: جهود سابقة
ألف الأئمة في موضوع التفكير منذ زمن بعيد. وعده القوم من مقامات الإيمان كأبي حامد الغزالي وابن القيم وغيرهما. ومنهم من اختاره عنوانا لكتابه، وهذا كثير عند استعراض مسرد المؤلفات قديما وحديثا. حيث وجدوا لهذا المصطلح إغراء وقوة في التعبير عن بعض مراداتهم، فلم يترددوا في جعله عنوانا يستقبلون به أهل العلم وطلبته. وكان ذلك منهم في جميع الفنون الإسلامية من غير استثناء. ولنذكر بعض العناوين التي نحتها أصحابها من مادة الفكر والتفكر:
- نتائج الفكر في النحو: السهيلي(ت581ھ).
- نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر: أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني(ت852ھ).
- توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، المعروف كأسلافه بالأمير (ت1182ھ).
- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (1376ھ/1956م).
وألف في موضوعنا من المعاصرين:
- أثر القرآن الكريم في تحرير الفكر البشري: عَبْد العَزِيز جاوِيش (1347ھ/ 1929م).
- التفكير فريضة إسلامية: عباس محمود العقاد (1383ھ/ 1964م).
ولابد ابتداء من أن ننسب الفضل لأهله، بذكرهم وذكر جهودهم في الإبانة عن المقاصد الفكرية للقرآن الكريم، أو جهودهم في الدلالة عليها، او إرشاد أهل العلم والباحثين إلى هذا المقصد أو مقاصده. نذكر من هؤلاء الأعلام:
مقاصد التفكير عند الشيخ رشيد رضا (1282-1354ھ/1865-1935م)
جعل الشيخ رشيد رضا التفكير من المقاصد القرآنية، حيث خصص المقصد الثالث من المقاصد العشرة للقرآن الكريم للحديث عن التفكير. وهو هاهنا يتحدث عن التفكير مقصدا يجب الاعتناء به، وتشجيع أهله، والانصياع لثمرات تفكيرهم... وغيرها من فروع مقصد التفكير.
وذهب في هذا المقصد إلى التأكيد على أن الاسلام دين العقل والفكر، بخلاف الكتب المقدسة التي لا تجد فيها شيئا من هذا الاعتناء الذي تترى الآيات القرآنية في التعرض له صراحة. وأن تقاليدهم (أصحاب الكتب المقدسة) الدينية قد حجرت حرية التفكير وحرمته، فاسترقت الناس حتى جاء الاسلام فأعتقهم من هذا الرق18.
وانطلق V من خلال المقارنة مع الكتاب المقدس يؤكد انعدام ذكر العقل، وكذلك أسماء التفكر والتدبر والنظر في العالم التي هي أعظم وظائف العقل19.
وخلص إلى نتيجة أساسية، وهي أن «آيات النظر العقلي والتفكر كثيرة في الكتاب العزيز، فمن تأملها علم أن أهل هذا الدين هم أهل النظر والتفكر والعقل والتدبر، وأن الغافلين عن الدين يعيشون كالأنعام، لا حظ لهم منه إلا الظواهر التقليدية التي لا تزكي الأنفس، ولا تثقف العقول، ولا تصعد بها في معارج الكمال، بعرفان ذي الجلال والجمال»20.
وأنا ها هنا، لا أعترض على قوله وبيانه، ولكني سأنحو إن شاء الله تعالى إلى الحديث عن الموضوع من جهة أخرى، وهي بيان مقاصد هذا التفكير في القرآن الكريم.
أي إذا كان الشيخ رشيد قد تناول التفكير من جهة كونه مقصدا قرآنيا، فإني في هذه الورقة سأتناول مقاصد هذا المقصد. أي مقاصد مقصد التفكير في القرآن الكريم.
التفكير فريضة إسلامية: عباس محمود العقاد (1383ھ/ 1964م)
تناول الأديب الكبير عباس محمود العقاد التفكير في كتابه الموسوم بـ «التفكير فريضة إسلامية»، وقد حشد لغرضه كل الآيات المرتبطة بالعقل؛ والفكر؛ والنظر؛ والبصر؛ والتدبر؛ والاعتبار؛ والذكر؛ والعلم. ليقرر أن: «العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية. فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحيانا، وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى. فهو الفكر؛ والنظر؛ والبصر؛ والتدبر؛ والاعتبار؛ والذكر؛ والعلم، وسائر هذه الكلمات الذهنية التي تتفق أحيانا في المدلول كما قدمنا، ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى»21.
وانتقل للتفصيل في الموانع والأعذار التي تقف في سبيل العقل أن يفكر. وهي موانع العرف والقدرة العمياء والخوف الذليل22.
ثم تمدد بعد ذلك في المنطق والفلسفة والعلم والفن الجميل والمعجزة والأديان والاجتهاد في الدين والتصوف والمذاهب الاجتماعية والفكرية والعرف والعادات، ليظهر مكان التفكير فيها سلبا أو إيجابا. وما عاناه المفكرون في هذه الميادين التي حددها، وما قدموه من المهر غاليا من أمنهم واستقرارهم وأعراضهم ودمائهم، وهم ماضون في التفكير لا يصدهم عنه صادّ عند البعض، ونكوص آخرين واستسلامهم.
مقاصد التفكير عند الشيخ الطاهر بن عاشور (1296-1393ھ/1879-1973م)
اعتبر الشيخ ابن عاشور أن العقيدة من التفكير. وتمتاز العقيدة عنده كونها تفكيرا مقدسا ومختصا بموضوع معين، هو وجود الله تعالى. وعدَّ إصلاح التفكير أصلا من أصول النظام الاجتماعي.
وأكد V تعالى أن إصلاح التفكير من خلال الاستقراء في ثماني نواح. قال عنها: «استقريت نواحي إصلاح التفكير الواردة في الإسلام استقراء عاجلا فانتهيت إلى ثماني نواح من أصول نجاح المرء والجماعة والمجتمع»23.
ثم شرع يفصل في هذه المناحي التفكيرية الثمانية التي يجب معاجلتها بالإصلاح، وهي:
- التفكير في تلقي العقيدة.
- التفكير في تلقي الشريعة.
- التفكير في العبادة.
- التفكير في تحصيل النجاة في الحياة الآخرة.
- الحزم.
- التفكير في المعاملة.
- التفكير في الأحوال العامة للعالم.
- التفكير في مصادفة الحقيقة في العلوم.
مقاصد التفكير عند الدكتور أحمد الريسوني
بعد أن عرج حفظه الله تعالى على مقاصد القرآن الكريم عند بعض أهل العلم، كأبي حامد الغزالي؛ والعز بن عبد السلام؛ وبرهان الدين البقاعي؛ والشيخ رشيد رضا؛ والعلامة الطاهر بن عاشور. وبعد أن أتى بخلاصة موجزة غير مخلة بإسهاماتهم في هذا الموضوع، خلص إلى نتيجة أساسية تتمثل في غيبة مقصد تقويم الفكر، وإن كانت إشارات كلامهم تحوم حوله دون أن تجليه. قال: «نلاحظ من خلال ما تقدم من كلام العلماء عن مقاصد القرآن أنهم لم يفردوا هذا المقصد بالذكر والبيان، أي لم يجعلوه مقصدا مستقلا من مقاصد القرآن الكريم، غير أن هناك بعض الإشارات المحاذية له»24.
وانتقل بعد التأكيد على أن السابقين اندرج مقصد التفكير عندهم ضمن كلية الشريعة المعلومة، وهي الحفاظ على العقل. ولكن هذا الاندراج قاصر عندهم من خلال الأمثلة التي تواطأوا عليها في البيان، وهي تحريم المسكرات التي يكاد حفظ العقل ينحصر في هذا المثال عندهم. فقال: «غير أن ما أعنيه الآن مختلف عن مرادهم بحفظ العقل، الذي ينصرف غالبا إلى الحد الأدنى الضروري للعقل، ويكاد ينحصر عندهم في تحريم المسكرات والعقوبة عليها. فما أعنيه ليس متعلقا بحفظ أصل العقل، وإنما أعني: تقويم منهج التعقل والتفكير»25.
ثم شرع في بيان بعض القضايا القرآنية التي تظهر فيها عناية الكتاب العزيز بتقويم الفكر وتسديد النظر. وحصرها في خمسة، وهي:
- القرآن حجة وبرهان.
- الحكمة في بعدها المنهجي.
- لا حكم إلا بدليل.
- استعمال الأفئدة والحواس.
- منهج ضرب الأمثال.
وختم رأيه ببيان مواطن الخلل في نهج التفكير التي إذا لم يأخذ المسلم حذره منها، انحرف وآل إلى فساد. ومواطن الخلل والخطر والزلل عنده ثلاثة، هي:
- التبعية والتقليد.
- اتباع الخرص والظن.
- التسوية بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات.
مقصد التفكير عند الدكتور محمد عوام
تقدم الدكتور محمد عوام لندوة علمية نظمها مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن بشراكة مع مركز المقاصد وكلية الآداب بالرباط، وتم نشر المداخلة في رسالة خاصة بعد التنقيح والإضافة تحت عنوان: «مقصد إصلاح التفكير الانساني في القرآن الكريم».
وخلاصة رسالته: بعد تحديده لمعنى التفكر والتفكير، انتقل الدكتور محمد عوام إلى بيان الوسائل المعتمدة لإصلاح التفكير الانساني، وحددها في: العلم والقراءة، البرهنة والاستدلال، بعثة الأنبياء بالكتاب والميزان، المحاجة والمجادلة الحقة، الدعوة إلى النظر والتفكر، التثبت من الأخبار والاستيثاق منها، وأخيرا الموازنة الصحيحة والمقايسة الصائبة.
وفي مبحث آخر، تناول عوائق التفكير الإنساني في القرآن الكريم، ولخصها في أربعة وهي: التقليد والاتباع لمن سلف من الآباء، اتباع الظن، اتباع الهوى، والتكبر والجحود.
وقد رافع الدكتور عوام لإثبات مركزية التفكير في الرسالة الخاتمة، مثبتا مكانته المتميزة بما له من المصالح وجليل الثمرات، وما يجب الحذر عليه من المعوقات.
ولست هاهنا بسبيل تقويم رسالته، فقد كفيت بعض ذلك من المعقبين عليه، ومن الردود والمناقشات حول ما طرحه بين أيدي السادة العلماء والأساتذة وطلبة العلم.
غير أني أكرر ما سبق أن ألححت عليه غير ما مرة، من أن المقاصد المرتجاة من مقصد التفكير في القرآن الكريم، هي التي أذنت فيها لنفسي أن تتبعها، وهي التي أردت أن أدفع بها إلى دائرة الاهتمام والبروز.
ولن أذهب بعيدا، وقد صرح الرجل بغرضه من رسالته حين قال: «والذي أريد التأكيد عليه هنا، أن المقصد القرآني في إصلاح التفكير الانساني، له علاقة كبيرة ووطيدة بكافة الإصلاحات، وسائر المقاصد، لأنه هو المبتدأ والمنطلق. ومثل ذلك مقصد العمران، فله علاقة وطيدة بإصلاح التفكير، فلا جرم أنه لا يتحقق إلا به»26.
المحور الثاني: المقاصد الفكرية للقرآن الكريم
المبحث الأول: قراءة في آيات التفكير القرآنية
إن التفكير هو المبدأ والأساس، منه تبدأ الإنسانية إذا تشوفت همتها إلى مصالحها ورقيها في عاجل حياتها أو أخراها، وإليه تنتهي إذا أرادت إقامة ما اعوج من أحوالها وأوضاعا. وهو أساسها الذي تأوي إليه عندما تريد أن تضطلع برسالتها وسط تاريخ العمران الإنساني وآدابها وتمدنها.
ولقد آثرت أن أجعل محور بحثي هو هذه الآيات أساسا، وأن أبذل جهدي لأستخرج منها من الدلالات ما يحق لي أن أنسبها للقرآن الكريم، دون تعسف في التأويل، أو زورة عن الدلالة التي ترشد أو تنص عليها.
وقد وجدت كل من تكلم في موضوع التفكير من الناحية الشرعية القرآنية ـ حسبما اطلعت عليه من كتاباتهم ـ قد ذهب في الحديث عن العقل، أو التدبر، أو التأمل، أو النظر، والمجادلة، والحجاج، والأقيسة.. حاملا كل ذلك على التفكير.. وغيرها من الموضوعات القرآنية التي تشترك مع التفكير في مساحته، ولكنه (أي التفكير) يفترق عن المصطلحات السابقة في مساحات أخرى كبيرة أو صغيرة. وإلا لما كان لاختيار المصطلح (التفكير ـ التفكر) على غيره في سياق وآية عائدة من الفوائد والدلالات والمقاصد.
وإن حمل مضمون الجميع دفعة واحدة على التفكير إن تعلق به، وعلى العقل إن كان الكلام حوله، وعلى النظر مرة ثالثة.. مما يحيك في النفس أشياء. ولذلك أردت أن أعيد الأمر إلى نصابه، بالاقتصار اليوم على ما كان فيها من الآيات المرتبطة بالموضوع تنصيصا عليه.
وقد أتظاهر بغيرها من النصوص إن دعت الحاجة إليها، وخاصة عندما تكون لي عونا على المعنى الأصلي الأصيل. فتكون آيات التفكير هي الأصل، وغيرها هي التوابع في الموضوع الذي استقر عليه البحث، خاصة وأننا نجتمع للسنة الثالثة على كتاب محصورة آياته بين دفتيه، وهو القرآن الكريم، فنتقيد به دون أن نضيع هذه المقاصد القرآنية بتسويد الورق بكثير من الأقوال التي لا تدخل في صميم الموضوع وجوهره، أو الاستدلال بآيات يتم إجبارها على معاني ومقاصد بعيدة.
وأنا ها هنا أروم الاشتغال على مقاصد الكتاب المنصوصة أو المستنبطة بمسالك الكشف المعتبرة، ومنتبه إلى ما حذر أهل التفسير من انحرافات في إجبار النصوص على معان لا تدل عليها، وهي قاعدتهم: تركيب معان صحيحة لآيات لا تدل.
وقد جاءت الآيات مركزة وقليلة بالتنصيص عليه، والتي نصت على الفكر والتفكر والتفكير، هي ثمانية عشر آية بالعد والإحصاء27، وهي:
الآية الأولى: قال تعالى:﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ .فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾[المدثر: 18]. الآية الثانية: قال تعالى:﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾[سبأ: 46]. الآية الثالثة: قال تعالى:﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾[البقرة: 219-220]. الآية الرابعة: قال تعالى:﴿قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ﴾[الأنعام: 50]. الآية الخامسة: قال تعالى:﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾[البقرة: 266]. الآية السادسة: قال تعالى:﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾[الأعراف: 184]. الآية السابعة: قال تعالى:﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾[الروم: 8]. الآية الثامنة: قال تعالى:﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران: 190-191]. الآية التاسعة: قال تعالى:﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾[الأعراف: 175-177]. الآية العاشرة: قال تعالى:﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[يونس: 24]. الآية الحادية عشرة: قال تعالى:﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الرعد: 3]. الآية الثانية عشرة: قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل: 10-11]. الآية الثالثة عشرة: قال تعالى:﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل: 44]. الآية الرابعة عشرة: قال تعالى:﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل: 69]. الآية الخامسة عشرة: قال تعالى:﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الروم: 21]. الآية السادسة عشرة: قال تعالى:﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الزمر: 42]. الآية السابعة عشرة: قال تعالى:﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الجاثية: 12-13]. الآية الثامنة عشرة: قال تعالى:﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأيتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيةِ اللهِ، وَتِلْكَ الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾[الحشر: 24]. |
تذييل على آيات التفكير القرآنية
والملاحظ من خلال سرد هذه الآيات الثمانية عشرة، نجمل ملاحظاتنا فيها فيما يلي:
الأولى: لقد ختمت جميعا بالتأكيد على أن التفكر آية من آيات الله تعالى.
فذكرت بالإفراد (آية) مرتين. وهي الآيات من: النحل:10-11، النحل:69. وبالجمع (آيات) سبع مرات. وهي الآيات من: البقرة:219-220، البقرة:266، يونس:24، الرعد:3، الروم:21، الزمر:42، الجاثية:12-13.
وكأن هذا التفكير يبدأ شخصيا وحالة خاصة بالإنسان مفردا، كما يكون أيضا جماعيا يتظاهر فيه المفكرون عليه تعاونا منهم على جني ثمراته. وكما هي عادة القرآن الكريم في عدم هضم حق الأفراد، كذلك نجد إعلاء منه لحق الاجتماع والجماعة. وظاهر للعيان أن هذه المظاهر العظيمة في الكون: الشمس، القمر، الليل، النهار، البحر، الأرض، السماوات... لا يمكن التفكير فيها بشكل مفرد، ولكن التناصر عليها يكون معوانا على الوقوف على أسرارها وقواعدها.
والتفكير الجماعي له من القوة ما ليس للتفكير الفردي، دون أن يعني بحال هضم مكانة الفردي أو التنقيص منه، ولكنه كثيرا ما يكون دون الجماعي في القوة والآثار.
الثانية: كما أن الفعل المشترك بين هذه الآيات جميعا، هو المضارع. والذي يفيد الاستمرار والديمومة. أي أن نشاط الفكر لا يجوز أن يركن إلى الماضي، بل عليه عدم التوقف، وأن يستمر ويتجدد. وصيغ المضارعة التي وردت فيها آيات التفكر، هي:
- تتفكروا: بهذا الفعل المضارع: مرة واحدة.
- تتفكرون: بهذا الفعل المضارع: ثلاث مرات.
- يتفكروا: بهذا الفعل المضارع: مرتين.
- يتفكرون: بهذا الفعل المضارع: إحدى عشرة مرة.
الثالثة: أن التفكير بصيغة الماضي ذكر في معرض الذم، وذكر مرة واحدة: ﴿إنه فكر وقدر﴾ الآية.
أي أن هذه الماضوية قد قادت صاحبها إلى السبيل السيئة.
الرابعة: أن الآيات في موضوع التفكير نصا عليه كثيرة ومتنوعة، وأخذت حيزا مهما لتناول الموضوع والتعرض له بسياقات ومعاني عديدة. هذا الحث على التفكير نصا عليه مما قال فيه حجة الاسلام: «وكثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار»28.
وفي هذا التنوع جزء من الاشتراك، وهو أن التفكير مقصد من مقاصد القرآن الكريم. ولهذا المقصد مقاصد تقتنص من ورائه. وهي التي أسميتها: مقاصد مقصد التفكير في القرآن الكريم.
الخامسة: أن التكرار لموضوع التفكير في القرآن الكريم ليس عبثا، وأنه لو اكتفي بذكره مرة واحدة لحقق المراد منه، ولكن إعادته بصيغ وسياقات له ما بعده من المقاصد المرتجاة، والتي منها: إلفات الناس إلى خطورته في جميع مناشط الحياة، وما سيستقبلونه في معادهم. وكرر عليهم، للعلم الأزلي أن طبيعة الناس الغفلة، وعدم التمسك بما كرر عليهم، فأضاعوا وضاعوا.
السادسة: أن وراء التكرار مقاصد وليس مقصدا واحدا. وهو لب موضوعنا: مقاصد التفكير في القرآن الكريم، والذي سوف نجتهد في التعرض لها، عسى أن نكون موفقين.
لقد ذكر أهل المعاني أن ما يراه المطلعون على الآيات القرآنية تكرارا هو في العمق إذا بحثنا عن الأسرار، وتطلعنا أن نكتشف القصود، لكان الجواب القاطع غياب التكرار الذي يحوم حول معنى واحد. إنه تكرار تختلف سياقاته في الآية، وتختلف موضوعاته. وهو من الأدلة المعتمدة في نفي التكرار الذي يقصد به طائفة الانحصار في معنى يتحايل عليه بتشقيق القول.
وإن إمعان النظر، والاسترسال في التفكير، يوصل إلى هذه المقاصد المختلفة التي لها تعبيرات تكاد تكون متشابهة.
والسؤال الذي نريد الجواب عنه، هو: ما هي هذه المقاصد المختلفة لهذه الآيات القرآنية المندرجة في موضوع التفكير في الكتاب العزيز؟
السابعة: كما استفاد كثير من أهل العلم أن التفكير هو البداية في جميع مناشط الإنسان في هذا الدين الخاتم. وأن التركيز عليه قبل غيره له من المقاصد والمرادات التي سوف تقوم هذه الورقة بتجلية بعض معالمه، وشرح غاياته ومراميه. ومن هؤلاء الأعلام، نتوقف عند:
- قول الإمام الغزالي(ت505ھ): «فالعمل تابع الحال، والحال تابع العلم، والعلم تابع الفكر. فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها»29.
وقال أيضا: «ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار، ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم، ومصيدة المعارف والفهوم»30.
- وقول ابن القيم: «قَاعِدَة جليلة: أصل الْخَيْر وَالشَّر من قبل التفكّر، فَإِن الْفِكر مبدأ الإرَادَة»31.
فهذان الإمامان يؤكدان أن المصالح المختلفة إنما أصلها ومبدؤها فكر وراءها سابق عليها. والمفاسد التي يتورط فيها الفرد أو الجماعة هي بدورها تعود إلى الفكر الذي أنتجها، وذلك كائن إما بإعماله في جانب المصالح والسعي في تحصيلها وتكميلها، أو في جانب السيئات خوضا فيها، أو توظيفه بشكل غير موفق وسديد، فأثمر تلك الشرور.
وإذا كان مبدأ الرسالة هو التفكر كما سبق الحديث فيه ببيانه، وذلك مع سيد الخلق قبل بعثته، فذلك إيذان بأن مبدأ هذه الرسالة تفكر، وأن ما سيأتي إنما هو تبع لهذه البداية وفرع عنه، كان ذلك في المصالح أو في المفاسد.
إنه تفكر في حقيقة هذا الدين الجديد.
تفكر فيما يدعو إليه.
تفكر في نصوصه ومقاصده وكلياته وقواعده.
تفكر في منهج إجاباته.
تفكر في منهج التفكير الذي يدعو إليه.
من هنا نبدأ، ومن هنا نعلم.
وبناء عليه، سنجعل محور الكلام عن مقاصد التفكير في القرآن الكريم ومن خلاله، انطلاقا من الآيات القرآنية التي تحدثت عنه بشكل مباشر نصا عليه في هذه الورقة اليوم، حتى نتغلب على ما يرافق البحث من صعوبات إذا أتينا بكل ما له صلة بالموضوع قريبا أو شبه قريب أو بعيدا، وهي الآيات الثمانية عشر التي سبق تحديدها.
المبحث الثاني: المقاصد الفكرية للقرآن الكريم
سبق أن أثبتنا أن التفكير مقصد من المقاصد القرآنية البارزة، دل على ذلك الآيات العديدة في هذا الباب. ومنها الآيات التي أكدت على أن إنزال الكتاب إنما القصد منه، والغرض الأساس البارز فيه، هو: التفكير.
قال تعالى:﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل: 44].
فها هنا نصت الآية على مقصدين من إنزال القرآن الكريم، هما:
المقصد الأول: التبين ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾. قال ابن عاشور في تعرضه للآية: «واللام على هذا الوجه لذكر العلة الأصلية في إنزال القرآن»32.
المقصد الثاني: التفكير ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. قال ابن عاشور في تعرضه للآية: «عطف لعلهم يتفكرون حكمة أخرى من حكم إنزال القرآن»33.
ومن سيئات إهمال التفكير أو الانحراف به التجرؤ على الرسالة والرسل. ألمح إلى هذه المفسدة شيخ الزيتونة حين قال: «وفساد التفكير جرأة على رسل الله»34.
وننصرف الآن إلى بيان مقاصد التفكير القرآنية، والتي يمكن ذكر ما استقر عليه تفكيرنا عند التأمل في مضامين هذه الآيات، مستهدين بما ألهمنا الله تعالى إياه، مدعمينه بما أثله أهل العلم في هذا الباب. ومن هذه المقاصد:
المقصد الأول: مقصد البيان
ومن مقاصد التفكير في القرآن الكريم: البيان. وهو الوضوح الذي لا يداخله غبش، أو تسيطر عليه عتمة الاعتقادات والسلوكات الدنيوية والتعبدية.
فالسلوكات المنحرفة في الدنيا، والتعبدات المرفوضة في الشرع، والاعتقادات المنحرفة في التصورات الإنسانية، مرجعها عدم استبانة الخير من الشر، والصحيح من الغلط.
وغياب هذه الاستبانة عائد إلى تراجع الفكر عن التفكر والتفكير، واستقالته عن القيام بوظيفته. وقد أكثر محمد الطاهر ابن عاشور القول في إثبات الانحرافات وأن مرجعها إلى التفكير عندما تصوب له سهام الانحراف. ومما قاله:
«إن الشرك قاعدة اختلال التفكير وتضليل العقول، قال الله تعالى في ذكر آلهة المشركين ﴿وما زادوهم غير تتبيب﴾»35.
«إن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل»36.
«إن إصلاح التفكير هو مفتاح إصلاح العمل»37.
«إن الكفر هو جماع فساد التفكير وفاسد الأعمال»38.
وقد نص القرآن الكريم على أن من مقاصد التفكير هو: التبين، والعيش فيه وفي الوضوح.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾[البقرة: 219].
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾[البقرة: 266].
فربطت الآيات التفكير بالبيان، والبيان بالتفكير. لتلازمهما. وأن البيان والتبين والبينة والوضوح لا تأتي اتفاقا أو عبثا. ولكنها خلاصة معاناة التفكير ساعات أو أياما أو شهورا أو أعواما... ومن أهل العلم من أمضى حياته يفكر للحصول على البيان فيما فكر فيه فلم يظفر بشيء، فأعلن عن ذلك لأهل زمانه ولمن سيأتي بعده أن ينظر في الذي انتهى إليه، ويفكر فيما تعسر عليه.
قال ابن عاشور في بيانه لمقصد البيان في الدنيا والآخرة كأثر من آثار التفكير، ومقصد من مقاصده، وأن الأغلاط سببها انعدام البيان والبصيرة: «أما إصلاح التفكير المبحوث عنه هنا فهو التفكير فيما يرجع إلى الشؤون في الحياة العاجلة والآجلة، لتحصيل العلم بما يجب سلوكه للنجاح في الحياتين، كي يسلم صاحبه من الوقوع في مهاوي الأغلاط في الحياة العاجلة، وفي مهاوي الخسران في الحياة الاخرة»39.
وربط الكرماني التفكر بمقصده في هذه الآية، وحددها في مقصد البيان، فقال: «قَوْله: ﴿لَعَلَّكُمْ تتفكرون فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة﴾، وَفِي آخر السُّورَة ﴿لَعَلَّكُمْ تتفكرون﴾، وَمثله فِي الأنْعَام، لأنَّهُ لما بَين فِي الأول مفعول التفكر وَهُوَ قَوْله:﴿فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة﴾، حذفه مِمَّا بعده للْعلم بِهِ. وَقيل ﴿فِي﴾ مُتَعَلق بقوله: ﴿يبيِّن لكم﴾»40.
ومن الغفلة عن هذا المقصد أننا وجدنا زمن الانحطاط العلمي أصبح الإغماض في العلم هو سمة غالب أهل الرأي والنظر في ذلكم الزمان، وأصبح الاشتغال بفتح ما أغلقه من سبقهم. وقد جعل الثعالبي غالب العلماء من المائة الثامنة إلى عهده نقالين اشتغلوا بفتح ما أغلقه ابن الحاجب، ثم خليل وابن عرفة، وأهل القرون الوسطى من المذاهب الفقهية41.
هذا الإغلاق عبر عنه الثعالبي بالقول عن صنيعهم: «وهذا هو الإصر الذي لا انفكاك له، والعروة التي لا انفصام لها، أحاطوا بستان الفقه بحيطان شاهقة، ثم بأسلاك شائكة، ووضعوه فوق جبل وعر بعدما صيروه غثا، وألقوا العثرات في طريق ارتقائه، والتمتع بأفيائه، حتى يظن الظان أن قصدهم الوحيد جعل الفقه حكرة بيد المحتكرين، ليكون وقفا على قوم من المعممين، وأن ليس القصد منه العمل بأوامره ونواهيه وبذله لكل الناس، وتسهيله على طالبيه، بل القصد قصره على قوم مخصوصين، ليكون حرفة عزيزة، وعينا من عيون الرزق غزيرة»42.
ومن أمثلة هذا الإغلاق ما ذكرته كتب الترجمة لهذه البلية: «إذ كثرت المشاق في فتح الأغلاق، وضاع الزمن من غير ثمن، فإذا ابن عرفة ألف مختصره مسابقا ابن الحاجب وخليلا في مضمار الاختصار، ففاتهما في الإغلاق وفي الاستغلاق، ولما كان يدرس هو منه تعريف الإجارة وهو قوله: بيع منفعة ما أمكن نقله غير سفينة ولا حيوان لا يعقل بعوض غير ناشئ عنها بعضه يتبعض بتبعيضها.
وأورد عليه بعض تلاميذه أن زيادة لفظ «بعض» تنافي الاختصار، فما وجهه؟ فتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني بأنه لو أسقطها، لخرج النكاح المجعول صداقه منفعة ما يمكن نقله»43.
فهذا أحد أعلام المذهب المالكي وهو ابن عرفة أتعب تفكيره ووساوس التفكير في وضع حد جامع مانع... فلما سبكه لم يهتد إلى الجواب، فأصبح غامضا بالنسبة إليه هو أيضا. ولم تندفع حيرته إلا بتوقف وتضرع يومين كاملين.
إن الأصل هو أن صاحب التفكير يعيش إغماضا وخفاء بالنسبة له وللأمة، ودوره أن يمارس التفكير لدفع المفَكَّر فيه إلى حيز البيان والوضوح، غير أن انقلاب الأوضاع جعلت ثمرة التفكير زيادة في التعقيد والإغماض والإلغاز حتى على المُفَكِّر نفسه الذي من المفترض أن تكون القضية قد اتضحت عنده، ويجب نقل وضوحها إلى أهل العلم وعموم الناس.
ومما تأسف له بعض أهل العلم، أن الكتب المغلقة لقيت حظا، وتم الاشتغال بها، وكان الحظ العاثر نصيب الدراسات الجادة السهلة البينة44.
المقصد الثاني: مقصد التخلص من فكر الجماعة وسلطانها وسطوتها
أو تحرير قرار الإنسان من ضغط الحشد
كثيرون من أهل العلم والكبراء والفضلاء لم يستطيعوا أن يتخلصوا من سيطرة فكر الجمهور عليهم مع عدم إيمانهم به، أو سيطرة أهل الغلبة على تفكيرهم وتصرفاتهم.
ورغم ما عندهم من العلم فما استطاعوا أن يكسروا هذا الطوق الذي فرضه عليهم وعلى غيرهم هؤلاء.
فجاءت الدعوة إلى التفكير: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ﴾، تتغيى وتتقصد أن يتشجع المرء من خلال عملية التفكير إلى كسر هذه الأغلال المثقلة للانطلاقة الصحيحة للإنسان، والموردة إياه موارد الهلكة مع الجماعة.
قال تعالى في بيان هذا المقصد الجليل من التفكير:﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ﴾[سبأ: 46].
قال النسفي في تفسيره: «ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى: أن الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر، ويمنع من الرؤية، ويقل الإنصاف فيه، ويكثر الاعتساف، ويثور عجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب.
...أما الاثنان فيتفكران، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق. وكذلك الفرد يتفكر في نفسه بعدل، ونصفة، ويعرض فكره على عقله»45.
وبمثل الذي تعرض له النسفي قال الشعراوي: «ولذلك يأمر المنهج الإيماني أن على الواحد منا إن أراد أن يناقش قضية أهي حق أم باطل، فلا يصح أن نناقشها في حشد من الناس، ولكن، فلنناقشها أولاً في نفوسنا، لنتبين الحق فيها من الضلال، ولذلك يقول الحق سبحانه:﴿قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ﴾[سبأ: 46].
كأن الحق يهدينا إلى كيفية التمييز، فإما أن نناقش أنفسنا، وإما أن يتناقش اثنان حتى يمكن أن يقتنع أحدهما برأي الآخر دون أن يشهد ثالث هزيمته، فيكابر ويجادل»46.
وأكد هذا المقصد أيضا، فقال: «ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى يوضح: إياكم أن تتناظروا في قضية تناظراً جماهيرياً، لماذا؟ لأن الصوت الجماهيري يلتبس فيه الحق مع الباطل، والله سبحانه وتعالى يريد من كل صوت أن يكون محسوباً على صاحبه، ومثال ذلك عندما يقوم تظاهر كبير ويهتف فيه بسقوط أحد لا يتعرف أحد على من بدأ الهتاف.
والذي جعل العرب يخسرون أنهم حين استقبلوا الدعوة كانوا يعقدون اجتماعات جماهيرية، ينقدون فيها أقوال رسول الله فتاهت منهم القدرة على الحكم الموضوعي.
ولذلك يقول ربنا: ﴿قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ﴾[سبأ: 46].
أي أن تجتمعوا وفي وجهتكم الله، ومن عنده قوة فليناقش بالحجة أقوال رسول الله موضوعاً، وتاريخاً، ومنطقاً. ولا يمكن أن يجتمع اثنان ليبحثا مسألة -وفي بالهما الله فقط- إلا وينتهيان فيها إلى رأي موحد. ولذلك جاء التفاوض السري في العصر الحديث مستمداً من تلك القاعدة الإيمانية»47.
وهو تعالى ها هنا مسبوق بما أكده ابن عاشور في التحرير والتنوير، معتبرا هذا التورط وسط القوم من عوائق السلامة الفكرية وسلامة التفكير، حيث نجده يصرح: «وقدم مثنى لأن الاستعانة أعون على الفهم فيكون المراد دفع عوائق الوصول إلى الحق بالنظر الصحيح الذي لا يغالط فيه صاحب هوى ولا شبهة ولا يخشى فيه الناظر تشنيعا ولا سمعة، فإن الجماهير إذا اجتمعت لم يخل مجتمعهم من ذي هوى وذي شبهة وذي مكر وذي انتفاع، وهؤلاء -بما يلازم نواياهم من الخبث- تصحبهم جرأة لا تترك فيهم وازعا عن الباطل، ولا صدا عن الاختلاق والتحريف للأقوال بعمد أو خطأ، ولا حياء يهذب من حدتهم في الخصام والأذى، ثم يطيرون بالقالة وأعمال أهل السفالة.
فللسلامة من هذه العوائق والتخلص من تلك البوائق الصادة عن طريق الحق قيل هنا مثنى وفرادى فإن المرء إذا خلا بنفسه عند التأمل لم يرض لها بغير النصح، وإذا خلا ثاني اثنين فهو إنما يختار ثانيه أعلق أصحابه به وأقربهم منه رأيا فسلم كلاهما من غش صاحبه»48.
ويمكننا من خلال هذه الآية أن نثبت ما يلي:
- الحقائق تصنع ويهتدى إليها بالتفكر والتفكير.
- التفكير يحتاج إلى هدوء وصفاء.
- الحشد والجماهير تبلبل الفكرة وتقطع الوصول إلى الحقيقة.
- · الحقائق لا يتوصل إليها في الحشد.
ولذلك تراجع كثير من العقلاء وحدهم، وتراجع من تراجع منهم بالمذاكرة والمباحثة. ولم يتراجع أحد في وسط الحشد والجماهير التي أساسها الغلبة، ولا أحد يريد لنفسه أن يهزم أمام حشد جماعة الناس. كما لم يتراجع من تهيب من فكر الجماعة وتفكيرها.
أمثلة تطبيقية
لن أتحدث فيها عن المعاصرين لنا اكتفاء بأن لكل واحد حكاية عنهم أو حكايات، وتجنبا للدخول في الردود غير المنتجة، فإن المعاصرة كما قيل حرمان. ولكن سوف أسرح بعيدا، ثم أعود للنظر في قريب منا.
وبالأمثلة التطبيقية الموضحة، نقول:
كثيرة هي المواقف والأفكار التي يتخذها الانسان ويعتنقها وهو غير مقتنع بها، وإنما يردد ما يردده الجمهور، ويداريهم فيما هم عليه من الاختيارات، أو يفعل ذلك تلبية لرغبات أولياء النعم.
وأنا هاهنا لا أتحدث عن الأخطاء البشرية المأجور عليها أصحابها أجرا واحدا، وإنما أتحدث عن حالة الانهزام أو الضعف التي تصيب البعض فتضعف قدراتهم الفكرية، فلا يصدعون بقناعاتهم ويعجزون عن البوح بها، بل والأدهى أن يبوحوا بخلافها.
من الناحية الواقعية نجد نماذج محزنة في تاريخنا كانت تحمل أفكارا معاكسة لقناعاتها سيرا مع الأفكار السائدة أو المفروضة:
الأول: أبو طالب:«لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك»
هذا أبو طالب عم النبي ﷺ الذي دافع عنه وعن رسالته ضد أعدائه ولم يقدروا على الوصول إليه إلا بعد وفاته، وقال للنبي ﷺ في قصته المشهورة: افعل ما بدا لك، والله لا أسلمك ما حييت. وكانت محاولات النبي ﷺ كبيرة في ثنيه عن خط القوم، وكان لا يفتر يدعوه إلى الالتحاق بركب أهل الإيمان، ولكنه رغم عظيم قربه من أن يسلم لرب العالمين قد منعته «لولا» الآثمة، فقدم خوف الناس على خوف الله، وعندما قال له ﷺ وهو في نزعه الأخير: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فرد عليه وهو يعلم أن ابن أخيه على الحق: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بها عينك.
وفي كتب السيرة: فيقال له: ألا تومن؟ قال: السبة والعار»49 أي أخشى السبة والعار.
وعندما حضرت الوفاة أبا طالب عم الرسول ﷺ اجتمع عنده زعماء المشركين وحرضوه على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في دين الإسلام قائلين له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ كان الرجل مشركا منعه من الدخول في الإسلام خوفه من الناس أن يقولوا فيه ويقولوا. ولقد دافع الرجل بشرف عن الرسول ﷺ، ولكن شجاعته توقفت عند الناس وخوفه منهم أن يقولوا ويقولوا، ولما عرض عليه الرسول ﷺ الإسلام وهو يحتضر قائلا له: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة. قال أبو طالب: لولا أن تعيرني بها قريش ويقولون إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك50.
إنه الخوف من الناس، وتقديمه على الخوف من الله عز وجل، إنها كلمة: لولا، التي هي من عمل الشيطان، إنها لولا الآثمة: لولا أن يقول الناس، لولا أن يغضب الناس، لولا أن يخاصمني الناس، لولا أن يقلق الناس. مالك وللناس أيها المسكين، فإنهم لن يدخلوك نارا، أو ينجوك منها، ولن يدخلوك جنة أو يخرجوك منها.
والمهم أن نفهم ما الذي فعله الحشد الجماهيري بتفكير الرجل. وهو تفكير سديد سليم، نكص عنه إرضاء أو خوفا من الجمهور، حتى قال: لولا أن تعيرني قريش.
الثاني: كعب بن أسد القرظي:«لولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك»
وفي السيرة النبوية أيضا غيره من الخائفين من الناس، فهذا كعب بن أسد القرظي اليهودي الذي غدر مع قومه بني قريظة بالنبي ﷺ وحزبوا الأحزاب على الإسلام ودينه، ولما انتصر النبي ﷺ وأسرهم كان كعب بن أسد من الذين أسروا. وقد جرى حوار بينه وبين رسول الله ﷺ، تقول كتب السيرة النبوية:
قال رسول الله: كعب بن أسد؟
قال كعب بن أسد: نعم يا أبا القاسم.
قال رسول الله ﷺ: ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقا بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟
قال كعب: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين يهود.
فأمر الرسول الله ﷺ بضرب عنقه فضربت51.
هكذا رضي كعب بن أسد بهذه النهاية الحزينة، خوفا من الناس ولهذا قال: لولا أن تعيرني يهود. فهذا أبو طالب يقول: لولا أن تعيرني قريش. وهذا كعب بن أسد اليهودي يقول: لولا أن تعيرني يهود. وكلاهما اختار رضا الناس والخوف منهم على رضا الله تعالى والخوف منه.
ومرة أخرى نجد أثر الحشد الجماهيري على تفكير كثير من الناس، فإذا كان أبو طالب قد استسلم لجماهير قريش ضدا عن قناعاته وأفكاره، فإن كعب بن أسد القرضي قد استسلم هو أيضا لجمهور اليهود العاملين بخلاف تفكيره، حتى قال هو أيضا: ولولا أن تعيرني يهود..لاتبعتك.
الثالث: أبو البَخْتَريّ: لا تتحدث عني نساء مكة
ومنهم في العصر الجاهلي أولئك الفضلاء من أمثال المطعم بن عدي وأبي البختري وغيرهما. ففي مشهد محزن قلق، يوصي فيه ﷺ في غزوة بدر الكبرى بعدم التعرض لأبي البختري بسوء، ووجوب تجنبه وإبقائه على قيد الحياة. وكان من أقدار الله تعالى أن يقتل. وأن يكون إصراره على عدم البقاء في الحياة حتى لا تقول نساء مكة عنه... فتورط في النار خوفا من مقالة الناس.
ذكر ابن إسحاق خبر نهي النبي ﷺ عن قتل عدد من المشركين منهم أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد ثم قال: وإنما نهى رسول الله ﷺ عن قتل أبي البَخْتَريّ لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله ﷺ وهو بمكة، وكان لايؤذيه، ولايبلُغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريشُ على بني هاشم وبني المطلب. فلقيه المُجذَّر بن ذياد البلَوي، حليف الأنصار، ثم من بني سالم بن عوف، فقال المجذَّر لأبي البختريّ، إن رسول الله ﷺ قد نهانا عن قتلك ـ ومع أبي البختري زميل له، قد خرج معه من مكة، وهو جُنادة ابن مُلَيْحة بنت زُهير بن الحارث بن أسد، وجُنادة رجلٌ من بني ليث. واسمُ أبي البختري العاص ـ قال: وزميلي؟ فقال له المُجذّر: لا والله، مانحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله ﷺ إلا بك وحدك، فقال: لا والله، إذن لأموتَن أنا وهو جميعًا، لا تتحدَّث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرْصًا على الحياة»52.
لقد رضي الرجل بتلكم النهاية التي حكتها كتب السيرة النبوية، وأكدت أنه كان فاضلا، لم يكن يفكر مثل قومه، وعلى النقيض منهم تماما في أكثر من لوحة من لوحات النبل. غير أن تفكيره لم ينتفع به، بسبب عدم تخلصه من فكر الجماعة وسلطانها وسطوتها، فلم يتحرر قراره من ضغط الحشد، وهو المقصد القرآني من التفكير.
فهؤلاء بعض من قدم الخوف من الناس على أمر الله ومراده، فكانت النهاية الأليمة الأبدية، مع أن ما يحملونه من أفكار هي في الجهة المقابلة لما عليه القوم، ومع ذلك يقع منهم الصد لأفكارهم وفكرهم وتفكيرهم، مقدمين أفكار الآخرين التي لا يؤمنون بها.
ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء ونختم القول فيهم بالذين قال فيهم الله تعالى: ﴿فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾[الأنعام: 33]، وقوله عز من قائل:﴿وَجَحَدُوا بِهَا واستيقنتها أنفسهم ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[النمل: 14].
المقصد الثالث: التخلص من التفكير من خلال مراد القوم
وهذا المقصد القرآني شبيه بالسابق، فهناك صنف من البشر توقف التفكير عندهم، وتخلصوا من معاناته المضنية بتركه. وإلى جانبهم أناس آخرون لا يوقفون التفكير، ولكن عطب تفكيرهم أنهم يفكرون من خلال مراد القوم. تجدهم يجتهدون في التفكير لإرضاء القوم من خلال ما يريدون هم.
والفرق بين النوعين: أن المقصد السابق حديث عن تراجع التفكير أمام سطوة الجماعة. وهذا المقصد حديث عن المسارعة إلى التفكير من خلال ما يريده القوم. وللأسف الشديد أصبحت نماذجه اليوم لا تخفى عند المتدينين وغير المتدينين، ممن لديهم الاستعداد أن يكونوا لسانا لكل من يحكم أو يرفدهم وينفحهم، يسارعون إلى التفكير له، وإرضائه بما يفكر فيه ويريده.
إن عملية تفكير كثير من أهل التفكير من علماء وغيرهم أن ميزان التفكير عندهم وريشته تلتمس ما يريده القوم، ثم تنطلق ساعتها في التفكير له وتبريره وإسعاده، حتى ولو كانت تعلم أن ما فكر فيه، واجتهدت في الوصول إليه إنما هو تحريف وخيانة للفكر.
هاهنا تأتي الآية القرآنية، لتحذر من هذا المقصد السيء. والذي حذرت منه من خلال قوله تعالى:﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾[المدثر: 18 إلى30].
ويشهد له سبب نزول الآية: «عن عكرِمة أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي ﷺ فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أي عمّ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبَله، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا. قال: فقل فيه قولا يعلم قومك أنَّك مُنكر لما قال، وأنك كاره له؛ قال: فما أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى، قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه؛ فلما فكَّر قال: هذا سحر يأثره عن غيره، فنزلت:﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا﴾»53.
وقد تناول هذه الظاهرة أيضا مفكرا فيها وباحثا عن وجهة الحقيقة منها، كلّ من: العلامة علال الفاسي، وروجي غارودي، وعالم عراقي54. تناول بتفكير عميق هذه الظاهرة التي تسلب تفكير الناس ليتقمصوا في كل حال تفكير من يردون إرضاءه أفرادا أو هيئات، العلامة المفكر علال الفاسي في كتابه: بديل البديل55. وحيث تناول ظاهرة الجماعات المشتركة في الهم وما تفعله مع الأيام بأبنائها.
المقصد الرابع: مقصد الإعمار
من مقاصد التفكير في القرآن الكريم، مقصد الإعمار. دل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الرعد: 3].
وليس بخاف أن ما وصلت إليه البشرية من إبداع في مجال العمران تشييدا، وتقليبا للأرض، وانتفاعا بتعاقب الليل والنهار، إنما هو ثمرة من ثمرات المفكرين
من أبنائها.
فاستخراج كنوز الأرض، مضاعفةً للفائدة والعائد، والاستفادة من مظاهر الكون (الليل والنهار)، لا يكون إلا بإعمال الفكر والتفكر.
وبه، نقول: إن من مقاصد التفكير في القرآن الكريم، الإعمار، لتجنب الخراب والدمار.
المقصد الخامس: مقصد دفع الباطل
وسيرا على نهج التتبع لآيات التفكير القرآنية، استخراجا أو استنباطا لمقصودها، نجد أن من المقاصد القرآنية للتفكير: مقصد دفع الباطل وعدم الوقوع في أحابيله، حتى يرى بعد ذلك الحق باطلا والباطل حقا، والمعروف منكرا والمنكر معروفا... فتتغير حقائق الأشياء في فهمه واعتقاده. ونكون ساعتها أمام مرض ماحق، وهو تبلد الأحاسيس وانتكاس الفطرة والجوارح، على حد قول البوصيري:
قد تنكر الْعين ضوء الشَّمْس من رمد وينكر الْفَم طعم المَاء من سقم
وهي الحالة التي عبر عنها الحديث النبوي الشريف: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ»56.
وإن مما يصطاده الباطل من ضحاياه، من يَدَعون التفكير والتفكر فيما يجري أمامهم، أو يعترض طريقهم. فيكونون ساعتئذ ضحية افتراس الباطل لهم.
والباطل ضد الحق ونقيضه.
ويشهد لهذا المقصد القرآني قوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[آل عمران: 191].
إنه التفكير والتفكر الذي يجنب الباطل.
المقصد السادس: مقصد تجنب الإضاعة والضياع
وها هنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام آية قرآنية تختم بالتفكر والتفكير، وأن المقصد هو تجنب الضياع والإضاعة.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[يونس: 24].
فكل من أهدر التفكر حري به ساعتها أن يضيع في ماله الذي هو كلية من كليات الشريعة، بل وجميع ما أضاع فيه عمره أو بعض عمره، أو أضاع ما استهلك فيه الآباء الجهود لتشييده. ولذلك قال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ﴾، فقد تم حصدها وإهلاكها. وهذه المهلكة مقصد يجب إعمال التفكير فيه، حتى لا نقع فيها أو نكرر التجارب الفاشلة، ولربما القاتلة: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
المقصد السابع: مقصد البحث عن المصالح جلبا، والمفاسد دفعا
ومن مقاصد التفكر أن تكون هذه العملية هادية إلى المصالح واستكمالها وتكثيرها، فينطلق المكلف في الاحتيال لها جلبا. وإلى المفاسد بدفعها أو التقليل منها. ويشهد لهذا قوله تعالى في سياق حديثه عن بعض المحرمات (الخمر والميسر)، وعن المندوبات (الإنفاق): ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾[البقرة: 219-220].
وها هنا نجد علماء المقاصد يستدلون بهذه الآية في باب عدم تمحض المصالح والمفاسد، وأن الاختيار السديد الذي دلت عليه الآية هو جلب ما غلبت مصالحه، ودفع ما قلت مفاسده وإهدار اعتباره.
وهذا الامتزاج بين المصالح والمفاسد من حيث ما يجب ملاحظته في الحياة والتشريع والأحوال والأقوال، مقصد من مقاصد القرآن الكريم، قد ختمت به الآية بأنه يجب أن يكون موضوعا للتفكر، فإنه بين واضح، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾.
المقصد الثامن: مقصد مراعاة مراتب الأعمال
ويستفاد من الآية السابقة، حين أمر عز وجل بالتفكر في مصالح الدارين، وأن تكون مصلحة الآخرة مقدمة على أي مصلحة لما بينهما من التفاوت. فقال تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾.
وقد جاء عن مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [البقرة: 220]: فَتَعْرِفُونَ فَضْلَ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا»57. وقال ابن جرير الطبري: «وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى»58.
الخاتمة
إنني وأنا أتوقف عند هذا القدر، وأختم هذا البحث، أجدني غير مقدم نفعا إن أنا لخصت أهم أفكاره. فقد تبينت من خلال قراءته مقصدي من مقصد التفكير. غير أن خلاصة ما اقتنعت به أن مقاصد التفكير في القرآن الكريم لا تزال بحاجة إلى تتبعها، وذلك من خلال الآيات التي تتناول التفكير كموضوع من غير وجود أحد مشتقات الجذع المشتر: (ف ـ ك ـ ر)، من مثل القصص القرآنية التي تعرضت لهذا الموضوع. كقصص إبراهيم S، والتي منها، قوله تعالى:
- ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[البقرة: 260].
- ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[الأنعام: 75-79].
ولقد كانت الحلول للمشاكل التي أرقت أهل التفكير إنما تأتي بعد إدمانهم التفكير مددا طويلة فيما ينزل بهم أو بجماعتهم أو بالإنسانية، ويكون من ثمار ذلك ما يفتح به الله تعالى من فتحه الأغلاق التي لا تفتح إلا بهذا المقصد القرآني العظيم، فتتكشف الحقيقة سافرة نقية.
وإن التفكير حتى في مسائل العقيدة التي أظهر بعض الصحابة تحوبا منها، قد دفع عنهم نبي الاسلام ذلكم الحرج، وأكد لهم أن ما يجول بعقولهم، وما تنتابهم من أفكار هي من صريح الإيمان. فعنْ أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا شَيْئًا مَا نحب أَن نتكلم بِهِ، وَإِنَّ لَنَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قد وَجَدْتُمْ ذَلِكَ. قَالُوا: نَعَم. قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الإيمَان»59.
* *
فهذا ما عن لي في خاتمة هذا البحث من المقاصد القرآنية للتفكير، أو من مقاصد مقصد التفكير في القرآن الكريم. اجتهدت أن أحوم حول الآيات التي جعلتها نصب عيني، أقلب نظري، وأسرح فيها بفكري وتفكيري. وما عساه أكون قد ذهلت عنه، فبصر المطالع حديد في إتمامه وتجويده.
المصادر والمراجع
ــ إحياء علوم الدين:أبو حامد الغزالي،دار المعرفة، بيروت.
ــ أصول النظام الاجتماعي في الإسلام:الشيخ محمد الطاهر بن عاشور،الشركة التونسية للتوزيع ـ تونس، بدون طبعة وتاريخ.
ــ التحرير والتنوير (تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد):الشيخ محمد الطاهر بن عاشور،الدار التونسية للنشر، تونس، 1984ھ.
ــ التفكير فريضة إسلامية:عباس محمود العقاد،دار نهضة مصر، يناير 2014.
ــ فصول في التفكير الموضوعي:عبد الكريم بكار،دار القلم، دمشق، الطبعة السابعة، 1434ھ/2013م.
ــ الفوائد:ابن قيم الجوزية،دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1393ھ/1973م.
ــ مقاصد المقاصد:الريسوني،الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2013م.
ــ مقصد إصلاح التفكير الانساني في القرآن الكريم:د. محمد عوام،منشورات مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، الطبعة الأولى، 1437ھ/2016م.
ــ الوحي المحمدي:رشيد رضا،دار المنار، مصر، الطبعة الخامسة، 1367ھ/1948م.
تعقيب على دراسة للدكتور أحمد كافي
«المقاصد الفكرية للقرآن الكريم»
إبراهيم بورشاشن60
«والقرآن كله إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار، وتنبيه على طرق النظر»؛ إنها الكلمة الباقية التي تركها الفقيه الفيلسوف ابن رشد في الدّارسين منذ أكثر من ثمانية قرون في كتابه «مناهج الأدلة»61 في معرض رده على طرق الصوفية، مبرزا أن المسألة الفكرية في الكتاب العزيز هي مسألة جوهرية، ومقصِد أساس من مقاصد القرآن الكريم، وهو الفيلسوف الذي كان للقرآن الكريم أثر قوي في بناء نسقه الفلسفي. فقد كان الرجل بصيرا بوضع الشريعة لتفطّنه المبكر لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي62، كما يدل على ذلك: «بداية المجتهد» و«مناهج الأدلة».
حقا، لقد أتى على المسلمين حين من الدهر جعلوا المسألة الفكرية من قبيل الأعْراض، فذَبُل عندهم الفكر، وهم يتلون كتاب آيات الله آناء الليل وأطراف النهار. والكتاب يدعوهم إلى التفكر والتذكر والنظر والاعتبار، ولكن الجوّ العلمي العام الذي كان يحيط بهم ما كان ليدلّهم على طرق هذا النظر إلا آحادا من أهل الفكر ينشأون هنا وهناك، ولا يستطيعون، في النّظام الفكري السائد، تغييرا ولا تبديلا .
وبعد أن أذن الله تعالى للمسلمين بنهضتهم ويقظتهم، وأحسوا بالفارق بين حضارتهم وحضارة غيرهم، وأدركوا أن قد كانت لهم يد عتيقة فيما يجري في عالمهم، وعلموا أن الروح التي نفخت فيهم الحياة الأولى هي القرآن الكريم63، إذ انبثقت عن الإسلام «حضارة عظمى ناتجة عن تأكيد القرآن على دور العقل، والحض على الفكر المستقل»64، وأنّها الروح التي ما إن تَنْبَت حتى يدرك الجسمُ الموات. كانت لهم مع الكتاب العزيز جولات جديدة؛ من أبرزها: الجولة الفكرية التي هي أهم الجولات65.
ومن جديد هذه الجولات: الجولة المقاصدية التي انبرى لها العلماء والمفكرون، من أجل إبراز منزلة العقل والتفكير في القرآن الكريم، والغايات والأسرار والمعاني التي توخّاها الشّارع الحكيم من كثرة الدعاء إلى النظر والاعتبار. وتدخل الدراسة القيّمة للدكتور أحمد كافي والموسومة بـ «المقاصد الفكرية في القرآن الكريم»، في زمرة هذه الدّراسات التي تُغني هذا المبحث المقاصدي الطّريف من مباحث القرآن الكريم.
وسنحاول أن نقف عند هذه الدراسة للدكتور أحمد كافي، ملتزمين مقاصد القراءة الثلاث ما وسعنا ذلك66، من خلال الجُمَل التالية:
ـ جملة أولى، نفردها لعرض تصوّره للموضوع.
ـ جملة ثانية، نفردها لعرض منهجية الموضوع، مع الوقوف عند العناصر القوية في الموضوع.
ـ وجملة ثالثة، نفردها لبعض الملاحظات النقدية المعرفية والمنهجية التي نروم من ورائها إغناء النّظر في الموضوع.
ــ لنختم ببعض الاقتراحات التي نزعم أنها قد تسهم في إثراء هذا الموضوع.
ــ 1 ــ
اختار الأستاذ كافي، حصرا لموضوعه، أن يَقْصِر دراسته على تتبع الآيات القرآنية التي نصّت مباشرة على موضوع التفكير، للتأكيد على أن التفكير مقصد قرآني. وقد قسم دراسته إلى محورين كبيرين:
ــ محور أفرده لتقصي بعض الجهود السابقة في المصطلح والمضمون.
ــ ومحور خصّه لجوهر بحثه: «المقاصد الفكرية للقرآن الكريم» من خلال القراءة في الآيات الثمانية عشرة التي جاء فيها لفظ «التّفكّر» صريحا، ثم الوقوف عند المقاصد الفكرية، ليختم بحثه بخلاصة سريعة ولائحة للمصادر والمراجع.
ولكي يلج موضوعه من أنسب طريق، عرض الباحث، سريعا، لأنواع التفكير التي يتسع لها الفضاء الثقافي الإسلامي، مطالبا بهيمنة ما أسماه بـ «الفكر القرآني» على جميع ميادين الفكر، لأنه الحاكم على الفكر والتفكير. ومن هنا، ضرورةُ اهتمام الأعمال الفكرية جميعِها بمقاصد الفكر القرآني، والاشتغال على ضوئها وفي إطارها، حتى لا تتعارض نتائجها وثمرتها معه، فَتُعرّض ذاتها للهدم.
وبعدما وقف الباحث عند مفهوم التفكير في المعاجم، وكتب الفكر الإسلامي وبخاصة «إحياء» أبي حامد، الذي أكثر من الإحالة عليه في بحثه، ووقف وقوفا مستفيضا عند تحنث النبي ﷺ في غار حراء، بحثا في المفهوم وتأصيلا له، وقف الباحث عند جملة من جِلّة علماء الأمة ممن سبق لهم الحديث عن التّفكير مقصدا قرآنيا؛ فاختار الوقوف عند رشيد رضا، وعباس محمود العقاد، والطاهر بن عاشور، وأحمد الرّيسوني، ومحمد عوام، طلبا لاستئناف القول في هذا الموضوع.
وقف الباحث عند كل آية من هذه الآيات الثمانية عشرة، مستخلصا من كل آية بعض الخلاصات المعرفية، ليبرز منها كيف يكون التّفكير مقصدا للقرآن الكريم وأن من هذا المقصد مقاصد.
ومجمل ما انتهى إليه من الآيات، أن التفكير آية من آيات الله، وأنه يبدأ حالة مفردة، وينتهي جماعيا، وأن الفعل المشترك بين الآيات، يفيد الاستمرار والديمومة، وأن التكرار لموضوع التفكير هو للفت الانتباه إلى خصوبته، وأن التفكير هو البداية في الدين، وأن التّركيز عليه هو من مقاصد بحثه. لكن ما هي المقاصد الفكرية؟
يؤكد الأستاذ الباحث أن هناك مقصِدين من إنزال القرآن الكريم: مقصد التبيّن، ومقصد التفكير، ثم يقف عند مقاصد التفكير القرآنية فيجعلها:
ــ مقصد البيان.
ــ مقصد التخلص من فكر الجماعة.
ـ مقصد التخلص من التفكير من خلال مراد القوم.
ـ مقصد الإعمار.
ــ مقصد دفع الباطل.
ــ مقصد تجنب الإضاعة والضياع.
ــ مقصد البحث عن المصالح ودرء المفاسد.
ــ مقصد مراعاة مراتب الأعمال.
ثم أنهى بحثه بدعوته إلى تعميق البحث في مقاصد التفكير في القرآن الكريم. فالموضوع في نظره بحاجة إلى تتبع ومتابعة.
ــ 2 ــ
لم يصرح الأستاذ الباحث بالمنهج الذي اتبعه في دراسته، إلا أنه انطلاقا من دراستنا للورقة تبيّن أن المنهج الذي اتبعه الكاتب يقوم على المزاوجة بين المنهجين الاستنباطي والاستقرائي؛ أي: إنه انتقل في بحثه من العام إلى الخاص، فبدأ بحديث عام عن الفكر، ثم حديث عن جهود السّابقين، ثم انتقل بعد ذلك إلى استقراء لفظ «التفكر» في الآيات الكريمة، لينتهي إلى موضوعه الخاص، وهو منهج ملائم لطبيعة الموضوع. وقد مكّنه هذا المنهج من الخُلوص التّدريجي إلى موضوعه الأساس بسلاسة ويسر.
ــ 3 ــ
لقد عشت لحظات معرفية نفيسة، مع موضوع الأستاذ الدكتور أحمد كافي الذي يحقق تراكما محمودا في هذا الموضوع المفتقر إلى مزيد متابعة، كما صرّح بذلك في آخر بحثه.
ولا تخفى على أحد، الجدّة التي تناول بها موضوعه، خاصة وقوفُه عند آيات التفكر، وذلك حتى لا تتيه به السّبل في هذا الموضوع الشّاسع، وهو منهج من مناهج البحث العلمي المُسمَّى بـ «المنهج المونوغرافي»، حيث يترك المجال مفتوحا لأبحاث مشابهة للبلوغ بالموضوع إلى كمالاته الممكنة، بل إن الأستاذ كافي نفسَه، قد نصّ على جدّة موضوعه، بعد أن عرض لبعض الدّراسات السّابقة في هذا المجال. فقد صرّح أن موضوع بحثه هو: «المقاصد المرتجاة من مقاصد التفكير في القرآن الكريم»، فلم يعد البحث يقتصر على مقاصد التفكير أو «المقاصد الفكرية» بتعبيره، بل على مقاصد المقاصد. وهذا تحد كبير، رفعه الباحث أمامه، لكن صعُب عليه الوفاءُ به لعدم التّنصيص عليه وإبرازه واضحا في دراسته.
لكن الدّراسة على العموم، تقدم مساهمة جدية، في مسار البحث المقاصدي في موضوع التفكير، وتراكما قويا فيه.
ـ 4 ـ
إن الغرض من الملاحظات التي عنّت لي في هذا البحث، المساهمةُ في تحقيق هذا الغرض، وإدراك هذا المقصد.
أولا: بدا لي العنوان الذي اختاره الباحث لدراسته، موضوعا عاما، يكتنفه لبس وغموض؛ فقد اختار مركبا إضافيا «المقاصد الفكرية». حقا، لقد تحدث عن مصطلح «المقاصد»، لكن عزّ عليّ، الوقوف عما يقصده بـ «الفكرية» في بحثه. لذا، لو أن الباحث، اختار لبحثه عنوان: «مقصد التفكر في القرآن الكريم»، لكان الأمر، في نظري، أكثر بيانا ووضوحا.
ثانيا: وهذا يقود إلى الملاحظة الثانية، وهي: أن الدراسات التي راجعتها في الموضوع، وجدتها تتحدث عن «التفكير» وليس عن «التفكر»67. وأعتقد، أنه انسجاما مع طبيعة المصطلح القرآني، يجب الحديث عن مقصد التّفكّر في القرآن الكريم68، وليس عن مقصد التفكير؛ فما كان الله تعالى بمعجِزٍ أن يختم آيات التفكر بقوله: «لعلهم يفكرون»، بل إننا وجدنا، كما لاحظ ذلك الباحث، أن عبارة «فكّر» جاءت بصيغة الماضي مرة واحدة، وفي معرض الذم. ولذلك دِلالةٌ كان ينبغي الالتفاتُ إليها، والتنبيه عليها، والعمل بنتائجها. من هنا، أرى أن الموضوع الذي ينبغي أن يُكْتب مستقبلا هو: «مقصد التّفكّر في القرآن الكريم»، مراعاةً لإعمال المصطلح القرآني، ومحافظةً على صيغة القرآن، مع بيان الطرق التي تسلك لاكتشاف «مقصد التفكر»، وخصائص هذا المقصد، ومظاهره وتجلياته، ومستوياته للتساؤل عن حدوده، ونتائج هذا المقصد وثمراته69.
ثالثا: لاحظت في هذه الدراسة القيّمة، بعضا من نشاز منهجي، وبعضا مما يمكن أن أسميه بـ «الشرود الفكري»؛
ــ فقد لاحظت هذا النّشاز:
أ- في التّعميم الذي يغلِب أحيانا على الباحث، ففي الصفحة 364، ذهب إلى القول إن كثيرا من أهل العلم، ذهبوا مع الجمهور لأغراض دنيوية. وهذا تعميم جارف، لأننا وجدنا كثيرا من فضلاء أهل العلم، لا يفتون باجتهاداتهم، وإنما يفتون بالمشهور، حسماً للخلاف، ورأفة بالجمهور، لا خوفا منه ولا من غيره.
ب- في ترتيب مباحث الدراسة، نجد الباحث، في الوقت الذي أطال الحديث عن مقصدي البيان والتخلص من فكر الجماعة، وأحيانا بضرب من التعميم، نجده يوجز في الحديث عن مقاصد أخرى: «مقصد الإعمار» و«مقصد دفع الباطل» و«مقصد تجنب الإضاعة والضياع»، فضلا عن أن المقصدين الثاني والثّالث يمكن أن يجمعا تحت مقصِد واحد، وهو «مقصد الحرية».
وقد لاحظت هذا الشرود:
أ- في الخروج أحيانا عن القرآن الكريم، فيما أساسه أن يؤخذ منه. فالنماذج التي استدل بها الباحث عن إفساد الجماعة للفكر موجودة في القرآن الكريم، وتغني عن غيرها. ومثال على ذلك، يقول تعالى: ﴿وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا﴾[القصص/57] وقوله تعالى ﴿وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين﴾ [العنكبوت: 38]، وآيات غيرُها في القرآن الكريم من صميم هذا الموضوع، تدل على أن مقصد القرآن من التفكر، هو الاستبصار الذي قد يصل بالكافر إلى أن يتضح له الحق، ويرى الهدى، ولكن تحول دونه والخضوع للحق واتباع الهدى أحابيل كثيرة منها: الهوى ومنطق الإمّعية، إذا جاز هذا التعبير70.
ــ شرود منهجي ظهر في المقدمة التي بدأ بها الباحث دراسته، ولا أجد لها معنى في موضع يقتضي التحضيرَ فيه للموضوع المدروس، من خلال بيان سياقه، وطرح الأسئلة التي سينفتح لها البحث بالدرس والتحليل. فالحديث عن احتقار التفكير أو المغالاة فيه، مع ما في كلمة المغالاة في التفكير من لبس وغموض، والحديث عن مصيبة الكفر، وعبادة الأوثان، واتباع الزعماء، في مستهل الورقة دون تأطير الحديث وبيان سياقه الإشكالي والمفهومي فيه تشويش كبير على الورقة البحثية وشرود منهجي كبير.
ــ 5 ــ
ــ رؤية لتطوير النظر في الموضوع
إن التفكر مفهوم معرفي ذو منزلة معتبرة في الخطاب المعرفي والأخلاقي القرآني، ويرتبط بوشائج عميقة مع مفاهيم أخرى قريبة منه، من مثل: مفهوم التذكر، ومفهوم الاعتبار71، ومفهوم النظر، وغيرها من المفاهيم المعرفية القرآنية72 التي تؤم بالقصد الأول، لفت الانتباه إلى أدوات المعرفة عموما، وللعمل العقلي على الخصوص، في بيئة إما أنّها تُخَسّس النظر العقلي، أو تعتبر كتاب المسلمين قاصرا في مضمار النظر والتفكير.
وأعتقد أن الوقوف عند الشبكة المفاهيمية، من تذكر وتفكر وتدبر واعتبار73، أو الحقل الدلالي الواسع لمفهوم التفكر بمناهجه المختلفة74، لبنةٌ أساسية في بناء صرح «مقصد التفكر» بناء متكاملا.
إن القرآن ينظر إلى الإنسان وحدة متكاملة فيخاطب فيه الملكات العقلية والوجدانية، ويدعوه إلى اليقظة المعرفية، والوجدانية، ليتفاعل مع ذاته ومع غيره ومع الكون أجمع، ليس تفاعل انفعال عابر بل تفاعل نظر وتفكر واستبصار. ومن هنا تظهر الأبعاد العملية ـ الأخلاقية لمقصد التفكر في القرآن الكريم والتي ينبغي تفصيلُ القول فيها؛ إذ ليس التفكر من أجل التفكر وحده، وإن كان هذا ليس مستبعدا جدا، لكن يبدو من الخطاب القرآني أن مقصد التفكر يرمي إلى المقصد الأول من وجود الإنسان على ظهر الأرض، وهو إدراك الحق75 والخضوع له، وهو ما يترجمه مقصد «العبوديةّ»؛ أي: عبوديةٌ لله قائمة على أساس من دليل وبرهان. فالعبودية إذن، هي القصد الأخير من تضافر هذه الشبكة من المفاهيم التي تحث على النظر والاعتبار والتذكر والتدبر، حيث يصل بها المرء إلى الاستبصار، ولكنه لا يخلص بها إلى العبودية، كما حصل لكثير من الكفار الذين أدّاهم التفكر إلى معرفة الهدى، ولكن حال بينهم وبين العبودية اتباعُ الهوى أو الخوف من الملإ والعوام. إن القرآن الكريم يستخدم الاستدلال بمعناه المنطقي الذي يعني «استنتاج قضية من قضية أو عدة قضايا أخرى» ويستخدم الحجاج الذي هو أوسع من الاستدلال بتوظيفه جملة من التقنيات البيانية الباعثة على الإذعان، وينطلق في الأساس من مبدأ الحرية ويقوم على الحوار76: ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾[يونس: 99]77، ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن﴾ [النحل/125].
إن هذه الروح السارية في القرآن الكريم تجعل من مقصد التفكر مقصدا مركزيا، ومن الإسلام رسالة عقلية. وقد استخلص بعض متكلّمي ملتنا أن جعلوا أول الواجبات النظر، واعتبروا التّقليد مبطلا العقيدة، وإن كانوا محجوجين بالنّصوص في هذا المذهب. فمن رحمة الله، أن جعل التفكر بمختلف تلويناته ومراتبه، سبيلا آمنا إلى معرفة الله تعالى، ولم يشترط فيه تعقيدات المتكلمين. فالغاية صلاح الاعتقاد، والعقد الصحيح بتعبير ابن عاشور78. وهذا تسمح به بساطة المقدمات التي اشتهر بها الكتاب العزيز، وهو باب من قول يحتاج إلى تفصيل79.
إن القرآن يقصد بالتفكر إرجاع الناس إلى روحهم للإنصات إليها في وضع صامت بعيد عن ضجيج النفس والأغيار، كما أن لمقصد التفكر ارتباطات بمقاصد أخرى، مثل مقصد العمران ومقصد الرحمة، «لأن المقاصد يرتبط بعضها مع بعض، ويفضي بعضها إلى بعض في تكامل وانسجام»80. فالبحث التام في هذا الموضوع، يقتضي بيان هذه العلاقات التي لمقصد التفكر مع غيره من مقاصد القران الكريم. وهذا أيضا باب من البحث عريض.
لقد نوّع القرآن الكريم الحقل الدلالي لمفهوم التفكر مما جعله مقصدا أصيلا، لكن يخدم مقاصد أخرى كثيرة، يمكن اعتبارها مقاصد مقصد التفكر، أذكر منها: تحصين الذات الإسلامية من الغفلة والتّقليد، وتحفيزها إلى الاهتمام بمناهج الفكر، إذ لا تفكيرَ سليم دون منهج81، وذلك، لتكوين عقلية علمية، منتجة للمعارف، لما لهذا من أثر حميد على الفرد والجماعة. وقد أثمرت هذه العقلية عند المسلمين، جملة علوم، سواء أكانت علوما نقلية وضعية مثل: علم أصول الفقه والمقاصد وعلم العمران، أم علوما عقلية مثل: علم الحساب، وعلم التوقيت. كما أثمرت هذه العقلية إنتاجات كثيرة بانفتاحها على موروث الأمم السابقة على الأمة الإسلامية82.
لقد جلب مقصد التفكير للمسلمين مصالح كثيرة، ودرأ عنهم مفاسد كثيرة أيضا، ومنها النهي عن التعمق في الدين، والتفكر فيما ليس تحته عمل، بخاصة في أمور العقائد83، ومن هنا توجيه القران الكريم النّظر الى آيات الأنفس والآفاق المتجلية في خلق الإنسان والجمادات والحيوانات والنجوم من هذه المخلوقات المحسوسة المشار إليها، أما ما وراءها مما يدخل في عالم الغيب فيُدخل العقل في متاهات النقائض، ومن هنا حكمة القرآن في جعل حدود معينة للتفكر. كما أن الشارع الحكيم سكت عن أشياء رحمة بالمسلمين ونهاهم عن التفكير فيها حتى لا يضيقوا على أنفسهم واسعا. فلا بد من التّنصيص إذن على مستويات التفكر وحدود هذا المقصد في القرآن الكريم.
وأخيرا، فإن مقصد التفكر كما لاحظ ذلك د. كافي لا يزال في حاجة إلى مزيد فحص، وبيان، ولعله يصنع ذلك في دراسة مستقلة، فيمتع، ويفيد، بنَفَسه العلمي وقلمه السّيال.
المصادر والمراجع
ــ ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق مصطفى حنفي، نشرة مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1998م.
ــ الجويني، البرهان، تحقيق عبد العظيم الذيب، ج1، دار الوفاء، الطبعة الثالثة، 1992م.
ــ عبد العظيم إبراهيم المطعني، خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، الجزء الأول والثاني، مكتبة وهبة القاهرة الطبعة الأولى 1431ھ/1992.
ــ محمد فاروق الدين، تفهيم القرآن العظيم، المطبعة العلمية، دمشق الطبعة الأولى.
ــ البغدادي، أصول الدين، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1981م.
ــ حمّو النّقاري، روح التفلسف، إبداع؛ المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2017م.
ــ عبد الكريم حامدي، مقاصد القرآن من تشريع الأحكام، دار ابن حزم، الطبعة الأولى، 2008م.
ــ ابن قتيبة، كتاب تأويل مختلف الحديث، مطبعة كردستان العلمية، مصر، 1326ھ.
ــ الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المجلد الأول، دار الفكر، للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة، 1980م.
ــ أبو الطيب القنوجي، فتح البيان في مقاصد القرآن، إدارة إحياء التراث الاسلامي، قطر 1989م.
ــ القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، اعتنى بالكتاب عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، دار البشائر الإسلامية، الطبعة الرابعة، 2009م.
ــ محمد بن عبد الرحمن الراوي، كلمة الحق في القرآن الكريم، الجزء الأول، 1404ھ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ــ عبد الله صولة، الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 2007م.
ـ الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، دار سحنون للنشر والتوزيع، ج1، وج3.
ــ الألوسي، روح المعاني، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1408ھ/ 1987م.
ــ طاهري عبد القادر، مقصد الرحمة في القرآن الكريم، بحث غير منشور.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد القرآن الكريم (3): مجموعة بحوث، 2018، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 329 - 372. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |