إصلاح التفكير الإنساني بالعلم والقراءة

شارك:

محمّد عوّام

نبدأ بأول ما نزل من القرآن الكريم، إذ يظهر من إنعام النظر فيه، أنه أول إصلاح للتفكير الإنساني يؤكده القرآن المجيد، ففي ذلك حكم ومقاصد في غاية الأهمية، وله دلالات قوية، وإشارات بليغة، فأول ما نزل من كتاب الله العزيز قوله تعالى‏:‏ ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم‏.‏‏.‏‏.‏‏‏‏‏[‏‏العلق‏:‏ 5‏]‏.‏‏

وهي دعوة صريحة إلى القراءة والتعلم، تأتي في سياق التشريف والامتنان وتكريم الإنسان‏.‏ قال العز بن عبد السلام رحمه الله‏:‏ «وكذلك تمنن علينا سبحانه وتعالى بالعلوم في تعلم الخط في قوله‏:‏ ﴿علم الإنسان ما لم يعلم﴾ ‏‏‏‏[‏‏العلق‏:‏ 5‏]،‏ وقوله تعالى‏:‏ ﴿كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾ ‏‏‏‏[‏‏البقرة‏:‏ 239‏]،‏ ﴿ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾ ‏‏‏‏[‏‏البقرة‏:‏ 129]‏1.‏

وقال ابن كثير‏:‏ «مِن كرمه تعالى أن علّم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة»2‏.‏

لذلك كانت بداية آدم عليه السلام وانطلاقته الأولى بالتعليم، حيث علمه الله تعالى الأسماء كلّها، فقال عز وجل‏:‏ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثمَ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏‏‏‏[‏‏البقرة‏:‏ 31-33‏]،‏ فشرُف بذلك مقامه على الملائكة بالعلم الذي علمه الله إياه، ولم يحصل للملائكة منه شيء، فاستحق بذلك أن يكون خليفةً في الأرض، وإلى هذا جنح كثير من المفسرين3‏.‏

كما أن أول ما نزل من الوحي بدأ بطلب القراءة‏.‏ وهذا ما قد أمر الله تعالى به رسوله الكريم × وأمته من بعده في قوله تعالى‏:‏ ﴿إقرأ باسم ربك الذي خلق‏.‏‏.‏‏.‏‏‏‏‏[‏‏العلق‏:‏ 1‏]‏.‏‏

 من ثمة يبدو أن هناك وجها من وجوه المناسبة، أو ربطا منهجيا بين أولِّ ما لُقنه الإنسان وهو العلم والمعرفة «علّم»، وأولِّ ما نزل من الأمر بالقراءة «إقرأ»‏.‏ إذ مفاده إيماء وتنبيها أن أول أمر ينبغي البداءة به في إصلاح التفكير الإنساني هو غرس العلم والتعليم والقراءة في الأمة، إذ هما مصدرا بناء التفكير القويم والسديد، الذي يحتكم إلى المعايير العلمية والموازين المعرفية، والبراهين المنطقية والعقلية، ومنطلق البناء الحضاري والعمراني‏.‏ ولا ريب أن القراءة والتعليم بهما تُنمّى مدارك الإنسان، وتفتح آفاقه، ويسمو في العلياء رقيُّه ومجده، فيحقق بذلك مقصد العمران الذي هو أيضا من مقاصد الشريعة المطلوبة‏.‏

إذن لا جرم أن نعمة الوجود ابتداء اقترنت بالتعليم، وكان ذلك في بداية خلق آدم |، وفي هذا المقام، وأعني به أولَّ ما نزل من القرآن الكريم، ترتبط القراءة كذلك باسم منعم الوجود، وهو الله تعالى ﴿إقرأ باسم ربك الذي خلق﴾‏.‏ ولا ريب أن في هذا دلالة على أن إصلاح التفكير الإنساني، لا يمكن أن يحصل إلا بربط المعرفة بالوحي، وربط القراءة بمنعم الوجود، وواهب الحياة والنعم كلها، وهذا هو منطلق الإصلاح الحقيقي للتفكير الإنساني، وأن أي تجريد للقراءة عن هذا المنحى، يترتب عنه خلل في فهم كينونة الإنسان نفسه، والكون الذي يعيش فيه، ويفضي إلى انفصام العلاقة بين هذه القضايا‏.‏

وههنا يلوح لي أن المقصود من القراءة ليست تلك التي تقتصر على تفكيك الرموز الحرفية بعلاماتها، أو تلك التي تميز الكلمات عن بعضها، فلا مراء أن هذه بداية القراءة وليست قراءة -فيما يبدو لي- على الوجه الصحيح، وهذا النوع من القراءة ليس مطلوبا لذاته، ما لم يصحبه التدبر والتأمل، لتشغيل الفكر، وإثارة العقل، لإخراجه من حيز الجمود والركود إلى حيز الإثارة والانفعال‏.‏ لأجل ذلك جاء قوله تعالى بأسلوب التوبيخ والإنكار تقريعا وذما لكل من لم يتدبر القرآن، سواء كان من المشركين أم من غيرهم‏:‏ ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏.‏‏‏‏‏[‏‏محمد‏:‏ 24‏]،‏وقال تعالى‏:‏ ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ ‏‏‏‏[‏النساء‏:‏ 82‏]،‏ فالقراءة المتدبرة هي التي تنشئ القراءة المعرفية، وهي التي لها الأثر الكبير في إصلاح التفكير، ولا يقوم بها إلا أصحاب القلوب الواعية الكبيرة الشأن‏.‏ أما أصحاب القلوب الموصدة، والعقول المقفلة فغالبا ما يقفون عند قراءة الرموز الحرفية، أو حتى اللفظية إن سنحت لها الفرصة بالتطور، دون الغوص على المعاني والدلالات، والوقوف على المفاهيم والإشارات‏.‏

 فلا جرم إذن أن القراءة المطلوبة هي القراءة المعرفية المنهجية، المعتمدة أساسا على الوحي تدبرا وتأملا، حيث تهتدي بهديه، وتستنير بتوجيهاته، وتستضيء بإرشاداته وتوجيهاته‏.‏ وهذه هي التي تؤتي أكلها في إصلاح التفكير الإنساني، لكونها قراءة باسم رب الوجود الخالق المنعم الأول، المكرم‏.‏ ولزوم هذه القراءة واجب، يدل على اللزوم معنى الباء في قوله تعالى‏:‏ ﴿إقرأ باسم ربك الذي خلق‏.‏‏.‏ ومعناها لزوم القراءة باسم الرب تعالى، ويدخل في ذلك كل معاني وجلال الربوبية‏.4

القرآن يُرشد إلى وسائل اكتساب المعرفة

والقرآن الكريم لا يقف عند حد طلب القراءة، بالمعنى الذي سبق تناوله، وإنما امتن على الإنسان، بإرشاده إلى وسائل اكتساب المعرفة، وكيفية حفظها والعناية بها، ليتم تداولها، ونقلها جيلا بعد جيل، ومن عصر إلى عصر‏.‏

ويمكن أن نقسم هذه الوسائل إلى قسمين‏:‏

الأول‏:‏ الوسائل الذاتية، وأعني بها كونها متعلقة بذات الإنسان‏:‏ ذَكر منها القرآن‏:‏ حاسة السمع، واللسان، والبصر، والشم، والذوق واللمس، والقلب والفؤاد والعقل‏.‏ جاء بعضها في سياق الامتنان، وجاء بعضها في سياق الذم والتقريع، للكفار والمشركين على تعطيل حواسهم، وعدم الانتفاع بها، وتشغيلها بالكيفية المطلوبة والمرجوة لتحصيل ثمارها بطريقة صحيحة وسليمة‏.‏ ولما كانت معطلة ذكر اتصافهم بنقائضها، وهي‏:‏ الصمم، والبكم، والعمى، وانعدام العقل والفقه‏.‏ من ذلك ما جاء في هذه الآيات الكريمات‏:‏

 قال سبحانه وتعالى‏:‏ ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏.‏‏

وقال عز وجل‏:‏ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏النحل‏:‏ 78‏]‏.‏‏

 وقال سبحانه‏:‏ ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ‏.‏﴾ ‏‏‏‏[‏‏السجدة ‏:‏9‏]‏.‏‏

 وقال جل جلاله‏:‏ ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏.‏‏

 وقال عز وجل‏:‏ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ‏‏‏‏[‏‏الحج‏:‏ 46‏]‏.‏‏

 وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏البقرة‏:‏ 171‏]‏.‏‏

 وقال جل جلاله‏:‏ ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏الأحقاف‏:‏ 26] وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏البقرة:‏ 18‏]‏.‏‏

وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ﴿فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما﴾ ‏‏‏‏[‏‏الأعراف‏:‏ 22‏]‏.‏‏

 وقال عز وجل‏:‏ ﴿ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم﴾ ‏‏‏‏[‏‏الأنعام‏:‏ 7‏]‏.‏‏

 وقال تعالى على لسان نبيه يعقوب |‏:‏ ﴿إني لأجد ريح يوسف﴾ ‏‏‏‏[‏‏يوسف‏:‏ 94‏]‏.‏‏

 فهذه الآيات الكريمات ترشدنا إلى وسائل اكتساب المعرفة العلمية، وأن إصلاح هذه الوسائل يعد من صميم إصلاح التفكير الإنساني، والعكس بالعكس تماما‏.‏ غير أن القرآن الكريم يلفت نظرنا، وينبهنا إلى أهم هذه الوسائل وأنجعها في تحصيل المعرفة، وهي السمع والبصر، والفؤاد وكأن باقي الحواس تبع لها5‏.‏ لذلك جاء الامتنان بها أكثر‏.‏ قال سبحانه وتعالى‏:‏ ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏المؤمنون‏:‏ 78‏]‏.‏‏

وقال عز وجل‏:‏ ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏النحل‏:‏ 78‏]،‏ونحن لن نحيد عن جادة الصواب، إن قلنا إن هناك ارتباطا وعلاقة بين وسائل الإدراك والقراءة المعرفية، بل إن هذه الأخيرة لا تحصل إلا بسلامة الأولى6‏.‏

على أن الإنسان قد يسمع ويرى ويبصر ويتكلم، ولكن هذه الحواس، لا تؤدي وظائفها كما ينبغي، وعلى الوجه المطلوب، ولا تهتدي إلى السبيل القويم، والصراط المستقيم، وإنما هي تبع لأهواء صاحبها وأغراضه‏.‏ وإلى هذا المعنى أشار القرطبي في تفسيره، فقال بما نصه‏:‏ «وليس الغرض مما ذكرناه نفيَ الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيَها من جهة ما»7‏.‏ من ثم جاء وصفها بالصمم، وهو عند العرب يعني الانسداد، ومعناه انسداد خروق المسامع‏.‏ وبالبكم وهو عدم النطق والفهم من جراء آفة اللسان، والعمى ذهاب البصر، ﴿صم بكم عمي فهم لا يعقلون﴾‏.‏

ولما كانت هذه الحواس منحرفة عن تأدية وظائفها، بما اعتراها من الآفات والاختلالات، كانت كذلك غير موصولة بالعقل والإدراك الجيد، لأن المعيار الذي تستند إليه، والموازين التي تحتكم إليها كلها موازين معطلة، لا صلة لها بالعقل، من جراء ما ران أو يَرينُ عليها من الركام‏:‏ ركام التقليد والجهل، والارتكان والارتهان للواقع المنكوس، فيحدث بذلك انقلاب في المفاهيم والتصورات، تنتج عنه –حتما- اختلالات في الأحكام‏.‏ فهذه الحواس تابعة لمركز التعقل والإدراك فمنه تتلقى التعليمات والأحكام، بل هي معه تمثل تكاملا وانسجاما تاما، وبحسب قوة العقل أو ضعفه أو انعدامه، وهدايته أو ضلاله، تنشط هذه الحواس، وبحسب سلامتها تكون الأحكام أيضا سليمة‏.‏

من هنا وجدنا القرآن الكريم يربط بين وظيفة الحواس ووظيفة العقل، في كثير من آياته الكريمات من ذلك‏:‏

 قوله عز وجل‏:‏ ﴿أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون﴾ ‏‏‏‏[‏‏يونس‏:‏ 42‏]‏.‏‏

 وقوله عز وجل حاكيا قول الكفار في العذاب السعير‏:‏ ﴿لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾ ‏‏‏‏[‏‏الملك‏:‏10‏]‏.‏‏

 وقوله سبحانه‏:‏ ﴿أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون﴾ ‏‏‏‏[‏‏الفرقان‏:‏ 44‏]‏.‏‏

وقوله عز وجل‏:‏ ﴿وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون﴾ ‏‏‏‏[‏‏السجدة‏:‏ 9‏]‏.‏‏

 وقد مر معنا مجموعة من الآيات تصلح للاستشهاد بها في هذا المقام‏.‏

فلا جرم أنه إذا كان عقل الإنسان سليما، وكيفية تشغيله سليمة، استجابت الحواس، وعملت وفق ما يشير به العقل، بخلاف الحيوان فحواسه تعمل وفق غرائزه بطريقة تلقائية‏.‏ واليوم يكشف العلم أن الحواس تعمل وترسل إشاراتها أو ما تلتقطه وتحس به إلى الدماغ منطقة تعقل الأشياء، فآنذاك يعطي أحكامه‏.‏ ولكن القرآن الكريم يحكي أنها معطلة تماما عند صنف من الناس، الذين اختاروا أن يؤدوا وظيفتهم في الحياة مثل السائمة، بل هم أضل، حيث لم ينتفعوا بما ركز في خِلقتهم من حواس، فاستنكفوا عن مهيع العقل، الذي هو مركز قوة إدارة الحواس وتوجيهها نحو وظائفها الحقة اللاتي أنيطت بها‏.‏

 لأجل ذلك جاء البيان الإلهي، والتوجيه الرباني بأسلوب التوبيخ والإنكار في قوله تعالى‏:‏ ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏الأعراف‏:‏ 179]‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏الأنفال‏:‏ 20،22]‏.‏

وقال سبحانه وتعالى‏:‏ ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ‏‏‏‏[‏‏الحج‏:‏ 46]‏.‏

ولئن كان القرآن الكريم يربط بين الحواس والعقل في اكتساب المعرفة العلمية الصحيحة، فلا ينبغي أن يقف عند هذا الحد، وإنما يبين مسؤولية الإنسان عن حواسه، وأمانته على الحفاظ عليها، وخاصة السمع والبصر، توجيها، وإرشادا، وإعمالا حتى لا تصير عرضة للضياع بسبب سوء الاستعمال فيما لا ينفع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا﴾ ‏‏‏‏[‏‏الإسراء‏:‏ 36]‏.‏

قال أبو بكر الجصاص المفسر‏:‏ «فيه بيان أن لله علينا حقا في السمع والبصر والفؤاد، والمرء مسؤول عما يفعله بهذه الجوارح من الاستماع بما لا يحل، والنظر إلى ما لا يجوز، والإرادة لما يقبح»8‏.‏

وقال القرطبي‏:‏ «أَيْ يُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمَّا اكْتَسَبَ، فَالْفُؤَادُ يُسْأَلُ عَمَّا افْتَكَرَ فِيهِ وَاعْتَقَدَهُ، وَالسَّمْعُ والبصر عما رأى مِنْ ذَلِكَ وَسَمِعَ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْأَلُ الْإِنْسَانَ عَمَّا حَوَاهُ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَفُؤَادُهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ ﷺ‏:‏ «كلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»9‏.‏

ولأجل عظم هذه المسؤولية الجسيمة، ورد في الحديث النبوي الشريف مشروعية الدعاء بحفظ البدن عامة، وحفظ السمع والبصر خاصة‏.‏ فعَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِأَبِي‏:‏ يَا أَبَتِ أَسْمَعُكَ تَقُولُ كُلَّ غَدَاةٍ‏:‏ «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» تُكَرِّرُهَا ثَلَاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلَاثًا حِين تمسي فَقَالَ‏:‏ يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو بِهِنَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أستن بسننه‏10.‏»

قال صاحب «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفى‏:‏ 1014ھ)‏:‏ «خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ «السمع والبصر» لِأَنَّ الْبَصَرَ يُدْرِكُ آيَاتِ اللَّهِ الْمُثْبَتَةَ فِي الْآفَاقِ، وَالسَّمْعَ لِإِدْرَاكِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الرُّسُلِ، فَهُمَا جَامِعَانِ لِدَرْكِ الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَفِي تَقَدُّمِ السَّمْعِ إِيمَاءٌ إِلَى أَفْضَلِيَّتِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ ﷺ ‏:‏ «اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنَّا»11‏.‏

الثاني‏:‏ الوسائل الخارجية،ونقصد بها الوسائل التي تحفظ المعرفة المكتسبة عن طريق الكتابة والتدوين، وعلى رأس ذلك القلم والكتاب، ويدخل فيهما كل وسيلة تؤدي دورهما، فلا ريب أنها في حكمهما‏.‏ فقد امتن الله تعالى على الإنسان بأن علمه بالقلم فقال عز وجل‏:‏ ﴿اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم﴾ ‏‏‏‏[‏‏العلق‏:‏ 3‏-5]،‏ وفي هذا امتنان وتنويه وتعظيم لشأن القلم، وإبراز لأهميته في تقييد المعارف وتدوين العلوم، لذلك كان القلم –كما قال سيد قطب رحمه الله- «وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان»12.‏ لأجل ذلك أقسم به الله تعالى وخصه بسورة تحمل اسمه، وهي سورة القلم، قال عز وجل في مطلعها بيانا لشرفه ومنزلته‏:‏ ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ ‏‏‏‏[‏‏القلم‏:‏ ‏1]‏.‏‏

قال الزمخشري‏:‏ «وأقسم بالقلم‏:‏ تعظيما له، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف»13‏.

وقال ابن قيم الجوزية بعد أن أفاض على عادته في بيان مزايا القلم وأنواعه‏:‏ «ويكفي في جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به، وأن الله سبحانه أقسم به في كتابه، وتعرف إلى غيره بأن علم بالقلم، وإنما وصل إلينا ما بُعث به نبينا بواسطة القلم»14‏.

والحاصل مما سبق أن وظيفة الحواس اكتساب المعارف والعلوم، وأن لها صلة وطيدة وعلاقة لا تنفصم عراها بالعقل، وهي علاقة تأثير وتأثر، وتكامل وانسجام، وأن إصلاحها لا يكون إلا بإعمالها وفق مراد الشرع، وتحقيقا لمقاصده في الوجود، حتى تؤدي وظيفتها على أحسن الوجوه، بعيدا عن كل النوازع النفسية التي تكون عائقا أمام التفكير العلمي، ومانعا من حسن التدبر والفهم‏.‏

كما أن وظيفة القلم والكتاب تدوين المعارف وتقييد العلوم للنهوض بالحضارة، وإقامة مقصد العمران، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون بداية آدم وانطلاقته بالعلم والتعلم، وأن يكون أول ما نزل من الذكر الحكيم الأمر بالقراءة، وفي ذلك من الأسرار والحكم ما لا يخفى‏.‏

وعلى المسلم ليرتقي فكريا وحضاريا، أن يسلك هذا المقصد وهو العلم والتعلم، وأن يربط المعرفة بالوحي، وبهذا جاء الرسل والأنبياء، وأن وسيلة ذلك هو القلم والكتاب‏.‏ فما من رسول إلا ومعه الكتاب والحكمة، قال تعالى‏:‏ ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ﴾ ‏‏‏‏[‏‏آل عمران‏:‏ 81‏‏]،‏‏وقال تعالى‏:‏ ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتابة والحكمة‏.‏‏.‏‏‏‏‏[‏‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏.‏‏

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقصد إصلاح التفكير الإنساني في القرآن الكريم 2016 م، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 41-55.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

المقاصد الفكرية للقرآن الكريم

أحمد كافي: أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، الدار البيضاء، المغرب. محتويات المقال:المحور الأول: المقاصد الفكرية: جهود سابقة في المفهوم والمضمونالمبحث الأول: جهود في المصطلح وجذورهالمبحث الثاني: المقاصد الفكرية...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

من المقاصد التربوية في القرآن الكريم

عبد النور بزا: باحث متخصص في مقاصد الشريعة، أكاديمية مكناس، المغرب. محتويات المقال:-1- ضبط الإشكال-2 - مدخل البحث-3- تحديد مصطلحات عنوان البحثأ - مصطلح المقاصدب - مصطلح التربيةج - مصطلح المقاصد التربويةالمطلب الأول: مقصد...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد إصلاح التفكير الإنساني في القرآن الكريم

محمد عوام: باحث بمركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط مقدمةالمبحث الأول: إصلاح التفكير الإنساني بالعلم والقراءةالمبحث الثاني: إصلاح التفكير الإنساني بالبرهنة والاستدلال- المسألة الأولى: كونه عز وجل صاحب الحجة البالغة- ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المقاصد التربوية للقصص القرآني: قصة لقمان الحكيم أنمودجاً

أحمد نصري: أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني بالمحمدية من مقاصد التربية الكبرى إعداد الفرد إعدادا صالحا ليعيش حياة اجتماعية سوية والارتقاء به إلى ما هو أحسن وفق معايير محددة سلفا، وق...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

التواصل والصلة: أخلاقيات وآليات في التأليف والنصوص العربية الإسلامية

كمال عرفات نبهان محتويات المقال:تمهيدالمبحث الأول: موضوع البحث: الذيول والصلات وتواصل النصوصالمبحث الثاني: تسميات كتب الذيول والصلاتالمبحث الثالث: أنواع التذييل ووظائفهلمبحث الرابع: أبعاد التذييلالمبحث الخامس: جهود المؤل...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ

رشدي راشد 1 الحديث عن تاريخ العلوم عادة ما يطولُ ويتَشعبُ ليقفَ بنا أمامَ سؤالٍ ما انفك يُلحُّ على المؤرخين: أين ومتى بدأ هذا البحثُ الذي ما فتئ يهمُ المؤرخين للحضارة ويستلهِمُه فلاسفة العلوم؟ وردي على هذا السؤال هو أن ت...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top