مقصد إصلاح التفكير الإنساني في القرآن الكريم

شارك:

محمد عوام: باحث بمركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط

مقدمة
المبحث الأول: إصلاح التفكير الإنساني بالعلم والقراءة
المبحث الثاني: إصلاح التفكير الإنساني بالبرهنة والاستدلال
- المسألة الأولى: كونه عز وجل صاحب الحجة البالغة
- المسألة الثانية أن الله تعالى أرسل رسله بالبينات ومدهم بالكتاب والميزان
- المسألة الثالث: دعوة القرآن الكريم إلي اتباع الدليل والإتيان بالبرهان
المبحث الثالث: إصلاح التفكير الإنساني بتعليم المحاجة والمجادلة
المبحث الرابع: إصلاح التفكير الإنساني بالدعوة إلي النظر والتفكر
المبحث الخامس: إصلاح التفكير الإنساني بالتثبت من الأخبار والاستيفاق منها
المبحث السَّادِس: إصلاح التفكير الإنساني تعليم الموازنة الصحيحة
المبحث السابع: عواقب التفكير الإنساني فِي الْقُرآن الكريم
خاتمة

مقدمة

الحمد لله الذي خلق الإنسان، علمه البيان، وأنزل القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي كنوزه، ولا تفنى ذخائره، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد المبعوث بالنور المبين، والذكر الحكيم، والهدى والصراط المستقيم، لا يزيغ عنه إلا هالك.

وبعد، فالبحث عن مقاصد القرآن الكريم لا يزال بابه مفتوحا معطاء، إما استنباطا جديدا وإما استكمالا وتتميما لما سبق أن سط القولَ فيه العلماء السابقون وليس من جيد القول، أن يدعي أحد أن بابه قَدْ أقفل، أو يزعم أنه قَدْ قتل بحثا، لأن المقاصد تتجدد بتجدد النظر في كتاب الله تعالى، فتبزغ من بين ألفاظه وتراكيبه، وتنبجس من ثنايا آياته ومقاطعه.

ولا يخفى أن عصرنا هذا اتجهت فيه البحوث والدراسات إلى علم المقاصد، فطرقت فيه قضايا كثيرة، وتناولت فيه مسائل نفيسة، ألمع إليها علماء مقاصديون مبِّرزون في هذا العلم الجليل، فيمكننا أن نؤرخ لعصرنا هذا، في العلوم الإسلامي بالعصر المقاصدي.

وبالرغم من هذا التوسع فلا تزال – في تقديري المتواضع- بعض القضايا في حاجة إلى البحث والتنقيب، منها هذا البحث المتواضع حول «مقصد إصلاح التفكير الإنساني في القرآن الكريم» إذ لم أجد- في حدود علمي- من أفرده بحث أو دراسة مستقلة، مستوعبة لمعظم قضاياه ومسائله، وإنما الذي لا ريب فيه أن نجد عند القدامى إشارات مبددة هنا وهناك، وتنبيهات متفرقة، لا يجمعها عقد ولا يؤلف بينها نظم نجدها خاصة في ثنايا كتب التفسير، وعلم الكلام.

على أننا قَدْ وجدنا للإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تبيها مهما في كتابه «جواهر القرآن ودرره»، حيث تحدث فيه عن أنواع آيات القرآن وسوره، فحصرها في ستة أقسام، وجعل «القسم الخامس» في «محاجة الكفار ومجادلتهم».1 والحق أن هذا نوع واحد من أنواع إصلاح التفكير الإنساني، بتعلم كيفية المحاجة والاحتجاج، ودحض شبهات المعاندين والمناوئين، وذلك كَمَا قال أبو حامد الغزالي رحمه الله بـــ «إيضاح مخازيهم بالبرهان الواضح، وكشف أباطيلهم وتخاييلهم... وفي محاجة الله تعالى إياهم بالحجج لطائف وحقائق ويوجد فيها الترياق الأكبر، وآياته أيْضًا كثيرة وظاهرة»2.

وقد يظهر من عناوين بعض التواليف القديمة أنها خصت هذا النوع من البحوث بالتأليف، مثل كتاب «حجج القرآن» لأحمد بن محمد أبي العباسي بدر الدين الرازيّ الحنفي (المتوفى بعد 630هـ)، ومثله كتاب «حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدع» لابن قدامة المقدسي (المتوفى 620هـ)، لكنها تواليف موغلة في علم الكلام، يستخرج من القرآن الكريم حجج كل طائفة من المتكلمة.

ومما لا ريب فيه أن هذا النوع من المقاصد، عنى به المعاصرون أكثر، وقد بدأ عندهم بإشارات هادية، وومضات سديدة منهم: العلامة محمد رشيد رضا3، والعلامة محمد الطاهر ابن عاشور4، وأستاذنا العلامة أحمد الريسوني حفظه الله5، والدكتور عبد الكريم حامدي6.

ومهما يكن من أمر، فلا نجد بحثا قد جمع فأوعى، وبسط فأوفى في بيان هذا المقصد القرآني الجليل، مقصد إصلاح التفكير الإنساني في القرآن الكريم، متتبعا آياته وصوره. لأجل ذلك نأمل أن يكون هذا البحث لبنة في التأسيس، وفسيلة يرجى ثمارها عد غرسها بإذن ربها.

والذي أريد التأكيد عليه هنا، أن المقصد القرآني في إصلاح التفكير الإنساني، لَهُ علاقة كبيرة بمقصد العمران، بمعنى أنه إذا كان من مقاصد الشريعة إقامة العمران، فإن هذا المقصد لا يتحقق إلا بمقاصد أخرى، من جملتها مقصد إصلاح التفكير الإنساني، لأن المقاصد مرتبط بعضها ببعض، ويفضي بعضها إلى بعض، ويعتمد بعضها على بعض، في تكامل وانسجام كحبات العقد. إذن في القرآن الكريم يبنى التفكير المستقيم في الإنسان، وبفضله يتم العمران، وبها يصلح أن يكون الإنسان خليفة على الله تعالى. وهذه هي نظرية الإصلاح كَمَا يرسم مبادئها ومعالمها القرآن الكريم.

وسأتناول هذا البحث فيما يلي:

مقدمة

المبحث الأول: إصلاح التفكير الإنساني بالعلم والقراءة.

المبحث الثاني: إصلاح التفكير الإنساني بالبرهنة والاستدلال

المسألة الأولى: كونه عز وجل صاحب الحجة البالغة

المسألة الثانية أن الله تعالى أرسل رسله بالبينات ومدهم بالكتاب والميزان

المسألة الثالث: دعوة القرآن الكريم إلي اتباع الدليل والإتيان بالبرهان

المبحث الثالث: إصلاح التفكير الإنساني بتعليم المحاجة والمجادلة

 المبحث الرابع: إصلاح التفكير الإنساني بالدعوة إلي النظر والتفكر

المبحث الخامس: إصلاح التفكير الإنساني بالتثبت من الأخبار والاستيفاق منها

المبحث السَّادِس: إصلاح التفكير الإنساني تعليم الموازنة الصحيحة

المبحث السابع: عواقب التفكير الإنساني فِي الْقُرآن الكريم

خاتمة

المبحث الأول: إصلاح التفكير الإنساني بالعلم والقراءة

نبدأ بأول مَا نزل القرآن الكريم، إذا يظهر من إنعام النظر فيه، أنه أول إصلاح للتفكير يأكده القرآن المجيد، ففي ذلك حكم ومقاصد في غاية الأهمية، وله دلالات قوية، وإشارات بليغة، فأول مَا نزل من كتاب الله العزيز قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.......﴾[العلق: 1- 5]

وهي دعوة صريحة إلى القراءة والتعلم، تأتي في سياق التشريف والامتنان وتكريم الإنسان. قال العز بن عبد السلام رحمه الله: «وكذلك تمنن علينا سبحانه وتعالى بعلوم في تعلم الخط في قوله: ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق: 5]، وقوله تعالى: ﴿كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 239]، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 129].7

وقال ابن كثير: « من كرمه تعالى أن علّم الإنسان مَا لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة».8

بذلك كانت بداية آدم عليه السلام وانطلاقته الأولى بالتعليم، حيث علمه الله تعالى الأسماء كلها، فقال عز وجل: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾ [البقرة: 31-33]، فشرف بذلك مقامه على الملائكة بالعلم الذي علمه الله إياه، ولم يحصل للملائكة منه شيء، فاستحق بذلك أن يكون خليفة في الأرض، وإلى هذا جنح كثير من المفسرين.9

كَمَا أن أول مَا نزل من الوحي بدأ بطلب القراءة. وهذا مَا قَدْ أمر الله تعالى به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1].

من ثمة يبدو أن هناك وجها من وجوه المناسبة، أو ربطا منهجيا بين أولِ مَا لُقنه الإنسان وهو العلم والمعرفة «علّم»، وأول ِّما نزل من الأمر بالقراءة «اقْرَأْ». إذ مفاده إيماء وتنبيها أن أول أمر ينبغي البداءة به في إصلاح التفكير الإنساني هو غرس العلم والتعليم والقراءة في الأمة، إذ هما مصدرا بناء التفكير القويم والسديد، والذي يحتكم إلى المعايير العلمية والموازين المعرفية، والبراهين المنطقية والعقلية، ومنطلق البناء الحضاري والعمراني. ولا ريب أن القراءة والتعليم بهما تُنّمى مدارك الإنسان ، وتفتح آفاقه، ويسمو في العلياء رقيُّه ومجده، فيحقق بذلك مقصد العمران الذي هو أيْضًا من مقاصد الشريعة المطلوبة.

إذن لا جرم أن نعمة الوجود ابتداء أقرنت بالتعليم، وكان ذلك في بداية خلق آدم عليه السلام، وفي هذا المقام، وأعني به أول مَا نزل من القرآن الكريم، ترتبط القراءة كذلك باسم منعم الوجود، وهو الله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾. ولا ريب أن في هذا دلالة على أن إصلاح التفكير الإنساني، لا يمكن أن يحصل إلا بربط المعرفة بالوحي، وربط القراءة بمنعم الوجود، وواهب الحياة والنعم كلها، وهذا هو منطلق الإصلاح الحقيقي للتفكير الإنساني، وأن أي تجريد للقراءة عن هذا المنحى، يترتب عنه خلل في فهم كينونة الإنسان نفسه، والكون الذي يعيش فيه، ويفضى إلى انفصام العلاقة بين هذه القضايا.

وهنا يلوح لي أن المقصود بالقراءة ليست تلك التي تقتصر على تفكيك الرموز الحرفية بعلاماتها، أو تلك التي تميز الكلمات عن بعضها، فلا مراء أن هذه بداية القراءة وليست قراءة - فيما يبدو لي- على الوجه الصحيح، وهذا النوع من القراءة لَيْسَ مطلوبا لذاته، مَا لم يصحبه التدبر والتأمل، وتشغيل الفكر، وإثارة العقل، لإخراجه من حيز الجمود والركود إلى حيز الإثارة والانفعال. لأجل ذلك جاء قوله تعالى بأسلوب التوبيخ والإنكار تقريعا وذما لكل من لم يتدبر القرآن، سواء كان من المشركين أم من غيرهم: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، فالقراءة المتدبرة هي التي تنشئ القراءة المعرفية، وهي التي لها الأثر الكبير في إصلاح التفكير، ولا يقوم بها إلا أصحاب القلوب الواعية الكبيرة الشأن. أما أصحاب القلوب الموصدة، والعقول المقفلة فغالبا مَا يقفون عند قراءة الرموز الحرفية، أو حتى اللفظية إن سنحت لها الفرصة بالتطور، دون الغوص على المعاني والدلالات، والوقوف على المفاهيم والإشارات.

فلا جرم إذن أن القراءة المطلوبة هي القراءة المعرفية المنهجية، المعتمدة أساسا على الوحي تدبرا وتأملا، حيث تهتدي بهديه، وتستنير بتوجيهاته، وتستضيء إرشاداته وتوجيهاته. وهذه هي التي تؤتي أكلها في إصلاح التفكير الإنساني، لكونها قراءة باسم رب الوجود الخالق، المنعم الأول، المكرم. ولزوم هذه القراءة واجب يدل على اللزوم معنى الباء في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..﴾، ومعناها لزوم القراءة باسم الرب تعالى، ويدخل في ذلك كل معاني وجلال الربوبية.10

القرآن يُرشد إلى وسائل اكتساب المعرفة

والقرآن الكريم لا يقف عند حد طلب القراءة بالمعنى الذي سبق تناوله، وإنما امتن على الناس، وبإرشاده إلي وسائل اكتساب المعرفة، وكيفية حفظها والعناية بها، ليتم تداولها، ونقلها جيلا بعد جيل، ومن عصر إلي عصر.

ويمكن أن نقسم هذه الوسائل إلى قسمين:

الأول: الوسائل الذاتية، وأعني بها كونها متعلقة بذات الإنسان: ذَكر منها القرآن: حاسة السمع، واللسان، والبصر، والشم، والتذوق واللمس، والقلب والفؤاد والعقل. جاء بعضها في سياق الامتنان، وجاء بعضها في سياق الذم والتقريع، للكفار والمشركين على تعطيل حواسهم وعدم الانتفاع بها، وتشغيلها بالكيفية المطلوبة المرجوة لتحصيل ثمارها بطريقة صحيحة وسليمة. ولما كانت معطلة ذكر اتصافهم بنقائضها، وهي: الصمم، والبكم، والعمي، وانعدام العقل والفقه. من ذلك مَا جاء في هذه الآيات الكريمات:

  • قال سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [المؤمنون: 78].
  • وقال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78].
  • وقال سبحانه: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة: 9].
  • وقال جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].
  • وقال عز وجل: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46].
  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171].
  • وقال جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [الأحقاف: 26] وقال تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: 18].
  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا﴾ [الأعراف: 22].
  • وقال عز وجل: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: 7].
  • وقال تعالى على لسان نبيه يعقوب عليه السلام: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ [يوسف: 94].

فهذه الآيات الكريات ترشدنا إلى وسائل اكتساب المعرفة العلمية، وأن إصلاح هذه الوسائل يعد من صميم إصلاح التفكير الإنساني، والعكس بالعكس تماما. غير أن القرآن الكريم يلفت نظرنا، وينبهنا إلى أهم هذه الوسائل وأنجحها في تحصيل المعرفة، وهي السمع والبصر، والفؤاد وكأن باقي الحواس تبعا لها.11

لذلك جاء الامتنان بها أكثر. قال سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [المؤمنون: 78]، وقال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]، ونحن لن نحيد عن جادة الصواب، إن قلنا إن هناك ارتباطا وعلاقة بين وسائل الإدراك والقراءة المعرفية، بل إن هذه الأخيرة لا تحصل إلا بسلامة الأولى12.

على أن الإنسان قَدْ يسمع ويرى ويبصر ويتكلم، ولكن هذه الحواس، لا يؤدي وظائفها كَمَا ينبغي، وعلى الوجه المطلوب، ولا تهتدي إلى السبيل القويم، والصراط المستقيم، وإنما هي تبعا لأهواء صاحبها وأغراضه. وإلى هذا المعنى أشار القرطبي في تفسيره، فقال بما نصه: «وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما»13. من ثم جاء وصفها بالصمم، وهو عند العرب يعني الانسداد، ومعناه انسداد خروق المسامع. وبالبكم وهو عدم النطق والفهم من جراء آفة اللسان، والعمي ذهاب البصر، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾.

ولما كانت هذه الحواس منحرفة هم تأدية وظائفها، بما اعتراها من الآفات والاختلالات، كانت كذلك غير موصلة بالعقل والإدراك الجيد، لأن المعيار الذي تستند إليه، والموازين التي تحتكم إليها كلها موازين معطلة، لا صلة لها بالعقل، من جراء مَا ران أو يَرينُ عليها من الركام: ركام التقليد والجعل، والارتكان والارتهان للواقع المنكوس، فيحدث بذلك انقلاب في المفاهيم والتصورات، تنتج عنه –حتما- اختلالات في الأحكام. فهذه الحواس تابعة لمركز التعقل والإدراك، فمنه تتلقى التعليمات والأحكام، بل هي معه تمثل تكاملا وانسجاما تاما، وبحسب قوة العقل أو ضعفه أو انعدامه، وهدايته أو ضلاله، تنشط هذه الحواس، وبحسب سلامتها تكون الأحكام أيْضًا سليمة.

من هنا وجدنا القرآن الكريم يربط بين وظيفة الحواس ووظيفة العقل، في كثير من آياته الكريمات، من ذلك:

  • قوله عز وجل: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 42].
  • وقوله عز وجل حاكيا قول الكفار في العذاب السعير: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10].
  • وقوله سبحانه: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ﴾ [الفرقان: 44].
  • وقوله عز وجل: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السجدة: 9].

وقد مر معنا مجموعة من الآيات تصلح للاستشهاد بها في هذا المقام.

فلا جرم أنه إذ كان عقل الإنسان سليما، وكيفية تشغيله سليمة، استجابت الحواس، وعملت وفق مَا يشير به العقل، بخلاف الحيوان فحواسه تعمل وفق غرائزه بطريقة تلقائية. واليوم يكشف العلم أن الحواس تعمل وترسل إشاراتها أو مَا تلتقطه وتحس به إلى الدماغ منطقة تعقل الأشياء، فآنذاك يعطي أحكامه. ولكن القرآن الكريم يحكي أنها معطلة تماما عند صنف من الناس، الذين اختاروا أن يؤدوا وظيفتهم في الحياة مثل السائمة بل هم أضل، حيث لم ينتفعوا بما ركز في خلقتهم من حواس، فاستنكفوا عن مهيع العقل، الذي هو مركز قوة إدارة الحواس وتوجيهها نحو وظائفها الحقة اللاتي أنيطت بها.

لأجل ذلك جاء البيان الإلهي، والتوجيه الرباني بأسلوب التوبيخ والإنكار في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179].

وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال: 20 - 22].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46].

ولئن كان القرآن الكريم يربط بين الحواس والعقل في اكتساب المعرفة العلمية الصحيحة، فلا ينبغي أن يقف عند هذا الحد، وإنما يبين مسئولية الإنسان عن حواسه، وأمانته على الحفاظ عليها، وخاصة السمع والبصر، توجيها، وإرشادا، وإعمالا حتى لا تصير عرضة للضياع سبب سوء الاستعمال فيما لا ينفع. قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].

قال أبو بكر الجصاص المفسر: «فيه بيان أن لله علينا حقا في السمع والبصر والفؤاد، والمرء مسؤول عما يفعله بهذه الجوارح من الاستماع بما لا يحل، والنظر إلى مَا لا يجوز، والإرادة لما يقبح»14.

وقال القرطبي: «أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده، والمسع والبصر عما رأى من ذلك وسمع. وقيل: المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسأل الإنسان عما حواه وسمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: « كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»15.

ولأجل عظم هذه  المسؤولية الجسمية، ورد فِي الحديث النبوي الشريف مشروعية الدعاء بحفظ البدن عامة، وحفظ السمع والبصر خاصة. فعن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قلت لأَبِي: يَا أَبَتِ أَسْمَعُكَ تقول كُلَّ غَدَاةٍ: «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ» تكررها ثَلاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلاثًا حِينَ تُمْسِي فَقَالَ: يَا بُنَيَّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِنَّ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ16.

قَالَ صاحب «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري (المتوفي: 1014ه): «خصهما بالذكر «السمع والبصر» لأن البصر يدرك آيات الله المثبتة في الآفاق، والسمع لإدراك الآيات المنزلة على الرسل، فهما جامعان لدرك الأدلة النقلية والعقلية، وفي تقدم السمع إيماء إلى أفضليته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا مَا أحييتنا واجعلهما الوارث منا».17

الثاني: الوسائل الخارجية، ونقصد بها الوسائل التي تحفظ المعرفة المكتسبة عن طريق الكتابة والتدون، وعلى رأس ذلك القلم والكتاب، ويدخل فيهما كل وسيلة تؤدي دورهما، فلا ريب أنها في حكمهما. فقد امتن الله تعالى على الإنسان بأن علمه بالقلم فقال عز وجل: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق: 3- 5]، وفي هذا امتنان وتنويه وتعظيم لشأن القلم، وإبراز لأهميته في تقييد المعارف وتدوين العلوم، لذلك كان القلم –كَمَا قال سيد قطب رحمه الله- «وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان»18. لأجل ذلك أقسم به الله تعالى وخصه بسورة تحمل اسمه، وهي سورة القلم، قال عز وجل في مطلعها بيانا لشرفه ومنزلته: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1].

قال الزمخشري: «وأقسم بالقلم: تعظيما لَهُ، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف».19

وقال ابن قيم الجوزية بعد أن أفاض على عادته في بيان مزايا القلم وأنواعه: «ويكفي في جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به، وأن الله سبحانه أقسم به في كتابه، وتعرف إلى غيره بأن علم بالقلم، وإنما وصل إلينا مَا بعث به نبينا بواسطة القلم»20.

والحاصل مما سبق أن وظيفة الحواس اكتساب المعارف والعلوم، وأن لها صلة وطيدة وعلاقة لا تتفصم عراها بالعقل، وهي علاقة تأثير وتأثر، وتكامل وانسجام، وأن إصلاحها لا يكون إلا بإعمالها وفقا مراد الشرع، وتحقيقا لمقاصده في الوجود، حتى تؤدى وظيفتها على أحسن الوجوه، بعيدا عن كل النوازع النفسية التي تكون عائقا أمام التفكير العلمي، ومانعا من حسن التدبر والفهم.

كَمَا أن وظيفة القلم والكتاب تدوين المعارف وتقييد العلوم للنهوض بالحضارة، وإقامة مقصد العمران، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون بداية آدم وانطلاقته بالعلم والتعلم، وأن يكون أول مَا نزل من الذكر الحكيم الأمر بالقراءة، وفي ذلك من الأسرار والحكم مَا لا يخفى.

وعلى المسلم ليرتقي فكريا وحضاريا، أن يسلك هذا المقصد وهو العلم والتعلم، وأن يربط المعرفة بالوحي، وبهذا جاء الرسل والأنبياء، وأن وسيلة ذلك هو القلم والكتابة. فما من رسول إلا ومعه الكتاب والحكمة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ث﴾ [ال عمران: 81]، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2].

المبحث الثاني: إصلاح التفكير الإنساني بالبرهنة والاستدلال

وإذ تقرر مَا سبق واستبان فإن من مقاصد القرآن الكريم في إصلاح التفكير الإنساني ترسيخ منهج التمسك بالبرهان والحجة والدليل، لبناء عقلية علمية رصينة بعيدا عن الأوهام والخيالات، وبمعزل عما يجول في خلجات النفس وخواطر الظنونات، وبذلك يتميز التفكير العلمي عن التفكير الخرافي والأسطوري.

ونحن نقرر في شأن هذا اللون من مقاصد إصلاح التفكير الإنساني، الذي أتى به القرآن الكريم، ثلاث مسائل:

أحداها: أن عز وجل صاحب الحجة البالغة، فعنه سبحانه صدرت.

وثانيتها: أنه الله تعالى أرسل رسله بالحجج والبينات، والبراهين والآيات.

ثالثتها: أنه سبحانه وتعالى طالب عبادة باتباع الدليل والإتيان بالبرهان، ونهاهم عن تقليد آباءهم ومن سلف من أجدادهم. ونحن نحسب الأولى والثانية بمثابة مقدمة للثالثة

المسألة الأولى: كونه عز وجل صاحب الحجة البالغة

المسألة الأولى: كونه عز وجل صاحب الحجة البالغة، لقوله تعالى: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ [الأنعام: 149]، والبلاغة التي تبلغ المقصود، فتبكت الجاحدين وتقرع المعاندين، ويظهر من خلال سياق الآية الكريمة أنها أتت بعد جملة من الآيات الباهرات المتعلقة بالخلق وبما امتن به الله من النعم على الناس، وأن المشركين حرموا مَا أحل الله، فطُلبوا بالاستدلال على ذلك من جهة العلم، فنكسوا على أعقابهم خائبين، لأنهم يسترسلون مع ظنونهم. فمن هنا كانت حجة الله تعالى بالغة، ومن ذا الذي يمكنه الاعتراض عليها إلا من سفه نفسه، من المعاندين والمكابرين. قال القرطبي رحمه الله: «قوله تعالى ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾، أي التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عمن نظر فيها. وحجته البالغة على هذا تبيينه أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء، فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات، وأيد الرسل بالمعجزات، ولزم أمره كل مكلف»21.

فالله سبحانه وتعالى يرود الحجج على عباده، ويصدر البراهين والبينات عن ذاته العلية المقدسة. لماذا هذا كله؟ ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ﴾ [النساء: 165]. وهذا الأمر مرتبط بأسمائه الحسنى، وبخاصة منها: العليم، الحكيم، والعدل. فلا جرم أن صدور الأدلة عنه سبحانه، وسوقها على لسان رسله وأنبيائه، وبعثهم بها، هو من تجليات هذه الأسماء المقدسة.

وإذا كان سبحانه وتعالى صاحب الحجة البالغة، وعنه صدرت، وأنه عز وجل العليم، الحكيم، العدل، فإن مقتضى التخلق هذه الأسماء هو إقامة البراهين، وإيراد الحجج والأدلة على كل القضايا والمسائل، مع الانتفاء التام للاسترسال وراء الظنون والأوهام والخيالات، أو اقتفاء آثار من سلف دون بينة.

المسألة الثانية: أن الله تعالى أرسل رسله بالبينات وأمدَّهم بالكتاب والميزان

إذا كان لله عز وجل الحجة البالغة، الدالة على حكمته وعدله وسعة علمه، فقد اقتضت حكمته سبحانه- أيْضا – أن يرسل رسله مؤيدين بالبينات الواضحات، والدلائل القاطعات، والمعجزات الباهرات، قال عز وجل: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]، وهي:

  • كقوله تعالى: ﴿قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ [آل عمران: 183 - 184].
  • وقوله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].
  • وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ [فاطر: 25].
  • وقوله عز وجل: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [غافر: 22 - 23].
  • وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يونس: 13].
  • وقوله جل جلاله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم: 9].
  • وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [التوبة: 70].

وقد قام المفسرون ببيان هذه الآيات الكريمات ومثيلاتها، ومنها التي في سورة الحديد، فجنحوا إلى القول إنه مَا من رسول إلا ومعه الحجج والدلائل، والآيات النيرات والبراهين الواضحات، والكتاب المتضمن للأحكام والشرائع، والميزان الذي هو العدل في كل شيء، ومنه الموازين العلمية والعقلية المبنية على الأدلة والبراهين. «وهو -كَمَا قال ابن كثير- الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة».22 وفي هذا مَا يدل على وحدة الرسالة ووحدة المنهج.

قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: لقد أرسلنا رسلنا بمفصلات من البيان والدلائل، وانزلنا معهم الكتاب بالأحكام والشرائع، والميزان بالعدل»23. وحكى الفخر الرازي عن مقاتل بن سليمان أن البينات معناها «المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة». واعتبره الوجه الصحيح في تفسير الآية، واستدل لَهُ بكون «نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات»24.

براهين الأنبياء وحججهم

وفي هذا السياق نود أن نقف على بعض الدلائل والبينات والحجج التي جاء بها بعض رسل الله عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، للاستدلال بها على مقصدية إصلاح تفكير الإنسان بترسيخ منهج الاستدلال الصحيح، المبني على الأدلة والبراهين. من ذلك:

قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 87 - 88].

لم يأت يان هذه البينات في هذه الآية، وإنما ذكرها مبينة في مواطن أخرى كقوله عز وجل على لسان نبيه عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [ال عمران: 49].

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة: 110].

وقال سبحانه وتعالى مخاطبا موسى: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [القصص: 31 - 32].

وفي سورة الإسراء ذكر عز وجل أن عدد هذه الآيات البينات تسعة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ [الإسراء: 101]. وقد عزى الطبري إلى ابن عباس أن «التسع الآيات البينات: يده، وعصاه، ولسانه، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات»25.

وهذه الآيات البينات التسع مع الكتاب، يشكل جميعها سلطانا مبينا، يعني الحجة والبرهان الظاهر. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 96، غافر: 23].

قال ابن عاشور: «والسلطان: البرهان المبين، أي المظهر صدق الجائي به وهو الحجة العقلية أو التأييد الإلهي»26.

والحاصل من هذا كَمَا يقرره القرآن الكريم أن جميع رسل الله جاؤوا بالبينات، وهي الدلائل الواضحات، والمعجزات القاهرات، والبراهين القاطعات، فما من نبي أو رسول إلا وقد بعثه الله بالحجة والكتاب، كل هذا يأتي لقطع حجة كل معتذر مبطل، أو ملحد جاحد، أو دحض شبهة زائغ، أو دمغ باطلِ كل أفاك أثيم. وفيه –أيْضًا – تعليم لاتباع الأنبياء بالتمسك بالحجج، وإيراد البراهين على خصوم الدعوة، وإقامة الأدلة على كل قضية من القضايا العلمية، أو الاجتماعية، أو السياسية أو غيرها. فلا جرم إذن أن كل قضية لا تحتكم إلى دليل، ولا تستند إلى برهان، فهي مخالفة للمنهج الذي أتي به رسل الله عز وجل، فتكون كذلك مخالفة لمقصد القرآن الكريم. قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 165].

المسألة الثالثة: دعوة القرآن الكريم إلي اتباع الدليل والإتيان بالبرهان

هذه المسألة تنسجم تماما مع المسألتين السالفتين، من كونه عز وجل صاحب الحجة البالغة، وأنه أرسل رسله بالبينات والدلائل والبراهين. ونحن من خلالها نتطرق إلى مبدأ من المبادئ التي جاء بها القرآن الكريم، وقانون يدعو إليه ويرسخه، قصد إصلاح التفكير الإنساني، وبناء المعرفة الإنسانية على أسس عليمة ومعرفية متينة، تعتمد الدليل والبرهان، وتتمسك بالحجة والسلطان، لا التوهم والخيال. فطلب إقامة البرهان على الدعوة، ونهى عن القفو والقول بلا علم، وجعل القول بلا علم ولا دليل حراما، والظن المجرد حراما، والاتباع والتقليد من غير برهان حراما. فبذلك يكون القرآن مؤسسا لمنهج معرفي قوامه الدليل والبرهان، يخاطب فيه –كَمَا يقول مرتضى مطهري في كتابه «معرفة القرآن»- «عقل الإنسان بلغة المنطق والاستدلال». وهي إحدى وظائفه التعليمية.27

ولأجل بيان دعوة القرآن الكريم إلى إقامة الحجة والاعتماد على البرهان، نورد مجموعة من الآيات الكريمات على النحو الآتي:

الدعوة إلى الإتيان بالبرهان

  • قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111].
  • وقال عز وجل: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: 24].
  • وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [النمل: 64].
  • وقال تعالى: ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 42].
  • وقال عز وجل: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [يونس: 68].

البرهان، والحجة، ولدليل، والبينة، أو البيان، والسلطان، والآية، والعلامة كلها نظائر وردت في القرآن الكريم، وهذا مَا جرى عليه الأصوليون أنفسهم، وإن كانت مدلولاتها اللغوية، من حيث تدقيق النظر في بعضها، قَدْ يكون أقوى بيانا وعمقا من بعض.28

فالبرهان كَمَا ورد عند اللغويين يعني «الحجة الفاصلة البينة»29 ومعنى ذلك أنه قاطع للدد الخصم، لقوته الحججية والقطعية. قال أبو جعفر الطبري في معنى الآية الأولى من سورة البقرة: «وهذا أمر من الله جل ثناءه لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالوا فيما حكى الله عنهم: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصاَرى﴾ - إلى عمل عدل بين جمع الفرق: مسلمها ويهوديها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا: من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، (قل) للزاعمين أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون غيرهم من سائر البشر: (هاتوا برهانكم)، على مَا تزعمون من ذلك، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم- من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى- محقين».30

فالقرآن الكريم يطالب هؤلاء بإقامة برهانهم وبينتهم وحجتهم على هذا الادعاء السافر والعريض، من كون الجنة لن يدخلها إلا من كان على ملتهم وشاكلتهم، وهو المنهج نفسه الذي يحاجج به القرآن المشركين من كون آلهتهم تصنع العجائب والغرائب، حيث يوطئ لَهُ باستدلال قوي، يبطل زعمهم وافتراءهم. ولا يخفى أن القصد من هذا كله إلجام كل متخرص، أو متقول، أو مدعٍ، لا يستند فيما يذهب إليه إلى البرهان والحجة، وهو في الوقت ذاته، تعليم لهذه الأمة، فيما ينبغي أن تصير إليه في بناء قضاياها وشؤونها، بناءً علميا معرفيا، وفق معطيات العلم القائم على البرهان والحجة.

وهذا يكون القرآن الكريم يؤسس لقاعدة علمية، مفادها أنها: لا يقبل قول بلا دليل، قال العلامة رشيد رضا مبينا هذه القاعدة، ومدعي أنها من خصوصيات القرآن الكريم: «ثم طالبهم - تعالى- بالبرهان على دعواه، فقرر لنا قاعدة لا توجد في غير القرآن الكريم من الكتب السماوية، وهي أنه لا يقبل من أحدا قولا لا دليل عليه، ولا يحكم لأحد بدعوى ينتحلها بغير برهان يؤيدها، ذلك أن الأمم التي خوطبت بالكتب السالفة لم تكن مستعدة لاستقلال الفكر ومعرفة الأمور بأدلتها وبرهينها، ولذلك اكتفى منهم بتقليد الأنبياء فيما يبلغونه وإن لم يعرفوا برهانه.....».31

ونحن نتفق مع العلامة رشيد رضا رحمه الله في تقرير القرآن الكريم للقاعدة التي بسط القول عنها، «وهي أنه لا يقبل من أحد قولا لا دليل عليه» وهي قاعدة مسلمة، لا غبار عليها، ولكن الذي يبدو لي فيه نظر من كلامه ادعاءه كونها من خصوصيات القرآن الكريم، بحيث لا توجد في غيره من الكتب السماوية، ولا أدري عن أي نبي بنى رأيه.

مع العلم أن القرآن الكريم يقرر أن جميع الأنبياء بعثهم الله بالبينات والدلائل، والكتاب، وقد حكي عن من سلف من الأمم الأُول أنهم كانوا – عند مناظراتهم لأنبيائهم- يطالبونهم بالبرهان والدليل. قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ [طه: 133]، وقال عز وجل: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة: 211]، ثم إن الله تعالى قَدْ وصف التوراة والإنجيل بالهدى والنور، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ [المائدة: 44]، ولم يتعلق بهما هذان الوصفان إلا بكونهما تضمنا الدلائل القوية لصحة الاعتقاد. قال الراغب الأصفهاني رحمه الله في تفسيره: «الهدى والنور إشارة إلى معنى واحد، لكن الهدة يقال اعتبارا بالأدلة المنصوبة، والنور باعتبار بما يعين على معرفة الأدلة»32.

وقال ابن عاشور رحمه الله: «والهدى والنور دلائلهما»33. ولا يخفى أن على رأس مَا يبلغه الأنبياء لأقوامهم إنما هو الاعتقاد الصحيح، وهذا لا يقبل فيه التقليد البتة.34

النهي عن القول بلا عمل

ومما ذكره القرآن الكريم، وله علاقة وطيدة بالتمسك بالحجة، وإقامة البرهان لإصلاح التفكير الإنساني، أنه نهى عن اقتفاء مَا لَيْسَ للإنسان به علم، أو القول بلا علم، من ذلك:

  • قال عز وجل: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36].
  • وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 168 - 169].
  • وقال جل جلاله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33].
  • وقال عز وجل: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الأحقاف: 4].
  • وقال سبحانه وتعالى على لسان فتية الكهف: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ﴾ [الكهف: 15].

فلا ريب أن الآية الأولى، على مَا نص عليه، أبو حيان الأندلسي تكون «قضية كلية تندرج تحتها أنواع»35. وهذه الأنواع سواء كانت قولية أو فعلية، نظرية أو عملية، لأن النهي عن اقتفاء مَا لَيْسَ بمعلوم غير مستند إلى دليل يشملها. وهذا المعنى يلوح به منطوق الآية، إذ أن معنى لفظ القفو هو الاتباع، من قفوته أقفوه، وقفته أقوفه، وقفتيه إذا اتبعت آثاره، ومن طريق المفهوم نحسب أن جميع مناهج البحث متضمنة فيها، إذا كانت قائمة على استدلال صحيح وسليم، لا مجرد الدعوة، إذا لا جرم أن «الدعوة إذا لم يكن معها حجة لم تغني عن المدعي شيئا»36 فيكون معنى الآية متسعا وعاما، لذلك قال في تفسيرها قتادة رحمه الله: «لا تقل رأيت ولم ترى، سمعت ولن تسمع، وعلمت ولم تعلم»37.

ولقد كانت هذه الآية، اقصد قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، مستند بعض الأصوليين لرد مباحث أصولية نفسية، مثل القياس، والاستحسان، وخبر الواحد، فنبرى لهم جمهور الأصوليين بالرد ونقد استدلالهم بها، حتى قال أبو إسحق الشيرازي: « وأما قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ فالمراد به مَا لا علم لك به من طريق القطع ولا من طريق الظاهر، وهو مَا يشك فيه، وعندنا لا يجوز العمل بالشك، وأما ههنا فقد وجد علم من طريق الظاهر وإن لم يوجد من جهة القطع، فبطل مَا ذكروه»38.

وإذا كان قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ بمثابة القضية الكلية، فإن باقي الآيات الآخر بالنسبة إليها، تمثل بعض أنواع النهي عنه من القفو، كالقول على الله بلا علم، وهو من أشد المحرمات وأقبحها، والشرك بالله، وغيرهما. وقد نبه ابن القيم الجوزي رحمه الله على خطورة القول على الله بلا علم، فقال: «وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفُتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، فرتب المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثني بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسماءه وصفاته، وأفعاله في دينه وشرعه»39.

والحاصل مما سبق أن للقرآن الكريم قصدا في إصلاح التفكير الإنساني، بناءً على منطق الاستدلال والبرهنة، وهذا المنحى لا تخفى علاقته بالإصلاح الاجتماعي والعمراني، الذي يرمي إلى تأسيس العقل العلمي لدى كافة أبناء الأمة. وقد وقف ابن عاشور رحمه الله على هذه الفائدة، عند قوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ الآية، حيث نبهت الآية الكريمة على إصلاحين جليلين: إصلاح عقلي، وإصلاح اجتماعي، وكلاهما من مقاصد الشريعة. قال رحمه الله: «وهذا أدب خلقي عظيم، وهو أيْضًا إصلاح عقلي جليل، يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية، حيث لا يختلط عندها المعلوم والمضمون والموهوم. ثم هو –أيْضًا – إصلاح اجتماعي جليل، يجنب الأمة من الوقوع في الأضرار والمهالك، من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة»40.

وإذا كانت دعوة القرآن الكريم لإصلاح التفكير الإنساني، بإقامة الرهان والدليل، على كل القضايا والمسائل العلمية أو العملية، حتى لا يسترسل المسلم مع ظنونه وهواه، فلا جرم أن ذلك لا يطلب في حالة الإثبات فقط، ولا يقتصر على هذا الموطن بالذات، وإنما يتعداه ليشمل حالة النفي أيْضًا ، لأن كلتا الحالتين تستلزمان سوق الأدلة، وإلا نسب النافي إلى الزيغ والشطط، وتنكب سبيل الدليل والاستدلال. ولقد كان هذا مسلكا، وأعنى به عدم الاعتداد بالدليل في النفي، لبعض أصحاب داوود الظاهري حكاه عنهم الباجي، خلافا للمحققين من الفقهاء والمتكلمين.41

أما مسلك القرآن المجيد ومقصده أن يلتزم المسدل بالدليل إثباتا ونفيا، والدليل على ذلك قول عز وجل: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]، وقوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [يونس: 39]، فألزمهم إقامة الدليل على مَا نفوه وكذبوا به. وإلى هذا جنح أكثر المفسرين والأصوليين.

من ذلك مَا ذهب إليه أبو إسحق الشيرازي من أن الله تعالى ذمهم «بأن قطعوا بالنفي من غير الدليل، فدل على أن ذلك باطل»42. وقال الفخر الرازي: «دلت الآية على أن المدعي سواء نفيا أو إثباتا، فلا بد لَهُ من الدليل والبرهان، وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد»43. وقال نجم الدين الطوفي: «يحتج به من يرى على المدعي الثاني دليلا، لأن دعوى هؤلاء نافية، وهي قولهم:﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ….﴾ وقد طولبوا بالدليل عليها».44

وقد ذهب ابن حزم الظاهري -بعد أن ساق الخلاف في المسألة- إلى مناصرة هذا المنحى، فأوجب الدليل على المستدل في الإثبات والنفي، مستدلا على ذلك بالآيتين السالفتين. قال رحمه الله: «فإذا اختلف المختلفان فأثبت أحدهما شيئا ونفاه الآخر، فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كَمَا بيناه أنفاً بحكم كلام الله عز وجل. فأيهما أقام البرهان صح قوله»45.

وبناء على دعوة القرآن الكريم ومقصده إلى ترسيخ مبدأ الاعتماد على الدليل إثباتا ونفيا، حتى صار هذا المهيع لدى علماء الأمة من المسلمات ومستلزمات التفكير العلمي46، وجدنا علماء الأمة وبخاصة الأصوليين منهم قَدْ حكوا الإجماع على أن القول بلا دليل حرام. قال إمام الحرمين الجويني: «أجمعت الأمة قاطبة، على أن من قال قولا بغير دليل أو أمارة، منصوبة شرعا، فالذي يتمسك به باطل، ثم أجمعوا على بطلان اتباع الهوى»47. وجنح ابن حزم غلى أن القول بلا دليل ولا برهان «حرام بنص القرآن وإجماع الأمة»48.

ولا ريب أن الشأن في هذا الإجماع المحكي، يدل دلالة قطعية على أن هذه القضية التي جاء بها القرآن المجيد لا خلاف فيها بين العلماء فصارت بالإجماع من قطعيات القرآن، لأن عدم الخلاف يدل على القطع. ثم إنه إجماع مبني على منطق الشرع ومعقوليته، فالله تعالى صاحب الحجة، وأنه أرسل رسله بالحجج والبينات والبراهين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم رسل الله كان لا ينطق عن وحي، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، فكان لزاما على الأمة أن لا تقول إلا عن دليل و برهان49.

ترك الدليل والبرهان من الزيغ والبهتان

ولا يقف القرآن المجيد عن المطالبة بإقامة البرهان والحجة أو النهي عن الاتباع لما لَيْسَ بمعلوم فحسب، وإنما يحسب الخروج عنه مسلكا منتحلا للزائغين، حيث يدل على مرض في قلوبهم، لعكوفهم على الخوض، فيما لا يقيمون عليه دليلا، وهذا مما لا شك فيه من البهتان. ومن ذلك ابتغاءهم تأويل القرآن الكريم تأويلا فاسدا. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7].

على أن من دقائق المعاني التي انطوت عليها هذه الآية الكريمة، مَا نبه عليه الإمام الشاطبي في «الموفقات»، مبينًا من خلالها منهجين فِي سوق الأدلة والتعامل معها، قَالَ رحمه الله: «فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع فِي الوجود على وجهين: أَحَدُهُمَا: أن يؤخذ الدليل مأخذ الافتقار، واقتباس ما تضمنه من الحكم، ليعرض عليه النازلة المفروضة، لتقع فِي الوجود على وقاف من أعطى الدليل من الحكم.... وهذا الوجه هُوَ شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة.

الثاني: أن يؤخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه فِي النازلة العارضة، أن يظهر بادئ الرأي موافقة ذَلِكَ الغرض للدليل، من غير تحر لقصد الشارع، بَلِ المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه. وَهذا الوجه هُوَ شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة»50.

المبحث الثالث: إصلاح التفكير الإنساني بتعليم المحاجة والمجادلة الحقة

هذا ضرب آخر من إصلاح التفكير الإنساني أتي به القرآن المجيد، وهو الجدال أو المجادلة والمحاجة، وكلها عند اللغويين نظائر، وإن كان بينها بعض الفروق51. قال ابن الأثير في «النهاية فِي غريب الحديث والأثر»: «الجدل، مقابلة الحجة بالحجة. والمجادلة. المناظرة، والمخاصمة»52. وقد أطلقوا عليه فيما بعد علم الجدل أو المناظرة53.

ولا يخفى وجه الارتباط بين هذا المبحث وما سلف، إذ مدار المجادلة والمناظرة على البرهنة والاستدلال، وكيفية إعمال الحجج وتمحيص الأدلة بإيراد القوي منها، وثقل الآراء، وبيان تهافت شبهات الخصم.

ولقد كان القصد من الجدل أو المجادلة والمحاجة، مثل محاجة إبراهيم مع قومه، وموسى وهارون مع فرعون وملئه، وغيرها من المجادلات والمناظرات الَّتِي خاضها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إفحام الخصوم، ودحض شبهاتهم، وتسفيه أحلامهم، ليذعنوا للحق فِي قوة الأدلة المساقة فِي المناظرة والمحاجة, ويظهر ذَلِكَ فِي طريقة الاستدلال، والتدرج فِيْه بما يقتضيه مقتم الاستدلال من العام إلى الخاص ومن الكلي إلى الجزئي وهكذا. وفيه -أيضًا- تعليم الأمة كيفية المجادلة والمناظرة الحقة. يظهر هذا المقصد القرآني من هذه  الآيات الكريمات:

  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125].
  • وقال عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [العنكبوت: 46].
  • وقال تَعَالَىٰ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: 3].
  • وقال تَعَالَىٰ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الحج: 8 - 9].
  • ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 20 - 21].
  • وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ [غافر: 56].
  • وقال تَعَالَىٰ: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾ [الشورى: 16].
  • وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال: 5 - 6].

إن الْقُرآن لمجيد يقرر مبدئيا أصل المجادلة والمناظرة، وإنما يرشد ويوجه وينبه إلى جملة من القواعد المتينة تصلح من شأن التفكير الإنساني، عند لجوئه إلى هذا اللون من التفكير العلمي، يتجلى ذَلِكَ فيما يأتي:

أولا: أن تكون المجادلة والمناظرة ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وهذه الصفة من القوة بمكان، بحيث تستطيع أن تجتذب المخالف وتؤثر فِيْه، لأجل ذَلِكَ – فِي تقديري- تمثل هذه  الصفة منهجا أخلاقيا عاما للمجادل والمناظر، يجد طريقه إلى القلوب الموصدة، والعقول المتشككة. ولم يكن التنصيص على ذَلِكَ، إلاَّ من جراء ما يقع فِي المجادلة من التدافع والنزاع الَّذِي قَدْ يجعل المخالف يكابر ويعاند. ثُمَّ لاَ يخفى ما فِي المجادلة والمناظرة بالتي هي أحسن من التواري والتريث، لإحكام منطق الاستدلال وسبكه، قصد إفحام الخصم، والكر على استدلالاته بالإبطال والنفض، وبيان عوار فكره، وسقيم شبهاته.

فلو كان –كَمَا قَالَ العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله- «هناك طريقتان للحوار والمناقشة، إحداهما: حسنة، والأخرى أحسن منها، وجب على المسلم أن يجادل بالتي هي أحسن، جذبا للقلوب النافرة، وتقريبا للأنفس المتباعدة»54.

على أنه كلما كانت الحجج والبراهين قوية سليمة واضحة، كانت المناظرة انتصارا للمجادل الحق، ولصالح مَا يدعو إليه. ونحسب هذا متضمنا في قوله ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، لأنه يشمله أيضًا، لأجل ذَلِكَ لاَ ينبغي قصره على الجانب السلوكي فحسب، وإنما يتعداه إلى منهج الاستدلال نفسه55.

ونحن نلحظ أن الْقُرآن الكريم يستعمل هذا التعبير ﴿بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فِي مواطن ذات بال، منبها على أهميتها وخطورتها، ومن جراء ما يقع فيها من التساهل والتقصير، منها موطن المجادلة والمناظرة.

ثانيا: أن تكون المجادلة مبنية على قواعد علمية ومنهجية متينة وهي: العلم، الهدى، والكتاب المنير. انتزعت هذه القواعد من دليل الخطاب في قوله تعالى : ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾، وهي دليل على جواز المجادلة والمناظرة الحقة، على ما جرى عليه الزمخشري56، والفر الرازي57، والقشيري58، وغيرهم. وبيان هذه  القواعد نورده فيما يلي:

القاعدة الأولى: التحقق العلم، وهو صفة تجعل المتصف بِهِ خارجا عَنْ التلبس بضده، وهو الجهل، لأنَّ العلم والجهل نقيضان. وقد ذهب بعض المفسرين، كالزمخشري، والفخر الرازي، إلى حمله فِي الآية على العلم الضروري59، وبنوا ذَلِكَ على أن لفظ (الهدى) الَّذِي أتي بعده يعني الاستدلال والنظر.

ومهما يكن من أمر، فإن حصول العلم شرط لاَ مناص منه عند خوض المجادلة والمناظرة، ويعني إدراك الشيء المتناظر حوله، وتبين حقيقته، وإلا كان فاقد هذا الشرط متبعا للشيطان، ومرتبطا بمنهجه فِي التدليس والتلبيس. وتكون النتيجة المتوخاة من هذا: أن كل جدال بلا سلطان «العلم»، فهو من الشيطان، وكفى هذا ذما وتبكيتا لكل مجادل عنيد.

القاعدة الثانية: التمسك الهدى: وتعني هذه القاعدة الاعتماد على البراهين، والحجج، ونصب الأدلة عند المناظرة والمجادلة، لأجل ذلك جنح المفسرون إلى أن لفظ «الهدى» يدل على البيان والاستدلال والنظر60، للتفريق بين المجادلة الحقة التي تنبني على الأدلة، وتعتمد البراهين، المجادلة الباطلة التي غالبا مَا تتمسك بالظنون والتخمينات، أو بما كان عليه من مضى من سلف الآباء والأجداد دون بينة، وهو التقليد. وهذه القاعدة عمدة العلوم النظرية، أو على حد تعبير الفخر الرازي المقدمة النظرية61.

القاعدة الثالثة: الاعتصام بالكتاب المنير. وهي دليل على الاعتداد بالدليل السمعي، أو مَا يسمه - أيْضًا- بالدليل النقلي، وهو الوحي. قال الطبري في قوله تعالى: ﴿وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾: «ولا بتنزيل من الله جاء بما يدعي، يبين حقيقة دعواه»62 لكن متى ينبغي الاستدلال بالدليل النقلي، ومع من يصلح ذلك من المجادلين؟.

فالقرآن حكى مَا يحصل من بعض المجادلين، حيث لا يحتكمون إلى العلم، ولا إلى الهدى، ولا إلى الكتاب المنير. والذي يبدو أنه بحسب حال المجادل تكون كيفية إعمال الأدلة. فالدليل النقلي - مثلا- لا يستدل به إلا على من يقر به، ويؤمن به مبدئيا، إذ الاستدلال بالمختلف فيه، لا يستقيم بداهة.

هذه هي إذن قواعد إصلاح التفكير الإنساني عند المجادلة والمناظرة الحقة. وإذ تقررت فإن تنكب المجادل عن هذا المهيع الذي رسمه القرآن الكريم، يجعله يمتطي متن المجادلة الباطلة، التي تفتقد كل المعايير العلمية، والموازين الفكرية، والضوابط المنهجية، فتنحاز إلى الباطل، بلا تبصر، ولا حكمة، سوى مجابهة الحق، ومحاولة دحضه، وعن مسلك هؤلاء تحدثت الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ وأحسب أن لفظ «الباطل» عام، من حيث دلالته، فاقتضي أن يدخل فيه كل منهج فاسد وباطل، يفتقد المصداقية العلمية، فيكون بذلك عاريا عن كل مَا سبق بسط الكلام عنه.

بعد بيان هذه القواعد الخاصة بالمجادلة والمناظرة، والتي لها أثر كير في إصلاح التفكير الإنساني، فإنه مما لا شك فيه أن الأنبياء عليهم السلام مارسوا هذا اللون من التفكير، فجادلوا وحاجوا وناظروا أقوامهم، لبينوا لهم مَا أنزل الله عليهم، وخاصة المعاندين منهم، الذين عكفوا على عبادة الأصنام، وتنكروا لعبادة الله الواحد القهار. وسأكتفي هنا بما أسميه النموذج الإبراهيمي في المجادلة والمحاجة. وقد تكررت قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه في القرآن الكريم مرات عديدة في سياقات مختلفة، ومناسبات متنوعة. أقتصر في ذلك على ذكر مقطعين:

النموذج الإبراهيمي

المقطع الأول: من سورة الأنعام

قال عز وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام:74-83].

المقطع الثاني من سورة الأنبياء

قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾ [الأنبياء: 51-70].

وبيان هذين المقطعين فيما يلي:

أولا: ما هُوَ هذا الرشد الَّذِي أوتيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ فَقَدْ ذهب المفسرون فِي ذَلِكَ مذاهب، والذي تحصل لي من ذَلِكَ، ومن تجديد النظر والتأمل فِي مناظرة إبراهيم عليه السلام لقومه، أنه رشد المنهج، وسداد التفكير، وَهذا ما يومئ إِلَيْهِ لفظ «الرشد»، في هذا السياق. والرشد في دلالته اللغوية ينصرف إلى أنه خلاف الغي، وهو هنا دليل على اكتمال العقل وقوة التفكير، وحسن التدبير، واكتساب ملكة النظر والاستدلال، وقوة الحجة. فكما أن هناك نموا بدنيا جسمانيا، لَهُ آثاره في الحياة الإنسانية، فإن هناك أيْضًا رشدا فكريا عقليا به تستقيم حياة الإنسان، وعلى ضوئه يدبر أموره وتصرفاته، وبه يزن قضاياه ومسائله.

وقد ذهب القرطبي رحمه الله إلى هذا المعنى الذي قررناه هنا، فقال مفسرا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ﴾: «أي وفقناه للنظر والاستدلال».63 وهو المحنى نفسه الذي جرى عليه ابن كثير حينما قال: «ألهمه الحق والحجة على قومه»64.

ولا ريب أن هذا من الحجة التي آتاه الله تعالى، ليقرع بها قومه، وهي في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ أي لقنه الحجة، وعلمه كيفية الاحتجاج والاستدلال. وفيه تنبيه إلى أن من مقاصد القرآن الكريم أن يُرشد الناس ويعلمهم الحجج، وطرق الاستدلال، ويفتح عقولهم على كيفية استعمال الحجج والبراهين، ثم هم بالعقول التي ركزت فيهم، وبفطرهم السليمة سيهتدون إلى غيرها من الطرق العلمية، أو يبنون عليها وينشؤون ويبتكرون مسالك جديدة تؤدي الغرض نفسه.

وفي هذا رد على مَا ينسب إلى ابن عباس من كون إبراهيم عليه السلام قَدْ عبد الكواكب التي رآها حقيقة. والحق أن هذا مخالف للرشد الذي قرره القرآن الكريم في شأن إبراهيم عليه السلام، مضافا إلى الذات العلية، تشريفا لَهُ. ثم إنه مخالف -أيْضًا- لسياق الآية، إذ كيف يستقيم هذا، مع العلم أن الله تعالى هو الذي أراه من ملكوت السموات والأرض، ليفضي هذا الاستدلال بالملكوت إلى التبرؤ من الشرك، فيكون مَا بين قوله (وكذلك نري) وقوله (إني بريء) المقصود منه الاستدلال على بطلان الشرك. لأجل ذلك نأى المحققون من المفسرين عن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس رضي الله عنه، وحسبوه من «أحاديث بني إسرائيل»65.

وعلى ضوء هذا السلك ينبغي فهم الحديث الوارد في شك إبراهيم عليه السلام، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، قَالَ: «وَيَرْحَمُ اللّهُ لُوطاً، َقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ، لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ»66.

إذ لم يكن شاكا فِي قدرة الله تَعَالَىٰ، ناشئا عَنْ اضطراب فِي النفس، فَهذا يتفانى مع مقام النبوة، وإنما حاصل معناه طلب الزيادة فِي طمأنينة القلب، وذلك بالانتقال من الاستدلال إلى المعاينة، فكأنه من باب ليس الخبر كالمعاينة، وإلى هذا جنح المحققون من العلماء. وقال عياض: «لم يشك إبراهيم بأن الله يحي الموتى، ولكن أراد طمأنينة القلب وترك المنازعة لمشاهة الإحياء، فحصل له العلم اَلْأَوَّلُ بوقوعه، وأراد العلم الْثَّانِي بكيفيته ومشاهدته، ويحتمل أنه سأل زيادة اليقين وإن لم يكن فِي اَلْأَوَّلُ شك، لأنَّ العلوم قَدْ تتفاوت فِي قوتها فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين والله أعلم»67.

وقال الإمام النووي: «وأما سؤال إبراهيم ، فذكر العلماء في سببه أوجه إظهارها أنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدة ، بعد العلم بها استدلالا، فإن علم الاستدلال قَدْ تتطرق إليه الشكوك في الجملة خلاف علم المعاينة فإنه ضروري »68.

على أنه مجازا قَدْ نطلق على هذا المنهج فِي التفكير، شكا منهجيا معرفيا يراد منه الانتقال من استدلال إلى أخر، قصد إفحام الخصم، ودحض شبهاته. وقد نحى نحوه بعض العلماء مثل أبي حامد الغزالي، وتأثر بِهِ الفيلسوف الفرنسي رنان ديكارت، وإن لم يصرح بذلك.

ثانيا: فِي هذه  المناظرة والمجاهدة نجد إبراهيم عليه السلام ينوع من الأدلة والبراهين، حيث استعمل الأدلة العقلية فِي مناقشة قومه، واستعمل الأدلة الكونية الوجودية الَّتِي يراها قومه، ويعيشونها كل حِينَ ، ولكنهم أصيبوا بعمى البصيرة وانعدام التأمل والتدبر. وَهذا يرشدنا ويدلنا على أن هناك تكاملا معرفيا بين الأدلة العقلية والأدلة الكونية، وأن على كل مسلم أن ينحو هذا المنحى فِي استدلالاته، وذلك بحسب نوعية المجادلة، وبحسب المجادل أيضًا.

ثالثا: قَدْ ظهر من خلال هذه المناظرة والمحاجة الإبراهيمية، أن هناك نوعين من مناهج الاستدلال: منهج التفكير العلمي المنطقي العقلي ومنهج التقليد، وهما دائما فِي صراع وتنافر. لذلك لم يجد قوم إبراهيم عليه السلام أمام قوة براهينه سوى طريق التقليد.

وصفوة القول مما سبق أن الْقُرآن الكريم له قصد جليل إلى تعليم الناس فن الجدال والمناظرة الحقة، يظهر ذَلِكَ بالتأمل والتدبر، فيما حكاه من مناظرات أنبياء الله تَعَالَىٰ، وهم في ذَلِكَ يقررون من الحجج والبراهين والأدلة الصحيحة الَّتِي تفند مزاعم المعاندين، وترد شبهات المتخرصين، وتدحض مقالات الأفاكين. وعن تقرير هذا المقصد الْقُرآني النفيس فِي تقويم الفكر الإنساني يحدثنا العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله بقوله فِي كتابه «بدائع الفوائد»: «وإذا تأملت القرآن وتدبرته، واعر ته فكرا وافيا، واطلعت فيه من أسرار المناظرات، وتقرير الحجج الصحيحة، وإبطال الشبه الفاسدة، وذكر النقض والفرق والمعارضة والمنع على مَا يشفي ويكفي لمن بصره الله وأنعم عليه بفهم كتابه»69.

 المبحث الرابع: إصلاح التفكير الإنساني بالدعوة إلي النظر والتفكر

هذا لون آخر من إصلاح التفكير الإنساني ومقصد قرآني جليل، وهو دعوة الناس جميعا إلى النظر والتفكر والتدبر في ملكوت السموات والأرض، وفي هذا إثارة لعقولهم، وتحفيز لألبابهم للبحث والتنقيب والكشف عن سنن الله تعالى المبثوث في الوجود، والقوانين المركوزة في الكون، من أجل إقامة مقصد العمران الذي بلا ريب يحقق مقصد العبادة بمعناه الشامل.

ولا يخفى أن التفكير خاصية الإنسان تفضلا من الله تعالى ومنه، فهو مجبول على ذلك، وإنما جاءت الآيات الكريمات لتبين لَهُ كيفية إعمال التفكير والنظر، أو تأتي معاتبة لهم على عدم الانتفاع به، أو سوء إعماله. ولا جرم أن الوجود الحقيقي للإنسان مرتبط بقدرته على التفكير، ومدى توظيفه لَهُ، حتى قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت في مقولته المشهورة عنه «أنا أفكر إذن أنا موجود»70. فقد ربط بين التفكير والوجود، وهذا يعني أن غياب التفكير يعني عدم الوجود، ويترتب عنه القول بموت كل من لا يفكر، وإن كان حيا.

ولقد كان هذا المنهج القرآني في إصلاح التفكير الإنساني بالدعوة إلى النظر والتفكير وراء بزوغ نجم المسلمين في البحث العلمي التجريبي وانطلاقتهم الحضارية وريادتهم في شتى العلوم والمعارف. لذلك وجدنا مجموعة من الآيات الكريمات تحث على التفكر والنظر والتبصر، والتدبر، من ذلك:

  • قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ..﴾ [ال عمران: 190 - 191].
  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ [سبأ: 46].
  • وقال عز وجل: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 6- 8].
  • وقال عز وجل: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: 24 -32].
  • وقال جل جلاله: ﴿فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ﴾ [الطارق: 5].
  • وقال تعالى: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: 17].
  • وقال سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 185].
  • وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الرعد: 3].
  • وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ [النحل: 10].
  • وقوله عز وجل: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: 68].
  • وقال جل جلاله: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176].

يقرر القرآن الكريم حقيقة لا ريب فيها، وهي أن النظر والتفكر فريضة، قَدْ يقوم بها الفرد وحده، أو مع غيره. وهو أمر إلهي «بالنظر والاستدلال» على مَا حكاه القرطبي في تفسيره.71 ومعلوم أن الفرد قَدْ يستوجب العقاب واللوم والذم على التفريط فيه، وعدم القيام به. وقد أحسن عباس محمود العقاد رحمه الله حينما جعل التفكير فريضة مثل باقي الفرائض الإسلامية، وأفرده بكتاب سماه «التفكير فريضة إسلامية». وقد أفاض في ذكر آيات بيناتٍ في التفكير من القرآن المجيد افتتح بها كتابه، وخصها بعنوان «فريضة التفكير في كتاب الإسلام»، ثم علق عليها بقوله: «بهذه الآيات وجرى مجراها، تقررت، ولا جرم، فريضة التفكير في الإسلام..»72.

ولما كان التفكير، سار من جملة العبادات، وهذا مَا قرره العلامة ابن عاشور رحمه الله بقوله عند تفسيره قوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ِ﴾: «التفكير عبادة عظيمة»73. وقد نقل ابن عاشور عن ابن القاسم رحمه الله أنه حكى عن مالك رحمه الله أنه قال: قيل لأم الدرداء: مَا كان شأن أبي الدرداء؟ قالت: «كان أكثر شأنه التفكر، قيل لَهُ: أترى التفكر عملا من الأعمال؟ قال: نعم هو اليقين»74.

على أن هذه العبادة العظيمة لا يقوم بها إلا اولوا الألباب، ولا ينتفع بها إلا اولوا البصائر، الذين يقفون من خلالها على عظمة الخالق سبحانه. لأجل ذلك قال تعالى: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8]، ففي لفظ «منيب» دليل على أن هذا الصنف هو المنتفع بعبادة التفكر لا غيره، إذ جميع الناس قَدْ يشركون في النظر والتفكير وإدراك المحسوسات، وقد ينقب ويبحث الخاصة منهم، فيكشفون من أسرار الكون وقوانينه مَا يشد انتباه بعضهم، أو يحير الألباب منهم، ولكن بالرغم من ذلك قَدْ لا يتصف بالإنابة والأوبة والرجوع، فهذا لا يقدر عليه إلا المؤمنون المتبصرون، الذين قادهم التفكر إلى القول: ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191].

من هناك ندرك أن التفكير لا يغني وحده، مالم يكن مصحوبا بالإنابة، وأن التبصرة والذكرى لا تنفعان وحدهما. قال ابن عاشور: « وخص العبد المنيب بالتبصرة والذكرى وإن كان فيما ذكر من أحوال الأرض إفادة التبصرة والذكرى لكل أحد لأن العبد المنيب هو الذي ينتفع بذلك فكأنه هو المقصود من حكمة تلك الفعال. وهذا تشريف للمؤمنين وتعريض بإهمال الكافرين التبصر والتذكر»75.

هل التفكير والنظر مقصودان لذاتهما؟

وحينما يدعو القرآن الكريم إلى التفكر والنظر فإنما مقصوده في ذلك التعرف على الخالق جل جلاله، من خلال خلقه وصناعته، لبيان قدرته تعالى، ومعرفة بيدع صنعه. فتكون النتيجة لَيْسَ التفكير والنظر مقصودين لذاتهما، وإنما لما يترتب عليهما من العبودية الكاملة لله تعالى، والتعرض إليه، وحسب الإنابة إليه، والشكر لَهُ على نعمائه وأفضاله. لذلك قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: 191]، وكلها نعوت لأولي الألباب.

وعلى هذا المقصد نبه الراغب الأصفهاني بقوله: « نبه تعالى (إلى ) أن التفكر في ذلك يدل على وحدانية الله تعالى،.... فإن الإنسان يمكنه أن يعرف حكمة الصانع أولا بتدبر مصنوعه، ومتى عرف حكمة الصانع حينئذ عرف مصنوعاته به، فيصير مَا كان دالا مدلولا، وما كان مدلولا دالا، وبهذا النظر قال من سأل: بما عرفت الله؟ فقال: به عرفت كل مَا سواه»76.

وينبني على هذا – أيْضًا – وبإمعان النظر في سياقات الآيات الكريمات التي سقتها آنفا، أن للقرآن الكريم منهجا فريدا في تفنيد مزاعم الكفار والضالين والملحدين، بتبكيتهم، ودحض شبهاتهم، حيث يردهم غلى المحسوسات حينما يتكرون الغيبيات، بل ينطلق معهم من دلالة المحسوس ليثبت به مَا هو غائب، وهذا منهج دقيق في تسديد الذهن وتقويم التفكير الإنساني، وهو منهج –أيْضًا – فريد في الحوار والجدل. ولا جرم أن دلالة المحسوس قطعية، لا يجادل فيها إلا من فقد عقله كلية أو مَن أصيب بعمى البصيرة كلية.

 ومثال ذلك قوله عز وجل: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوج وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [ق: 1 - 11].

وبهذا نرى القرآن الكريم في إصلاحه للتفكير الإنساني، يؤسس منهجا معرفيا قوامه الالتفات إلى المحسوسات، والبحث فيها، واكتشاف قوانينها وأسرارها، بدل الارتهان إلى التفكير الخرافي والأسطوري. يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «إن القرآن الكريم أراد أن يكون السند الجديد لمعارف البشر مستنبطا مما يرونه يسمعونه ويلمسونه من سن الله تعالى، ومن بديع صنعه في الأشياء المادية التي تكشف عنها المعايشة الحقيقة. وبذلك يتخلصون من أسر النظم المعرفية المملوءة بالأوهام والخيالات والتي ورثوها عمن قبلهم»77.

وفي عصرنا يمكن استخدام وسائل عقلية وتقنية للتأمل، مثل المخترعات الحديثة، من مجاهر إليكترونية ومختبرات، أو عبر مشاهدة أفلام وثائقية لتربية الشباب على هذه العبادة المهجورة إلى حد مَا، وهي في الحقيقة مرتبطة بدينه ومن صميم عقيدته.

على أن القرآن الكريم لا يقتصر في دعوته إلى التفكر والنظر فقط في المحسوسات، من السموات والأراضين وما فيهن، وإنما يتعداه إلى التفكير في قصص من سلف من الأقوام والشعوب، وأخذ العبرة والعظة من تاريخ الأمم. لذلك قال تعالى: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 176].

وقد تحصل لدي مما سبق أن القرآن المجيد لَهُ قصد في إصلاح التفكير الإنساني عن طريق النظر والتفكر، فهو بذلك يؤسس لمنهج النظر العقلي، المبني على الاستدلال وعلاقة الشاهد بالغائب، وكيفية الانتقال من المحسوس إلى الاستدلال به على الغائب. والمقصود من ذلك كله معرفة الخالق جل جلاله. كَمَا يؤسس في الوقت ذاته من خلال حكاية فصص الأولين، منهجا للتاريخ مبنيا على المقايسة، من أجل الاعتبار والاتعاظ.

المبحث الخامس: إصلاح التفكير الإنساني بالتثبت من الأخبار والاستيثاق منها

ومن إصلاح التفكير الإنساني، الذي جاء به القرآن المجيد، التثبت من الأخبار، والاستيثاق منها. وحكاية مَا كان حقا منها، محمولا على الصحة والصدق واليقين، مع تجنب الظن والتوهم والشك، قَدْ تشكل على أثره منهج فريد اختصت به الأمة الإسلامية، انبثقت عنه قواعد منهجية لتمحيص الأخبار، ونقد الروايات.

وقد كان علماء الحديث روادا هذا المنهج، حيث استقوا لبناته التأسيسية الأولى من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية الشريفة، فالتفتوا في قبول الأحاديث، إلى عادلة وضبط رواياتها. وهذا شرط- طبعا - محمول عندهم على غلبة الظن، خاصة فيما يتعلق بالعدالة. ويقول أبو بكر الخطيب البغدادي في معرض حديثه عن خبر الواحد: «إنما تعبدنا بالعمل بخبره (حبر الواحد) متى ظننا كونه صدقا، فحاله في ذلك كحال الشاهد الذي أمرنا بالعمل بشهادته دول اعتقاد شيء من هذه الجملة فيه»78.

ومما يدل من الآيات الكريمات على هذا الإصلاح الذي توخاه القرآن الكريم مَا يلي:

  • قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
  • وقوله عز وجل: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾ الآية [المائدة: 27].
  • وقوله تعالى على لسان الهدهد: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ [النمل: 22].
  • وقوله سبحانه وتعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الكهف: 13].

في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.....﴾ الآية دعوة صريحة وواضحة إلى التثبت من الأخبار والأنباء، حتى يصير ذلك منهجا معرفيا يصطحبه المسلم فضلا عن العالم يوميا، فيصير - أيْضًا – سلوكا اجتماعيا عاما، يبين كيفية التعامل مع الأخبار التي تلقى إلينا يوميا، سواء من أسرنا ومحيطنا الاجتماعي، أو دولنا، وهي الأقرب إلينا بحكم انتماءنا إليها، أو الأخبار التي تفد علينا من العالم كله.

وينبني على هذا المنهج، ويتفرع عنه قبول الأخبار والأقوال والحكايات مهما كان مصدرها أو مرجعها، إذا توافرت فيها شروط الصحة والقبول، وسلمت من الطعن والنقد. فبذلك يكون القرآن الكريم قَدْ أسس لبنات ومهمة جدا لبناء التفكير الإنساني وإصلاحه في محال التوثيق والتثبت، نجملها فيما يلي:

أولا: ترسيخ مبدأ أصيل في التلقي، يعتمد منهج توثيق الأخبار، والتثبت من صحتها، والتين من مصادرها ومواردها، والإحاطة بها، حتى يحصل اليقين أو الظن الغالب القريب من اليقين. وهو الذي سماه القرآن المجيد بالنبأ. قال الراغب في مفرداته: «النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرى عن الكذب، كالتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ».79

ثانيا: أن صحة الخبر وصدق القول في نفسه يغني عن الالتفات إلى صاحبه، ويعني بذلك انه لا ينبغي أن تكون موافقته أو مخالفته مانعا لنا من قوله وتصديقه، إذا كان خبره صحيحا وقوله صادقا. فلا ريب أن تلقف الخبر من غير تبينه، والكشف عن زيفه، وسبر صحته من ضعفه، وخطأ صاحبه من زلله، وفسقه من عدالته، لَهُ عواقب وخيمه، ومألات جسيمة، وأضرار شديدة، على الفرد في نفسه، وعلى المجتمع والدولة، فتحصل من جراء ذلك الاضطرابات في المعلومات، المفضية غلى التنازع والانقسام والتشرذم والتمزق، فيعقب ذلك الفشل المنتهي بذهاب كيان المجتمع أو الدولة.

وما أكثر الأخبار الذي تتقاذها أفواه الفسقة الفجرة، قصد تفتيت وحدة الأمة، فكان لابد من التثبت والاحتياط. فكان لابد من التثبت والاحتياط، وما أروع مَا خطه بنان الشهيد سيد قطب رحمه الله، بيانا لقوله تعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾، حيث قال: «ويخصص الفاسق لأنه مظنة الكذب. وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل مَا ينقله أفرادها من أنباء، فيقع مَا يشبه الشلل في معلوماتها. فالأصل في الجماعة المؤمنة أن يكون أفرادها موضع ثقتها، وأن تكون أنباءهم مصدقة مأخوذا بها. فأما الفاسق فهو موضع الشك حيث يثبت خبره. وذلك يستقيم أمر الجماعة وسطا بين الأخذ والرفض لما يصل إليها من أنباء. ولا تعجل الجماعة في تصرف بناء على خبر فاسق. فتصيب قوما بظلم عن جهالة وتسرع. فتندم على ارتكابها مَا يغضب الله ويجانب الحق والعدل في اندفاع»80.

وبما أن هناك علاقة وطيدة بين الخبر والمخبر، أشارت إليه الآية الكريمة، فقد وجدنا علماء الحديث يتوسعون في وضع ضوابط ومناهج في كيفية التعامل مع الأخبار، فمنها مَا هو خاص بدراسة الخبر، ومنها مَا هو متعلق بالمخبر، بناءً على الآية السالفة.

ثالثا: الإنصاف والعدل في قبول الأخبار، وتمحيص الأقوال دول الالتفات إلى دين أو عقيدة الخبر، أو مذهبه، أو انتماءه السياسي أو الجغرافي، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152]، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ [النساء: 135]، وقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ [المائدة: 8].

 وهذه الأمور التي ذكرت ومثلها، لا يرد الخبر من أجلها، إذا كان صحيحا موثوقا به، وقد يكون صاحبها –أحيانا- صادقا وإن كان مشهورا بالكذب والفسق. ألا ترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق إبليس اللعين في تعليمه لأبي هريرة رضي الله عنه وقوله: «صدقك وهو كذوب ذاك شيطان»81.

وقد ذكر ابن حجر في شرحه الموسوم بـــ «فتح الباري» فوائد لهذا الحديث منها: «أن الشيطان قَدْ يعلم ما ينتفع به المؤمن، وأن الحكمة قَدْ يتلقاها الفاجر فلا ينتفع بها، وتأخذ عنه فينتفع بها، وأن الشخص قَدْ يعلم الشيء ولا يعمل به، وأن الكافر قَدْ يصدق ببعض مَا يصدق به المؤمن، ولا يكون بذلك مؤمنا وبأن الكذاب قَدْ يصدق»82.

ومن ذلك –أيْضًا- قوله تعالى حكاية عن بلقيس ملكة سبأ: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 32 - 34].

فالله تعالى ذكر مقالة ملكة سبأ، وصدقها فيما قالت، ودليل التصديق أنه لم يعقب ذلك بإنكار منه. فكأنها اتكأت في ذلك على شهادة التاريخ. قال العلامة محمد أمين الشنقيطي: «ألا ترى أن ملكة سبأ، في حال كونها تسجد للشمس من دون الله، هي وقومها، لما قالت كلاما حقا، صدقها الله فيه، ولم يكن كفرها مانعا من تصديقها في الحق الذي قالته، وذلك في قولها فيما ذكر الله عنها، ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ﴾ فقد قال تعالى مصدقا لها في قولها ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾»83.

وقد بنى الشاطبي رحمه الله على حكايات القرآن الكريم قاعدة نفيسة، نص عليها في المسألة الثالثة من دليل الكتاب، ثم طفق يبينها، فقال بما نصه: «كل حكاية وقعت في القرآن، فلا يخلو أن يقع قبلها أو بعدها، وهو الأكثر رد لها، أو لا، فإن وقع رد، فلا إشكال في بطلان ذلك المحكي وكذبه، وإن لم يقع معها رد فذلك دليل صحة المحكي وصدقه»84.

فلا جرم إذن أن القرآن الكريم يؤسس منهجا في قبول الأخبار والأقوال، عماده التثبت والتمحيص، والإنصاف والعدل. فالنفس السوية والمتزنة تتعامل مع صحة الأخبار والأقوال، والنفس المختلة تلتفت إلى المخبر، هل هو من شيعة المخبر أو من خصمه وعدوه؟

وقد بين ابن خلدون رحمه الله كيف تتعامل النفس المتشيعة مع الخبر بقوله: «ولما كان الكذب متطرقا إلى الخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها: التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحله قبلت مَا يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاءا على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، وتقع في قبول الكذب ونقله.

ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيْضًا الثقة بالناقلين، وتحميص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على مَا في ظنه وتخميه فيقع في الكذب.

ومنها توهم الصدق وهو كثير، وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. ومتها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل مَا يداخلها من التلبيس والتصنع، فينقلها المخبر كَمَا رآها، وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح، وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، فتستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء، والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة، وليسوا بأكثر من راغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها»85.

ومع الأسف فإن تراثنا الفكري والعلمي مَا زال في حاجة ملحة إلى مزيد من تمحيص مقولاته، وسبر أفكاره بعيدا عن ضيق المذهبيات، والتحزبات والتشيعات، إلى رحابٍ أوسع وهو رحاب منهج القرآن الكريم ومقاصده الرحبة، دون إفراط أو تفريط، ودون تشدد أو مغالاة.

أقسام الحج أو الأدلة في القرآن المجيد

ونبني على مَا سبق بيانه من المباحث، أننا يمكن أن نتحدث عن أقسام الحجج أو الأدلة القرآنية، وهي:

أولا: من حيث التصنيف العام، فهي قسمان:

- حجة حقة، وهي التي تستند إلى برهان، وتتكئ على استدلال صحيح وقوي.

- وحجة باطلة داحضة، وهي في الحقيقة شبهة، وإنما سماها القرآن الكريم حجة باعتبارين، باعتبار أن أصحابها يزعمون أنها حجة وهي ليست كذلك في الواقع العلمي والعملي، أو سماها حجة تهكما بهم، وازدراء لعقولهم التي تتمسك بهذه الشبه، وتعتقد أنها من الحجج القوية.

ثانيا: من حيث التصنيف الخاص، وذلك بحسب نوعية الحجج، وموطن الاحتجاج بها. فيمكن تقسيم الحجج الحقة إلى مَا يلي:

- الحجة النقلية: وهي المعبر عنها بالكتاب المنير.

-الحجة العقلية: وهي المتضمنة في لفظ الهدى.

-الحجة التاريخية، أو الإخبارية: وهي الواردة في القصص من العبر والعظات.

- الحجة الكونية: وهي النظر في الموجودات، للاستدلال بها على الخالق والموجد جل جلاله. وهي المرتبطة بالبحث في الموجودات، واكتشاف مَا بها من أسرار وحكم وقوانين، وينتفع بها الإنسان –أيْضًا – في عمارة الأرض.

فهذا التنوع في الحجج والأدلة في القرآن، يعطينا فكرة عن كيفية ترشيد التفكير الإنساني، وبناءه وتقويمه بمعرفة الحجج وكيفية إعمالها، وبناء المناهج المعرفية المرتبطة بالوحي.

المبحث السَّادِس: إصلاح التفكير الإنساني تعليم الموازنة الصحيحة

لا يخفى أن القرآن الكريم ينبوع الحكمة، ومصدر النور، الذي يشع علما ومعرفة، لا تنقضي عجائبه، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب لَهُ، ولا يتم ذلك، إلا بمقابلته بغيره، سواءً من جنسه أو مما يعارضه، لموازنته به. ولما كانت هذه القضية كثيرا مَا تغيب عن أكثر الناس، خاصة المعاندين منهم، فقد أخذت حظا وافرا من الآيات البينات في كتاب الله تعالى، حتى قرر ابن القيم الجوزية تبعا لشيخه ابن تيمية رحمهما الله أن «القرآن والسنة قَدْ دلا على الموازنة»86.

وهذا إصلاح جليل القدر، وغزير النفع، إذ يوجه القرآن المجيد بع التفكير الإنساني ويرشده، نحو المصالح والمنافع لاجتلابها، والمفاسد والمساوي لدرئها، فيضع أمامه ميزانا ومعيارا مقاصديا، يؤول إلى المقابلة بين المصالح والمفاسد. وهذا يحتاج إلى قدر كبير من التدبر والتأمل وتجديد النظر في آيات الله تعالى.87

وسأكتفي هنا بذكر بعض الآيات الكريمات للاستدلال بها على هذا النوع من الإصلاح الذي يقصد إليه كتاب الله تعالى، وسأتبع ذلك وأردفه بما ذكره العلماء الأجلاء. من ذلك:

  • قال سبحانه وتعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 217].

ذهب فخر الدين الرازي إلى أن «كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين: أحدهما: أن كل واحد من هذه الأشياء كفر، والكفر أعظم من القتال. والثاني: أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام، وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش، وهو مَا كان قاطعا بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام، وهؤلاء الكفار قاطعون لوقوع هذه الأشياء منهم الشهر الحرام، فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر»88.

وقال جل ثناءه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].

قال العز بن عبد السلام: «حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما»89. وقال القرطبي في الآية: «أعلم الله عز وجل وعز أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الأخرة»90.وقال ابن كثير: «ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين»91.

  • وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ﴾ [السجدة: 18].
  • وقوله عز وجل: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص: 28].
  • وقوله جل شأنه: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21].
  • وقوله عز وجل: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35 - 36].

هذه الآيات الكريمات تنفي المساواة بين المؤمنين والكفار، والمسلمين والمجرمين، والمتقين والعصاة الفاسقين. ونفي المساواة يقتضي أن تنزل كل فئة منزلتها اللائقة بها، قال القرطبي: «اقتضى ذلك نفي المساواة بين المؤمن والكافر»92. وقال ابن كثير: «يخبر تعالى عن عدله أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنا بآياته متبعا لرسله، من كان فاسقا، أي: خارجا عن طاعة ربه مكذبا لرسله إليه»93.

  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: 79].

لا يخفى أن ضرر الخلق أقل من ضرر الغصب، وهو تصرف بمقتضى المصلحة الغالبة، دون الالتفات إلى الخلق اليسير. قال القرطبي: «ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه»94.

وقال ابن عاشور: «وتصرف الخضر في أمر السفينة تصرف برعي المصلحة الخاصة عن إذن من الله بالتصرف في مصالح الضعفاء؛ إذ كان الخضر عالما بحال الملك، أو كان الله أعلمه بوجوده حينئذ، فتصرف الخضر قائم مقام تصرف المرء في ماله بإتلاف بعضه لسلامة الباقي، فتصرفه الظاهر إفساد وفي الواقع إصلاح لأنه من ارتكاب أخف الضررين»95.

وقال عز وجل على لسان موسى عليه السلام: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ [طه: 94].

وقد انطوت الآية الكريمة على الموازنة بين وحدة صف بني إسرائيل، بالرغم من مخالفتهم للعقيدة الصحيحة التي جاء بها موسى وهارون عليهما السلام، فترجع لدى هارون عليه السلام الإبقاء على وحدة صفهم والتأليف بينهم إلى حين رجوع موسى عليه السلام، ولا يخفى أن هذا حصل بحضرة نبي الله هارون، ولم يأت في القرآن مَا يبطله أو يعاتبه.

وعن هذا المسلك قال نجم الدين الطوفي في كتابه: «الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية»: «فيه جواز التصرف في الأحكام والسياسات بحسن رعاية المصالح، لأن هارون حصد أعلى المصلحتين عنده، وهو جمع بني إسرائيل وتأليفهم، ودفع أعظم المفسدتين، وهو التفريق بينهم، وإن استلزم ذلك مخالفة أمر أو ارتكاب نهي، وأن المتصرف بحسب المصلحة مؤديا للنصيحة معذور»96.

والذي أقرره هنا أن القرآن الكريم مليء بهذه الموازنات، تظهر في سياقات مختلفة ومتنوعة، ولم أجد - في تقديري المتواضع- سوى معيار واحد ودقيق لهذه الموازنات، وهو معيار المصالح والمفاسد، سواء تعلق الأمر بالقضايا الاجتماعية، أو السياسية، أو الكونية، أو غيرها.

وفي هذا إصلاح للتفكير الإنساني لينحو هذا المنحى، حتى لا يفرط في المصالح الحقيقية، ويتمسك بالمصالح الوهمية، أو التي لا جدوى من وراءها، ولربما ترتبت عنها مفاسد كثيرة. ونحن اليوم نرى كيف فرط المسلمون، وخاصة أبناء الحركة الإسلامية منهم، في هذا المنهج القرآني الفريد، فأضاعوا مصالح جمة، والأمر هنا يتعلق بالمشاركة السياسية أكثر من غيرها.

ولا ينبغي أن يفهم منه أن باقي القضايا سواء الفكرية والعلمية وغيرها بمعزل عن هذا اللون من الإصلاح. فالموازنة تدخل الحياة من باب واسع جدا، ومن لم يكن معه حظ من الموازنات القرآنية، تاه في بيداء قاتلة.

فلئن استبان أن القرآن المجيد قَدْ قصد إلى إصلاح التفكير الإنساني بتعلم الناس الموازنة، وإرشادهم إليها، فإنني قَدْ وقفت فيه على «تنوع العبارات والألفاظ الدالة على ذلك، ونجمل القول فيها فيما يلي:

- لفظ الموازنة (الوزن، موازين، الميزان).

- لفظ المفاضلة ( فضل، فضلناهم، فضلتكم، نفضل، فضلنا، فلوا، تفضيلا، فضلكم، يتفضل).

- التدرجة ( درجة، درجات).

- سياق المفاضلة سواء بين الأعمال أو الأعيان من غير ذكر لفظ من ألفاظ المفاضلة الصريحة، وإنما ذلك مصرح به من جهة الصيغة.

- التعبير بخيرة العمل أو الفعل: ( خير).

-نفي التسوية بين أعمال الأبرار وأعمال الفجار عن طريق المقابلة ( لا يستوي، لا يستوون) »97.

المبحث السابع: عواقب التفكير الإنساني فِي الْقُرآن الكريم

لقد تقرر آنفا أن للقرآن المجيد مقصدا لإصلاح التفكير الإنساني، منبها في ذلك على طرق ومناهج غاية في الدقة والإحكام. لكننا وجدما كتاب الله تعالى لا يكتفي بذلك فحسب، وإنما يحذر في الوقت نفسه من العوائق التي تقف كالعقبة الكأداء، أو الصخرة الصماء أمام إصلاح التفكير، فتعوقه عن النهوض، حيث تشل من فاعليته، وتقيد من حركته، كَمَا أرادها لَهُ خالقه عز وجل.

لأجل ذلك كان لزاما علينا، لتكتمل صورة هذا المقصد، أي مقصد إصلاح التفكير الإنساني في القرآن الكريم، أن نتحدث عن عوائق التفكير كَمَا حكاها لنا القرآن الكريم نفسه، وهي:

أولا: التقليد والاتباع لمن سلف من الآباء:

  • قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 170 – 171].
  • وقال عز وجل: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الصافات: 69- 71].
  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان: 21].
  • وقال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].
  • وقال جل جلاله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 77].

وردت هذه الآيات الكريمات في ذم التقليد، واتباع الآباء، ومن سلف من غير بينة ولا حجة، وأن فعلهم هذا ينم عن انعدام العقل، وأنه صادر عن الشيطان، وكفى بهذا شناعة. فيكون التقليد - بذلك – من الباطل المعوق لمنطق الاستدلال والتمسك بالحجة. لذلك نجح العلماء إلى أن «التقليد قبول قولا بلا حجة». وهو عند المحققين كأبي حامد الغزالي في مستصفاه98. وابن القيم الجوزية في إعلامه99 لا يفيد العلم، بل مناف لَهُ قطعا.

ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الموطن، أن القرآن الكريم قَدْ استعمل مصطلح «الاتباع» بمعنيين: الأول: اتباع مَا جاء عن الله تعالى، ويدخل فيه بالتبع مَا صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني: التقليد لمن سلف من الآباء.

وبالرغم من هذا الاشتراك في الإطلاق، وجدنا الأصوليين قَدْ فرقوا بينهما، فحملوا الأول على اتباع الدليل والحجة، والثاني على التقليد المحض الخالي منهما. قال أبو عبد الله محمد ابن خويز منداد: «التقليد معناه في الشرع: الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه. وذلك ممنوع منه في الشريعة. والاتباع: مَا ثبت عليه حجة»100.

وعلى هذا جرى ابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله» فقال: «التقليد عند العلماء غير الاتباع، لأن الاتباع هو تتبع القائل على مَا بان لك من فضل قوله وصحة مذهبه. والتقليد أن تقول بقوله وأنت لا تعرف وجه القول ولا معناه وتأبى من سواه، أو أن يتبين لك خطؤه فتتبعه مهابة خلافه، وأنت قَدْ بان لك فساد قوله، وهذا محرم القول به في دين الله سبحانه وتعالى»101.

ثانيا: اتباع الظن

هذا عائق آخر ذكره القرآن المجيد، وهو من العوائق والموانع الصارفة للتفكير عن السداد والصواب، فجاءت الآيات الكريمات تترى من ذمه والتشنيع على متبعيه، من ذلك:

  • قال عز وجل: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 158].
  • وقال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 116].
  • وقال سبحانه: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148].
  • وقال جل جلاله: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: 34 - 36].
  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [يونس: 66].
  • وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].
  • وقال سبحانه: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى﴾ [النجم: 23].
  • وقال عز وجل: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية: 24].

بالنظر في السياقات التي ورد فيها الظن في هذه الآيات، نجد أن الظن مضاد للعلم، ومتنافي معه، وصارف عن الحق. ولما كان كذلك فقد ورد في بعض الآيات مقترنا بالكذب واتباع الهوى. لأجل ذلك كان الظن مذموما وممقوتا، وهذا هو الأصل فيه، لأنه مبني على التوهم والخيال، والجائز منه مَا استند إلى أمارة أو دليل مرجح، مفضا إلى العلم.102

على أن اتباع الظنون، مخالف لمنطق الاستدلال الذي جاء به القرآن الكريم، لأن أكثر الظنون لَيْسَ عليها دليل، وآية سورة الحجرات واضحة في النهي عن اتباع أكثر الظن، والأخذ بمبدأ الاحتياط، أما الظن المبني على مقدمات صحيحة، فهذا يمكن البناء عليه، ويمكن الأخذ به بناءً على مقدماته الدليلة، لأجل ذلك لم يأت ذم الظن مطلقا، وإنما المذموم منه مَا كان عاريا عن دليل يوجب المصير إليه.

لهذا وجدنا القرآن الكريم لا يقبل الظن في موطن اليقين، فرد مزاعم المشركين وافتراءاتهم في حق الله تعالى وملائكته، وبصفة عامة في مجال العقيدة، لذلك رفض علماء الكلام خاصة الاستناد إلى الظن في علم أصول الدين. قال الرازي: «الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز»103.

وعلى أثر ذلك جنح القرطبي إلى تقسيم الظن إلى قسمين: محمود ومذموم. قال رحمه الله: «الظن في الشريعة قسمان: محمود، مذموم، ضده، بدلالة قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ وقوله: ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾، وقوله: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾»104.

وقد وضع القرطبي لهذا التفريق معيار، وهو وجود أمارة على الظن المحمود، وغيابها في الظن المذموم، وعلى ذلك وقع قوله: «والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أن كل مَا لم تعرف لَهُ أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب...» ثم قال بعدها وهو يبين حكم الظن من حيث أنباؤه على الأدلة حتي يقبل: «للظن حالتان: حالة تعرف وتقوي بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد، وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات»105.

ثالثا: اتباع الهوى

من عواقب إصلاح التفكير التي ذكرها القرآن الكريم اتباع الهوى، والسير في ركابه، والاحتكام إليه، لذلك جاء ذمه في القرآن الكريم مطلقا، وفي سياقات متعددة، والذي يعنيني منه مَا جاء ذكره مضادا للعلم.

  • قال عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ﴾ [الرعد: 37].
  • وقال سبحانه وتعالى: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [الروم: 29].
  • قال جل جلاله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 18 - 19].

فهذه الآيات الكريمات تبين قصد القرآن الكريم إلى اتباع العلم ومخالفة الهوى، لأن العلم يقوم على البرهنة والدليل، والهوى يحتكم إلى ميلان النفس وما تستلذه. قال الجرجاني في (التعريفات): «الهوى ميلان النفس إلى مَا تستلذه من الشهوات من غير داعية الشرع»106.فيكون بذلك منقضا لدعوة القرآن الكريم إلى ترسيخ مبدأ البرهنة والاستدلال.

لأجل ذلك كانت مخالفة الهوى قصدا للشارع الحكيم، لضبط الأفعال الإنسانية وإلجامها بلجام الشرع, وقد قرر الشاطبي رحمه الله قاعدة نفسية في هذا الصدد، فقال: «المقصد الشرعي من وضع الشرعية إخراج المكلف عن داعية هواه، حتي يكون عبد الله اختيارا كَمَا هو عبد لله اضطرارا».107

والقرآن الكريم يقرر حقيقة لا مراء فيها أن مسلك اتباع الهوى ومخالفة العلم، هو مسلك الظالمين والضالين، المسترسلين مع أهوائهم بلا حدود ولا قيود، إلى حد أن تكون أهواؤهم هي التي تقودهم، وهي المقدمة على البرهان والدليل. وقد بين الشاطبي رحمه الله هذه الحقيقة حينما تحدث عن (مأخذ أهل البدع بالاستدلال) بقوله: «فليس نظرهم إذا في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه، بل نظر من حكم الهوى، ثم أتى بالدليل كالشاهد له»108.

وقال أيْضًا: «فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتي يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا عل آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك».109

وقال أيْضًا: «وقال الشاطبي مبيناً خطر نصب الهوى مقدمة للدليل: «وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا مَا فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء»110.

إن ترك الموازين العلمية والعقلية، والتنكب للبراهين والحجج والأدلة، إنما هو بلا ريب من اتباع الهوى. فمتبعو الأهواء والشهوات، لا تحكمهم الأدلة، ولا يلتفتون إلى البراهين والحجج، ولا يستنيرون بنور العلم وضياءه، ولا يزنون بميزان الحقائق العلمية، لأن على أبصارهم غشاوة وعلى قلوبهم الصدأ من شدة استحكام الهوى عليهم، فأصبحوا مبتوتي الصلة بالموازين العلمية والعقلية، فأني أن يبصروا الحق ويهتدوا بديه، ويسلكوا سبيله؟

والنفس البشرية إذا علتها الأهواء ومادت بها ذات اليمين والشمال، حصل لها اضطراب ففقدت اعتدالها وتوازنها واستواءها، ونشأ عن ذلك انخرام الموازين التي تحتكم إليها، فانقلبت أمامها الحقائق، وتغيرت لديها التصورات، فأصبحت في ضلال مبين.

لذلك جاء القرآن بذم اتباع الهوى لكونه معوقا للتفكير، ومن إصلاح التفكير الإنساني إزاحة هذا العائق بالعلم والهدى والنور الذي أتى به القرآن الكريم.

رابعا: التكبر والجحود:

ومن موانع إصلاح التفكير الإنساني وعوائقه التي ذكرها القرآن الكريم التكبر والجحود. فهما صارفان عن إدراك الحقائق، ومانعان من الفهم، فكان لابد من اجتناب أسباب التلبس بهما. لذلك وردت آيات كريمات تحذر بصيغتها الخبرية المتكبرين والجاحدين وتتوعدهم، منها:

قوله عز وجل: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف: 146].

وقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: 13-14].

قوله جل جلاله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ [يونس: 75].

وقوله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ﴾ [المؤمنون: 45 - 46].

وقوله جل جلاله وقال تعالى: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ [العنكبوت: 39].

وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ [فصلت: 15].

وقوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [السجدة: 15].

ذكر الراغب في «مفردات ألفاظ القرآن» أن «الكبر والتكبر والاستكبار تتقارب»111 ويعني بذلك التقارب في المعنى، وكلها دواعي نفسية، يحس المتصف بها بالعلوم والانتفاخ.

وهاتان الصفتان الكبر والجحود، لا تصدران إلا عمن كان من المجرمين، أو من العالين والمفسدين، كَمَا يظهر من الآيات القرآنية السالفة، فتصرفاته عن قبول الأدلة الباهرة، والأدلة القاهرة، وتمنعانه من إدراك حقيقته، وحقيقة وجوده، لذلك قال القشيري في تفسيره: «التكبر جحد الحق على لسان العلم، فمن جحد حقائق الحق، فجحوده.....».112

ولا يقف الأمر عند حد التكبر والجحود، وإنما تتقلب لدى المتصف بها الموازين، فيتخذ سبيل الغي، ويستنكف عن سبيل الرشد، ولم يحصل لَهُ ذلك إلا من جراء التكذيب والغفلة، الجاثمين على قلبه الموصد والمطبوع، ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: 35].

فلئن كان القرآن الكريم قَدْ بين هاذين المانعين، واقصد بهما التكبر والجحود، فإنه دعا إلى التخلص منهما، ومن غيرهما بتزكية النفس وطهارتها من هذه الدواعي النفسية، والأدواء القلبية، بحملها على الفضائل والشمائل الكريمة، مع اجتناب مضادتها، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 9 - 10].

وصفوة الكلام مما سبق أن القرآن الكريم كَمَا اعتنى بإصلاح التفكير الإنساني، وكان مقصده في ذلك بيانا، فإنه كذلك كان لَهُ مقصد في بيان موانع هذا التفكير وعوائقه، من التقليد، واتباع الظن والهوى، والكبر الجحود.

خاتمة

لا أريد في هذه الخاتمة أن أعيد مَا بسطت الكلام عنه آنفا، وإنما ابتغي منها الإشارة إلى أمرين محددين:

الأمر الأول: أقرر فيه أن لب مقصد القرآن المجيد وجوهره في إصلاح التفكير الإنساني، يدور فلكه على منهج البرهنة والاستدلال ويتفرع عنه الإصلاحات الأخرى التي أشار إليها القرآن المجيد كافة، ويمكن أن نصطلح عليها بالمناهج، لأنه فعلا يؤسس لمناهج علمية معرفية، من منهج المحاجة والمناظرة، ومنهج توثيق الأخبار، ومنهج النظر والتفكير، ومنهج الموازنة.

الأمر الثاني: هذا المقصد القرآني في إصلاح التفكير الإنساني، في نظري المتواضع، لا يزال في حاجة ملحة إلى بحث عميق وفريد، ليتشكل على ضوئه منهج قرآني في البحث والمعرفة، وخاصة إذا أضيفت إليه السنة النبوية، لذلك فكثير من القضايا لم أتطرق إليها، راجيا من الله تعالى أن يوفقني لاستكمل هذا البحث المتواضع، وهذا مَا يسر الله بحثه، والحمد لله رب العالمين.


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
مقاصد الْقُرآن الكريم مجموعة بحوث، 2016، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 507-592.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

المقاصد الفكرية للقرآن الكريم

أحمد كافي: أستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، الدار البيضاء، المغرب. محتويات المقال:المحور الأول: المقاصد الفكرية: جهود سابقة في المفهوم والمضمونالمبحث الأول: جهود في المصطلح وجذورهالمبحث الثاني: المقاصد الفكرية...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

من المقاصد التربوية في القرآن الكريم

عبد النور بزا: باحث متخصص في مقاصد الشريعة، أكاديمية مكناس، المغرب. محتويات المقال:-1- ضبط الإشكال-2 - مدخل البحث-3- تحديد مصطلحات عنوان البحثأ - مصطلح المقاصدب - مصطلح التربيةج - مصطلح المقاصد التربويةالمطلب الأول: مقصد...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المقاصد التربوية للقصص القرآني: قصة لقمان الحكيم أنمودجاً

أحمد نصري: أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الحسن الثاني بالمحمدية من مقاصد التربية الكبرى إعداد الفرد إعدادا صالحا ليعيش حياة اجتماعية سوية والارتقاء به إلى ما هو أحسن وفق معايير محددة سلفا، وق...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

إصلاح التفكير الإنساني بالعلم والقراءة

محمّد عوّام نبدأ بأول ما نزل من القرآن الكريم، إذ يظهر من إنعام النظر فيه، أنه أول إصلاح للتفكير الإنساني يؤكده القرآن المجيد، ففي ذلك حكم ومقاصد في غاية الأهمية، وله دلالات قوية، وإشارات بليغة، فأول ما نزل من كتاب الله ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

التواصل والصلة: أخلاقيات وآليات في التأليف والنصوص العربية الإسلامية

كمال عرفات نبهان محتويات المقال:تمهيدالمبحث الأول: موضوع البحث: الذيول والصلات وتواصل النصوصالمبحث الثاني: تسميات كتب الذيول والصلاتالمبحث الثالث: أنواع التذييل ووظائفهلمبحث الرابع: أبعاد التذييلالمبحث الخامس: جهود المؤل...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

العلوم العربية بين نظرية المعرفة والتاريخ

رشدي راشد 1 الحديث عن تاريخ العلوم عادة ما يطولُ ويتَشعبُ ليقفَ بنا أمامَ سؤالٍ ما انفك يُلحُّ على المؤرخين: أين ومتى بدأ هذا البحثُ الذي ما فتئ يهمُ المؤرخين للحضارة ويستلهِمُه فلاسفة العلوم؟ وردي على هذا السؤال هو أن ت...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top