تقارير حقوق الإنسان في ميزان نظريّة المقاصد (حالات مختارة)

شارك:

جمال الدين دراويل: أستاذ الحضارة الحديثة وتاريخ الأفكار بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – القيروان، رئيس منتدى الثقافة والحوار، رئيس تحرير مجلة الحياة الثقافية.

محتويات المقال

1- أصول الحقوق الفردية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (ديسمبر 1948م) في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية
2- نماذج من الحقوق الفرديّة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 ديسمبر 1948م) في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية
3- بعض مواد الاتّفاقية الخاصّة بتحريم السُّخرة، الصادرة في يونيو 1957م في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية
خاتمــة

يُعدُّ الإنسان غاية غايات التّشريع، إصلاحًا لحاله، نظرًا وعملًا وإصلاحًا لمحيطه وعالمه، بوصفهما مجال جولان نظره وعمله، على النحو الذي يحقّق مقصود الشارع من تحرير الإنسان من الخضوع لما سوى الله ومن الانقياد للهوى والظنّ، ومن نشر الخير والفضيلة، وإقامة العدل والقسط، وصولًا إلى إكمال معاني الإنسانية في الإنسان فردًا، وإلى بلوغ الجماعة البشرية أعلى درجات التمدّن والتحضّر المتاحة في كلّ عصر من العصور.

على هذا الأساس كان الإنسان في البنية الفكرية الإسلامية إنسان الحق والحرية من جانب أوّل، تكملة لمقوّمات الكرامة فيه من جهة استقلالية الإرادة وتحرّر الرأي حتى يكون أداؤه لوظيفته بما هو خليفة الله في الأرض أداءً قائمًا على الاختيار والرّضا، فيتّسم بالإتقان والجودة ويأخذ طابع التّواصل والتّصاعد نحو الأفضل؛ لئلّا ينقطع أو ينجرف إلى الفساد والهدم، وهو من جانب آخر إنسان التكليف والمسؤولية؛ تزكية لعوامل الإيجابية فيه، مبادرةً للخير ومسارعةً إليه، وتنمية لجهود إعمار الأرض وإثمارها ضمن التعاون على البرّ والصّلاح مع الآخرين.

ولما كان القرآن الكريم قد أصّل مبدأ الكرامة الإنسانية للبشر كافّة، المسلم وغير المسلم، إذ جاء قول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء:70] قاطعًا في هذا الجانب، كان ذلك أصلًا عتيدًا لحقوق الفرد وحرّياته الضّامنة لكرامته، بما يجعل كل حقّ من الحقوق المعلنة في اللوائح الكونية لحقوق الإنسان يُتبيّن بعد النّظر والفحص أنّه يدعّم كرامة الإنسان ويغذّيها ويحافظ على معاني الإنسانية فيه وينمّيها حقًّا مشروعًا ومرغّبًا في تحصيله، ويعدّ كل اعتداء عليه حجبًا أو منعًا إنقاصًا أو إتلافًا، جريرةً دينيّةً ومخالفةً مدنيّةً تستوجب الإدانة والعقاب.

في ضوء ما تقدم سيتّجه هذا البحث إلى المقارنة بين ما جاء في بعض مواد  تقارير حقوق الإنسان: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصّادر بتاريخ 10 ديسمبر 1948م، والاتّفاقية الخاصّة بتحريم السُّخرة، الصّادرة بتاريخ 25 يونيو 1957م،1 من ناحية، ومقاصد الشريعة المتعلّقة بحقوق الأفراد وحرّياتهم من ناحية ثانية، للوقوف على مدى التّوافق و التعارض بينهما.

1- أصول الحقوق الفردية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (ديسمبر  1948م)  في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

تجد الحقوق الفردية المتضمّنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مرجعيتها في عصر النّهضة الأوروبية، ولا سيما في التصوّرات التي انبثقت مما عرف بــ«النزعة الإنسيّة» humanisme، التي ظهرت منذ أواخر القرن الخامس عشر، وتبلورت في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

ومن أبرز ممثلي هذا التيّار في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي رجل الدين الإيطالي بيك دي لا ميرندول Pic  de la Mirandole الذي أصدر كتابه «كرامة الإنسان» La dignité de l’homme  سنة 1486م وقال فيه:  «قرأت في كتب العرب أنه لا يتسنّى أن نجد شيئًا في الكون أعجب من الإنســان»2 ، مؤكّدًا تجذّر الإيمان بالكرامة البشرية في الثقافة العربية الإسلامية، رغم تراجع ذلك خلال الحقبة الوسيطة لهذه الثّقافة؛ إذ سيطر الظّالمون والجبابرة والمخادعون سياسيًّا، وعمّ الجمود والتقليد والتّعصّب معرفيًّا، وهيّأ اللّقاء بين هذا وذاك المناخ الذي اندرست فيه الكرامة البشرية، إذ وضع الإنسان في غياهب العتمة ولجج النّسيان لصالح تضخيم صورة الحكّام ووضعهم في بعض الأحيان في مقام المحايثة للذّات العليّة الإلهية.

وتعد شرعة الحقوق الشخصية التي أعلنها رجال الثورة الأمريكية سنة 1776م وشرعة حقوق الإنسان والمواطن المنبثقة عن الثّورة الفرنسية سنة 1789م، وما جاء بعدها من قوانين  مماثله ظهرت تباعًا في المجتمعات الأوروبية - المنعطف الحاسم لتقنين الحقوق الفردية في المجتمع الحديث المعاصر وإخراجها من حيّز الإمكان النّظري إلى حيّز التحقّق في الواقع.

وإذا كان للقرن الثّامن عشر الميلادي (قرن الأنوار)   من مآثر، فأبرزها أنّه أخرج قضايا الحريات والحقوق من مجال التفلسف إلى مجال التطبيق العملي.

وإذا الْتفَتْنا إلى مقاصد الشريعة الإسلامية المتعلقة بالإنسان، تبيّن لنا أنّ التشريع جاء لإعلاء شأن الإنسان (فردًا)  بإتمام معاني الإنسانية فيه من خلال العمل على توفير الشروط المادية والمعنوية التي بها تتحقّق كرامته في الواقع، وإعلاء شأن الإنسان (جماعة)   من خلال العمل على ترقية عوامل تنمية إرادتها العامّة تعارفًا وتعاونًا على البرّ والتقوى، بوصف ذلك قوام إنجاز الأعمال الكبيرة والمشاريع الجليلة التي تحفظ  للجماعة توازنها وتصنع عزّتها وتستبقي عظمتها.

في هذا السّياق قال الأستاذ الإمام محمد الطّاهر بن عاشور ضمن تفسيره لقول اللّه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]. «والإحياء هو إعطاء الإنسان ما به كمال الإنسان من إنارة العقول والدّلالة على الخلق الكريم وما به يتقوّم الفرد والمجتمع... والشجاعة حياة للنفس، والاستقلال حياة، والحرّية حياة، واستقامة أحوال العيش حياة»3 .

واللافت للانتباه أنّ هذا التقسيم الرّباعي لمكوّنات الحياة الكريمة - كما أورده ابن عاشور - شمل نواحي الحياة المادية (استقامة أحوال العيش)   ونواحيها المعنويّة (الحرية، استقلالية الإرادة، الشجاعة) .

وفي باب المقصد العام من التشريع  ضمن كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية» بيّن ابن عاشور أن مقصد مقاصد التشريع الإسلامي «صلاح الإنسان بصلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم (البيئة)  »4.

وينبني على ما ذكر ابن عاشور أنّ كلّ ما يزكّي القدرات العقلية للإنسان وكلّ ما يدعّم إرادته المستقلّة واختياره الحرّ، يُعدّ من الحقوق المشروعة المرغّب في تحصيلها، إذ المقصود من وضع الشريعة «إخراج المكلّف (الإنسان)   من داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا»5، على حدّ عبارة الشاطبي في «الموافقات». والاختيار يفترض العقل والحريّة.

وكذا اتّجهت أحكام التّشريع إلى تزكية الإنسان (خلُقيًّا)  وتنمية أحوال معاشه (مادّيًّا)  ، إذ الجانبان ضروريّان ومتكاملان في تزكية إنسانيته وتحقيق كرامته وتنمية شخصيته.

كما اتّجهت أحكام التشريع الإسلامي إلى تصفية كلّ أشكال التعدّي على الكرامة البشرية من الظلم والاستعباد والإرهاب والشدّة والقسوة بكل تصاريفها، وهو ما قصدت إليه الآية الكريمة: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]. قال ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية، وفي سياق تبيانه لمعنى الإصر والأغلال: «استعارة تمثيليّة للدّلالة على تحرّر المرء... من رهق الجبابرة وإذلال الرؤساء وشدّة الأقوياء على الضّعفاء»6 .

فيكون مقصود الرّسالة الإسلامية تصفية كلّ أنواع الإرهاق والإذلال والشدّة التي تعتدي على كرامة الإنسان، تحريرًا للإنسان فردًا وجماعة من مختلف أشكال العنت والاستغلال، إذ لا يستقيم أن يؤدّيَ وظيفته (الخلافة عن الله في الأرض)  خارج نطاق الحرية والكرامة والاختيار المستقلّ، كما لا يُنتظر من الأذلّاء المكسورين أن يحملوا على عاتقهم مشروع العزّة والمناعة الذي ارتضاه الله تعالى لعباده المؤمنين حيث قال: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].

2- نماذج من الحقوق الفرديّة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 ديسمبر   1948م)  في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية:

جاء في المادّة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «يولد النّاس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وهم قد وُهبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء».

تأسّست هذه المادّة الأساسيّة على حقيقية أنّ الناس أحرار بمقتضى النشأة (يولد الناس أحرارًا) ، وأنّ الكرامة و الحقوق مكفولان بالتساوي بينهم، دون تمييز على أساس الدين أو العرق، أو الجنس، أو الانتماء الجغرافي، أو الاجتماعي أو القَبلي، إذ الحكمة العقلية تقتضي أن يُعامل بعضهم بعضًا بروح الإخاء الإنساني النّابع من وحدة الأصل أولًا، ومن الاشتراك في امتلاك العقل والمواهب البشرية التي بها استكشاف العالم وبناؤه، بما يستوجب التّساوي في الكرامة والحقوق ثانيًا، وهو ما يجعل الأحوال المخالفة لهذا المبدأ خروجًا عن الأصل يستوجب ردًّا أوْ صدًّا، بحسب أسلوب الخروج وخلفياته وسياقاته.

من المنطلق ذاته بّين ابن عاشور أنّ «الحرّية وصف فطري نشأ عليه البشر في أوّل وجودهم على الأرض... وأنّها أصل أصيل في الإنسان»7 .

فالإنسان -  بناء على كلام ابن عاشور -  حرّ بأصل وجوده، والحرية مكنونة فيه منذ وُجد على الأرض وباشر الحياة، بل ذهب ابن عاشور إلى أنّ هذا المبدأ يمثل نقطة ارتكاز ينبني عليها التمدّن البشري،8 وهو ما يفرض أنْ «لا تُسام الحرية بقيد إلّا قيدًا يدفع عن صاحبها ضرًّا ثابتًا»9 ، باعتبار أن الاعتداء على الحرية - في نظره - اعتداء على الشخصية الإنسانية في صميمها وجوهرها من جانب، واعتداء على المدنيّة والحضارة البشرية التي لا تنهض ولا تضرب إلى غاياتها البعيدة إلّا بالحرّية من جانب ثانٍ.

وجاء في المادّة الرّابعة: «لا يجوز الاسترقاق أو الاستعباد، و يُحظر الرقّ والاتّجار بالرّقيق بجميع صورهما».

والملاحظ أنّ للمادة الرابعة اتّصالًا وثيقًا بالمادّة الأولى، إذ هي من شروط تحقّق المادّة الأولى من مواقع الوجود الفعلي. فكلّ أشكال التعامل مع البشر التي تسلب حرّيتهم وتحطّ من كرامتهم - محظورة ممنوعة، والمجتمع الإنساني المتحضّر مدعوّ إلى تصفيَتها والقضاء عليها وسدّ الذرائع المؤدّية إليها ومعاقبة من يتعاطاها.

في السياق ذاته جاء قول ابن عاشور: «من أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية بكيفية منتظمة... وقد نبّهت الشريعة على أنّ الحرية حياة، وأنّ العبودية موت... لذلك أبطل الإسلام جميع أسبابها»10 . فكان من مقاصد الرّسالة الإسلامية جعل النّاس أسيادًا في تصرفاتهم في أنفسهم، لا سلطان لأحد من البشر عليهم في أنظارهم وأفكارهم واختياراتهم. وهذا وجه من وجود عقيدة التوحيد بما هي العنوان الأبرز للرّسالة الإسلامية  وجوهرها، كما جاء على لسان الصّحابي الجليل رِبْعِي بن عامر في سياق الإجابة العفْويّة والعميقة عن سؤال رستم المتعلّق بهدف هذه الرّسالة حيث قال: «جئنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده».

وورد في المادة الثامنة عشرة: «لكلّ شخص حقّ في حرية الفكر والوجدان والدّين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده وحرّيته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبّد، وإقامة الشعائر والممارسة، والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة».

فحرّية التفكير والمعتقد ركن ركين في بنيان الحرّية، واستحقاق واقعي تحتّمه الكرامة البشرية، بل يمكن اعتبار حرية التفكير والمعتقد جوهر الوجود الإنساني في المستويين الفردي والجماعي. فالذي لا يفكّر بحرية ولا يختار معتقده بحرّية، لا يقع في منطقة الوجود الحقيقي والفعلي، بما هو انخراط ومشاركة في استكشاف العالم وامتحان الحياة على نحو ما ذهب سقراط فيلسوف أثينا، حيث قال: «الحياة التي لا تمتحَن غير جديرة بالعيش».

فالعيش الحقيقي أي العيش الكريم، أو الوجود الحقيقي، هو اختيار الإنسان لنمط الحياة الذي يرتضيه لنفسه بكلّ حرية وتعقّل، ومن ثم يكون اختياره لمعتقده مؤسّسًا على التفكير الحرّ والرأي المستقلّ.

إلى هذه المعاني ذهب الأستاذ ابن عاشور، حيث قال: «حرية الاعتقاد... أوْسع الحرّيات دائرة؛ لأنّ صاحب الاعتقاد مطلقُ التفكير فيما يعتقد، يجول فيه حسب خواطره ولا يحدّدها له إلّا الأدلّة والحجج، فهي له وازع يقف عند تحديده»11 .

والرّسالة الإسلامية وإنْ دعت المسلمين إلى جعل آصرة الدين أعظم الأواصر، فهي لم تجعلها« سببًا للاعتداء على غير الدّاخل فيها، ولا لغمط حقوقه في الحياة، وإجراء الأحكام وفق معتقده»12 .

وبيّن ابن عاشور أنّ وقائع التّاريخ الإسلامي في العصور التي جرت على تعاليمه السّمحة المنزَّهة عن الأفن والتحريف والمغالاة، تؤكّد أنّ المسلمين «مازجوا أممًا مختلفة الأديان دخلوا تحت سلطانهم من نصارى العرب ومجوس الفرس ويَعاقِبةِ القِبْط وصابئة العراق ويهود أريحا، فكانوا مع الجميع على أحسن ما يعامل العشير عشيره، فتعلّموا منهم وعلّموهم، وترجموا كتب علومهم، وجعلوا لهم الحرية في إقامة رسومهم، وأبقوْا لهم عوائدهم المتولّدة من أديانهم وربّما شاركوهم في كثير منها، كما كان عملهم في عيد النّوروز وعيد الغمس في مصر»13 .

وذهب الأستاذ الإمام محمد الخضر حسين إلى أنّ أحكام الإسلام المتعلّقة بالمخالفين في الدّين الذين يعيشون في أكناف المسلمين تدور حول «الإحسان إليهم والرفق بضعيفهم وسدّ خلّة فقيرهم، ولين القول لهم على سبيل اللّطف والرّحمة، واحتمال إذايتهم في الجوار على وجه الكرم والحلم، وتحريم الاعتداء عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فيعرض أحدهــم»14 . وأورد ابن حزم في مراتب الإجماع أنّ من كان في ذمّة المسلمين وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم... وأنْ نموت دون ذلك صوْنًا لهم15 .

وصدع الإمام الخضر في غير مواربة فقال: «من نظر في طبيعة الإسلام جيّدًا تحقّق من صفاء سريرته من مقاصد تضرم في أحشاء أهله جمرة التعصب الباطل ضدّ ديانة أخرى، كما يزعم بعض من لم يسمعوا دعوته إلّا من وراء حجاب»16 .

وبنى ابن عاشور مبدأ المساواة بين المسلم وغير المسلم في حقوق المعاملات استنادًا إلى قول الرّسول ×: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»17 .  قائلًا: «فتلك حاصلة من العلم بأصل المساواة... فلا يحتاج إلى تعليل»18 .

ولئن بدا ابن عاشور في موقفه من حكم المرتد غير متناغم مع نظره المقاصدي عامّة، ومع تأصيله لثقافة الحرّية وتقويضه لثقافة الفرقة النّاجية في الفكر الإسلامي المعاصر، فإنّ لفيفًا من أهل العلم المحقّقين انبروا إلى إعادة النّظر في المسألة، نذكر من بينهم الشيخ عبد العزيز جاويش في كتابه «الإسلام دين الفطرة والحرية» الذي ألّفه منذ سنة 1905م رغم أن طبعته الأولى صدرت سنة 1952م، إذ ذهب إلى أنّ المرتدّ الذي عناه قول الرّسول ×: «من بدّل دينه فاقتلوه»19 ، هو الخائن المحارب، فالحدّ لا لأصل الرّجوع عن العقيدة وإنّما للخيانة والمحاربة، أمّا من تراجع عن دينه لمجرد الالتباس والشكّ فلا يشمله هذا الحكم20 .

وأكّد الرأيَ ذاتَـه الشيخ عبد المتعال الصّعيدي في كتابه «الحرية الدينية في الإسلام»، إذ عقد فصلًا كاملًا في «إبطال إكراه المرتد على الإسلام»21 .

وقرّر الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه «الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي» أنّ الرأيَ المنسجم مع روح الإسلام وهدْيه هو الاستتابة المطلقة22 . وناقش د.جابر فيّاض العلواني المسألة بعمق ودقّة في كتابة «لا إكراء في الدين - بحث في إشكالية الردّة و المرتدّين من صدر الإسلام إلى اليوم».

وانتهى إلى أنّ آيات القرآن الكريم لم تذكر حدّ الردّة أو عقوبة دنيويّة عليها، وأنّ الحكم لا يستقيم أن يصدر لمحض تغيير الاعتقاد وإلّا ناقض مقاصد الشريعة في حرّية الاعتقاد التي أعلنتها آية البقرة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 255]، وآية ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ23  [الكهف:29].

وهذه الآراء الصّادرة من النظر المقاصديّ لأفذاذ علماء الإسلام حَرِيَّةٌ بأن نبنيَ عليها ونعوّل في إعادة التأسيس لمبدأ حُرّية المعتقد بما هو فرع من مبدأ الحرية العام الذي يعدّ أصلًا مكينًا من أصول الرّسالة الإسلاميّة.

3- بعض مواد الاتّفاقية الخاصّة بتحريم السُّخرة، الصادرة في يونيو 1957م في   ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية:

صدرت هذه الاتفاقية على خلفيّة تقنين منع عمل السّخرة بوصفه وجهًا من وجوه الاستغلال والإذلال المنافية للكرامة البشرية والمعارضة لحقوق الإنسان، إذ دعت في توطئتها إلى «وجوب اتّخاذ جميع التدابير الضرورية... دون تحوّل عمل السخرة والعمل القسري إلى ظروف تماثل ظروف الرقّ».

ومن أبرز البنود التي تضمّنتها هذه الاتّفاقية ما يلي:

  •  حظر أساليب الدّفع التي تَحرم العامل من أيّة قدرة صادقة على ترك عمله.
  •  حظر وسائل الإكراه أو التوجيه السياسي للعامل و توظيفه لصالح آراء سياسية أو ضد آراء سياسية.
  • حظر كلّ وسائل الإكراه التي تفرض على العامل الانضباط القسري.
  •  وجوب دفع الأجور في مواعيد.

فإذا أرجعنا البصر إلى مقاصد الشريعة في المعاملات المنعقدة على عمل الأبدان ضمن كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية» لابن عاشور، نجد أنّ مقصد الشريعة في العقود المبرمة بين العامل وصاحب العمل «الحياطة لجانب العملة... كي لا يذهب عملهم باطلًا أو مغبونًا... لأنّ لأصحاب العمل طرائقَ شتّى يستثمرون بها أرباح أموالهم، فهم في خيَرة من استعمالها أو اكتنازها للإنفاق منها... بخلاف العَمَلة»24 .

وذكر ابن عاشور شروطا تدور حولها هذه العقود، أهمّها:

-> الابتعاد عن كلّ شرط يُشبه استعباد العامل.
-> إيجاد أسباب العمل للعامل، فلا يلزم بإتمامه بنفسه.
-> التعجيل بإعطاء أجر العامل دون تأخير ولا تأجيل.
-> التحرّر ممّا يثقل على العامل في هذه العقود؛ لكي لا يَستغلّ ربُّ المال اضطرار العامل إلى التعاقد على العمل، فينتهز ذلك للتجاوز في أرباح نفسه.
-> إجازة تنقيل العامل في هذه العقود بمنافع زائدة على ما يقتضيه العمل بشرط دون تنقيل ربّ المال25 .

ولا مراء في أنّ هذه المقاصد المتّصلة بحقوق العمّال وما تفرّع عنها من بنود، قد احتوت على وجه الدّقة والتفصيل ما تضمّنته الاتفاقية المذكورة أعلاه بخصوص تحريم السّخرة، وأضافت عناصر أخرى تنحاز إلى العامل وتصون كرامته مثل «تنقيل العَمَلة في هذه العقود بمنافع زائدة بخلاف أرباب العمل»، ممّا يكشف أنّ التشريع الإسلاميّ القائم على العدل والقسطاس المستقيم، ضامن لتحقيق كرامة العامل ومركز لأسس العمران البشري ولدعائم توازن المجتمع الإنساني وازدهار الحضارة البشريّة علما أنّ «كتاب المقاصد» لابن عاشور ألّف قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقبل اتفاقية السّخرة.

كما أنّ من أبرز مقاصد التّشريع الإسلامي إيصال الحقوق إلى أصحابها وإبلاغها إلى طالبيها ومستحقّيها، بوصف ذلك أساسًا متينًا من أسس  تماسك المجتمع الإنساني وتوازنه، وعاملًا أساسيًّا من عوامل حفظ كيانه وضمان استقراره، وسبب قوّته وازدهاره وتقدمه.

خاتمــة

لقد صار حقًّا على أهل العلم والفكر ممّن يشتغلون بالفكر الإسلامي عامّة والمبحث التشريعي خاصّة، ويعلمون - قبل غيرهم - مقدار ما يمكن أن يقدّماه للمجتمع البشري من عوامل التوازن والعافية، أن يدركوا - لا سيما في المنعطف التاريخي الحاسم الذي تمرّ به مجتمعاتنا العربيّة الإسلامية - تأكّد الحاجة  إلى القيام بعمليّة نقد ثقافي للمناويل والأنساق الفكرية التقليديّة، من أجل إعادة السلامة والفاعليّة للفكر والتّشريع الإسلاميين والإقناع بأنّهما منبثقان من رسالة جاءت للحياة وللأحياء، جاءت للإنسان تكمل معانيَ الإنسانيّة فيه وتزكّيها، وللحياة ترفع سَمْكها وتُسوّيها، وتجعلها أقوم وأجمل.

ونحسب أنّ المنوال المقاصدي في التّشريع يصلح أن يمثّل نقطة ارتكاز قويّة لإعادة تأسيس العقل الفقهي الإسلامي المعاصر، وإمداده بآليات منهجيّة ومعرفيّة جديدة متجدّدة تَرفع من قيمة أدائه في رصد سيرورة المجتمع المعاصر وما تنطوي عليه من تسارع وتعقّد، وفي توازن معالجته لمحدثات الأقضية و القضايا والشّؤون والنّوازل، وحتّى يكون قادرًا على تطوير مباحث حقوق الإنسان خاصّة وقضايا الفكر السّياسي عامّة، بعمق في النّظر يُعيد التشريع إلى مجرى التّاريخ ويصالحه مع حركة الحضارة الإنسانيّة، بعيدًا عن الاستعلاء الوهميّ عن مبتكرات الفكر الإنساني في سائر مجالات المعرفة، ملاحقة للحكمة البشريّة ووعيًا أنّ بناء العالم وتشييد الحضارة البشريّة إنجاز جماعيّ ومشروع تعدّدي، وأنّ الفكر الإسلامي بكلّ منطوياته مدعوّ إلى التخلص من أسر الأطر المغلقة التي فرضتها عليه مناويل وأنساق بات من الضّروريّ وضعها على محكّ النقد والتجاوز، تأسيسًا لعقل فقهي إسلاميّ جديد يُقنع بقدرته على تحقيق التّوازن المطلوب بين الانقياد لتعاليم الدين من ناحية، ومقتضيات التواصل الواعي والفاعل مع متغيّرات الزمان والمكان من ناحية ثانية، فيتجنّب المسلمون أفرادًا ومجتمعات حرج الصّدام بين النّص والواقع، ويَدْخل الفكر والتشريع الإسلاميان في مجرى التّاريخ وحركة الحضارة بثقة وتبصّر.


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
تفعيل مقاصد الشريعة في المجال السياسي، مجموعة بحوث ، 2014، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 347-362.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

الحقوق والحريات في الإسلام

أحمد فرَّاج محتويات المقال:الأمر الأول: إزالة ما علق بالإسلام من تشويهالأمر الثاني: الذي أرى أننا مـدعوون إليه هوالتطوّرالتقويمالحريات في الإسلامالقيود حماية الحق عندما نتحدّث عن حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام، نتحدّث ع...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة ومؤتمرات السّكان: تحليل موقف الإسلام من اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة - 1979

أحمد أبو الوفا: أستاذ القانون الدولي العام- كلية الحقوق- جامعة القاهرة محتويات المقال:أولًا: مقدمة عامةثانيًا: الأصل في الإسلام هو عدم الارتباط بأي ميثاق دولي يتعارض مع القواعد الإسلامية العليا _القواعد الدولية الآمرة في...

مقالات عن مقاصد الشريعة الإسلامية
إقرأ المزيد

مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور

محمد سليم العوا بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإننا لو تحدثنا عن مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور منذ شهرين لكان حديثاً مكروراً مُعاداً لا يجد الإنسان له صدى في واقع حياته اليومية...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد العدل في القرآن الكريم

محمد سليم العوَّا: مفكر إسلامي وخبير قانوني وهو عضر مجمع اللغة العربية بمصر، والأكاديمية الملكية الأردنية، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي – منظمة لمؤتمر الإسلامي – جدة محتويات المقال:أولا: بين الشاب والشيخثانيًا: ما هو العد...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top