نورالدين بن مختار الخادمي: وزير سابق، وأستاذ التعليم العالي بتونس.
تمهيد
الواوُ في «الفنون والأصول»؛ واوُ معيةٍ وجمع، وتداخلٍ وتكامل؛ من غير استبعاد التمايز والاختصاص والتفرد والتوحُّد. وهو ما يشير إلى جدلية قائمة بينهما في النظر والعمل، والحال والمآل، والسياق والآثار والآفاق. كما أنها واوُ حالٍ تُعرب عما ينبغي أن تكون عليه الفنون من حال التواصل مع الأصول، والتثمير للوجود والتوصيل للمعاني والقيم والمقاصد، والتأصيل للأفعال والمواقف والسياسات، وما ينبغي أن تكون عليه الأصول من حال التعقل والترشد والتجدد، وطردِ حال التسيُّبِ والتشدد، والسفاهة والبلادة. وربما تكون الواو مشيرةً إلى الاستئناف الذي تستعيد فيه الأصولُ دورتها اللغوية والتشريعية والحضارية، موصولةً بفنونٍ جديدة جميلة مبتكرة، هي نفسها تستأنف مسيرتها، وتلزم مسارها في الإحياء والإصلاح، ودرء الرداءة الفنية، المعبرة عن الركاكة الحضارية والسفه الذي ضرب هيئات وشخصياتٍ وأنساقاً ومناهج.
ومجموعُ عنوان البحث «الفنون والأصول»؛ نظمٌ مركبٌ من المعرفة والمنهجية، نظراً وعملاً، وسياقاً ومآلاً، يستشرف المستقبل الناهض، ويستدرك النقص الفادح، ويسترشد بالجديد النافع؛ من أجل تطوير الوعي بعد تأسيسه، وتكثير الأثر بعد ترتيبه، بناء على فنون مؤصلة وأصول فنية معتبرة.
إشكالية البحث
الفنونُ مصطلحٌ معرفي، بنسقٍ فلسفي، ومنهجٌ فكري وبحثي، وسياق حضاري، وبمرجعيات مختلفة، بما في ذلك مرجعية الإسلام بأصوله ومساراته، التي تخص الفنون بإطارها التدليلي والتفعيلي؛ ما يجعلُها جديرة بالقبول والنفع، والإفادة بإتقان وإجادة. وهو ما يجعل هذا الفن صعبَ التحصيل، وعذب المذاق، وكثير المخارج، ومتعدد المجال ومتفاوت الإنجاز. ويكاد يكون الفن حقيقة الإنسان نفسه، أي: قيمه والتعبير عنها، بلغته وحاله، وفي سياقه ومجاله، ولغاية نفعه وتحسين معاشه، وعند المسلمين: تحقيق الفن الجميل سعادة الإنسان في جنات الله سبحانه. ونجزم القول: إنَّ الفنون في الجنان ثمرة عمل الفنون الأصيلة في الدنيا، بناءً على أن الجزاء من جنس العمل، مصداقاً لقوله عز وجل: ﴿جزاء وفاقا﴾ [النبأ:26]، وباعتبار تمثل القيم الوجودية والإنسانية والدينية المقررة بإرادة الله وأمره، والتعبير عنها بمسرح الدنيا كلها، فالدنيا تعبير عن قيمة الجنة، والجنة ثمرة سعي الدنيا، بأشكال في التعبير معلومة، وبقيم في الدين مركوزة.
بل إن الجنةَ قد وصفت بأنها ذواتا أفنان، والأفنان كما قال العلماء أشكال جميلة من الخضراوات والأغصان، والصور والألوان؛ تعربُ عن حسن الجزاء في الآخرة ومتعة نعيمها المقيم، وجمال العمل في الأولى، وحسن التوسل به وجمال التعبير عنه1. ولكنني لن أذهب الآن بعيداً إلى تعميم الفنون لتشمل الدنيا والآخرة، وفق مرجعية الإسلام وبوعاء الحضارة ولنفع الناس وعقلنة المناهج، وإنما أعرضُ لمستويات مفهوم الفنون لدى الناس وعند العلماء والأمم والشعوب، وهو ما يجعلُ النظر ملتفتاً إلى تتبع تطور كلمة الفنون، وتفاوت عبارات العلماء فيها، بما هو ممكن، وإلى تقرير استخلاصات ما، بحسب النظر النسبي والإمكاني؛ من أجل البيان والوعي والاستدعاء الوظيفي والعملي.
وتتفرع عن تلك الإشكالية الكبرى، تفاصيلُ إشكالياتٍ؛
تتعلق بالوعي الجزئي والشَّكلي والسطحي للفنون؛ حيث اقتصرت - في بعض الفهوم والأنظار- على الغناء والموسيقى والشعر والصورة والمسرح، وأُعملت فيها ظواهرُ نصوص وأدلة، واستصحبت فيها أقوال وفتاوى، واعتمد فيها الورعُ والاحتياط، وأحيانا التشدد والتنطع أو التسيب والتفلت.
وتتعلق بالضمورِ العلمي والمنهجي الكلي لعلم الأصول والقواعد والمقاصد، وتنزيلِ ذلك على مسرح الحياة، ومنها مجال الفنون. وقد أدى إلى القطيعة والانسحاب من عالم الفنون، وهو ما أضعفَ حضور الإسلام والمسلمين في صناعات الفنون وتأثيراتها المحلية والعالمية، وقلَّلَ من فرص الدعوة والتنمية والإصلاح والتجديد.
تتعلق بالمعرفةِ الأحادية والنظر الواحد والمذهب الواحد، تجاه الأصول والعلوم الشرعية والفنون والمعارف المختلفة، وهو ما أدى إلى الرؤيةِ القاصرة والمعالجة المبتورة واستمرار الجمود والركود.
تتعلق بالتفكيرِ المنهجي في البحث والدرس والأصول والفروع والفنون والعلوم، حيث اتسم بالضمور والتراجع الملحوظين، وغاب الفكر النقدي والإصلاحي والتشخيصي والاستنتاجي، في موضوع الأصول نفسه، والفنون ذاتِها، وفي غيرهما من المعارف والقضايا والمجالات. وجديرٌ بالتذكير أن الأصول علم منهجي في الفكر الاجتهادي والاستنباطي، وفي الاستقراءِ والقياس واعتبار المآلات والغايات والوسائل والإمكانات، وهذا مع كونه مضموناً علمياً شرعياً وعقلياً؛ فهو معرفة بالمناهج والأساليب في الفكر والبحث والدرس ونحوه.
وفي هذا البحث نلتفت إلى الاعتبار المنهجي في معالجة الفنون والأصول، فضلاً عن المضامين والمفردات والمسائل العلمية الموضوعية؛ من أجل التفكيك والتركيب والتوليف والتثمير في تأسيس الوعي وترتيب الفعل، واستشراف المستقبل، ومراكمة الجهد وجلب النفع وتحصيل المقصود، من هذا البحث وأمثاله.
الدراسات السابقة
أُنجزت عدة دراسات وبحوث ومقالات في موضوع الفنون من منظور شرعي إسلامي، وبالتحديد من منظور الفقه والأحكام الفرعية والفتاوى والقرارات المجمعية، ومن منظور المقاصد كما هو بحثي العام الماضي، وكما هو بحث عدد من العلماء والدارسين الذي أطروا الفنون بالمقاصد والقيم والقواعد والعقيدة والسياسة الشرعية، غير أن تخصيصَ بحث الفنون بالأصول التشريعية الفقهية، بالاعتبار اللقبي للعلم، وبالمضمون الاجتهادي والعقلي والمنهجي، وببناء النظم وإحداث مسارات الفعل الواعي والذكاء الأصولي والمهارة النفسية والذهنية، المعرفية والمنهجية، ووصلها بأطرها المختلفة كإطار العلوم الاجتماعية والقانونية والإنسانية، وتنزيلها في سياقاتها وملابساتها؛ فهذا التخصيص وبهذه الدقة الاصطلاحية والوظيفية، لم يظهر إلا في إسهامات بحثية جزئية أو مجملة، وفي توصيات واستخلاصات، وهو ما جعلني أكتب فيه هذا البحث بهيئته التي هو عليها؛ توصيلاً ببحثي السابق الموسوم بـ «الفنون والمقاصد»، ومن أجل الوصول إلى رؤية فنية كاملة، بمقاصدها وأصولها وسائر مقتضياتها المعرفية والمنهجية والسياقية.
ومما كتب في الفنون بنظر مقاصدي وقيمي وعقدي:
تجليات مقصد التوحيد في الفن الإسلامي: نظرية إسماعيل الفاروقي، فتحي ملكاوي.
المسألة الفنية في النظر المقاصدي من خلال كتاب التكييف والتوظيف، أحمد الريسوني.
الفنون ومقاصدها عند الإمام القرضاوي، الرؤية والتطبيق، وصفي عاشور أبو زيد.
فقه الحسن: التأصيل المقاصدي لمفهوم الفن الإسلامي وحدوده المعرفية، إدهام محمد حنش.
إشكالية الفنون الجميلة في علاقتها بمقاصد الشريعة، إبراهيم البيومي غانم.
وقد أفادت هذه البحوث وغيرُها2، وكان لها الأثرُ في بحثي هذا، بالاعتماد والإثراء، وهو دأبُ أهل العلم الذي هو رحم بين أهله. وأسأله سبحانه أن يديم المعروف، ويجزلَ المثوبة، ويجمعنا جميعاً في دار كرامته ومنازل إحسانه.
موضوع البحث
الفنون مؤطرة بالأصول، والأصول المعبر عنها بالفنون، ضمن علاقة جدلية بموضوع العلم ومنهج الفكر والبحث، ومراعاة السياق واعتبارِ المآل والحاجة والممكن، وفي ضوء ملازمة التجديد ومداومة النظر، وبقاء البحث مفتوحاً؛ لعل الله تعالى يفتح علينا جميعا بفتحه، وهو الفتاح العليم.
وتمت دراسة ذلك ضمن المحاور الآتية:
المحور(1): تأطير الأصول للفنون:
من جهةِ الحكم الشرعي «الحكم التكليفي المجرد»، والحكم الوضعي الملابس»، وهو ما يجعل الفنون مستوعَبةً من الأصول استيعاباً كاملاً حسب ثنائية الحكم المجرد والملابس.
ومن جهةِ الأدلة الأصولية الكلية بنظميها الجمعي والإفرادي، وهو ما يجعل هذه الفنون مستوعبةً من كافة تلك الأدلة، بمنهجية النظر والعمل، والأصلِ والاستثناء، ونحوه.
ومن جهةِ الدلالات الأصولية، أي: دلالاتِ الألفاظ على المعاني والأحكام، بمستوياتها العلمية وأنواعها ومنهجها وغيره؛ مما يمثل إطاراً أصولياً لغوياً وشرعياً للفنون، منضافاً إلى إطاري الحكم والأدلة. غير أنه سيُكتفى في هذا الإطار بالإشارة الإجمالية في هذا الموضع وفيما يليه؛ من أجل الاستغراق الذكري بمستوى العناوين، وللإفادة بأهمية تناول الفنون من منظور هذه الدلالات، بصيغة أعمق في مناسبة أخرى.
المحور (2): تعبير الفنون عن الأصول:
من جهةِ اتساع مفهوم الفنون التي تخدم الأصول وتسندها في موضوعاتها ومنهجها وغايتها وآثارها، فالفنون واسعةٌ وممتدة وموصولة بعلوم ونظم وقيم وتيارات وسياقات..، وهو ما يجعلُها تتناسبُ مع الأصول في اتساع مباحثها وآفاقها العقلية والتأويلية والعملية والوظيفية، وتتلاءمُ مع حركية الأصول ومواكبتِها لتلك الفنون، وقدرتها على تأطيرها واستيعابها.
ومن جهة الأصول الفنية التعبيرية التي تمثل نوعاً من الأصول، وهي تضاف إلى «الأصول العقدية واللغوية والحكمية والمقاصدية والقيمية»، وتعدُّ الجهاز التعبيري الإخراجي التداولي للأصولِ بموضوعاتها ومناهجها وآفاقها النظرية والعملية الرحبة. ومن جهةِ الوصل بين الأصول والفنون، معرفياً ومنهجياً وإجرائياً وتطبيقياً، وتعزيز المشترك، وتمييز المختلف، ورصد المستجد، وتفكيك المركب، وتجميع المجزأِ، وغيره.
أولاً: تأطير الأصول للفنون
1: المراد بكلمة الأصول:
يُراد بكلمة «الأصول» أصولُ الفقه أو مصادرُه ومبادؤه. وهي في الإجمال: أصولٌ نصية شرعية ولغوية، وهي الكتاب الكريم والسنة الشريفة. وأصولٌ اجتهادية وعقلية وواقعية، وهي: القياس والإجماع والاستحسان والاستصلاح والاستصحاب والعُرف والمآلات والذرائع والاستقراء.
والحقُّ أنّ أصول الفقه هي مجموع المبادئ النصية والاجتهادية، إذ لا يُفهم النص الشرعي بحكمه ولغته إلا بالنظر العقلي والواقعي فيه، ولا يُعتبر بالاجتهاد إلا إذا بُني على النصوص واللغة وسياقهما. فالحقيقةُ واحدة، لوحدة المعرفة والمنهج والخلق والفطرة، ولطبيعة التكامل والتداخل والتمايز، وفق مستوى نظرية المعرفة الأصولية ومنهجيتها، ومستواها الإجرائي والتطبيقي ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف:54]. وما بيان الأصول بالتفصيل والترتيب والتعريف إلا على سبيل الضرورة البيانية العلمية والوظيفية، التي لا ينبغي أن تخل بتلك الحقيقة الواحدة، كما استقرت في حقيقة النصوص الشرعية، وكما تتفاوت فيها أنظار العلماءِ المجتهدين.
وتعني أصولُ الفقه في اصطلاح العلماء: العِلْمَ بالقواعد التي يُتوصلُ بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية 3. وقيل: معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد4. وهو ما ينطبق على الفنون من جهة استنادها في معرفة أحكامها إلى هذه الأصول، بمنهجٍ كلي في النظر والعمل، وفي معاملة النصوص واللغة والواقع والسياق، وباعتبار المآل، وتقدير النفع، وترتيب الأَوْلى، وملاحظة الفرق، وتحقيقِ المناط، وما إليه من مُدرَكات الأصول بالمنهج الكُلي المشار إليه في أصول الفقه، وبالمنهج الجزئي المعتمد في الفقه، والجمع بينهما هو الجمع بين الفقه وأصوله، تنظيراً وتدريساً، وتوظيفاً وتفعيلاً. وهو ما يقرر أصل الجمع بين الأصول والفروع، أو الكليات والجزئيات.
والفقهُ في اللغة هو: العلمُ بالشيء والفهم له، وفقه فقها: بمعنى علم علماً، وفقهه وأفقهه: علمه5. ويُقال: فَقِهَ بكسر القاف إذا فهم، وبفتحها إذا سبق غيرَه للفهم6. والفقهُ في الفنون هو العلم بها بفهم دقيق، وفهم سابق لفهم آخر، لتفاوتِ ملكة الفهم ومناهج النظر وأدوات البحث، ومراعاة السياق واعتبار المآل ومعرفة حال الناس.
وفي الاصطلاح هو: العِلمُ بالأحكام الشرعيةِ العملية بالاستدلال7، فـ«العِلمُ» هو إدراكُ الأشياء أو المعلومات اليقينية أو الظنية، و«الأحكامُ» جمع حُكم، والحُكمُ معناه إثباتُ أمرٍ لأمرٍ، أو نفيه عنه. و«الشرعيةُ» هي المنسوبة إلى الشرع، والمبنية على أدلته وقواعده ومقاصده؛ أي هي الأحكامُ الثابتةُ بالنص والإجماع والاجتهاد الشرعي الصحيح8، و«العمليةُ» هي المتعلقة بالأفعال الإنسانية من أقوال وأعمال ونيات وسياسات ومواقف وتعبيرات فنية وجمالية، كما سنرى في ثنايا البحث. وعبارة «بالاستدلالِ» تفيدُ الطلب بصيغة الاستعمال (السين والتاء)، ومعناها طلب الدليل الشرعي من المجتهد والمهارة في اجتهاده، كطلبِ الدليل الجزئي أو الكلي لبيان حكم عمل فني فردي وجزئي، أو جماعي وكلي... وترد هذه العبارة احترازاً عن المقلد، وعن شعائر الإسلام كوجوب الصلاة والصيام والزكاة، وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة من غير استدلالٍ، فالعلم بها لا يُسمى فقها اصطلاحا9.
والفرق بين الفقه وأصول الفقه هو «أنّ الأصول هي المناهج التي تحد وتبيّن الطريق الذي يلتزمه الفقيه في استخراج الأحكام من أدلتها، ويرتبُ الأدلة من حيث قوتها، فيقدم القرآن على السنة، والسنة على القياس، وعلى سائر الأدلة التي لا تقوم على النصوص مباشرة، أما الفقه فهو استخراج الأحكام مع التقييد بهذه المناهج»10.
والواجبُ تحقيق التفريق بين الفقه باعتباره أحكاماً شرعية ثابتة، وبين الفقه باعتباره تمَثُّلَ الفقهاءِ وفتاوى المفتين مما يقبل التغيير والتطوير. ويجدرُ بالتذكير أن تناولي للفنون من منظور الأصول، لا يعني استبعاد الفروع والفقه من بيان أحكامِ الفنون، وإنما يعني تأطيرَ هذه الفنون ضمن أصولها الشرعية الكلية، في الوعي بها وتكييفها والاعتبار بكلياتها الإنسانية كالفطرة والمنفعة والحاجة. وكلياتها الواقعية كالموانع والوقائع والمآلات، ويعني كذلك أنَّ التأطير بالفروع الفقهية للفنون يكون ثمرةً للأصول، وعملاً يتناولُه العلماء عندما يتصدون لبيان الأحكام والفتاوى الفرعية لها. وبحثي هذا هو متمحضٌ للأصولِ والكليات بالقصد الأصلي، وما يردُ من فروع قليلة فهو على سبيل القصد التبعي الثانوي، بالاستظهار والتمثيلِ غيرِ الحاصر كلياً أو أغلبياً.
وموضوعُ أصولِ الفقه هو: الأدلةُ والأحكام الكلية، كدليلِ القرآن؛ باعتبارها مصدراً هادياً ومنيراً، ودليل السنة باعتبارها بياناً للقرآن وتنزيلاً له في الواقع، ودليل الاستصلاح والتقصيد والاعتبار بالسنن والواقع والمآلات.
وقد ذكر المحققونَ في الأصول أنَّ موضوعَ أصولِ الفقه هو: «الأدلةُ الموصلة إلى الفقه من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ونحوها؛ لأنه يُبحث فيه عن العوارضِ اللاحقة لها من كونها عامة أو خاصة، أو مطلقة أو مقيدة، أو مجملة أو مبينة، أو ظاهرة أو نصاً، أو منطوقة أو مفهومة، وكون اللفظ أمراً أو نهياً، ونحو ذلك من اختلاف مراتبها، وكيفية الاستدلال بها»11. وجميع مباحث أصول الفقه كما يقول الشوكاني: «راجعةٌ إلى إثباتِ أعراضٍ ذاتيّةٍ للأدلّةِ والأحكام، من حيثُ إثباتُ الأدلّةِ للأحكامِ، وثبوتُ الأحكامِ بالأدلّةِ، بمعنى أنَّ جميعَ مسائلَ هذا الفنِّ هوَ الإثباتُ، والثبوتُ»12.
وعليه؛ يشملُ علم أصول الفقه محاورَ الحكم الشرعي، والمصادر التشريعية، والدلالات، والاجتهاد والتقليد والإفتاء، وتعارض الأدلة والترجيح. ونبين بإيجاز أكبر هذه المحاور فيما يلي:
2: محاور أصول الفقه:
محور الحكم الشرعي:
يُعدّ الحكمُ الشرعي محوراً رئيساً في أصول الفقه، ويُضافُ إليه محورُ المصادر الشرعية، والدلالات اللغوية ودلالتها على المعاني والأحكام، ومحور الاجتهاد والتقليد والإفتاء وتعارض الأدلة والترجيح.
(أ) - تعريف الحُكم الشرعي:
«هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع»13. وبمزيدٍ من التفصيل هو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال الناس، بالاقتضاء؛ أي الطلب، أو التخيير؛ أي الإباحة التي هي التخيير بين الفعل والترك، أو الوضع؛ أي ما وضعه الشارعُ من الأمارات تكون سبباً للحُكم التكليفي أو شرطا له أو مانعا له14. ومثاله: خطابُ الله تعالى المتعلق بفعل الغناء، فالغناءُ تتعلق به أحكام الجواز والمنع ونحوه، بناء على خطاب الشرع في ذلك، خطاباً تكليفياً مجرداً، وخطاباً وضعياً ملابساً.
(ب) - موضوع الحكم الشرعي:
للحُكمِ الشرعي موضوعُه أو موضوعاته، وهي: أفعالٌ الناس وتصرفاتُهم المختلفة والمتنوعة. والتعبير بالموضوع يُشيرُ إلى أن هذه الأفعالَ قد وضع لها الحُكم الشرعي؛ أي وضع هذا الحُكم لبيان موقف الشرع منها، وفقا لأقسام الحُكم من حيث: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة. ومثال ذلك باقتضاب ويُسر: المشيُ والانتقال، فيكون واجباً إذا كان لعملٍ وحاجة أسرة، ويكون مندوباً إذا كان لزيارةِ مريض واتباع جنازة وفعل نزهة، ويكون حراماً إذا كان لفتنة وسرقة ومفسدة، ويكون مكروها إذا كان بين الفضلات والأوساخ. ويكون الأصل فيه الجواز والإذن، إذا خلا من القرائن التي تصرفه إلى الوجوب أو التحريم أو الندب أو الكراهة. وكذلك المقطع الموسيقي واللوحةُ الفنية والمقامة الغنائية والتمثيلية؛ فيُحكمُ على ذلك شرعاً بحسب المقتضيات المحددة لهذا الحكم، وهي: النصُّ، واللغةُ، والمقاصدُ، والقيمُ، والسياقُ، والحاجةُ، والمصلحةُ، والقدرةُ، والمانعُ؛ بمنهجِ الجمع والفرق، والأصل والاستثناءِ، والضرورة والاختيار، والحال والمآل، والفرد والجماعة، وهو ما يؤطرُ الحكمَ الفرعي بالحكم الكلي والدليل الكلي، فالحصرُ بالدليلِ الكلي تقريرٌ لحكم الفروع التي لا تنحصرُ، وتمكينٌ من الملاحقة لكل المستجد، وتقريرٌ لخاصية الدين في جمعه بين الكليات والجزئيات والثوابت والمتغيرات.
وتُعدّ الفنون موضوعًا للحُكم الشرعي. أي؛ إنَّ هذا الحُكمَ قد وُضِع لبيان موقف الشرع منها، بناءً على النصوص والمقاصد، وفي ضوء الملابسات والمآلات. ولا شك أن هذا الحُكم ليس بمستوى واحد أو بوجه واحد، بل هو بمستوياتٍ كثيرةٍ متعددة بتعددِ أنواع الفنون واستخداماتها وسياقاتها ومآلاتها. وهو ما يَجْعَلُ بحثَ أحكام الفنون عملاً علمياً مضنياً ودائماً؛ فضلاً عن كونه عملاً متخصصاً ومتداخلاً مع التخصصات الأخرى، وأداءً يرتبط بالإمكانياتِ والبدائل والوعي والإرادة والعموم والشمول.
واعتبارُ الفنون موضوعاً للحُكم الشرعي يُفضي إلى القول بكونها أفعالاً لهذا الحُكم، أو للفقه الإسلامي المُبيِّن للحُكم، نظراً وعملاً. أي؛ فيما استقرَّ في الذهن من المعلوم النظري، وفيما يُنزَّلُ في الواقع بتلبسه بأصحابه وأحواله، وإفضائه إلى مآلاتِه ونتائجِه.
وتعتبر الفنون أفعالاً للحُكم الشرعي والفقه الإسلامي. هي أفعالٌ. أي؛ أقوالٌ وتصرفاتٌ ومواقفُ تصدر من أصحابها الفنانين والمعماريين والخطاطين، كما أنها نُظم وسياسات الجامعات والمؤسسات والحكومات، وتصدر سياسات هذه الفنون من أصحاب القرار السياسي والحكومي، وأرباب الشأن المدني والعلمي والثقافي والمالي ومن في حكمهم.
(ج) - أقسام الحُكم الشرعي:
الحُكم التكليفي: «هو ما اقتضى طلبَ فعل من المكلف، أو كفَّه عن فعلٍ، أو تخييره بين الفعل والكف»15. وهو الحكمُ المجرد، كما ذكرنا. أي: بحسب الحكمِ في إطلاقه من غير ربطه بزمانه أو مكانه أو حاله.
الحُكم الوضعي: وهو عند العلماء مجموع الأمارات المجعولة لإعمالِ الحُكم التكليفي وتنفيذه. وهذه الأمارات هي: السببُ، والشرطُ، والمانعُ، والعزيمةُ، والرخصةُ، والصحةُ، والبطلانُ16. وهو الحكم الملابس، كما ذكرنا. ومثاله: الغناء، فحكمه الملابس يتحددُ بناءً على الملابسات المحيطة به، كملابسة الفرح والسرور بزواج ونجاح، وبناء على مضمونه ومآله وصلته بغيره وأحواله بصفة عامة.
المحور(3) محور الأدلة الشرعية أو المصادر التشريعية
وهي تلك التي تُعرف بالمصادر الأصلية، وهي: الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ، والقياسُ. والمصادرُ التبعية كالاستحسان، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وقول الصحابي وفتواه، وشرعُ من قبلنا والعُرفُ، والذرائعُ.
يقول الشاطبي: «لما انبنت الشريعةُ على قصد المحافظةِ على المراتب الثلاث: الضروريات والحاجيات والتحسينات، وكانت هذه الوجوه مبثوثةً في أبواب الشريعة وأدلتِها، غيرَ مختصةٍ بمحل دون محل، ولا ببابٍ دون باب، ولا بقاعدة دون قاعدة؛ كان النظرُ الشرعي فيها أيضاً عاماً لا يختصُّ بجزئيةٍ دون أخرى؛ لأنها كلياتٌ تقضي على كل جزئي تحتها، وسواء علينا أكان جزئياً إضافياً، أم حقيقياً؛ إذ ليس فوقَ هذه الكليات كُلِّيّ تنتهي إليه، بل هي أصول الشريعة، وقد تمت»17.
ويقولُ في موضوعٍ آخر: «فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراءِ الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محالٌ أن تكونَ الجزئياتُ مستغنيةً عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي مُعرضًا عن كُليّهِ؛ فقد أخطأَ. وكما أنَّ من أخذ بالجزئي مُعرضًا عن كُليّهِ؛ فهو مخطئٌ»18.
المحور(4) محور دلالات الألفاظ والنصوص على المعاني والأحكام
ومفادُه أنَّ ألفاظ الشرع ونصوصه تدلُّ على معانيها وأحكامِها، بناءً على اللغة التي نَزَل بها القرآنُ، وتبينت ووردت بها السنةُ، وهذا هو المحور الثالث في علم أصول الفقه، الذي يشمل مباحث اللغة؛ كالمنطوقِ، والمفهومِ، والسياقِ، والروحِ، والمعنى.
والمنطوقُ هو: «ما دَلَّ عليهِ اللَّفْظُ في مَحَلِّ النُّطْقِ. أي: يكونُ حُكمًا للمذكُورِ، وحالًا مِنْ أحوالِهِ سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أم لا19، أو «ما فُهم من دلالةِ اللَّفْظِ قَطْعًا في مَحَلِّ النُّطْقِ»20. والمفهومُ هو: ما دلَّ عليه اللفظُ لا في مَحلِّ النُّطقِ، أي: يكونُ حُكماً لغير المذكُورِ، وحالاً مِنْ أحوالِهِ21.
والحاصلُ: أن الألفاظَ كما يقول الشوكاني: «قوالب للمعاني المستفاد مِنْهَا، فَتَارَةً تُسْتَفَادُ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ تَصْرِيحًا، وَتَارَةً مِنْ جِهَتِهِ تَلْوِيحًا، فَالْأَوَّلُ: الْمَنْطُوقُ، والثاني: المفهوم»22.
وعلى الناظر في المعاني والأحكام مراعاةُ السياق؛ ذلك أنّ «المساقات تختلفُ باختلافِ الأحوال والأوقات والنوازل، وهذا معلومٌ في علم المعاني والبيان؛ فالذي يكون على بالٍ من المستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره، بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها، لا ينظر في أولها دون آخرها، ولا في آخرها دون أولها [...] وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرَّق النظر في أجزائه؛ فلا يتوصلُ به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض23.
ويرى الشاطبي أنّ: «الاعتناءَ بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصودُ الأعظم، بناءً على أنّ العربَ إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أُصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلومٌ عند أهل العربية؛ فاللفظ إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود»24. ويُضيف: «فاللازم الاعتناء بفهم معنى الخطاب؛ لأنه المقصود والمراد، وعليه ينبني الخطابُ ابتداءً. وكثيرًا ما يُغفل هذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة، فتُلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي؛ فتَسْتَبهِمُ على المُتلمِس، وتستَعجِمُ على من لم يفهم مقاصد العرب»25.
ويقول الآمدي: «دلالات الألفاظ على المعاني ليست لذواتها وإلا كانت دالة عليها قبل المواضعة، وإنما دلالتها تابعة لمقصد المتكلم»26. ومثاله: لفظ الزينة الوارد في القرآن، فهو يُفهَم في ضوء دلالته اللغوية، وسياقه في النص، وصلته بغيره، وتلبسه بقصد المكلف، ولذلك ونحوه أثرُه في دلالته على الفنون وأنواعها ومشتملاتها.
المحور(5) الاجتهاد والتقليد والإفتاء وتعارض الأدلة والترجيح
لاجتهاد هو بذل الوسع في استنباط الأحكام الشرعية، وعادة الأصوليين ذكر حد الاجتهاد وشروط المجتهد، ومسائل أخرى ذات صلة بهذه المسألة، والتقليد، وهو«العملُ بقول الغير بغير حُجَّةٍ»27، وما يتعلق به من أحكام المُفتي والمُستفتي، وما يكون من حال المجتهد في صورة تعارض الأدلة، والترجيح بينها.
ثانياً: تأطير الحُكم الشرعِي للفنون
1 - الحكمُ المجرد والحكمُ الملابس في الحكم الشرعي
حُكم الشرع في الفنون هو: البيان الشرعي للفنون من حيث التجريد والتنزيل؛ فالتجريدُ هو الحُكم المجرد والبيان النظري العام من غير ارتباطه بالواقع والملابسات والزمان والمكان، وهو ما يمكن أن نسميه «الحُكم المجرد». وأما التنزيلُ فهو الحُكم الجاري في الواقع بملابساته وسياقاته وأحواله، وهو ما يمكن أن نسميه «الحُكم المُلابس».
والمثال التوضيحي لهذا: مثال الماء، فحُكمه المجرد جواز الوضوء والغسل به؛ لأَنَّه طاهر طهور بموجب قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان: 48]، أما حُكمُه الملابس فهو جريانُ حُكم طهورية الماء في الواقع والملابسات، كتلبس هذا الماء بالتربة والبيئة والأواني وما يخالطه من الأشياء والسوائل؛ مما قد يغيره ويسلب عنه طبيعته وطهوريته وحقيقته التي جاء النص بها. وعندئذ يُنظر في هذا الماء من جهة تغيّره، لا من جهة نصه المجرد؛ ولأنَّه فقد صفتَه الحقيقيةَ التي جاء النصُّ المجردُ بها.
والمثالُ الأكثر تعقيداً في ذلك: مثالُ العدلِ، فحُكمه المجرد أنه مأمور به، وأنه مبدأ أو قيمة ومصلحة وضرورة وحاجة، أما حُكمه الملابس فهو حُكمه الجاري في الواقع، بحسب الإمكانيات والأولويات والموانع، فهو عندئذ تتفاوت مقاديرُه وأزمانُه وآلياته ونُظمه وتسويقه وتعليمه وأحواله، بحسب تفاوت الواقع وحاجيات الناس وإمكانيات تحقيقه وموازنته بغيره، ومراعاة موانعه وسياقاته وتجدد أنظاره وتجديد مدوناته وعقلياته... وبناءً على ذلك يتحدَّدُ العدل بما هو ضروري عند فقد الحاجي والتحسيني، ويقومُ العدل الأولوي بين جهاتٍ أو مجالاتٍ أو ملفات؛ بمقتضى تنزيلِ العدل في الواقع، وليس بموجب الاعتداد بالحُكم المجرد له وبالوصفات العامة والشعارات المطلقة؛ التي لا يجوز الاكتفاءُ بها في إقامة العدل من غير ملاحظة الواقع ومراعاة مقتضيات ذلك؛ وهو ما يُحيل إلى الجمع بين الحُكم المجردِ والحُكم الملابس، أو إعمال الحُكم الشرعي بنوعيه التكليفي والوضعي جمعا لا تفريقاً.
والفنون أفعالٌ إنسانية، يتعلقُ بها الحُكم الشرعي التكليفي والوضعي. ويمثلُ الحُكم التكليفي الحُكمَ المجرد أو فقه النظر، ويمثل الحُكمُ الوضعي الحكمَ الملابس أوفقه العمل، وفقاً للنصوص المقررة للحُكم، والمتضمنة للمقاصد بإقامة هذا الحُكم.
وبالنسبة إلى الفنون التي هي أشياءٌ طبيعية وخلقية، على غرار أصوات العصافير والمياه والأشجار، وجمال البحر والغابة والجبل، فهذه الأشياءُ تقوم على قاعدة «الأصل في الأشياء الإباحة»، ولها تعلقٌ بالأفعال الإنسانية عند تلبسها بأفعال الناس؛ فتأخذ أحكامها الشرعيةَ في ضوء أحوال الأفعالِ الإنسانيةِ، ومن ذلك فعلُ النظر إليها بقصد الاعتبار والتدبر والاستمتاع، وفعل تسخيرها لمنافع الناس وخدمة المجتمع، وفعلِ إتلاف الشجر وتلويث البحر، وطمس معالم الجمال ومناظر الحسن وجواهر النفع، فهذه الأفعالُ قد تعلقت بتلك الأشياء، وهي تأخذ أحكامها بمقتضيات ذلك. ومن هنا أمكننا الحديث عن إدخال الأشياء الفنية تحت الأحكام والأصول الشرعية، بواسطة دخولها في الأفعالِ الإنسانية بالأوجه المذكورة. هذا فضلاً عن أن نوط الأشياء بقاعدة الإباحة أمارة دالة على دخول هذه الأشياء تحت الأحكام الشرعية بدخولها تحت حكم الإباحة التي هي إحدى أقسام الحكم الشرعي التكليفي.
2 - مشتملات الحُكم الشرعي المؤطر للفنون
يشتملُ الحُكم الشرعي على الحُكم التكليفي والحُكم الوضعي، كما تقرر ذلك في علم أصول الفقه. والحُكم التكليفي هو البيان المجرد، والحُكم الوضعي هو البيان الملابس. وإعمال الحُكمَيْنِ هو الأصل والمراد من الحُكم الشرعي، كما بينا في مثال الطهارة بالماء وإقامة العدل، وكما هو جارٍ في سائر الأحكام الشرعية المتعلقة بالأفعال الإنسانية، بمقتضى علم الأصول وقواعده ومناهجه وضوابطه ومخرجاته.
ويشملُ الحُكم الشرعي الفنونَ باعتبارِها أفعالاً إنسانية تتعلقُ بها أحكامُها الشرعية، التكليفية والوضعية، وباعتبارها أشياءً طبيعية تتعلقُ بها كذلك أحكامُها الشرعية المنوطة بالأفعال الإنسانية، على النحو الذي بيناه آنفا؛ فالأفعالُ الإنسانية على نحو الرسمِ الذي هو فعل الرسَّام بقلمه ونحته بآلته، وبأدواتٍ تصدر منه. أما الأشياءُ فهي: الأنعامُ، والجبالُ، والبحارُ، والألوانُ، والأشكالُ، والأزهارُ، والمياهُ، ونحو ذلك. وهي كذلك: الجمالُ الطبيعيُّ والإنسانيُّ، والإتقانُ، والإبداعُ، في الخلق والأمر؛ مما يُمثّل مادة طبيعية جميلة، وخلقاً إلهياً بديعاً، وحُسناً مظهرياً بإحسانه وإتقانه في الجوهر والأثر، والتناسق مع غيره والمتآخي مع بيئته. فجمالُ الكون هو من الله تعالى خلقٌ وإبداع، وتكليفٌ وإرشاد إليه، بحسنِ النظر إليه وتسخيره وتثميره. وهو بالنسبة إلى الإنسانِ فعلٌ متكرر متدبر ومقدر ومستثمر، يأخذُ حكمه الشرعي المناسب له، كحكمِ وجوب النظر العلمائي لكشفِ النواميس وتسخير القوانين، وكحكمِ تحريم تلويث البحرِ بالقاذورات الفردية، أو فضلاتِ الصرف الصحي، وتسرب المواد البترولية والكيميائية، وكحكم النهي المغلظ عن تخديرِ الشباب بفنون الوهم وإعلام السحر وتمثيليات الخديعة والسراب في الرزق والعمل والأسرة والعدالة والحرية. وقد قال العلماء: «لا عبرة للتوهم».
والأفعالُ الفنية التي يؤطرها الحُكم الشرعي هي: الأفكارُ، والأعمالُ، وسائر التصرفات الفنية التي يقوم بها الشخص أو الهيئة أو المؤسسة والحكومة. والأفكارُ هي التخيلاتُ والتأملاتُ والتصوراتُ وسائر ما يؤديه العقل الفردي أو الجمعي من نظرٍ وتأملٍ وإدراكٍ وتمييزٍ وحُكمٍ تجاه الفنون بأنواعها. والأعمالُ هي سائرُ ما يُعبَّر به عن الأفكارِ الفنية من حركة الجسدِ والأعضاء، وإطلاقِ الصيحات والكلمات، وارتساماتِ الوجه ومواضعِ السكوت والإشارات، ومعاقدِ السيناريوهات والدبلجة والترجمة، والأعمال الحركية والمشهديةِ في الدراما والتراجيديا، وفي القصة والتمثيلية، والنثرِ والشعرِ، والنكتةِ والهزلِ وغيرِه.
وحُكم الشرع في الأفعال الفنية يكونُ بمستوى الحُكمِ التكليفي المجرد والحكم الوضعي الملابس. وهو ما نبيّنه فيما يلي:
أ - الحُكم التكليفي للأفعال الفنية:
الحُكم التكليفي المجرد للأفعال الفنية هو: الإذن في إقامة الفنون، باعتبارها أشياءً طبيعية مخلوقة ومرادة، وباعتبارها أفعالاً إنسانية تكليفية وفطرية ووظيفية ومصلحية بمعيار الشرع ومقاصده. وحُكم الإذنِ في إقامة الفنون حُكمٌ من حيث الأصل والتجريد، وبمقتضى النصوص والفطرة والعقل والواقع. أما من حيثُ الجريانُ في الواقع والتشابك مع الملابسات والتحديات والسياقات. فيأخذ حُكمه المناسب له بمقتضى مشروعية الحُكم التكليفي الأصلي المجردِ، وبما لا يعودُ عليه بالبطلان والتعطيل أو الإخلال والتشويه.
ويتحددُ هذا الحكم التكليفي للفنون بناءً على طبيعتها وأنواعها ومآلاتها ومقاصدها وتلبسها بغيرها. وهي تأخذُ الأحكام الخمسة بحسب ذلك، فتكونُ واجبةً إذا تعلقت بالواجبات والضروريات والحاجيات، كفن العمارة في إقامة البنيانِ والمعاشِ وحمايةِ الأنفسِ والأبدانِ والأعراضِ والصحةِ، وكفن الخطِّ في حفظ المتون والعلوم والحقوق والمواثيق. وتكونُ محرمة إذا أشْغَلت عن القيم وأدت إلى المفاسد وأخلت بالمصالح والفطرة. وتكون فرضاً كفائياً إذا تعلقت بالمجتمع والدولة والأمة، وبمجالات الصالح العام الذي تكون الفنون فيه إحدى مجالاته الحيوية، كسائر فنون الصحةِ والتعليمِ والنقلِ؛ حيثُ يتعين أن تتخصص فيه فئةٌ، وأن يرصد له مال، وأن تُقام جهة حاضنة لكل ذلك. ويتطرق إلى الفنونِ حكمُ الندبِ أو الكراهةِ والأولويةِ وخلافها؛ بناءً على نصوص ذلك ومقاصده، وبحسب سياق ذلك واعتباره28.
ومعلومٌ أن حكمَ الجوازِ يفيد الإذنَ في الفعلِ، ومنه الإباحة، التي هي أحدُ أنواعِ الحكمِ التكليفي الخمسة. فالجوازُ أعمُّ من الإباحة. والجوازُ يأخذُ الأحكامَ الخمسةَ بمقتضى ذلك وضابِطه.
ب - الحُكم الوضعي للأفعال الفنية:
الحُكمُ الوضعي للأفعال الفنية هو الحكمُ الشرعي الملابس للواقع الجاري في سياقه المتلبس بأسبابه وشروطه وموانعه؛ الذي تعمل فيه العزيمةُ والرخصةُ، والضرورةُ والحاجةُ، والوسيلةُ والمقصودُ والمآلُ، وملاحظةُ الفرق، وتحقيقُ المناط، ومداومةُ الملاحقةِ والمراكمةِ والتطويرِ والتفصيلِ.
والحُكم الوضعيُّ للفنون هو إعمالُ الحكم التكليفي لها بناءً على تلك الأمارات. فالفنون لها أسبابها وشروطها وموانعها وعزائمها ورخصها وصحتها وبطلانها. فبمجموع هذه الأمارات تتقررُ الأحكامُ التكليفية لها، بناءً على نصوصها ومقاصدها.
وتعنى الأسبابُ المقررة في الحكم الوضعي في تعلقها بالأفعال الفنية: دخولَ أوقاتِ تلك الأفعال الفنية، وقيامَ الحاجة إليها، وتعَيُّنَ مصلحتها ونفعها. ومثال ذلك: جوازُ ضرب الدف والاستماع للطرب بدخول وقته يوم العيد، الذي هو وقت فرح وبهجة، فهذا الوقت يؤذن باستعمال هذا النوع الفني من فنون الطرب والغناء29. ودخولُ وقتِ الأعمال المسرحية العالمية للدفاع عن القيم والدين والطبيعة؛ بمقتضى ما آلت إليه الإنسانيةُ من تحريف لمسارها في اتجاه العولمة المادية، والنزعات الإيديولوجية والطائفية والاحتلالية، التي تعصف بالعالم اليوم.
أما الشروطُ فتعنى بما يلزم وقوعه في الأعمال الفنية من حيث شرط الحاجة إلى ذلك، وشرط الإفادة بذلك، وشرط التوازن مع المجالات الأخرى دون إفراط وتفريط. وهو ما نص الفقهاءُ عليه بقولهم بخصوص أمن التوازن النفسي والانضباط الخلقي وملازمة التوسط في ذلك كله30. ومن الشروط كذلك: إعداد الأرضية الحاضنة للفن الفطري الإنساني الهادف، وتعزيز القدرات الفنية الوطنية والعالمية المتوازنة والخادمة لقضايا الناس وتطلعات الأوطان وازدهار العمران. ويمكن توسيعُ دائرة هذه الشروطَ لتشمل استطاعة الفنان الواحد والهيئة الفنية، والسياسة الفنية، والبيئة الفنية؛ التي تقبل التجديدَ الأصولي في الفن، وتتجنب المواقف الفقهية الجزئية الظاهرية العاطفية للفنون التي لم تستوعب فيها مجموعة الأصول والقواعد والمقاصد في بيان الحكم وتقرير الفتوى.
وأما الموانعُ فتُعنَى بما يمنعُ القيامَ بالأعمال الفنية؛ سواء فيما يتعلقُ بالفساد الذي تشتمل عليه، أو بالظروف التي تحيطُ بها، والتي تمنع قيام الفنون الجميلة والإبداعية الإسلامية. فمن الفساد الفني، اختلاطُه بالمحرم كشرب الخمر وإثارة الشهوة وإيقاع العداوة، ومعلومٌ أن اختلاطَ الفنون بالمحرم يجعلها محرماً وممنوعاً، وقولي: إنه يكون من قبيل الموانع، يفيدُ أن وجود المحرم في الفن يمنع الناس من الاقتراب منه وممارسته، ولكي يقبل الناس عليه، يلزم تخليصه من ذلك المحرم، والعمل على الانتفاع به فنياً بحليته وتخلصه من المحرم والضرر والخطر. ويكون كذلك اختلاطُ الفن بالمحرم مدروساً من جهة الشرط؛ أي إنه يشترط في مزاولة الفن خلوه من المحرم بمقتضيات الأصول المعتبرة.
ومن الظروفِ التي تمنعُ الفنونَ الإسلامية مواجهة الفن البديل وقمع أصواته وحراكه، والتفرد باللون الفني الواحد المساير لثقافة الحزب الواحد، والزعيم الواحد، والأنموذج الواحد31. ومن الموانع كذلك موانعُ ضيق الأُفق العقلي وتراجع الأداء الفكري واستصحاب بعض الأقوال المنقولة النسبية في الفنون بأنواعها على أنها نصوصٌ قطعيةٌ، أو أنها وحيدة في مجال موضوعها، وهو ما أدى إلى الاجتزاء والانتقاء في الفهم والعمل والتفسير والاجتهاد والإفتاء والخطاب.
أما العزائمُ فهي الأحكامُ الأصلية التي شُرعت في الأحوال الإنسانية العادية. وأما الرُّخَصُ فهي الأحكام التي شُرعت في الأحوال الاضطرارية الاستثنائية. وهذه العزائمُ والرُّخص تنطبق على الأفعال الفنية، وما يُشرع في الاستثناء ليس كما يشرع في الأصل والابتداء، وما يُقام من أعمال فنية للعلاج مثلاً ليس كالذي يُقام في العادة من غير ضرورة أو حاجة؛ لاسيما إذا أُريد منه الخروج من الخلاف واختيار الأَوْلى والأصلح؛ فيكونُ بوسع من يُحرّم لوناً فنياً مُعيّناً أن لا ينكر على مخالفه عند قيام ضرورة أو حاجة كالعلاج والمُداواة. ومن التجديد المحرر في هذا المضمار، ما يمكن أن نصطلح عليه بـ«العلاج بالفنون»، على نحو العلاج بالأعشاب والعقاقير والحمية والرياضة والجرح والكي؛ وفق اعتماد منهجية التكامل المعرفي بين علم الطب والنفس والشرع والاجتماع والرصد، ورد ذلك إلى مدركاتِه الشرعية المتعلقة بالضرورة والحاجة والوسائل والمآلات.
وأما صحةُ الأعمال الفنية وبطلانها، فهو الحُكم عليها بأنها صحيحة إذا أُعملت أسبابُها وشروُطها، وانتفت موانعُها، أو الحُكمُ عليها بأنها باطلة بخلاف ذلك. وليس بلوغُ هذا الحكم المركب من السهولة بمكان، فهو صعبُ المنال عذب البيان، إذ هو مجمع المدركات، ومتشعب المسارات، ومبارك المآلات.
ثالثاً: تأطير الأدلة الأصولية الكلية للفنون
1: تذكيرٌ بالأدلة الأصولية الكلية
الأدلةُ الأصوليةُ الكليةُ هي -كما ذكرنا- القرآنُ والسنةُ والإجماعُ والقياسُ والاستحسانُ والاستصحابُ والاستقراءُ والعُرفُ وعملُ أهل المدينة. وهي تمثل المحور الثاني لعلم أصول الفقه. وهذه الأدلةُ الكلية تُؤطر الفنون، بالنظر إلى الأفعال الفنية التي يتعلق بها خطاب الله، بالاقتضاء والتخيير والوضع، على وجه كلي أوّلاً، ثم على وجه جزئي ثانياً، أي: على وجه الجمع بين الكلي والجزئي. وهو ما يجعلُنا نقرر هذه الأدلةَ الكلية على الأفعال الفنية باعتبارها جنساً كلياً من الأفعال، أو أفعالاً إنسانية كلية، على نحو فعلِ الجمال والإحسان، وفعلِ التعبير عن الفطرة والقيم، أو فعل الإنجاز العمراني الحامي من الفساد البشري للأرض، ونحوه.
مثالٌ على هذا التأطير: الجمال بين الوضع والفعل، والخَلْق والخُلُق:
الجمال هو أحدُ تعريفات الفن وثماره. ويُعرّفه لالاند بناء على هذه الحقيقة أنه: «هو كل إنتاج للجمال يتحقق في «أعمال Oeuvres» يقوم بها موجود واع (أو متصف بالشعور)»32. والجمالُ هو حقيقة وضعٍ كوني وإنساني، بإتقانِ صُنعٍ، وحُسنِ مظهرٍ، ومُتعةِ نظرٍ ولَذّةِ وِجدانٍ، ونفعٍ للمخلوق وإرضاءٍ للخالق عزّ وجلّ.
فالجمالُ يُنظر إليه من زاويتين: زاوية ِكونه خلقاً إلهياً ووضعاً كونياً وتشريعياً وأخلاقياً، ومن زاوية كونه فعلاً إنسانياً وأداء للأفراد والشعوب والأمم؛ فما كان متعلقاً بالخلق والوضع يَدخل في دائرة مُراد الله الذي يريد من عباده الامتثالَ له والاتصاف به، وهو ما أشار إليه الحديث: «إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ»33. وما كان متعلقاً بالفعل الإنساني، فإنه يدخلُ في دائرة التكليف والأمر والنهي، وفق الحُكم الشرعي التكليفي والوضعي الذي أشرنا إليه آنفاً.
والجمالُ الذي هو فعلٌ إنساني يكون بمستويين: مستوى فعل الجمال الفردي؛ كأن يتجمَّل الإنسانُ في خاصةِ نفسه بأن يلبسَ الجميل، ويتناول الطيبَ، ويؤدي سُننَ الفطرة الجمالية التحسينية. وهذا الذي جاءت به السنةُ الشريفة الجميلة في سُنن الفطرة والتنعل واللباس. قال ﷺ: «إنّ اللَّهَ يُحِبُّ أنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِهِ»34، فكأنّ الفعلَ الفردي هو امتثالٌ لجمالِ الكونِ والدينِ. ومستوى فعلِ الجمال الجماعي الذي تنهضُ به جماعة إنسانية (قبيلة أو حزب أو أمة أو دولة...)، في جمال مظهرها الحضاري، وإنجازها لمشروعات فنون البيئةِ واللغةِ والآدابِ والقيمِ والمصالحِ.
والجمالُ بمستوييه الفردي والجماعي يتعلقُ به حُكم الشرع تكليفاً ووضعاً، وتتعلق به أدلةُ الشرع الجزئية والكلية. فأدلةُ الشرع الجزئية كقوله تعالى: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر: 4]. وكقوله ﷺ: «إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ»35، وأدلةُ الشرع الكلية هي الأصول العالية والقواعد الكلية والمقاصد العامة، ومن ذلك: أصلُ القرآن بكليته، وهو الكتاب الهادي إلى الفطرةِ والعقلِ والمصلحةِ والحياةِ والنورِ والسعادةِ. وهو أصلٌ بمجموع تصرفاته في تقرير ذلك وبيانه وتفصيله، والإجماعُ العام وعمل الأمة واستصحاب حال ذلك عبر العصور، وغيره مما يمثل الاستدلالَ الكليَّ على الجمالِ ونحوه من مفردات الفنون. فالجمالُ قد ثبُت كلياً بأدلته الكلية مجتمعة ومتماهية ومتحدة؛ فهو حقيقة القرآن والسنة والإجماع والعمل. وهذه الحقيقةُ تقررت بمستوى الخلق والوضع، وبمستوى التكليفِ والأمر والنهي، فمردُّ جمالِ الناس وسعيهم إلى الجمال، هو جمالُ الكون، وجمالُ الدين، وجمالُ الواحد سبحانه في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه ومراده.
والقولُ بأصل الفطرة في الجمال يُرادُ به كونها وضعاً خَلْقياً وأصلاً إنسانياً وأمراً إلهياً، فإرجاعُ الأفعالِ الفنيةِ الكليةِ إليها من حيثُ قبولهُا أو ردُّها، هو الذي نعني به الدليلَ الكلي عليها. وهذا الدليلُ هو دليلٌ أصولي كلي قد تَثَبَّتَ باستقراء شواهده في الوحي والعقل والواقع. ومثالُ ذلك: تناغمُ الإنسانِ مع جمال الأداء الإنساني الفني (كاللوحة الجميلة، والوصلة الإنشادية الماتعة)، كتناغمه مع جمال الإنتاج الطبيعي الفني (كالحديقة الغناء، والواحة الفيحاء وسرب الطيور في الجو، ومطلع الطلح المنضود للتو)، إنما يمثل وحدةَ الفطرة الإنسانية التي جُبِلَتْ على التناغم مع ما يُناسبُها في الجمال والحُسن، ويُلائمُ طبعَها، ويجلبُ نفعَها ومُتعتَها.
والفطرةُ في أصلها الخلقي السوي تُعدّ أصلاً كلياً من أصول التكليف، كما هي أصلٌ من أصول التكوين. قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]. وفي هذا يقول ابن عاشور: «ونحن إذا أجدنا النظرَ في المقصدِ العام من التشريع الذي سيأتي بحثُه، نجدُه لا يعدو أنه يُساير حفظ الفطرة والحذر من خرقها واختلالها. ولعل ما أفضى إلى خرقٍ عظيم فيها يُعدُّ في الشرع محذورًا وممنوعًا، وما أفضى إلى حفظ كيانها يُعدُّ واجبًا...ثم إذا تعارضت مقتضيات الفطرة ولم يمكن الجمع بينها في العمل، يُصار إلى ترجيح أَوْلاها وأبقاها على استقامة الفطرة»36.
ومن ثمَّ يمكن أن تُرد إليها أعمالُ فن، وأفعالُ جمال؛ بمقتضى التناسب والتفاعل، وبقصد النفع والمُتعة، ولسد الضرورة والحاجة والتحسين. وبالضد تُعرف الأشياء وتَزول الأهواءُ. وهو ما يجعلُ اعتبار الفطرة عند تشوهها أصلاً لاعتبار الأفعال الفنيةِ خارجَ إطار الفطرة السوية، كاعتبارِ الفن العاري مخالفاً للفطرة والطبيعة، ومجافياً للموضوعية والنفعية السوية، ومُوقِعًا في العداوات والخصومات، ومُضيّعًا التنمية والتزكية، وإنْ بدا فيه المتاع القليل والإمتاع الضئيل، فهو منفعة ملغاة ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].
وكما قلتُ بأنّ الفطرة باعتبارها أصلاً كلياً، تكون دليلاً كلياً على الفعل الفني الكلي المتعلق بجنس أفعالٍ وسياساتٍ وبرامج، أو المتعلق بجموع ناس وشعوب وهيئات. فهي تناولٌ كلي مركبٌ يُردُّ فيه الفعل الفني المركب إلى الأصل الفطري المركب، وهو ما يقتضي التفكيكَ والتفصيلَ والتركيبَ والتطويرَ والتجديدَ؛ بما يجعلُ أصول الفقه حاكمة على الفنون، بمنهجٍ كلي يحيل إلى الفقه بمنهج جزئي تفصيلي. وهو ما أَقوله في مثال الفطرة، فهي كذلك دليل تفصيلي تُردُّ إليها أفعالٌ فنية تفصيلية، كفعل التجمّل باللباس والطيب يوم الجمعة، لشخص واحد أو لنفر من الناس، فهذا الجمال هو فنٌ، وهو مردود إلى الفطرة الخاصة بأدلتها التفصيلية كحديث الفطرة، وحديث إنّ الله جميل وغيره.
بهذا بيَّنتُ تأطيرَ الأدلة الأصولية الكلية للأفعال الفنية، من حيث مثال الجمال المعدود وضعاً فنياً كلياً (أي: أن الوضع الكوني والديني جميل)، والمعدود فعلاً إنسانياً تكليفياً (أي: أن الناس مأمورون بالجمال والتجميل والتجمّل)، ومن حيثُ مثالُ الفطرة التي هي دليلٌ أصولي كلي يجري في الخلق والدين، والتي هي دليلٌ جزئي يتعلق بتفاصيلِ الأحكامِ وأفرادِ الناس.
ومثلُ هذا البيان في تعلقه بالجمال والفطرة؛ يمكنُ تبيينُ أمورٍ أخرى تندرج تحت الأصول والفنون، ومنها: الذوق والمتعة والإتقان والإنتاج وغيرها؛ مما هو من مشتملات الفنونِ، ومنها ما هو من مشتملات الأصولِ كالعقل والمصلحة والحاجة وتحقيق المناط واعتبار المآل ومراعاة الأَوْلى وملاحظة الفرق. وفي هذه المفردات تداخلٌ وتواصل وتجاذب على صعيد التأصيل والتفنن، بتحقيقٍ وتفعيلٍ تَسَعُهُ النظريات وتستوعبه المجالات، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً.
إنَّ ردَّ الأفعال الجزئية إلى أصل الفطرة في الحُكم عليها بالقبول أو الرد، هو كرد فعل العري في المشاهد الفنية إلى أصل الفطرة في رفضه، لقُبحها ومجافاتها للطبع السليم والعقل السوي، وفي قبوله لانتفاء معنى القبح ورجحان قيمة الحسن في الصحة والاستحسان في موضع العلاج مثلاً. ونظيره الاستشهادُ بكلام المارقين عن الدين والقيم، لبيان فداحة مروقهم، كالاستشهاد بشعار يرفعه أنصار الشذوذ الجنسي واللواط والسحاق، بتعرضهم للأسرة والزواج والقيم والدين بعبارات نابية وشعارات ساقطة ومهينة.
2: مستويات تأطير الأدلة الأصولية الكلية للفنون
المستوى الأول: تأطير أصول الوحي للفنون، والوحي هو القرآن والسنة؛ من جهة اللغة والأحكام والمقاصد والقيم، وبالاجتهاد والعقل والواقع كما هو في المستوى الثاني.
(أ) - التأطير الموضوعي الكلي الجمعي:
وهو تأطيرٌ موضوعي كلي يُباشر الفنونَ بمنهجيةٍ تجمعُ سائرَ ما يمثل دليلاً شرعياً للفنون مجملة ومفصلة، وباعتباراتها المختلفة؛ كاعتبار كونها وسيلةً لغيرها أو مقصودة لذاتها، ونحو ذلك. فدليلُ الفنون ليس هو نص آية أو عدداً من النصوص المُحددة، وليس هو الأخذُ بظواهر النصوص، بل لا بد من الأخذ بمعانيها ومقاصدها وسياقاتها. ومثال ذلك: مسألة لفظ «الحديث» التي وردت في القرآن بعدة أوصاف، والتي ارتبط ذكرها بلهو الحديث في علاقتها بحكم الغناء والموسيقي، وهو الأمرُ الذي كان أثرُه في ضعف الاستدلال على الغناء والموسيقى، بسبب عدم التناول الموضوعي لها، كتناولها في مجموع نصوصها الواردة فيها، وفي وصلِها بالسنة البيانية والتحقيقية، وغير ذلك مما يُعد من أساسيات ذلك التناول الموضوعي.
إنَّ مسألةَ «الحديث» الوارد في القرآن، ومنه«لهو الحديث»،كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [لقمان: 6]، ولغو الحديث كما في قوله عز وجل: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 3]، وصدق الحديث كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء:87]، ومنه الكلمة كما في قوله تعالى: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾[الكهف: 5]، وقوله: ﴿وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 77]، والقول كما في قوله تعالى: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ [محمد: 30]، إلخ، في نور هذه الأدلة وبمجموع التناول الموضوعيُّ تتقرر ُحقيقة اللفظ ومرادُه، وتعدد دلالاته بحسب اعتباراته. فالحديثُ يُطلق على القول والموقف والبيان والتفسير والتداول الخطابي والتقرير العلمي، وتتقرر أحكامُ الحديث من حيث الجواز والمنع والكراهة والوجوب والضرورة والأَوْلى، بحسب سياق ذلك.
والحديثُ يتنزل على الفنونِ بأنواعها، فالشِّعْر حديث تختلف أحكامُه، وفي الآية: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ [الشعراء: 24]، وفي الحديث عنه ﷺ: «إنّ مِن البيانِ لَسِحْرًا»37 (اختلاف الأحكام لاختلاف الأوصاف)، والصُورة حديثٌ صامتٌ وأحكامُها معروفة باختلافها لاختلاف اعتباراتها ومآلاتها.
وعليه؛ لا يمكنُ اختزالُ الاستدلال بآية لهو الحديث على تحريم الغناء والموسيقى، واختصار الحديث على أحد أشكاله أو بعض أشكاله. وإنْ كان هنالك سببُ نزول فيُنظر فيه بحسب ذاتِه من حيث تحقيقه، وينظر فيه من حيث غيره وارتباطه به. حيث ذكر العلماءُ أسباباً مختلفة لنزول هذه الآية، وقد جمعها الواحدي في كتابه أسباب نزول القرآن38 في الآتي:
قال الكلبيُّ، ومقاتلٌ: نزلت في النَّضر بن الحارث، وذلك أنَّه كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها، ويحدث بها قريشا ويقول لهم: إنّ محمدا يُحدثكم بحديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم بحديث رُسْتُم، وإسْفِنْدِيَار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثَه ويتركون استماع القرآن، فنزلت فيه هذه الآية39 .
وقال مجاهد: نزلت في شراء القِيان والمغنيات.
وعن أبي أُمامةَ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يحِلُّ تعليم المغنيات، ولا بيعهنّ، وأثمانهن حرام»، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِا للَّهِ﴾ إلى آخر الآية.
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً.
ومثل ما بيَّنا لفظ الحديث بقراءة موضوعية إلى حد ما، ينبغي تبيينُ أيِّ لفظ أو دليل له تعلق بمسألةٍ أو قضية في الفنون، كلفظ الزينة ولفظ الحسن والجمال؛ من أجل القراءة الكلية وجمعها بالجزئيات. وهو الأولى بالاعتبار والصحيح من مجموع الأخبار.
(ب) - التأطير الموضوعي الكلي المفرد:
وهو تأطيرُ الفنون بدليلٍ كلي واحد، كدليل الاستحسان أو الفطرة أو المصلحة أو الحاجة أو العُرف. وهو ما يُعرف بالدليل الكلي الواحد الواقع ضمن الأدلة الشرعية الكُلية في علم أصول الفقه. فيُستدلُّ على الفنون أنواعاً أفراداً، وأفعالاً أو أشياءً بدليل كلي واحد صريح أو مباشر لها. ومثال ذلك: الاستدلال على الأشياء الجميلة في الكون والطبيعة بدليلِ أصل الإباحةِ، أو دليلِ الفطرة السوية التي تناسبُها الفنون الكونية الجميلة والمظاهر الطبيعية الحسنة.
والحقُّ أنّ هذا الضربَ من الاستدلال الكُلي المفردُ عائدٌ إلى الاستدلال الكُلي الجمعي؛ للتداخل والتكامل بين حقيقة الاستدلال الشرعي الكلي. وهو المُراد من أصولِ الفقه بالأدلة الشرعية الكلية جمعاً وإفراداً.
تأطير بعض الأصول للفنون
- تأطير الاستحسان:
الاستحسانُ هو: إيثار ترك مَا يَقْتَضِيهِ الدَّلِيل على طَرِيق الِاسْتِثْنَاء والترخص بمعارضته مَا يُعَارضهُ فِي بعض مقتضياته40. ومنه استحسانُ الحاجة، وهي: ما تحتاج إليه النفس أو الجماعة مما تقوم به في معاشها ونظامها. ومنه الحاجةُ إلى الفنون بأنواعها، مما تتحدد حاجتُه في مجالٍ ما أو ظرفٍ ما. ومنه -مثلاً- الحاجة إلى التداوي بنوعٍ من أنواع الفنون إذا تعينت بكلام الخبراء والمتخصصين، وتبينت منفعتُه وإمكانيته، فيُلحقُ بالاستدلال بالحاجة على موضوعاتها ونوازلها، كالاستدلال بالحاجة على الإجارة، والنظر إلى العورة للتداوي وإنقاذ المهدد بالموت أو الهلاك، وإقامة الصنائع والمعاملات على خلاف قواعد الحضور والمعلوم والموجود.
- تأطير المصلحة المرسلة:
المصلحةُ المرسلةُ هي: المصلحة المسكوت عنها من جهة التفصيل والتحديد، فلا يشهدُ لها دليل خاص على الاعتبار أو الإلغاء، ومثالها: جمع أبي بكر الصّديق رضي الله عنه القرآن الكريم بغاية حفظه، ومنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الزواجَ من الكتابيات وإعطاء الأولوية للتزوج بالمسلمة، لنفي الإعراض عن الزواج بالمسلمات، ومن الأمثلة المعاصرة: تسجيلُ العقود في الدوائر الحكومية بغاية حفظ حقوق المتعاقدين.
وهذه المصلحةُ المرسلةُ تمثل أصلًا فقهيًا كلياً للفنون من جهة الأنواع والفروع والأفعال والأشياء الفنية الكثيرة التي لم ترد فيها نصوصٌ خاصة تشهد لها بالاعتبار أو الإلغاء، ومثاله: الألعابُ الإلكترونية والمسرحية والرياضية، والومضات الإشهارية والدعائية.
- تأطير الاستصحاب وعمل أهل المدينة والعُرف:
وهذا كله مبينٌ في مواضعه، وظاهر تنزله على الفنون بحسب حقيقة تلك الأدلة الأصولية الكلية. ومن الجدير الإشارة في هذا الصدد إلى أهمية دراسة الفنون في المدينة، من منظور آثار الإمام مالك والمدرسة المدنية؛ ففيها الكثير الذي يَعِدُ بآفاقٍ أصيلةٍ رحبة في الموضوع.
- المستوى الثاني: تأطير أصول العقل للفنون
أصولُ العقل هي: الأهلية النظرية والفطرة السوية والنفس الزكية والمهارة والكفاءة في الموضوع المدروس. وهذه الأصول العقلية مركوزةٌ في أصول الفقه من جهة ما يُعرف بمصادر الاجتهاد، كالقياس الذي يحضر فيه العقل من جهة التسوية بين النظائر في المعنى والعلة والحكم والمقصد، والاستصلاح الذي يعمل فيه النظرُ العقلي إلى المصالح وجلبها وتكثيرها وتقديمها. والاستحسان الذي فيه معنى الاستثناء من الأصل لمصلحةٍ راجحة أو أرجح من مصلحة إعمال الأصل، أو ملاحظة الفرق وتخلف المعنى الذي لأجله شرع الأصل، ومثال تقريبي على ذلك:
الصورةُ التي وردَ الشرعُ بتحريمها وعدها من كبائر الذنوب ومهالك المصورين، لحديث «لعن الله المصورين»41، فحُكمُها الأصليُّ التحريمُ، والدليل هو النص الحديثي، والدليل الكلي هو منازعةُ الخالق في خلقه بادعاء المضاهاة ومحاكاة صنعه وإبداعه. ومن الدليل الكلي كذلك تعريضُ الناس للافتنان في عقيدتهم وتهديد الأمن الفكري والطمأنينة النفسية والسلم المجتمعي بموجب الاعتقاد الصحيح في الله تعالى وسائر أركان الإيمان. وبالنظرِ في الصورةِ التي لم يرد بها النصُّ المحرِّمُ لها، والتي لا توجد فيها علة التحريم (مضاهاة الخلق)، أو الصورة التي فيها ظاهر المعنى التحريمي لكنه يؤدي إلى معنى آخر له مشروعيته النصية والمقاصدية، ومثال ذلك لعبة الأطفال الثابتة أو المتحركة برأسها أم مقطوعة الرأس، فهذه الصورة قد تخلف فيها معنى المضاهاة والمحاكاة للخلق، وليس فيها معنى الكبر والتعالي، فيكون حكمُها عدم التحريم أوّلًا لانتفاء المعنى الذي جاء به النص، ويكون حكمُها الجواز لقيام معنى آخر له اعتباره في الدين، كمعنى تنميةِ مهارة الطفل الحسية والعقلية وإشباعِ حاجته في اللعبِ والرفاهة، ومسلكِ التدليل على هذا الجواز هو الاستحسانُ، أي؛ الاستثناءُ من أصل التحريم لمصلحة الطفل، ولانتفاء معنى المضاهاة والكبر والتعالي، ولأصلِ الإباحة والفطرة.
ج - الأصول الشرعية الكلية المؤطرة للفنون بين الوحي والعقل والواقع:
تمثلُ الأصول الشرعية الكلية حقيقةَ الدين الذي جاء به الوحي لهداية العقل؛ فالوحيُ مصدرُ الهدايةِ، والعقلُ مورد تلقيها ومبعثُ تمثلها في عملياته، والواقعُ هو مسرح العمل بالوحي والعقل، بمناهج تحقيق المناطات ومراعاةِ الإمكانيات، واعتبار المآلات وإجراء التجارب وتحليل الظواهر. وتندرجُ تحت هذه الحقيقة كلٌ من الفطرةِ والمصلحةِ والحاجةِ والضرورةِ. وتتجلى مناهجُ النظر في ذلك، كمنهج الاستقراء والرصد والاستنتاج والقياس ونحوه.
3: الدلالات المؤطرة للفنون:
وهي المحور الثالثُ لأصول الفقه. وتعنى بدلالات الألفاظ على المعاني والأحكام. ويمكنها أن تؤطرَ الفنونَ من جهةِ ما هو موضوع لها، ومن ذلك: ألفاظُ ولغةُ الفنون؛ كلفظِ الحديث والآيات والغناء واللهو، وأسباب النزول القرآني والورود الحديثي، وهل هي عامة أم خاصة، مطلقة أم مقيدة، وما صلة السنة في ذلك؟ وقد بيَّنَّا فيما مضى شيئاً مجملاً من تأطير هذه الدلالات للفنون، وهو ما نكتفي به، لتعذر تفصيل ذلك، خشية التطويل، ورغبة في أن يحظى ببحث خاص يفي بالغرض ويستجيب لمتطلبات الدقة اللازمة والإضافة المطلوبة.
4: تعبير الفنون عن الأصول
مرادي من هذا المبحث هو: توظيفُ الفنون لخدمة الأصول، في مقابل خدمة الأصول للفنون؛ فهذا هو الذي عبرنا عنه بالجدلية القائمة بينهما، وهو الأصلُ الذي يُصار إليه في الفنون والأصول، فهُما متناغمان من جهة وحدةِ المعرفة وتكاملها، وإطارِ العمل والإنجاز، مع التمايز القائم بموجب الطبيعة والاختصاص والأدوات.
وعبارةُ «تعبير الفنون عن الأصول» هي: أن تكونَ الفنون بمفهومها الواسع إطاراً نظرياً معرفياً ومنهجياً وإجرائياً وتطبيقياً للأصول، مع بقاء الأصول محافظة على نفسها بطبيعتها وموضوعاتها ومنهجها واختصاصها الأكاديمي، ودورها الاجتهادي، وأثرها في الواقع والعقل.
والمفهومُ الواسع للفنون يتجاوزُ التعريف الضيق لها، ويمثل طوراً متجدداً نوعياً، ومحطة معرفية إيبستمولوجية ومنهجية وسياقية تحتمها طبيعةُ المرحلة الحالية وطنياً ودولياً، ومعرفياً وإجرائياً وتطبيقياً، وتؤيدُها الهوية الإسلامية والسيادة الوطنية، والطور الانتقالي؛ بمقتضى مساراتِ الإصلاح والثورة والإحياء والتجديد. وهو ما يجعلُنا نتناول الفُنون من ضيق التعريف إلى سعة المفهوم، وجَوْر التعصب إلى عدل الاجتهاد، وعبادةِ الأنماط والقوالب إلى التعبد بمناهج النظر والعمل، وبآفاق التجديد والتأصيل.
1: مستويات مفهوم الفنون:
تفاوتت تعريفاتُ العلماء للفنون، بتفاوت المدارس والمناهج والسياقات، وتعددت الفهوم لها وتداخلت، بتعدد زوايا النظر إلى هذه الظاهرة الإنسانية في طبائعها وعاداتها، وتداخل أبعادها الثقافية ومساراتها في العيش والتحضر والتراجع والتأخر، وتوظيف السياسات الحاكمة وأنظمة الاستبداد والعدالة وألوان الأحزاب والجمعيات والهيئات ونحو ذلك.
فقد فُهمت الفنون بمستوى معنى الأشكال التعبيرية، والصور البيانية، والأساليب في الإيضاح والتعليم والخطاب، كلياً أو جزئياً؛ كشكلِ الشعر والنثر والقصة والصورة والمسرح والسينما والغناء والخطاب والمقال. وهو ما جاء في كلام كثيرٍ من الباحثين في تعريف الفنون، فقد كان «شبنجلر» يرى مثلا «أنّ كل فنّ هو لغة تعبير»42، وأنّ «اختيار جنس الفن نفسه يُعد أيضا وسيلة من وسائل التعبير»43.وتختلفُ الأشكالُ التعبيرية باختلاف موضوع الفن، وتلتقي في الحاجة إلى توازن الدافع النفسي لممارسة أحد أنواع الفنون. فـ «الرُخامُ لابد أن يقدّ، والألوانُ لا بدَّ أن تنسكب على القماش. والألفاظ لابد من أن يؤلف بين بعضها البعض، والدافع الذي يثور في النفس محدثاً لديها نوعا من الاضطراب الذي يتطلب التعبير أو النطق إنما هو في حاجة أيضاً إلى أن يخضعَ لعملية تنظيم وافٍ دقيق، حتى يلقى البيان الفصيح الذي يظهره إلى الوجود، مثله في ذلك كمثلِ الرخام أو الأصباغ اللونية أو الألوان أو الأصوات»44. فليست عبقرية الفنان كما يقول د. زكريا إبراهيم في أن ينقل الواقع بأمانة، وإنما عبقريته في أن يُعَبِّر عن الواقع بعُمق45. وهذا التعريف قد تأسس على الأشكال التعبيرية، بمعنى الوسائل البيانية والأساليب التي تُعرب عن المعنى والفكرة والخلفية والغاية ونحوها.
وفُهمت الفنون بمستوى العلوم والمعارف، وهو المراد بالاستعمال في العصور الحديثة بفنون الآداب واللغات والترجمة والأصول والتاريخ والإنسانيات والاجتماعيات. فقد أصبحَ اصطلاح «الفنون الحرة» يشير إلى اللغات والعلوم والفلسفة والتاريخ؛ على اعتبار أن هذه جميعاً لا تدخلُ في التعليم الصناعي أو المهني.
وفُهمت بمستوى الصناعات المعملية والحرف اليدوية والمهارة والخبرة والإبداع في ذلك، والإنتاج المادي والطبيعي والعمراني؛ ذلك أننا «لو رجعنا إلى الأصل الاشتقاقي لكلمة «الفن» (Techné باليونانية و Ars باللاتينية)، لوجدنا أن هذه الكلمةَ لم تكن تعني سوى «النشاط الصناعي النافع بصفة عامة». فلم يكن لفظ «الفن» عند اليونانيين مثلا قاصرا على الشعر والنحت والموسيقى والغناء وغيرها من الفنون الجميلة، بل كان يشمل أيضا الكثير من الصناعات المهنية كالنجارة والحدادة والبناء وغيرها من مظاهر الإنتاج الصناعي»46.
وفي العصور الوسطى المسيحية، بقيت كلمة «فن» (Ars باللاتينية) تشيرُ إلى الحرفة أو الصناعة أو النشاط الإنتاجي الخاص47. وهو ما ذهب إليه عالم الجمال الفرنسي المشهور شارل لالو (1877-1953) فإنه يقرر أنّ «الفن» بالمعنى الواسع لهذه الكلمة «إنّما هو عبارةٌ عن عمليةِ التحوير أو التغيير الذي يدخلُها الإنسان على مواد الطبيعة، أو هو على حد تعبير بِيكون: «الإنسان مضافا إلى الطبيعة». وبهذا المعنى يشمل الفن شتى الفنون الميكانيكية والصناعية والتطبيقية؛ بما في ذلك فنُّ الهندسةِ، وفنُّ الطبِّ، وغيرهما من الفنون التي تستلزم من المهارة والصنعة ما قد يقربها من الفنون الجميلة؛ كالأدب والموسيقى والنحت والتصوير وغيرها.
والعنصرُ المشتركُ بين هذه الصور المختلفة من «الفن» إنما هو فكرةُ «الصناعة» و «الإنتاج»48. ويذهب «سوريو» إلى حدٍ أبعد مما ذهب إليه لالو، فيحاول أن يستبعد فكرة «الجمال» من تعريفه للفن، كما يرفض أيضاً أن يدخل فكرة (اللهو) أو (اللعب) في تحديده لمضمون الفن، بل مكتفياً بالقول: إن الفن هو نشاط إبداعي من شأنه أن يصنع أشياء أو ينتج مصنوعات49. ويرى د. زكريا إبراهيم أنَّ العرب قد فهموا «الفن» بهذا المعنى بدليل أنهم قد فرّقوا بين الطبيعة والصناعة، وذهبوا أيضاً إلى أن «الصناعة تُستملَى من النفس والعقل، وتُملَى على الطبيعة». وكان العربُ يستعملون كلمة «الصناعة» للإشارة إلى «الفن» عموماً، كما يظهر من تسمية أبي هلال العسكري لكتابه في الكتابة والشعر باسم «كتاب الصناعتين»...»50.
وثمة مستويات أخرى للفن، منها: مستوى تحقيق المتعة كما فهمها «كانط»، و«دولاكروا»، و«سنتيانا». ومستوى التواصل الشعوري والتفاعل الإنساني، كما يقول «تولستوي». ومستوى الإنتاج العام والخاص بإتقان وإحسان، كما ذهب إلى ذلك آرسطو وجليانوس وراموس ولا لاند وموللر وغيرهم51.
2: تقرير المفهوم الواسع للفنون ومكوناته:
يتسعُ مفهومُ الفنِّ بحسب اعتباراتِ العُلماء وطبيعة الخلفيات الفلسفية وسياقات الواقع. ولهذا الاتجاه ما يؤيدُه من حيث اللغة والاصطلاح العلمي والحقيقة الموضوعية والمنهجية والاستدعاء الوظيفي52. فهو مفهوم يرتكزُ على الأسس المعرفية من اللغة والثقافة والمنهج العلمي بناءً على الأعمال والجهود والمحاولات اللغوية والمصطلحية المعجمية53. ولهذا المفهومِ حمولةٌ دلاليةٌ ما زالت مشبعة بمضامين فكرية ومعرفة عميقة. وكثافةُ استعماله لم تبتعد كثيراً عن حدوده ودلالته في البيان والبلاغة والشعر، وغير ذلك من مجالات الأدب. ولم يأخذ موقعه اللائق به في مجالات الجمال والإبداع54.
وهذا الاتساعُ في المفهوم يأتي في مقابل تضييقه وحصره في بعض مجالاته وأشكاله؛ كحصره في الرقص والغناء والتمثيل، أو الخط والرسم والتصوير... وفي أساليب إظهار الجمال والإبداع، وفي استبعاد السياق وأثره في تطوير المفهوم وتوسيعه. والحقّ أنّ الفنون -في نظامها المعرفي ومسار تنزيلها- هي كل ذلك، فهي قيم ومعان، وهي أشكال وأساليب، وهي بيئة وسياق. وهو ما يشكلُ الإطار العام الذي تُفهم فيه هذه الفنون، وتُتصور في الذهن، وتُؤدى وتُنزّل وتُفعّل في الواقع. وهو ما يشكل المفهوم الواسع لها، بأنواعها واستخداماتها ومتعلقاتها55. وهو ما يجعلني أقرر هذا المفهوم الواسع بأنه: «القيم، والتعبير عنها برؤية الإسلام، ونفع الناس، بسياق وجمال وإبداع»56. ومكوناته هي: أولاً: القيم، وثانياً: الأشكال التعبيرية عن القيم، وثالثاً: مرجعية الإسلام، ورابعاً: نفع الناس، وخامساً: السياق، وسادساً: الجمال والإبداع.
الأول: القيم
القيمُ هي الأساسُ الفلسفي والمعرفي والديني للفن، ومثلُه صفة الجمال الإلهي الذي هو قيمة معنوية وحقيقة في ذات الله العلية، وتتفرعُ عنها جمالياتُ الوجود والإنسان والحيوان والدين والفضائل والأحكام والمقاصد والمصالح. ويؤمرُ الإنسان المكلف بتوليد جماليات معاشه ومحاسن معاده؛ بما يجعله مرتقياً في مراتب التكليف والتأثيث والتوليف، ومنازل العرفان والوجدان والعمران. وهو جمالُ المخلوق المكلف المترتب على جمال الخالق الآمر؛ بمقاربةٍ في أصول الفقه متينة، هي موضع بحثنا في هذا المضمار. إن مفهوم الجمال يتسع، فيشمل العقل والسلوك والمعنى الذي يحمله اللفظ، وليس الشكل الفني للأداء اللفظي وحده57.
(أ) - قيمة الجمال:
تُعدُّ قيمة الجمال قيمةً جوهرية للفنون، بحسب الإطلاق القديم المتعارف عليه على الأقل، وبحسب التوسع في إطلاقها وصلتها بالفن. فقد عُرف الفنُّ بالجمال، وعُرف بثمرته التي هي الجمال وغايته ومقصده58، أو جوهره ولبه وروحه59. وعُرف أنه بوجه عام صفةٌ تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس سروراً ورضا60، ونحوه.
ويأتي هذا التعريفُ في قمة قيمته، التي هي جمال الخالق في خلقه وأمره، وجمال المخلوق في امتثاله وتمثله لهذه القيمة، وإعمالها وتحقيق أقدارها في واقعه ومعاشه. فالفن يسعى إلى الجمالِ الذي هو من مقاصد الله في الخلق61؛ بمقتضى الممكن والحاجة والمصلحة والمآل والجمع والأَوْلى، وغيره مما هو من مدركات أصول الفقه في موضوع الفنون. والفن من قاصد الله من الخلق أيضاً بتقريرِ صفة الجمال المطلق لله، حيث يربط الجمال الحسي والعقلي بالجمال الإلهي؛ لأنه أثر من آثاره62.
(ب) - قيمة الحُسن والإحسان:
تُعدّ قيمة الحُسن قيمةً جوهرية ثانية للفن. أو هي تتماهى معه وتتداخل فيه، بحسب بعض إطلاقات العلماء. فقد قِيلَ: إِنَّ الجمال هو الحُسن في الخَلْق. قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4] والخُلُق63، جاء في الحديث: «حسنوا أخلاقَكم»64. ومن خلال إطلاق الإحسان والإتقان؛ يصلُ الفن يصل بالمهن والصناعات إلى الإتقان والإحسان65. وقد جاء في الحديث: «إن الله يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملاً أن يُتقنه»66. وعليه تكون قيمةُ الحُسن بمعنى حُسن الخلق. وحُسن الخلق، هو الفن ذاته في جوهر الإنسان وفطرته وطبيعته، وفي سلوكه وأعماله وسيرته وإنجازاته.
(ت) - قيمة الكمال:
الكمالُ هو التَمام بإتقان. والشيء إذا تَمَّ، دَلَّ على تفنن صاحبه ومهارته، وأثار إعجاب الناس به، وحملهم على محاكاته والاقتداء به. وتظل قيمة الكمال ذروةَ أي فن بمفهومه الواسع، وثمرتُه المطلوبة وأثره المقصود في القيام بالواجب وتبرئة الذمة ونفع الناس. والكمالُ هو الجمال. والجمالُ هو الكمال الذي نحسنه لوناً، وشكلاً، ومضموناً67.
(ث) - قيمة الحق والخير:
وهي قيم الحكمة والحقّ والخير68؛ كقيمة الإحسان والتزكية والفضل69.
(ج) - قيمة اللذة والمتعة:
اللذة هي استمتاعٌ يجده الإنسان في نفسه ومشاعره، وتميل إليه طبيعته وفطرته، وتبعثه على النشاط والابتهاج، والترويح عن النفس70. والفنُّ عمل يقصد من ورائه المتعة الجمالية الخالصة71. وقد عرّف المفكر الألماني لانج Lang الفن بقوله: «هو مقدرةُ الإنسان على إمداد نفسه بلذة قائمة على الوهم illusion، دون أن يكون له أي غرض شعوري يرمي إليه سوى المتعة المباشرة»72. وشبيه بهذا التعريف أيضاً ما ذهب إليه الفيلسوف الإنجليزي سلى Sully حينما كتب يقول: إنَّ الفن هو إنتاج موضوع له صفة البقاء، أو إحداث فعلٍ عابر سريع الزوال، يكون من شأنه توليد لذة إيجابية لدى صاحبة من جهة، وإثارة انطباعات ملائمة لدى عدد من المشاهدين أو المستمعين من جهة أخرى؛ بغض النظر عن أي اعتبار آخر قد يقوم على المنفعة العلمية أو الفائدة الشخصية73.
الثاني: الأشكال التعبيرية عن القيم
وهو سائرُ الأشكالِ التي يُعبَّر بها عن قيم الفنون، ومنها فنونُ الكلام والخطاب؛ كالكلمة والنثر والشعر وشعارات المظاهرات وصيحات الحروب والمعارك، وكذلك الرسم والصورة والتشكيل، والفــنون الــيدوية والفنون البــصرية والفــنون الصوتية74، والفنــون الحركــية كالــرقص
والغناء، وفنون السكون كالعمارة والتصوير والنحت75. فالفن «هو التعبير الجميل عن حقائق الوجود، من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود»76.
الثالث: مرجعية الإسلام
قيمُ الفن وأشكالُه التعبيرية تتحدد بناء على مرجعية الإسلام، أي: أصوله ومقاصده وأحكامه، وفق منهج ذلك، كما هو مقررٌ في علوم الشرع. وما ذكرناه من تأطير الفنون بالحكم الشرعي والأدلة الأصولية الكلية والدلالات، وما يقتضيه ذلك من معارف ومناهج وسياق؛ إنما هو تقرير هذه المرجعية الإسلامية وإعمال لها، بمدركاتها الشرعية والعقلية والواقعية والسياقية. ويبقى سؤال مركزي جدلي يتعلق بالفنون من جهة الدين، فهل هي من الدين، أم من الدنيا؟ وهذا يحيلنا إلى القول بأن الجواب عن ذلك اعتباري، والراجح فيه، أنه جمع بين الديني والدنيوي، بحسب المعايير الخمسة للجمع، وهي الارتكاز على النية التي تفرق بين طبيعة العمل من حيث كونه عبادة أو عادة، والبناء على العقيدة التي هي رؤية الإسلام للكون والحياة والإنسان، والنوط بالنصوص الشرعية الجزئية والكلية في موضوع الفنون، والتقدير القيمي والمقصدي والعقلي والواقعي الذي له اعتباره في الدين، وانتظار الجزاء الأخروي الذي يناط بالفنون ثواباً وعقاباً. وهذا هو الإطار الديني للفنون، وإطارها الدنيوي هو الموضوع والأدوات والمكتشفات والنُظم والسياقات التي يشتركُ فيها الناس، وفي كل الأحوال فإن الفنون من المجالات الإنسانية والحياتية التي تجري فيها معاني التعبد والتعليل والمعقولية، مع ملاحظة غلبة المعقول على التعبدي؛ باعتبارها من جنس المعاملات والعادات، وليس من نوع العبادات والقربات. وهذا أمر تتسم بياناته بأكثر دقة وأبلغ محصول وأكثر جدلية في مساحات أخرى، وقد كان لي شيءٌ من ذلك في موضوع السياسة والحُكم ونحوهما.
الرابع: نفع الناس
يُعدُّ نفع الناس مكوناً للفنون، من جهة مزاولتها وأثرها؛ فهي قائمة لينتفع الناس بها، في مشاعرهم وعقولهم وأجسادهم وصحتهم، وفي اجتماعهم الإنساني ودوائره المختلفة ومناسباته المتنوعة، وتبقى المنفعة المشروعة للفن منتظمة ومطردة ومتناغمة مع سائر الماهية الفنية ومكوناتها ومفرداتها. وليس من النفع في الفنون بمرجعية الإسلام وفطرة الإنسان ومقتضيات الأحوال، النفعُ الضئيل والاستمتاع المحرم والتلذذ بما يدرأُ المصلحة الحقيقية ويصادم الفطرة الإنسانية والحاجة القائمة والانتظام المطلوب. وفي القرآن إشارة إلى درء المنفعة غير المشروعة، سواء لتفويتها للنفع الأولى، أو لإتيانها بضررٍ أكبر وفساد عريض. وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].
الخامس: السياق
وهو البيئةُ التي يجري فيها الفن، أي؛ بيئة الواقع وتحدياته وإمكانياته، ونفسيات الناس وعقلياتهم وأعرافهم، ومهارات الفنانين والمبدعين، ومدى تفاعلهم مع حاجيات الناس وتطلعات الجماهير وطبيعة السياسة والفكر، وغيره. وكذلك مراتبُ الوعي الديني والاجتماعي والنفسي، وأحوال العدالة والحرية والمسؤولية في مجتمع ما، ونظام سياسي ما.
السادس: الجمال والإبداع
وهو جوهر الفنون وروحها، وذروتها في الإبداع والإتقان، ومظهر تألقها، مع التفاوت في ذلك، بتفاوت الفهوم والعلوم والهموم. وهو المتداول في عالم الفنانين ودوائر الفنون بالفنون الجميلة بفسحة نظر، والفنون الذائقة بمتعة رائقة وفائقة.
الأصول الفنية التعبيرية
1: مفهوم الأصول الفنية التعبيرية
(أ) - المصطلح بين الجدة والجدل:
يبدو هذا المصطلح جديداً في عبارته وجدلياً في مضمونه. ويجوز لي أن استعمله بمدلوله ومضمونه بموجب ذلك واعتباره النسبي، كما يحقُّ لي أن أتداول الرأي فيه مع الناقدين المبصرين. وهذا المصطلح تركيب من مصطلحين، مصطلح الأصول ومصطلح الفنون، وهو ما انصبَّ عليه جوهر البحث، وما أكدته هنا بتعبير الفنون عن الأصول.
فالمُرادُ بتعبير الفنون عن الأصول، هو أن تتبوأَ الفنون مكانةً عالية في خدمة الأصول التشريعية، وبيان حقيقتها وترسيخ الوعي بها وتفعيلها في واقع الممارسة الاجتماعية، وفي الاجتهاد ودوائر المعرفة ومسارات الإصلاح العام والانبعاث الحضاري. فأصولُنا التشريعية علم عظيم كما يُذكر ذلك غالباً في مدونات أصول الفقه ومقدماته، وفن دقيق يجمع بين الوحي والوعي، وبين النقل والعقل والواقع، وبين مفردات ومدركات تجعل منه علماً شرعياً موصولاً بالإنسان والكون، وبالعلوم والفنون. فهو بمستوياتٍ ثلاثة كما هو مقرر في نظرية المعرفة وفلسفة العلم: النسق المعرفي والمنهجية المتبعة، والمستوى الإجرائي التكاملي بين العلوم والمناهج، ومستوى التطبيق والعمل.
وتبوؤُ الفنون لخدمة الأصول أمرٌ في غاية الأهمية الموضوعية والمنهجية والسياقية والواقعية، وقدرٌ عالٍ من النظر والتحقيق والتقدم العلمي والتجديد الديني والتطوير المؤسسي، وليس مجرد شعارات جوفاء وطريقة حمقاء، لا تنتج سوى الضجيج مع معاكسة المشهد البهيج، في روعة اجتهاده وبركة سداده، ومن يُهن الله فماله من مكرم.
(ب) - الأصول الفنية من لوازم الأصول التشريعية
باستقراء أصول التشريع والفقه، يتبيّنُ أنَّ هذه الأصول هي: أوّلاً: الأصولُ اللغوية التي مثلت البناء اللغوي لهذه الأدلة وأحكامها. ثانياً: الأصولُ الحكمية التي مثلت المعاني والأحكام الشرعية التي حوتها اللغة العربية التي جاء بمقتضاها الوحي القرآني والنبوي. ثالثاً: الأصولُ المقاصدية التي مثلت الحقيقة الغائية والمصلحية والمآلية والوسائلية والقصدية والماورائية، التي تضمنتها اللغةُ والأحكام ومنهجية ذلك. رابعاً: الأصولُ القيمية التي مثلت الحقيقية المعيارية الإنسانية والكونية والأخلاقية التي تُستخلص من اللغة والأحكام والمقاصد. خامساً: الأصولُ العقدية التي مثلت التصور الشامل والرؤية الكلية للوجود والكون والحياة والإنسان، والتي تجمع بين مجموع المدركات والأصول من اللغة والأحكام والمقاصد والقيم وغيرها. سادساً: الأصولُ التعبيرية: وهي إطار التعبير عن ذلك كله، وبما يعنيه من الإفصاح والبيان، والخطاب والإرشاد، والتصنيف والتأليف، والجدل والمناظرة، والتداول اللساني والحركي، والإعلام والنشر والتوزيع، والتنفيذ والإنجاز، وتشييد العقارات بأنواع البنايات، في عالم الإنسانيات والمدنيات والأبراج العاليات والمراكب المسخرات.
(ج) - الأصول الفنية التعبيرية إطارٌ تعبيري عن الأصول التشريعية الخمسة
يمكنُ للفنون بمفهومها الواسع أن تُعبِّر عن الأصول التشريعية الخمسة، أي: أنَّها يمكنها أن تُعبِّر عن ذلك بأشكالِ التعبير التقليدية والحديثة، كالقصةِ والشعر والمسرح والتمثيلية، والاستطلاع والقيس والرصد والمقارنة، والصورة التلفزية المركزة الملونة التي تضاهي المجلدات والمطولات.
وكذلك بمفهوم القيم الفنية، كقيمةِ الجمال والحُسن، التي يظهر بها التشريُع الإسلامي في أصل قيمة الفطرة والحرية، وفي أصل عقيدة التوحيد والتجرد، وفي أصل غائية المصلحة وتأثيثها بالحاجة العصرية والمنتج الحياتي الحديث، كمنتج البيئة والغذاء والترفيه، وما يمكنُ أن يمثله من مصلحة يجلبها الناس لمعاشهم وانتظامهم وصحتهم، فيكون التعبيرُ عن قيمة المصلحة باعتبارها أصلاً تشريعياً ضمن الأصول الغائية؛ أصلاً فنياً تعبيرياً تُستخدم فيه الأشكال التعبيرية والأجهزة البيانية لتقرير ذلك.
والواقع أن سياق فنوننا في تعلقه بالأصول سياقُ ضمور للفنون وضمور للأصول معاً؛ بمعنى أنّ الفنون تتراجع في خدمة الأصول وسائر قضايا الناس، وأنّ الأصول تتراجع أو تمكث في مكانها من غير زيادة نظر وتجديد، وبمعزل عن هموم الناس وتطلعات الأمم وآفاق الشهود؛ الذي ينبغي أن يتأسس على أصوله التشريعية اللغوية والحكمية والمقاصدية والقيمية والعقدية، وهو ما آلت إليه أمتنا في أحيان وأعيان، إلا من رحم الله.
(د) - مثال عملي للإيضاح
الفطرةُ، وهي أصلٌ تشريعي يردُّ إلى القيم بحسب الماهية الدينية والمناط الإنساني، ويردُّ إلى اللغة بحسب الأصل الخلقي والجبلي، ويردُّ إلى المقاصد بحسب كونها غاية الخلق ومصلحة المخلوق في استصحابها، وفي تصحيح مسارها وجبر خللها الذي تتعرض له بظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ هذه الفطرةُ يمكن للفنون أن تُعبِّر عنها بأشكال تعبيرية متعينة، وبمراعاة قيمة الجمال الفنية وقيمة الحقّ والخير الفنية، وبسياقات ذلك ومهارته وإنتاجه المادي والروحي. وأجمل ما في هذا التعبير الفني عن الفطرةِ باعتبارها أصلاً تشريعياً ومناطاً إنسانياً ومراداً إلهياً، أنْ يتلبسَ بالواقع المعاكس للفطرة، المصادمِ للقيم والدين، المجافي للحق والمعروف، وهو الواقعُ المعاصر الذي ظهرت فيه دعوات العبث والسفه، بمسارات الحداثة السالبة لفطرة الإنسان، والأنثوية الساحبة لأنوثة المرأة وذكورة الرجل، فيما يُعرف بالنوع الاجتماعي أو الجندر الذي هو ليس بالذكر ولا بالأنثى. وأن تؤدي أجهزةُ التعبير في حبك السيناريوهات ورصد الحوادث والجزئيات وأعمال ركحية ومسرحية يتقنُها أصحابها من ذوي المهارات العالية في الفنون الجميلة والذائقة الفائقة. أما حالي مع رفقاء تخصصي، فليس له من هذا سوى التحريض للمؤمنين الفنانين بموجب قوله تعالى: ﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: 84]، فبأس الكفار في الفنون لا يقوى عليه إلا بأس الذين آمنوا وتفننوا وأبدعوا وأمتعوا وتجمّلوا وجمّلوا. قال تعالى: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ [النساء: 95].
والقول بأصول الفنون التعبيرية مؤصلٌ بأدلته، يجري به العمل، وإن لم يُصرح به. وتدعو إليه ضرورةُ حالٍ تزايدت فيها المحن وتكاثرت فيها المحفوظات، وقَلّت فيه مدارك العقول ومدارج الوصول إلى سلم الأصول وفق المأمول من الأصول الستة وتحري الحقيقة الحقة، من غير تزيد ولا تفلت، والله المستعان. وهو ما نبيّنه في قسم آخر.
2: تعبير الفنون عن الأصول
(أ) - وسائل التعبير عن الأصول
التعبيرُ الفني عن الأصول مصطلح مولد. وهو الأداءُ الفني أو ممارسة الفنون في موضوع أصول الفقه؛ فمادته في هذا العلم هي: قضاياه ومصطلحاته وغايته وثمراته. فهو يشبه الفنون المعبرة عن التاريخ والجغرافيا والشخصيات. وهذا أمرٌ ممكن باعتبار وظيفة الفنون في التعبير عن العلوم والأشخاص والقيم والطبيعة ونحوها، وباعتبار التشوف إلى تجديد الأصول بالفنون؛ من حيثُ التعريفُ بها، وبناء الوعي الأصولي، والعمل الأصولي بروافد الفنون وتعبيراته المختلفة، كالتعبير بالقصة والشعر والنثر، والتعبير بالرسوم والأشكال والجداول، والمسرحيات والسينما وغير ذلك.
(ب) - شواهد تقليدية في التعبير الفني عن الأصول
بعضُ العلماء يُعبرون عن الأصول بفنون التصنيف والشعر والقواعد، وبعضهم يُعبِّرُ عنها بفن المناظرة والترجمة والتدريب عليها. ومنها شاهدُ العرض البياني بالأشكال والرسوم والتشجير والباوربوينت، والأسئلة والإشكاليات، والعرض التلفزي والسينمائي والتمثيلي. هذا بالنسبة إلى الجانب الشكلي والإجرائي. أما الجانبُ الموضوعي فيعنى هذا التعبير بإبراز معاني الأصول وقيمها من أجل بناءِ الوعي بها والمعرفةِ الصحيحةِ وترتيب ثمارها، واستدعائها في العيش والعمل والتواصل والتكامل. وهو ما يمكن أن نسميه: «الوعي الأصولي»؛ الذي يُعنى بالمعقولات والمناطات والمقاصد والأولويات، وبترك العقلية الحرفية والظاهرية الشكلية والجمود على المنقولات والمتون، وضمور التدبر والتفكر، وضعف النظر المصلحي والتأويل الموضوعي.
وهذا يأخذُ أشكاله وطرائقه ووسائل التعبير عنه؛ فيأخذ القصةَ والمسرحيةَ والإشهارَ والومضةَ، ويمكن أن يتحول إلى إجراءات وأدوات، بعد أن تقرر مفاهيم وتصوراتٍ، ونُظمًاً ومؤسسات، وهو كما عليه كثير من القيم والمبادئ التي كانت في أول أمرها أفكاراً وخواطر.
(ج) - مثال التعبير الفني عن جدل المساواة والحريات الفردية في تونس
عاشت تونس جدلاً عمليا وحراكاً شعبياً ومدنياً في ما يعرف بالحريات الفردية والمساواة في الميراث، وعرفت تعبيرات فنية كثيرة مبدعة، تراوحت بين فنون الخطاب والتأليف، وفنون الاحتجاج وإقامة المسيرات ورفع الشعارات والأعلام، وصناعة أفلام كرتونية كان لها أثرها في التوعية والتعليم والتحشيد والتأييد. ومن ذلك فيلم كرتوني عن الميراث، وآخر عن المسيرة الوطنية يوم 11 أوت 2018م.
الفنون والأصول والوعي المتبادَل: من الأصيل إلى التوصيل
1: جدلية الفنون والأصول
جدلية الفنون والأصول جدلية معرفية ومنهجية وسياقية، ومفاد ذلك التواصل بالتداخل والتكامل والتمايز، في إطار المعرفة العلمية لكل منهما، والمنهجية القائمة والسياق المعتبر في ذلك. وهو ما يستوجب تفكيك ذلك وتوكيدَه بما يقرر توصيل أحدهما بالآخر، مع تأصيل كل منهما بالدين والعقل والواقع والحاجة والمصلحة والفطرة ونحوها. وبعبارة أيسر أقول في نقطتين مهمتين:
النقطة الأولى: إنه لا بد من تأصيل الوعي بأصول الفنون، أي: أن الفنون السوية (البديعة، الجميلة، الصالحة، الأصيلة، المقبولة، المعقولة، الراشدة...)، بميزان الدين والعقل والفطرة والأخلاق والواقع والحاجة والمصلحة؛ إنما هي مؤصلةٌ في العلم الأصولي، ومعللةٌ ومدلل عليها، ولا تأباها أحكام الشرع وأدلتُه الكلية ودلالاتها اللغوية وقواعد الاجتهاد والإفتاء ومصالح الناس، وضرورات معاشهم وحاجاتهم، وهو ما يكون ضمن مطلب أوّل يوسم بـ«تأصيل الوعي بأصول الفنون».
النقطة الثانية: إنه لا بد من تأصيل الوعي بفنون الأصول، أي: أنَّ الأصول يمكنها أن تُخدم بالفنون، وأن يقوم علمها وأداؤها بالفنون كما يقوم بالتأليف والتدريس والتدريب ونحوه، من جهة اعتماد مسالك الفنون إطاراً بيانياً وتوعوياً ومهارياً في الوعي بالأصول وموضوعاتها وقيمها وأثرها في بناء الملكة، وتحقيق التنمية وتجديد المعرفة. وهو ما نبينه في البندين التاليين.
2: تأصيل الوعي بأصول الفنون
تشهدُ الأصول للفنون السوية، كما قلنا، كفن الجمال، فهو فنٌ تؤيده أصول الفطرة والعقل والحاجة والمصلحة، وكذلك أصول القرآن والسنة وإجماع العامة وعمل الأمة. وهذا معنى استقرائيٌ وعموم معنويٌ لا غُبار عليه؛ فالجمالُ باعتباره صفة إلهية وحقيقة كونية ومحفلاً قرآنياً وسنياً، وشاهداً عقلياً ومنطقياً في عالم الأسوياء؛ إنما هو فنٌ من الفنون السوية القائمة على أصولها، وهي تقتضي الوعيَ بها وعيا متيناً يترتب عليه فعلٌ عظيم، يتآخى فيه العقل مع الواقع، والفنون مع الأصول، والذات مع الموضوع، بتوصيل الفنون بالأصول وتشبيك الأصول بالفنون، ضمن نظم معرفي ومنهجي وإجرائي وتطبيقي وسياقي، هو جوهر البحث كله، ومقتضى العلم التحقيقي عند أربابه من ذوي الاختصاص والمهارة والريادة.
وليس فنُّ الجمال وحده يمكن أن نستشهدَ به على تأصيل هذا الوعي؛ وإنما سائر ما يمكن أن تستوعبه الفنون وفق المفهوم الواسع لها، وبحسب مضمونِها الذي يتطور بموجب تطور الأزمان والأنظار والأعمال، ومن ذلك: أصواتُ أنعامٍ وأدواتٍ، وأناسي كثيراً، تلهجُ بأسرار الوجود وآي القرآن ومنافع الإنسان، وتُكبِّر الله في منارات المساجد ومسارات العمارة، كل بحسبِه صيغ تكبيره وصناعة تثميره، ويلحق بذلك لوحات الطبيعة والشريعة، بدلائل الإعجاز في الأوّل، وروافد الإنجاز في الثاني؛ ليكتمل الإعجاز مع الإنجاز في وحدةِ خلقٍ ووضعٍ وأمرٍ وشرعٍ، من دون انفصام وانقسام، وطرد أوهام وأسقام، في فنون فُصلَت عن أصولها، وأصول أُبعدَت عن فنونها. والله جامع الناس إلى يوم لا ريب فيها، والجمع أولى وهو المصير إليه.
وبعبارة أكثر وضوحاً أقول: إنَّ الأصول التشريعية الخمسة؛ كأصلِ المصلحةِ والحاجة ضمن الأصول المقاصدية، وأصلِ الحقيقة اللغوية ضمن الأصول اللغوية لعبارات أدوات الفنون وأشكالها التعبيرية، كاللهو والدف والقصة والنثر واللوحة والصورة؛ هذه الأصول بأنواعها الخمسة إنما هي تأصيلٌ متين للفنون القائمة على كلماتها، ككلمة اللهو والمُتعة واللذة، فهي تتحدد بناء على حقيقتها اللغوية كما جاء بيانها في الوضع اللغوي الأصلي، وتتحدد بناءً على تناسبها مع فطرة الإنسان وحاجته المعاشية العلاجية والترفيهية والتربوية والتنموية التي تنمي مداركَه وتقوي قدراته، وتتحدد كذلك بناءً على غاياتها وما ترنو إليه من الأهداف الشخصية والعائلية والمجتمعية، بل والأهداف الوطنية، في طردِ محتلٍ يغزو بفنون احتلالٍ؛ بتمييعٍ وسلخٍ وتشويشٍ وتلبيسٍ، ومواجهته بفنون قتال وثبات، وفنون تعبير وتصوير، وفنون صيحاتٍ ووصلات، وفنون الروح المعنوية والغلبة العسكرية والريادة الحضارية.
إن تأصيلَ الوعي بأصول الفنون يقوم على تقرير المشترك المعرفي بينها؛ مما يجعل هذا المشترك بمعنى واحد أو بوحدة معرفة بمشكاة واحدة، وبثمار متنوعة. ويقوم كذلك على اعتبار منهجي فكري وعملي يحققُ ذلك ويرشده ويطوره. وهو ما أذكره في المسألتين التاليتين:
المسألة الأولى: المشترك بين الفنون والأصول:
المشتركُ بينهما ما كان موضوعاً مشتركاً كموضوع الفطرة، فهو وارد في الفنون السوية، باعتبارها وضعاً خلقياً جُبِل الإنسانُ عليه ويميل إليه. فالإنسانُ بسماعه صوتاً جميلاً، وتبلغه موقفاً عظيماً، ومشاهدته لوحةً أو زخرفة أو معلمة، يأنسُ بذلك ويعبرُ عنه، بأشكال تعبير فنية تناسبُ فطرته وفطرة غيره. فهذا من الفطرة التي هي قاعدةٌ من قواعد الفنون في تقريرها وردها إلى قيمها، ومن الفطرةِ التي هي أصلٌ من أصول التكليف في مراعاتها في التشريع الأصلي وفي الاجتهاد والإفتاء بناء على ذلك. وقد راعى التشريعُ الفطرةَ بناءً على التناسب بينهما. والاجتهادُ ينبغي أن يراعي الفطرةَ بما يأتي على إعمالها فهماً وفقهاً، ويعالج انحرافها ويجبر كسرَها مما يحدث لها من شوائب الزمان والمكان والحال.
ومن المشتركِ كذلك: المصلحةُ والحاجةُ والعقلُ؛ فتلك هي مشتركاتٌ معرفة ومعنى بين الفنون والأصول من جهة وحدة الخلق والأمر، وانسجامِ الكتاب مع الكون، ومضامين الفنون في الوحي والوجود، كمضمون الجمال والحُسن والإتقان والخير والحق، وأدوات التعبير الفني في الخطاب قرآناً وسنة، كأداة التعبير اللغوي بأساليب الحقيقة والمجاز والكناية وضرب المثل، وطُرق المنطوق والمفهوم والمسكوت والترتيب. وكأداة التعبير بالخطوط والرسوم كما هو في السنة. وإن تداولَ البحث والدرس في هذه المشتركات الموضوعية والمعنوية يُعززُ إمكانيات الوصل بين الفنون والأصول، وينفي طابع الفصل والفرق الذي ظلَّ أمراً متناقلاً بعواهنه الفضفاضة وانطباعيته العاطفية ومعلوماته السطحية الاجتزائيةِ، التي لم تعبر على وحدة معرفة بتكامل واشتراك وتمايز وتداخل.
المسألة الثانية: الاعتبار المنهجي للفنون والأصول
الاعتبارُ المنهجي هو: اعتمادُ المنهج سبيلاً إلى تطوير النظر والبحث والدرس في معاملة الفنون والأصول. وهذا قد استخلصناه من كلمتي الاعتبار والمنهج، فالاعتبارُ هو الانتقال من طور إلى آخر، كقولنا «عبرة» التي هي انتقال من وضعٍ سابق عنها إلى وضعٍ بعد ذلك؛ بمقتضى الحكمة البالغة لها واستخلاص الدرس منها، وقولنا «فاعتبروا»، أي انتقلوا من حال إلى حال بموجب ذلك، وقولنا« العبرات» التي هي الدمعات التي تنتقل بحرارة شعور وثراء وجدان، من الجفن عبوراً بالوجه، كما قال قدماء العلماء من مفسري القرآن الكريم..
أما المنهجُ فهو السبيلُ الموصل إلى المطلوب، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، فكأن المنهاج الواردَ في الآية هو في مقابل الشرعة التي هي القيم والأحكام والفضائل والمقاصد، فيكونُ المنهج هو السبيل إليها والطريق إلى تحقيق قيمها ونُظمها وعلومها وفنونها.
واعتبارُ المنهج في الفنون والأصول هو: الانتقالُ من وضع إلى وضع في معاملة هذه الفنون والأصول، سواء في معاملة المفهوم الواسع للفنون وتطوراته بملاحقتها من قبل الأصول بموضوعاتها وثرائها في اللغة والأحكام والمقاصد والقيم، فهي كذلك تتطور فيما هو موضعُ تغيرٍ وتبدلٍ بالزمان والمكان، وتتجدد فيما هو ثابت بتصحيح الفهم وترشيد المعنيين ونفض غبار التقليد والتبديد. ويكون هذا كذلك لإمكانيات استيعابها لتلك التطورات بحسب السياقات والموانع والمصالح والحاجيات والعقليات.
ويُراد بالاعتبار المنهجي: بيانُ أساليب العلماء في النظر الفكري للفنون والأصول، من حيثُ اعتمادُ الاستقراء مثلاً في تقرير معنى كلي في الفنون، كمعنى التعبير بأشكاله التي ينبغي أن تنسجم مع القيم والعقيدة والمصلحة المعتبرة والحاجة اللازمة والواقع بمآله وحاله، وبالصيرورة إلى البديل عند تعذر الأصل. وفي هذا المنهج الاستقرائي يتأكدُ القول بضرورة التحقيق والجمع والرؤية الكاملة للفنون والأصول والكون والحياة، وليس فقط بالاكتفاء ببعض الآراء الجزئية والأقوال المأثورة التي جاءت بسياقاتها ومقتضياتها. وهو ما لوحظ في كثيرٍ من المواد العلمية والمنقولاتِ بين أهل العلم بأحوطية لا لزوم لها، وعمومية لا معنى عمومياً لها. وكذلك من حيث اعتمادُ البحث التاريخي لتطور المواقف في الفنون واختلاف العلماء في أحكامها وفتاواها، ورصد مفاصل ذلك ومحطاته في ضوء السياقات الفلسفية والاجتماعية وطبائع الأنظمة والبيئات الثقافية. وكذلك اعتمادُ المنهج السُنني في تغيير المناهج والأنماط باعتماد الفنون الجميلة والبديلة، وليس فقط بمجافاتها والتورع الزائد فيها، بدعوى مزمار الشيطان، وليس بالرد إلى مزامير داوود.
3: تأصيل الوعي بفنون الأصول
وهو خدمةُ الفنون للأصول كما ذكرنا في الأصول الفنية التعبيرية، بناءً على وعي متين بأدلة ذلك، وبمقتضى مقولات أساسية لذلك، وهو ما أبينه في المسألتين التاليتين:
المسألة الأولى: أدلة تأصيل الوعي بالأصول
أصل القرآن مثلاً خُدم فنياً بفن الخط، والزخرفة والتزيين، الطباعة والإخراج والتسويق والتوزيع، وفن الترجمة والدراسة والتفسير والتعليم، وهو ما يشير إليه وعد الله بحفظ كتابه بوسائل الحفظ المختلفة والمتجددة، بتجدد وتطور. وكأن الوعد بالحفظ تأصيلٌ وتوجيه وترغيب في خدمة الفنون للقرآن لتحقيق ذلك الوعد.
ومثال آخر على خدمة الفنون للأصول، التعبير الفني بالشعر والتصنيف والتحقيق والتشكيل لإبراز أصول الفقه، كأصل القياس والاستحسان، وأصل العقل والفطرة، وأصل الحاجة والضرورة والمآل والواقع، فهذا وغيره من موضوعات الأصول خدمتها فنون الشعر والرجز والبيان. وتأصيل ذلك نظر واستقراء في موارده؛ كمورد سحر البيان النصي وتيسير القرآن للذكر وضرب المثال القرآني والنبوي، وغيره من فنون البيان والحجاج والخطاب. مع ملاحظة الجمال والحسن والإبداع والإتقان. ويصلح أن يخصص بحث في تأصيل الفنون الخادمة للأصول.
المسألة الثانية: مقومات تأصيل الوعي بالأصول
تأصيل الوعي بالفنون الخادمة للأصول أمرٌ موضوعي علمي ومنهجي، وقائمٌ على أدلته وأدواته، وليس شعاراً أجوف أو ادعاء سطحياً للمزايدة والمكابرة. إذ له مقوماتُه التي تؤسسه على نظره الفسيح وآفاقه الرحبة وضوابطه المعتبرة. وهي:
التجديد الأصولي:
يُراد بالتجديد الأصولي: «تجديد الانضباط بقواعد علم أصول الفقه وأحكامه، وإصلاح ما تصدّع من بنيانه، وتمتين ما وَهَى من دلائله، وسد ما تفتّح من ثغراتٍ في مفاهيمه، ونفض ما غشي عليه من غبارِ النسيان له والإعراض عنه، وعرض مضمونه بأسلوب أكثر جدة وأيسر فهما»77. فالتجديد يشملُ تجديد مضامين هذا العلم ومناهجه وأساليبه، وعلم أصول الفقه قد شهد منذ نشأته إلى عصرنا هذا تطوراتٍ بالغة الأهمية من الناحية التجديدية على مستوى المفاهيم والمناهج والنظريات78.
وكما هو مبيّنٌ في التعريف المتقدم للتجديد الأصولي، فهو يشمل كذلك «عرض مضمونه بأسلوب أكثر جدة وأيسر فهما». وهذا لا يتم بالوسائل القديمة المتعارف عليها، بل يتم ببدائل عصرية ذات طابع فني، وهي فنون العرض بالرسومات البيانية والأشكال الهندسية، والألوان البارزة، والأعداد الظاهرة، في الندوات والمؤتمرات، وفي التأليف والتدريس، وفي إخراج الكتب والمؤلفات في هذا العلم الجليل. فتتحقق بذلك خدمة الفنون للأصول.
التكامل المعرفي:
يمثل التكاملُ المعرفي في تحصيل المعرفة سمةً من سمات الفكر الإسلامي. وأساس هذا التكامل هو «هداية كل مصدر من مصادر المعرفة إلى ما يحتاجه الإنسان في مجالات المعرفة المختلفة، فـ «هداية: العقل، الذي إن استقل بمعارف عالم الشهادة، فلن يستقل بإدراك معارف عالم الغيب، وهداية: النقل والوحي -بلاغاً قرآنياً وبياناً نبوياً- التي تهدي الإنسان فيما وراء مدركات ملكاته النسبية، كمخلوق نسبي القدرات والملكات، وهداية: الحواس الخمس، التي تُدرك -بالتجربة- الكثير من حقائق الوجود»79.
هذا التكامل المعرفي في الفكر الإسلامي ننزله على مسألة الوعي بفنون الأصول، أو خدمةِ الفنون للأصول. هذه الفنون التي تمثل الجانب العقليَ والحسي في تحصيل المعرفة الأصولية؛ ذلك بأنّ العقل يتولى مهمة البحث عن الطريقة أو الوسيلة الفنية المناسبة لعرض مضامين هذا العلم. وتختصُّ الحواسُّ بمعاينة هذا العرض وإدراكه وفهم محتوياته، فيتحصلُ من ذلك طورٌ مهم من أطوار التجديد في العرض والفهم والدرس والاجتهاد والاستنباط والاستقراء يتميز بالسهولة واليسر، واستحضار المسائل وربط الصور، وتحقيق الجمع والفرق، والغاية من ذلك كله الوصول إلى الحكم الشرعي في المسائل المستجدة والمعاصرة.
الأداء المعرفي والإجرائي والتطبيقي:
هو الأداءُ المعرفي بموضوعه واختصاصه ومتطلباته، وأداؤه في إطار التكامل بين المعارف، كدراسة الأصول مع سائر العلوم الشرعية، ودراسة العلوم الشرعية مع العلوم الاجتماعية والإنسانية والقانونية، مع مراعاة التخصص العلمي الأصلي والعلم التكميلي. ودراسة الفنون موصولة بالأصول وسائر العلوم. وهو ما ذكرنا مثالاً له في الدورة الماضية، فيما يتعلق بأصول الفنون وفقه الفنون، كفقه الصورة على سبيل المثال لا الحصر. أما الأداء التطبيقي فهو التنزيل والتفريع والملاحقة العملية لكل ما يستجد ويظهر.
موجز خاتمة
الفنون والأصول متلازمان متداخلان، ومتكاملان. ومع ذلك فلكل واحد موضوعه ومنهجه وسياقه. والذي يعنينا في هذا الصدد وصل أحدهما بالآخر، ويؤثثُ هذا الوصل التلازمُ بالمضامين المحققة والطرائق الموصلة؛ من أجل درء التعارض بينهما، وتحصيل فرص النفع والدفع والرفع، وتفويت مفاسد الغلط والشطط والخلط؛ بناء على ذلك.
وما ينبغي أن يُضاف إلى الفنون والأصول، والمقاصد والقواعد، والفروع والجزئيات، والتفسير القرآني والشرح الحديثي، وكذلك مدركات الإنسانيات والاجتماعيات والمدنيات، ونظم ومؤسسات وإجراءات، في إطار ما يُعرف بالتكامل المعرفي والتركيب المؤسسي والتوصيل البيئي والمجالي والحيوي. وهو بذلك، يضمن الفائدة ويدرأ الجائحة، ويقرب ولا يباعد، ويجمع ولا يفرق. وهو مدرك المدركات؛ جمعاً بين النصوص والبيانات، والكليات والجزئيات، وإسناداً إلى وحدة الخلق والأمر، وطبيعة الفطرة والحكمة، والشريعة والمعيشة.
أما عن الجدة والإضافة في هذا البحث فأخالها تتمثل في الجمع بين الفنونِ والأصول، على خلاف ما تعارفَ عليه كثير من الباحثين من جمع الفنون بالفروع والجزئيات؛ كالنصوص الجزئية والأحكام الفرعية، بمعزلٍ عن الإطار الشرعي والعقلي والواقعي الكلي. وقد مثَّل هذا الجديد إضافةً نوعية معرفية ومنهجية وواقعية ووظيفية، يمكنها أن تؤسـسَ لفنــون معاصرة بديلة
وجميلة، تتجاوزُ النظرة الضيقة لها، وتنضافُ إلى اعتماد الأحكام الجزئية التي غالباً ما تنحو منحى التورعِ والتحوطِ والتشددِ.
وملاحظةُ تطوير مفهوم الفنون واتساعه وتداخله، وتأثرِه بالفلسفات والبيئات والإمكانيات والموانع، وهو ما يمثل إطاراً نظرياً وعملياً لتوظيف الفنون في خدمة مجالات الحياة والعلوم والسياسة والمجتمع والأسرة والإدارة والنظم والخطط والمناهج.
وكذلك؛ وصلُ الفنون بالأصول، والأصولِ بالفنون، ووصلُ الأمرين بالعلوم والمناهج والأفكار والأطر السياسية والقانونية والمجتمعية، وتقريرُ ما يمكن أن نصطلح عليه بالتوفيق أو التوليف بين الفنون والأصول من جهة، وبينهما وبين سائر المعارف والروابط والمناهج من جهة أخرى. وهو ما يؤسس لما يصطلح عليه بالتكامل المعرفي والعلوم البينية والوسائط المعرفية والمنهجية والإجرائية والعملية، بناءً على وحدة المعرفة وأصل الخلق والشرع. ومعلوم أن الحديث عن الفنون من جهة الشرع مثلاً، لا يستقيم بمعزل عن القوانين والدساتير والعلوم الاجتماعية والإنسانية والأشياء والأفعال والعقليات والنفسيات والبيئات والسياقات..، فواقعُ الفنون والأصول والتشابك بينهما، يُلاحظُ فيه التعقيد الشديد، والتطورُ الهائل، والتشابكُ الكثيف، ولا تكفي فيه، لا البيانات المطلقةُ، ولا التداولاتُ العاطفية، ولا التنادي الحماسي بالفعل وردِّ الفعل.
وتخصيص الأصول الفنية التعبيرية بالذِّكر، واعتبارِها من الأصول الوظيفية الإعلامية والتوعوية، التي تبني الملكة الأصولية والمهارة الاجتهادية، وتقيم الجدليةَ التفاعلية، والسردية المعنوية التي لا يكتفي فيها بعرض المحفوظات والمنقولات، على صعيد الدرس والخطاب والتأليف والإعلام..، وتحيي جوهرَ الأصول وأبعادها اللغوية والشرعية والقيمية والمقاصدية والعقدية، وتؤسسُ لبناء عقلي ونفسي متجدد بوعي وفعالية، يوظفُ تلك الأصول في خدمة المجتمع، وتنمية الأوطان، وتحرير الشعوب، وتحريك الهمم والقيم والنظم.
والإشارة أيضاً إلى مجالاتٍ فنية حديثةٍ ومعاصرة، ك«العلاج بالفنون»، و«الإصلاح بالفنون»، و«التربية بالفنون»، و«الدعوة بالفنون»، و«الفنون الثورية»، و«الفنون التنموية والاستثمارية»...، وغيرها من المجالات الحيوية التي تقام على الفنون البديلة، بمفهوم واسعٍ، وآفاقٍ رحبة، ومناهج منتجة ، ووعيٍ وظيفي معقول.
أهم النتائج
ملاحظةُ الاتساع والتداخل والتعقيد لكل من الفنون والأصول، ورصد التطور المستمر لكل منهما على -صعيدِ المنهج في الفكر والبحث والدرس، وصعيدِ المعرفة والقضايا والأداء الإجرائي والتطبيقي.
إمكانيات التوليف بين الفنونِ والأصول، وبينها وبين المقاصدِ ومجموع الكليات الشرعية والأدلة الجزئية؛ في اتجاه خدمة الأصولِ بالفنون، وتفعيل الفنونِ بالأصول، في إطار نوْطِ الفنون بالإسلام بكلياته وجزئياته، وقيمه ونظمه في مسارِ الفهم والعمل.
ضمور الوعي الفكري والعلمي المنهجي، وضعفِ الدراسات المتخصصةِ على صعيد الأصول والفنون. وندرة الأبحاث النوعية الجامعية في مجال تطوير الفنون وتأصيلها وتفعيلها وتشغيلها.
نقص فادح في التخصصات في مجال الفنون، وترك الساحة فارغة أو مضطربة، وتولي غير المسلمين للفن العالمي -في الغالب الأعم- ، وقيام - في أحيان كثيرة أو غالبة- فنونٌ في العالم الإسلامي بضعف وهشاشةٍ من الناحية المضمونية والقيمية، والرسالة الوطنية والحضارية، كفنِّ حماية الأسرة من الانحراف والتحريف، وحفظ المجتمع من الانقسام الطائفي والحزبي والمذهبي، وفن تعزيز قدرات التنمية والأمل والإرادة، وفنون إنجاح مسارات الكرامة والحريات والحقوق، بموجب قيام حركات الإصلاح الحديث، والثورات العربية، والتوافقات والتسويات، واليقظة المتجددة للهيئات والشخصيات.
أهم التوصيات
بعث التخصص العلمي الأكاديمي في فقه الفنون.
إحداث الأقسام العلمية والهيئات المدنية التي تعتني بالفنون والعلوم والثقافة، وتوجيه الاهتمام بتطوير الدراسات العليا ورسائل الماجستير في هذا الصدد.
إقامة المسابقات العلمية، والفنيةِ المسرحيةِ وغيرها، في مجال الفنون والعلوم الشرعية والإنسانية.
تحقيق التكامل المعرفي في مجال الفنون والعلوم الشرعية والإنسانية.
تعليم علمِ الأصول بمهارات التدريب والنقد والاجتهاد والتجديد، وعدم الاقتصار على التلقين والحفظ والسردية النقلية خارج إطارها الواقعي وتحدياتها المختلفة.
تخصيص ندوات ودورات في قضايا محددة، لاستكمالِ البحث العلمي الشامل، كقضية «العلاج بالفنون»، و«فنون التنمية»، و«فنون الأسرة في عالم العولمة»، و«فنون المقاومة»، و«فنون المواطنة».
إعداد برامجٍ فنية وأعمالٍ مسرحية في قضايا مطروحة بقوة في عالما الحالي، كقضية الاعتدال ونبذ التطرف، وقضية الحكم الرشيد، والمجتمع المدني الأهلي القوي، وقضية الحرية والكرامة والمواطنة والمدنية، وقضية فلسطين، والنوع الاجتماعي أو الجندر والحريات الفردية والمساواة، في ضوء ملابساتها والاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية.
استكمال دراسة الفنون في ضوء الأصول كلها، بما في ذلك الدلالات، وبزيادة الأمثلة والتطبيقات، وبعطفها على المقاصد والقواعد. وربما يكون مناسبا أن تتناول هذه الدراسة الفنون والأصول والمقاصد والقواعد، باعتبار اندراجها تحت الكليات الشرعية، في مقابل الجزئيات الشرعية والفروع الفقهية، فيكون جمع الكليات والجزئيات في موضوع الفنون، إطارا بحثيا أوسع وأعم، وقد سبق أن تناولت الفنون والمقاصد، وبقي تناول الفنون والقواعد، وهذا البحث هو الفنون والأصول؛ فيحصل بموجب ذلك تقرير الفنون من منظور الكليات الشرعية والجزئيات والفروع. وبذلك يكون المطلوب قد تحقق في تقرير الرؤية الشرعية للفنون، على مستوى البحث الذاتي، ويكون قابلا للتطوير والاستدراك والإثراء، على مستوى جهود بحثية أخرى فردية أو مؤسسية. والله المستعان.
المصادر والمراجع
ابن العربي، المحصول في أصول الفقه (عمان: دار البيارق - ط/1، 1420هـ - 1999م).
ابن منظور، لسان العرب (بيروت: دار إحياء التراث العربي، /3، 1419هـ - 1999م).
ابن النجار، شرح الكوكب المنير (الرياض: مكتبة العبيكان ط/2، 1418هـ - 1997م).
أبو يعرب المرزوقي، محمد سعيد رمضان البوطي، إشكالية تجديد أصول الفقه (دمشق: دار الفكر - ، ط/1، 1426هـ - 2006م.
أحمد الريسوني (إشراف)، التجديد الأصولي: نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه، ( دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط/1، 1436هـ - 2015م).
إدهام محمد حنش، تحولات المصطلح في لغة الفن الإسلامي، ملخصات بحوث المؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، 5 جمادى الآخرة 1433هـ، الموافق لـ 26 نيسان (أبريل) 2012م، عمان - الأردن.
البخاري، صحيح البخاري (دمشق: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع 1423هـ - 2002م).
السبكي، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (بيروت: عالم الكتب ، ط/1، 1419هـ - 1999م).
السيوطي، لُباب النُقول في أسباب النزول (بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 1422هـ - 2002م).
الشاطبي، الموافقات (الرياض: دار ابن عفّان للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية، ط/1، 1417هـ - 1997م).
الشوكاني، إرشاد الفحول (بيروت: دار الكتاب العربي، ط/1، 1419هـ - 1999م).
القرافي، شرح تنقيح الفصول (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1424هـ - 2004م).
القرافي، الذخيرة (بيروت: دار الغرب الإسلامي ط/1، 1994.م).
الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام (بيروت: دار الكتاب العربي، ط/1، 1404هـ)ـ.
الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام (الرياض: دار الصميعي للنشر والتوزيع، 1424هـ - 2003م).
الواحدي، أسباب نزول القرآن (بيروت: دار الكتب العلمية، ط/1، 1411هـ - 1991م).
الإيجي، شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط/1، 1421هـ - 2000م).
جون ديوي، الفن خبرة، ترجمة زكريا إبراهيم، مراجعة زكي نجيب محمود (القاهرة نيويورك: دار النهضة العربية بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، سبتمبر 1963م).
زكريا إبراهيم، مشكلة الفن (القاهرة: مكتبة مصر، شارع كامل صدقي- الفجالة، (د.ط).
زكي الميلاد، الفكر الإسلامي المعاصر وعلم الجمال، ورقة بحثية بالمؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية، وكلية العمارة والفنون الإسلامية، وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، 5 جمادى الآخرة 1433هـ، الموافق لـ 26 نيسان (أبريل) 2012م، عمان - الأردن.
أوسوالد شبنجلر، تدهور الحضارة الغربية (الجزء الأول)، ترجمة أحمد الشيبانى (بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، د. ت).
محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية (عمان: دار النفائس للنشر والتوزيع - الأردن، ط/2، 1421هـ - 2001م).
محمد قطب، منهج الفن الإسلامي (القاهرة: طبعة دار الشروق، الطبعة السادسة، د.ت).
محمد عمارة، هل الإسلام هو الحل؟ لماذا وكيف؟ (القاهرة: دار الشروق - القاهرة، ط/2، 1418هـ - 1998م).
محمد أبو زهرة، أصول الفقه (بيروت: دار الفكر العربي، 1377هـ - 1958م).
محمود بن محمد الحداد، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، (الرياض: دار العاصمة للنشر، ط/1، 1408هـ - 1987م).
محمد الشريف الرحموني، الرخص الفقهية من القرآن والسنة والنبوية (تونس: مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، ط/2، 1992.م).
مسلم، صحيح مسلم (الرياض: دار طيبة للنشر والتوزيع، 1427هـ 2006م).
وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي (دمشق: دار الفكر، ط/1، 1406هـ - 1986م).
نور الدين الخادمي، تعليم علم الأصول (الرياض: مكتبة العبيكان - ، ط/2، 1426هـ - 2005م).
نور الدين الخادمي، الفنون والمقاصد: الفنون الخادمة للمقاصد والمقاصد الخادمة للفنون (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية - 1438هـ - 2016م).
نبيل خلدون قريسة، ما معنى الفن الإسلامي، ملخصات المؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية، وكلية العمارة والفنون الإسلامية، وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، 5 جمادى الآخرة 1433هـ، الموافق لـ 26 نيسان (أبريل) 2012م، عمان - الأردن.
([1]) وزير سابق، وأستاذ التعليم العالي بتونس.
([2]) يشير الشيخ نور الدين الخادمي في كلامه إلى علاقة جماليات الفنون بجمال الجنة، ويجزم القول: «إن الفنون في الجنان ثمرة عمل الفنون الأصيلة في الدنيا»، وهذا جزم فيه نظر؛ إذ أن حكماء الإسلام وقدماء علمائه من أمثال الكندي والغزالي والطوسي يقولون بخلاف ذلك، ويرون ما خلاصته: أن مبعث الفرح والسعادة بالفنون في الدنيا هو تذكار بعض روائع الجنة وفنونها وجمالياتها التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. والله أعلم .[المحرر].
([3]) يشير الشيخ الخادمي في تلك الفقرة والفقرة السابقة عليها إلى أعمال «ندوة الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية» التي نظمها في إستانبول يومي 5 و6 صفر 1438هـ/ 5و6 نوفمبر 2016م، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي (لندن) ، وطبعت في كتاب صدر عن مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية (لندن: مؤسسة الفرقان، 1438هـ/2017م). [المحرر].
([4]) رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، السبكي، 1/242-243، عالم الكتب، بيروت - لبنان، ط/1، 1419هـ - 1999م.
([5]) شرح الكوكب المنير، ابن النجار، 1/44، مكتبة العبيكان - المملكة العربية السعودية، ط/2، 1418هـ - 1997م.
([6]) لسان العرب، ابن منظور، 10/305، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ط/3، 1419هـ - 1999م.
([7]) الذخيرة، القرافي، 1/57، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط/1، 1994.
([8]) شرح تنقيح الفصول، القرافي، ص 21، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، د.ط، 1424هـ - 2004م.
([9]) انظر كتابي تعليم علم الأصول، ص 20-23، مكتبة العبيكان - الرياض، ط/2، 1426هـ - 2005م.
([10]) شرح تنقيح الفصول، القرافي، ص 21-22.
([11]) أصول الفقه، محمد أبو زهرة، ص 7-8، دار الفكر العربي، د.ط، 1377هـ - 1958م.
([12]) شرح الكوكب المنير، ابن النجار، 1/36.
([13]) إرشاد الفحول، الشوكاني، 1/23، دار الكتاب العربي، ط/1، 1419هـ - 1999م.
([14]) أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، 1/37-38، دار الفكر - دمشق، ط/1، 1406هـ - 1986م.
([15]) لتعريف الحكم الشرعي وتبيين أقسامه، ينظر: الرخص الفقهية من القرآن والسنة والنبوية، محمد الشريف الرحموني، ص32 وما بعدها.
([16]) أصول الفقه الإسلامي، وهبة الزحيلي، 1/42.
([17]) لمعرفة حقيقة الحكم الوضعي ينظر: الرخص الفقهية من القرآن والسنة والنبوية، محمد الشريف الرحموني، ص71 وما بعدها.
([18]) الموافقات، الشاطبي، 3/171-172، دار ابن عفّان للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية، ط/1، 1417هـ - 1997م.
([19]) المرجع السابق، 3/174.
([20]) إرشاد الفحول، الشوكاني، 2/36، شرح العضد على مختصر المنتهى الأصولي، الإيجي، ص 253-254، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط/1، 1421هـ - 2000م.
([21]) الإحكام، الآمدي، 3/84، دار الصميعي للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية، ط/1، 1424هـ - 2003م.
([22]) إرشاد الفحول، الشوكاني، 2/36.
([23]) المرجع نفسه، الموضع نفسه.
([24]) الموافقات، الشاطبي، 4/266.
([25]) المرجع نفسه، 2/138.
([26]) المرجع نفسه ، 2 /140.
([27]) الإحكام، الآمدي، 2/340، دار الكتاب العربي - بيروت، ط/1، 1404هـ.
([28]) إرشاد الفحول، الشوكاني، 2/239.
([29]) ينظر كتابي الفنون والمقاصد: الفنون الخادمة للمقاصد والمقاصد الخادمة للفنون، ص 99، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية - لندن، ط/1، 1438هـ - 2016م.
([30]) المرجع نفسه ، ص 100.
([31]) الفنون والمقاصد: الفنون الخادمة للمقاصد والمقاصد الخادمة للفنون ، ص 101.
([32]) المرجع نفسه.
([33]) مشكلة الفن، زكريا إبراهيم، ص 11، نقلا عن معجم لالاند الفلسفي، مكتبة مصر، شارع كامل صدقي- الفجالة، (د.ط).
([34]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: تحريم الِكبر وبيانه برقم 91.
([35]) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الأدب عن رسول الله ﷺ، باب: إن الله تعالى يُحِبُّ أن يَرَى أثر نعمته على عبده برقم 2819.
([36]) تقدم تخريجه.
([37]) مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، ص 266، دار النفائس للنشر والتوزيع - الأردن، ط/2، 1421هـ - 2001م.
([38]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطِّبِّ، باب: إنّ مِن البيانِ سِحْرًا برقم 5767.
([39]) أسباب نزول القرآن، الواحدي، ص 356-357، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط/1، 1411هـ - 1991م.
([40]) ذكر السيوطي ما روي عن ابن عباس أنه قال: نزلت في النضر بن الحارث؛ اشترى قينة وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلامَ إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه وأسقيه وغنيه هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه فنزلت. لُباب النُقول في أسباب النزول، السيوطي، ص 202، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت - لبنان، ط/1، 1422هـ - 2002م.
([41]) المحصول في أصول الفقه، ابن العربي، ص 132، دار البيارق - عمان، ط/1، 1420هـ - 1999م. وقد ذهب المالكية إلى أن الاستحسان هو «أخذٌ بمصلحةٍ جزئيةٍ مقابل دليلٍ كلي؛ ويعني تقديم الاستدلال المرسل على القياس»[المحرر].
([42]) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الطلاق، باب: مهر البَغِيّ والنكاح الفاسد برقم 5347.
([43]) تدهور الحضارة الغربية (الجزء 1)، شبنجلر، أوسوالد، ترجمة أحمد الشيباني، ص 350، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت ، د.ط.
([44]) المرجع نفسه بتصرف يسير، ص 400.
([45]) الفن خبرة، جون ديوي، ترجمة زكريا إبراهيم، مراجعة زكي نجيب محمود، ص 129-130، دار النهضة العربية بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين للطباعة والنشر، القاهرة - نيويورك، سبتمبر 1963.
([46]) مشكلة الفن، زكريا إبراهيم، ص 41.
([47]) مشكلة الفن، ص 8.
([48]) المرجع نفسه، ص 10.
([49]) مشكلة الفن، ص 18-19.
([50]) المرجع نفسه، ص 19.
([51]) المرجع نفسه، ص 9.
([52]) المرجع نفسه، صفحات 9، و10، 11و، و12، و13، و14، و18، و19.
([53]) اتجاه توسيع الفن عرف به عدد من الكتاب والباحثين في القديم والحديث، قبل عصر التنوير وبعده. ينظر: شواهد ذلك في كتاب مشكلة الفن، زكريا إبراهيم، ص7-19.
([54]) تحولات المصطلح في لغة الفن الإسلامي، إدهام محمد حنش، ص20.
([55]) الورقة التأطيرية للمؤتمر العلمي الدولي «الفن في الفكر الإسلامي»، ص5.
([56]) ينظر كتابي الفنون والمقاصد، الفنون الخادمة للمقاصد والمقاصد الخادمة للفنون، ص 29-30.
([57]) المرجع نفسه، ص 31-38.
([58]) فلسفة الجمال، داود سليمان، ص 123، نقلا عن د. سامي، ص 5.
([59]) وهو المعبر عنه لدى كثير من الباحثين والكتاب المعاصرين الذين يربطون بين مفهوم الفن ومفهوم الجمال؛ بأن الفن هو كل إنتاج للجمال، أو القدرة على توليد الجمال، أو المهارة في استحداث متعة الجمال. مشكلة الفن، زكريا إبراهيم، ص10-11.
([60]) مقاصد الفن الإسلامي، لقمان بهاء الدين أحمد، ص 5.
([61]) المعجم الفلسفي، توفيق الطويل وسعيد زيدان، 1 /62، نقلا عن مفاهيم الجمال في الفلسفة الإسلامية ومقارنتها بالفلسفات الغربية، سامي محمود إبراهيم، ص 5.
([62]) مقاصد الفن الإسلامي، لقمان بهاء الدين أحمد، ص5.
([63]) مفاهيم الجمال في الفلسفة الإسلامية ومقارنتها بالفلسفات الغربية، سامي محمود إبراهيم، ص14.
([64]) عجم البستان، عبد الله البستاني، ص45، نقلا عن مفاهيم الجمال في الفلسفة الإسلامية ومقارنتها بالفلسفات الغربية، سامي محمود إبراهيم، ص4.
([65]) قال العراقي: رواه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث معاذ يا معاذ حسن خلقك للناس منقطع ورجاله ثقات. تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، محمود بن محمد الحداد، 4/1583، دار العاصمة للنشر - الرياض، ط/1، 1408هـ - 1987م.
([66]) مقاصد الفن الإسلامي، لقمان بهاء الدين أحمد، 8.
([67]) أخرجه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان.
([68]) الفكر الإسلامي المعاصر وعلم الجمال، زكي ميلاد، ص7.
([69]) المرجع نفسه، ص11.
([70]) فقه الحسن، إدهام محمد حنش، ص 204، ضمن كتاب الفنون في ضوء المقاصد.
([71]) مقاصد الفن الإسلامي، لقمان، ص33، من كتاب الفنون في ضوء مقاصد الشريعة؛ وجمالية فن المنشآت، إبراهيم وسعيد، ص18، من كتاب الفنون في ضوء المقاصد.
([72]) مشكلة الفن، زكريا إبراهيم، ص 12.
([73]) المرجع نفسه، ص 13.
([74]) المرجع نفسه، الموضع نفسه.
([75]) منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، ص11، طبعة دار الشروق، الطبعة السادسة، د.ت.
([76]) مقاصد الفن الإسلامي، لقمان بهاء الدين أحمد، ص 6.
([77]) منهج الفن الإِسلامي، محمد قطب، ص 6.
([78]) إشكالية تجديد أصول الفقه، أبو يعرب المرزوقي، محمد سعيد رمضان البوطي، ص 156، دار الفكر - دمشق، ط/1، 1426هـ - 2006م. (والتعريف المذكور هو للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي).
([79]) التجديد الأصولي: نحو صياغة تجديدية لعلم أصول الفقه، إعداد جماعي بإشراف أحمد الريسوني، ص 59، دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط/1، 1436هـ - 2015م.
([80]) هل الإسلام هو الحل؟ لماذا وكيف؟، محمد عمارة، ص 47، دار الشروق - القاهرة، ط/2، 1418هـ - 1998م.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: الفنون في ضوء مقاصد الشريعة 2 ، 2019، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 61-130. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |