وظائف الفنون الأدبية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية (دراسة تأصيلية في طبيعة الفنون الأدبية ومقاصدها الجمالية)

شارك:

عبد الملك بومنجل: مدير مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده، جامعة سطيف، جمهورية الجزائر

محتويات المقال:
1: أسئلة الجوهر والغاية في فلسفة الفن وعلم الجمال.
1.1: جمال المُدرَك أم ذوق المدرِك؟
2.1: جمال الشكل أم جمال المضمون؟
3.1: الإمتاع فحسب أم النفع أيضا؟
2: مقاصد الشريعة الإسلامية في منظور علماء المقاصد
1.2: المقاصد الحفظية للحياة الفردية
2.2:  المقاصد الحفظية للحياة الاجتماعية
3.2: المقاصد العليا الدينية والحضارية
3: وظائف الفنون الأدبية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية
1.3: الجمال والفن تحسين أم حاجة أم ضرورة؟
2.3: الفنون الأدبية؛ مادتها وطبيعتها وأنواعها ووظائفها
4: الأدب الوجداني: الشعر والخاطرة
1.4.الأدب القصصي: القصة والرواية والمسرحية
2.4.الأدب الإقناعي: الخطبة والمقالة
خاتـمة
المراجع

الجمالُ والفن ليسا مفهومين صلبين مستقلين عن تصورنا للحياة؛ بل هما مفهومان نسبيان مرتبطان بمنظومة المبادئ والقيم والمفاهيم التي تؤلف منهجنا في الحياة، وتصورنا للوجود.

لذلك، لا يصح التسليمُ بالنظريات المختلفة المتصلة بطبيعة الفن أو مفهوم الجمال أو وظيفة الأدب؛ كما لو أنها نظريات صحيحة، تحمل طابع الكونية، وتتسم بالثبات والموضوعية؛ بل ينبغي أن يُنظَر في أسسها المعرفية والفلسفية، وأن يَتّخذ كل صاحب منهج أو فلسفة في الحياة نظرياتِه الخاصة التي تضبط المفاهيم وتحدد الماهيات، وتسنّ المعايير وتوجّه المسارات، حين يتعلق الأمر بهذين المفهومين المُهمّين؛ حتى يتسنى لصاحب المنهج أن يوجّه الوسائل في طريق الغايات.

والإسلامُ منهج حياة متكامل الأسس متفاعل العناصر. هو منظومة مبادئ وقيم ومفاهيم متجانسةٌ متماسكة لا تقبل أن يختل لها نظام، ولا ترضى أن تستعير من غيرها ما يكون ضابطاً لبعض عناصرها أو حاكماً عليها، ناهيك عما يُخلّ بما بين هذه العناصر من الانسجام.

فللإسلام شريعةٌ يوحي اسمها بالسعة والانشراح والقصد إلى غاية عالية، وللشريعة -وهي منظومة قيم اعتقادية وسلوكية وتنظيمية- مقاصدُها التي توجّه كلَّ مظاهر النشاط الإنساني في طريق تحقيقها. وقد استنبط علماء الإسلام هذه المقاصد من مصدريها الأساسين: القرآن والسنة. وما الأدب، وهو لون من الفن، إلا وجه من وجوه هذا النشاط الإنساني، فهو إذاً جزءٌ من المنظومة الإسلامية الشاملة، لا يستقل عنها في طبيعته ولا غايته، ولا يقبل أن يُمنح حق التنظير له والوصاية عليه لغيرها.

والأدب هو جملة الأجناس الفنية التي تتخذ لها من الكلمة مادةً وأساساً. والكلمة هي أكبر مميّز للكائن البشري عن غيره من الكائنات، وأفضل معبّر عن خامته ومعينٍ له على بلوغ مقاصده. فلا يليق أن تُترك هذه الكلمة ينظّر لها المنظّرون على غير المنهج المستقيم، ويدفعون بما يتألف منها من فنون بديعة الشكل قوية الأثر في طريق لا تخدم المقاصدَ العليا الشريفة السمحة للشريعة الإسلامية، بل ربما تصدمها وتضربها في الصميم.

لذلك، جعلت موضوع اهتمامي هنا هو: الفنون الأدبية تحديداً، بعدِّها فنونا ًكلامية تقوم على استثمار قدرة الكلمة على اجتذاب الشعور الإنساني إلى فتنتها القائمة على خلابة الصورة، وحلاوة الإيقاع، وحيوية السرد، وقوة الفكرة، ومهارة النسج، وطرافة المعنى، ومتانة البناء. فكلُّ هذه وسائل جمالية لا دين لها ولا مذهب، وإنما يوجهها في طريق الجمال المتكامل الصافي الذي تعلو به إنسانيةُ الإنسان، ويزكو بتأثيره الحس والفكر والوجدان، امتلاءُ الأديب بقيم إنسانية جمالية عالية؛ وليس كالإسلامِ راعياً في مقاصده العليا، لهذه القيم والمقاصد.

ومقصدنا بهذه الورقة أن نكشفَ أن الإسلام أولى بالجمال من سواه من المذاهب والأديان، وأن الجمال الذي يرعاه ويدعو إليه هو أرفعُ أنواع الجمال، وأن هذا الجمال الرفيع الذي تُستثمَر الكلمة في سبيل إشباع الوجدان به وإضفاء جوٍّ من البهجة على حياة من يتلقاه، إنما هو في خدمةِ المصالح الحيوية الكبرى للإنسان، وليست لإفساده وإشقائه.

لذلك، سيكون منهجنا هو النظر في طبيعة الفنون الأدبية من حيث مادتها وخصائصها ودوافعها وأهدافها كما هي في تنظير نقاد الأدب وعلماء الجمال، ثم مناقشة هذه النظريات في ضوء ما أصّله علماء الإسلام من مقاصد الشريعة؛ فتتضح المساحةُ الواسعة التي هي محلّ اشتراك بين النظر الإنساني الموضوعي في لحظات صفائه، وبين التصور الإسلامي للمقاصد العامة لوجوه النشاط الإنساني، وفي القلبِ منها نشاطه الأدبي.

وستكون هذه المعالجة فرصة لتقويمٍ مُجْمَلٍ لكثير من النظريات والتجارب الأدبية والنقدية الحديثة، لاسيما في فنَّي الشعر والرواية، حيث كثر الانحراف عن المقاصد الشريفة العالية التي تنشدها الإنسانية وترعاها مقاصد الإسلام.

وعليه، فإن مبنى هذا الموضوع على ركنين أساسين: ركن مقاصد الشريعة الإسلامية، وركن وظائف الفنون الأدبية. ولئن تكلم في كل ركن على حدَةٍ باحثون وعلماء كثيرون، فإن ما يُعوزنا، ونحن نواجه جملةً من التحديات الفكرية في واقع عولمي معقّد ضاغط، هو إعمال هذه المقاصد في مختلف وجوه النشاط البشري وحقول المعارف والمهارات الإنسانية، تنظيراً وتوجيهاً وتطبيقاً، حتى يكون لكل خطواتنا أثرٌ في تحقيق صميم مقاصدنا، وحتى يكون لنا في كل شأنٍ من شؤون حياتنا المعاصرة، وفي كل حقل من حقول المعرفة الحديثة نظرياتُنا وفلسفاتنا، سواء اتفقنا في ذلك أم اختلفنا مع النظريات والفلسفات المحيطة بنا، حديثها والقديم.

وحقل فلسفةِ الفن عموما، ونظرية الأدب خصوصاً، من الحقول التي تركنا فيها مَهمة التنظير لغيرنا، ثم رحنا نقتبس منه المفاهيم والأسس والمعايير، منتقدين مغربلين أحياناً، ومعتقدين ممتثلين أخرى؛ لذلك لا نكاد نعثر، على امتداد تاريخ اشتغالنا بعلم الأدب وفلسفة الفن أو علم الجمال، بنظرية كاملة في هذه الأبواب تأخذ أصولها كلها من الإسلام، وتنطلق في مبادئها ومعاييرها جميعها من منظومة قيمه وأصوله ومقاصده، حتى ألّف محمد قطب كتابه الرائد منهج الفن الإسلامي، فكان بمثابة الكتاب التأصيلي الأول لنظرية في الفنِّ تنبثق من التصور الإسلامي للحياة، وتنتقدُ النظريات التي أفرزت واقع الفنون الحديثة نقداً قائماً على أساس من هذا التصور، وتضع المعالم الكبرى لمنهج الفن المنبثق عن منظومة القيم الإسلامية، حيث يتعانق جمال الحق مع جمال الخير مع جمال الصورة.

وقد لامس الكتابُ عددا من القضايا ذات الصلة بموضوعي الذي أتناوله هنا ملامسةً عامة لا تتصل اتصالاً مباشراً بوظائف الفن في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، ولكنها تقدّم جملةَ أصولٍ تتصل بطبيعة الفن من جهة، وخصائص التصور الإسلامي للوجود وللإنسان من جهة ثانية، وتقدّم نظريةً في احتضان الإسلام للفن هي في صميم موضوع النظرة المقاصدية لمظاهر النشاط الإنساني. لذلك، لا يسع أي باحث في نظرية الفن الإسلامي إلا أن يتخذ من هذا الكتاب النفيس عمدةَ مراجعه التأصيلية.

وقد توالت في العقود اللاحقة كتبٌ وبحوث تنظِّر للأدبِ الإسلامي أو النقد الإسلامي أو علاقة الإسلام بالفن، فتلامسُ قضية ارتباط الفن بمقاصد الإسلام العليا ملامسةً ما؛ ولكن منهج هذه الكتب ومقاصد تأليفها لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بالتنظير لوظائف الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية على النحو الذي نروم معالجة الموضوع عليه هنا. إذ كان همُّها الدفاع عن مصطلح الأدب الإسلامي وبيان مفهومه، أو تحديدُ بعض خصائص هذا الأدب وعرض نماذجه، أو نقد مظاهر الانحراف عن قيم الإسلام في النظريات الأدبية والنقدية العربية المقتفية أثر النظريات الغربية؛ ولا شك أنها تلامس خلال ذلك بعض القضايا المتصلة بوظائف الأدب في منظور القيم الإسلامية، ولكنها لا تتجه رأساً إلى معالجة الموضوع من زاوية مقاصد الشريعة الإسلامية.

ولعل كتاب الفن في الفكر الإسلامي الصادر عن المعهد العالمي في الفكر الإسلامي، لاسيما جزؤه الثاني الصادر عام 2016م، أكثرُ الكتب مقاربة لهذا الموضوع، لاسيما مقال الباحث صحراوي مقلاتي «مقصد الجمال ووسائله من الفنون: نحو تأصيل معرفي»؛ فقد كانت المعالجة المقاصدية جزءاً أساساً من المقال، وكان مبحثه «مقاصد الشريعة ووسائلها وعلاقة الفن بالمقاصد» في صميم ما نروم معالجته هنا؛ لاسيما وهو يستعرض مقاصد الشريعة كما حددها بعض أعلام هذا العلم، وينظر في علاقتها بالفن والجمال، فيلفت النظر إلى أن أول كتاب في مقاصد الشريعة كان يحمل دلالة جمالية، وهو كتاب محاسن الشريعة لأبي بكر القفال الشاشي (ت365هـ). ويستنتجُ من ذلك أن «البحث في مقاصد الشريعة ابتداءً هو بحث في جمالها»1. ثم يلفتُ النظر إلى وجود باب كامل من أبواب مقاصد الشريعة يتصل اتصالاً مباشراً بالجمال، هو باب التحسينيات. غير أن حضور المعالجة المقاصدية في المقال كان محدوداً جداً، وعلى نحو لا يتعلق بجملة المقاصد التي تناولها العلماء بل بمقصد التحسين عموماً والسمو بالمشاعر إلى ما هو أجمل. وهذا إجمالٌ يختلف عن التفصيل الذي نودّ أن نمنح به موضوع الصلة بين وظائف الفنون الأدبية ومقاصد الشريعة الإسلامية أفقاً أوسعَ، ومدى من البيان والتأصيل أبعدَ وأعمق.

وفي الكتاب نفسه مقالٌ ذو صلة وثيقة بموضوع صلة الفن بالمقاصد، هو مقال الباحث الذوادي قوميدي «الحس الجمالي في الإسلام: مقصوديته ودوره في تشكيل الذوق العام»؛ وقد تضمّن مبحثاً قيّما بعنوان «مقصودية الحس الجمالي في الإسلام»، تناول فيه موضوع الحس الجمالي من زاوية مقاصد الشريعة، فلامس جوهر موضوعنا وهو ينظر في موقع الجمال بين الضرورة والتحسين، ويستعرضُ آراءَ المفكرين في ذلك بين منكرٍ أن يكون الجمال مجرد تكميل تحسيني وليس ضرورة، ومن يراه خاصيةً إنسانية ترتفعُ عن الضرورة. ومما ورد فيه مما يتعلق تعلقاً مباشراً بمقاصد الشريعة قوله في مقصد حفظ النسل من ركن الضروريات: «إن من مقاصدَ الشريعة حفظ النسل، وهو قدرٌ ضروري يشترك فيه كل الأحياء التي على الأرض، ولكنه في نوع الإنسان لا يكون مقبولاً إلا بوجه يحفظ النسب، ويحفظ العرض، وفي هذا صون للكرامة الإنسانية. وتبعا لهذا يكون السعي إلى تحصيل الجمال سعياً إلى الكمال اللائق الكرامة الإنسانية. ومنه يتميز الإنسان عن جميع المخلوقات.»2.

ومع أهمية هذا المبحث، والقيمة العلمية للآراء المختلفة التي استعان بها الباحث في معالجة موضوعه، والمدى التفصيلي الذي أخذه، فإنه لا يتسعُ لما نروم بحثه في موضوعنا هذا؛ إذ هو متصلٌ بالجمال عموماً، وبحثنا متصل بالفنون الأدبية تخصيصاً، وقد عالج القضية من زاوية الضروري والحاجي والتحسيني فقط، وبحثنا يتصدى لمعالجة وظائف الأدب في ضوء مقاصد الشريعة جميعها، في مختلف تجلياتها التي استنبطها علماء الأمة متقدّمهم والمتأخر.

1: أسئلة الجوهر والغاية في فلسفة الفن وعلم الجمال.

شغل الجمالُ، بِعدّه مظهراً لافتاً من مظاهر الوجود، والفنُّ، بعدّه نشاطًا بشريًا ذا جاذبية وخصوصية، حيزًا وافرًا من اهتمام أهل النظر والتأمل، حتى لقد نشأت لأجلهما علومٌ ونظريات، وانقسم أهل الاختصاص بشأنهما مدارسَ واتجاهات. وأحسب أن أهم الأسئلة التي ظلت محل نظر ومساءلة وجدل واختلاف لدى أهل النظر في الجمال والفن، هي الآتية:

أين يكمن الجمال: في المرئي أم الرائي؟ في الشيء الجميل أم في ذوق المتلقي؟

هل الجمالُ مظهر حسي يقتصر ظهوره على الشكل، وينحصر الشعور به في الإحساس، أم الجمال يشمل الشكل والمضمون، ما يُدرَك بالحس وما يُدرَك بالوجدان أو القلب أو الروح؟

هل غاية الجمال الإمتاع وحسب، أم تتسع غاية الجمال لتشمل مقاصدَ إنسانية حضارية أبعد، نفسية واجتماعية واقتصادية ودينية وأخلاقية وسياسية وذوقية؟

1.1: جمال المُدرَك أم ذوق المدرِك؟

انشغل فلاسفةُ الجمال والفن، لاسيما المحدثون منهم، بسؤال الجمال: ما طبيعته وما مصدره؟ أيكمن في الشيء الجميل نفسه جمالا متجسدًا موضوعيًا بخصائصه وقوانينه، أم يكمن في عين الرائي، أو ذوق المتلقي، فلا جمال إلا حيث يُشعَر به ويُتجاوب معه؟

ولأن الجمال لا يُعرَف له وجود إلا بإحساس من يراه، وتذوق من يتلقاه؛ فقد أشكل على الفلاسفة تحديدُه، وتعذّر عليهم الاتفاق بشأن حقيقته. ويمكن أن نجمل آراءهم في هذا الشأن في ثلاثة اتجاهات:

-اتجاه يمكن أن يطلق عليه «الاتجاه الموضوعي»، ويرى أصحابه الجمال ذا وجود موضوعي خارجي متجسد في الشيء الجميل، بغض النظر عن رؤيتنا له وإحساسنا به؛ فـ«صورة العذراء التي لا يتأملها أحد هي أفضل من البالوعة التي لا يراها أحد» كما ينبه جود3. وأصحاب هذا الاتجاه يؤمنون بوجود مقاييس موضوعية للجمال يمكن أن تكون محل اتفاق.

- واتجاه يمكن أن يطلق عليه «الاتجاه الذاتي»، ويرى أصحابُه أن الجمال في طبيعته إحساس وإدراك، وأن حاسة إدراك الجمال هي الذوق، والذوق ذاتي، ومن شأن هذه الذاتية أن تتركَ بصمتها على الأذواق فتجعلُها مختلفة متمايزة في ألوان استجابتها للجمال. فالجمال عند هؤلاء في عين الرائي لا الشيء المرئي. هو ما يراه الذوق جميلا؛ فلا قواعد ولا مقاييس، وإنما هي انطباعات وأذواق، و«لا مشاحة في الأذواق».

- واتجاه ثالث يمكن أن يطلق عليه «النسبية الموضوعية»، ويرى أصحابه أن اللقاء بين الموضوعية والذاتية ممكن في إطار من النسبية تفسح مجالا للاختلاف المشروط، ومن الموضوعية تحفل بالقواعد وتؤمن بالقوانين. شعارهم في ذلك أن الجمال- كما يقول هينيمان- يروعنا لأننا نشعر بنظام المظهر بصورة لا واعية على أنه نظام أرواحنا. فالنظام الذي تشعر أرواحنا بالرغبة فيه هو الذي يحققه الفنان4، وأن الجميل- كما يحدده كولدرج- هو «ذلك الجزء الذي يتفق طبيعياً ومشاعرنا، بحسب الانسجام القائم من قبل بين الطبيعة والعقل البشري»5. وهذا يعود بنا إلى منطلق الحديث في هذه المسألة، ليؤكد أن الذي خلق الجمالَ هو ذاته الذي خلق الأداة التي تدرك هذا الجمال؛ فإذا اختل الإدراك فتلك مسئولية الذوق لا مسئولية الجميل. وليس يختل ذوق إلا إذا ابتعد عن الفطرة التي فُطر الناس عليها، وانحرف عن الهدي الذي دُعي الناس إليه. ما يعني أننا محتاجون دوما إلى حماية أذواقنا من الانحراف، وإلى وصلها بالمصدر الضامن لسلامة الذوق وصحة الحكم، وهو القرآن الكريم.

2.1: جمال الشكل أم جمال المضمون؟

احتلت قضيةُ الشكل والمضمون، أو الصورة والمادة، أو المظهر والجوهر، حيزا كبيرا من اهتمام الفلاسفة والنقاد والمنظرين للأدب والفن وعلم الجمال. وقد ظلت على مدار التاريخ وما تزال مثارَ جدلٍ، وباعثَ انقسامٍ لأهل الفكر والفن إلى مذاهبَ ومدارسَ واتجاهات.

ويمكن تقسيم اتجاهات النظر الفلسفي في هذه المسألة إلى ثلاثة اتجاهات:

اتجاه مثالي، يتصور الجمال تصورا مثاليا غيبيا مرتبطا بالحق والخير والروح والمطلق والمقدس، ويعدّ الجمال الحسي مجرد محاولةٍ لتجسيد هذا الجمال المثالي؛ لذا يضع الجمال المادي (الشكلي) في أدنى مراتب الجمال، ويضع في أعلى الهرم الخير والحق.

اتجاه واقعي يتصور الجمال شأنا أرضيا يتصل بأساليب التفاعل الوجداني مع الوجود في حياتنا اليومية، الحسية والشعورية والعقلية. ولذلك يحاول أنصارُه اكتشاف طبيعته واستنباط قوانينه وتمييز أشكاله ومراتبه. وينقسم أصحاب هذا الاتجاه مدارس شتى في تفسير الجمال، ولكنهم يجمعون على أن الشكل مجرد مكوّن من مكوناته، وأن جوهر الجمال هو الشعور المفعم بالرضا واللذة والنشوة الذي يخالجنا أو يغمرنا ونحن نتلقى مظهرا من مظاهر الجمال في الكون، ماديا كان أم عقليا أم نفسيا، طبيعيا كان أم فنيا أم أخلاقيا.

اتجاه مادي شكلي، يرى الجمال شأنا ماديا ومظهرا حسيا لا صلة له بخُلقٍ ولا دينٍ ولا فلسفةٍ ولا حقيقةٍ ولا منفعة؛ فجمالُه في شكله، ومنفعتُه في ذاته، فهو لون من اللعب تلتهي به النفوس وتستعذبه وترتفعُ به عن رتابة الواقع وصرامة الواجب، وهو ضربٌ من المهارة الطبيعية أو الفنية من شأنه أن يبثَّ في النفوس البهجةَ ويشعرها بالنشوة، دون مطالبةٍ بأية قيمة معرفية أو أخلاقية. وربما بالغ بعض الشكليين فدعوا إلى فصل الفن فصلًا تاما عن الأخلاق والمعارف، ورأوا أن جمال الفن يزيدُ وينقصُ بقدر تجرده من المضامين الأخلاقية والعلمية.

3.1: الإمتاع فحسب أم النفع أيضا؟

يقتربُ بنا السؤال من صلب هذا البحث: المقاصد الجمالية. لماذا الجمال في حياتنا البشرية؟ ألإمتاعنا فحسب أم لوجوه من النفع أخرى غير المتعة؛ إذ المتعة لونٌ من النفع؟

القائلون بإسهام المضمون في إنتاج الجمال يقولون حتمًا بمنافع الجمال المتصلة بهذه المضامين. فمن يؤمنون بأن للفن ارتباطا بالفلسفة والمعرفة سيقولون حتما إنَّ الفن يزيدنا معرفة بأنفسنا وبالكون. ومن يؤمنون بأن له صلة بالأخلاق، وأن الأخلاق ذاتها هي لون من الجمال، سيقولون حتما إن الجمال، فنًا كان أم ذوقًا سلوكيًا، يزيدنا رقيًا في أسلوب حياتنا، ونقاء في مشاعرنا، وابتهاجًا بمعطيات الوجود.

ولكن الجميل، في تعريف الفلاسفة، ليس هو النافع ولا المفيد ولا حتى اللذيذ. الجميل هو الذي يولّد فينا إحساسًا بالمتعة والبهجة والنشوة. هو الذي يشعرنا بالرضا ولون من اللذة غير اللذة المغرقة في الحس؛ كلذة الأكل أو الشرب أو الجنس.

لذلك، انقسم النقاد والفلاسفة ثلاثة اتجاهات كذلك، في تصور وظيفة الجمال والفن: اتجاها يعد الجمال مجردَ وسيلة يُتوَسَّل بها لتحقيق غايات نفعية هي المقصد الأساس، وهي الدعوة إلى الفضيلة، أو تسهيل الحصول على المعرفة، أو التطهير من الانفعالات المضرة. واتجاها يعزو للجمال منافعَ كثيرةً، معرفية ونفسية وأخلاقية وذوقية وحتى اقتصادية؛ ولكنه لا يرى ذلك مقصدا أساسًا، بل نفعًا يأتي بالتبعية حين يكون للجميل تأثير طيب في حياة الناس فيهذب أخلاقهم، ويرقّي أذواقهم، ويحقق لهم قدرا من التوازن النفسي يجعلهم أهلا لخدمة المجتمع، ويكون الفن صادرا عن فنانين ذوي طبع صحيح وذوق سليم وفكر مستقيم وشعور نبيل؛ فينشأ فنهم ناقلا تجاربَ إنسانيةٍ تهب من يقرأها إحساسا بالامتلاء والتشبع إحساسًا وعاطفة وعقلا وروحًا؛ إذ الفن نسيج مؤلف مما يتدفق به وجدانٌ هو جملة ما يتألف منه الكيان الإنساني.

واتجاهًا ثالثًا لا يرى للجمال أية منفعة غير المتعة. بل ربما رأى أن تكليف الجمال مَهمةً غير الإمتاع امتهان له وانحراف به عن طبيعته. وأصحاب نظرية الفن للفن على هذا الرأي. وقد بلغ بعض أنصارها حدًا من التطرف جعلهم ينفون عن الفن مهمة التعبير والغناء وصناعة الجمال ذاته، لينحدروا به إلى العبثية والعدمية والفوضى والقبح في ما يسمونه البرناسية والسريالية والدادائية والرمزية وما إلى ذلك6.

2: مقاصد الشريعة الإسلامية في منظور علماء المقاصد

بحث مقاصد الشريعة الإسلامية هو بحثٌ في الجوهر والغاية. بحثٌ في جوهر الإسلام وروح الشريعة وغاية الرسالة التي وصلت بين السماء والأرض، بين الخالق والمخلوق، بين الوجود ورب الوجود.

هو البحث الذي ينظر في الرسالة ذاتها، وهي الوحي الإلهي متجسدا في القرآن الكريم والسنة النبوية، ليستنبط منها ما قصده المرسِل برسالته، والشارِعُ بشريعته. والقرآن الكريم حافل بالآيات التي يُخبر فيها الله عن غاية الخلق وبعث الأنبياء وإنزال الكتب وسن الشرائع وضرب الأمثال وقص القصص وما إلى ذلك.

هو النظر العقلي في الوارد النقلي؛ فطبيعي أن تختلفَ وجوه النظر والاستنباط، وتتباينُ مناهج التناول والتصنيف، وتتجدد ألوانُ النظر والمعالجة بحسب تجدد زوايا النظر تأثرًا بتجدد الأوضاع والأزمنة؛ ومن الإنصاف والموضوعية أن نقدّر كل هذه الاجتهادات ونفيد منها ونعتمد عليها في تشكيل صورة وافية عن المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، لننظر في ضوئها وظائف الفنون الأدبية، تأسيسًا لنظر تأصيلي في هذه الوظائف لا يأخذ من الغرب أو الشرق إلا ما يتناسب معها، ولا يقتصر في تصور صلة الوظيفة بالمقصد على أن الأدب تحسينٌ للحياة وتهذيب، بل يتغلغل في كل مقصد من المقاصد التي ذكرها العلماء، واصلا بين الوظيفة والمقصد من غير تعسف ولا تفريط.

1.2: المقاصد الحفظية للحياة الفردية

قام التصنيف التقليدي لمقاصد الشريعة الإسلامية على النظر في ما تستهدفه الأحكامُ الشرعية من رعايةٍ لمصالح الأفراد، متدرجا في ترتيب هذه المصالح حسب درجة أهميتها ومقدار الحاجة إليها، فجعلها ثلاث مراتب: الضرورات، والحاجيات، والتحسينيات.

أما الضرورات فهي ما لا يقوم للفرد وجود حسي أو معنوي بدونه، وهي النفس والعقل والدين والمال والنسل. فحياة الكائن البشري مرهونة بالحفاظ على النفس مما يهددها من القتل أو الهلاك، والحفاظ على استمرار الحياة البشرية عمومًا بضمان ما يحفظ النسل، والحفاظ على ما به يُحفظ الجسد من التلف وهو المال، والحفاظ على ما يكون به الإنسان إنسانا مميزا مكلفا مسئولا وهو العقل، والحفاظ على ما به حفظُ المصلحة الكبرى من الوجود الإنساني وهي عبادة الله، وعنوانها الدين.

وبغض النظر عن الترتيب الذي أخذته هذه المقاصد عند العلماء، والإضافة التي أضافها بعضهم، وهي حفظ العرض7، فإن هذا التصنيف يبدو من الإحكام بحيث يغطي كل ما يضمن استمرار الوجود الحسي والمعنوي للكائن البشري. والأدب جزء من الكيان المعنوي لهذا الكائن، وهو من أنجع الوسائل في الحفاظ على هذه المقاصد لاسيما المعنوي منها، كالدين والعقل والعرض.

أما الحاجيات فهي مطالب أقلُّ ضرورة من الضرورات، لا يترتب على عدمها تهديد لحياة الفرد الحسية ولا المعنوية، مثل الزواج والتجارة ووسائل النقل. ولكنها يمكن أن تتحول إلى ضروراتٍ إذا عمّت الحاجة إليها، أو حلّت أزمة شديدة تعرّض حياة الأفراد جميعا للحرج الشديد8. ولا شك أن للكلمة المؤثرة، وهي مادةُ الفنون الأدبية، أثرًا كبيرًا في توعية الناس بحاجاتهم، وتحريك الدوافع إليها في أنفسهم؛ فهذا إجمال صلة الأدب بهذه الحاجيات.

أما التحسينيات فهي مطالبُ زائدةٌ على الضرورة والحاجة الماسة، تُحسِّن حياة الفرد وتزيّنها وتضفي عليها لونا من البهجة والجمال، مما يتجلى في لباسه ومأكله ومشربه ومسكنه ومركبه ومحيطه. ولا شك أن الفنون الأدبية هي في صميم هذه المطالب الجمالية من حيث هي فنون جميلة أصلا، ومن حيث هي وسيلة للتحسيس بالجمال وأهميته في حياة الفرد والمجتمع، ومن حيث هي وعاء لتناول الموضوعات التي تمس حاجات الإنسان الحسية والمعنوية، الأساسية والثانوية.

2.2:  المقاصد الحفظية للحياة الاجتماعية

لاحظ بعض العلماء المتأخرين أن المقاصد السابقة تخص الحياة الفردية ولا تعمُّ الحياة الاجتماعية التي هي في علاقة حيوية عضوية مع الحياة الفردية، تتأثر بها وتؤثر فيها.

لذلك اقترح هؤلاء العلماء تجديد درس المقاصد، وتوسيعه ليشمل ما يتعلق بالحياة العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لاسيما وأن القرآن الكريم ينص صراحة على جملة من المقاصد الاجتماعية ويلح عليها، لاسيما العدل والمساواة والحرية والسماحة.

فالطاهر بن عاشور (توفي في 1389هـ - 1970م) نبّه على أن للتشريع الإسلامي مقاصدَ عالمية تتصل بعموم الحياة الإنسانية والمصالح البشرية العامة، وهي «حفظ نظام الأمة، والمساواة، والحرية، والسماحة، ومراعاة الفطرة»9. ويوسف القرضاوي يستنبط من استعراضه للقرآن الكريم عددًا من المقاصد العامة، هي: «تصحيح العقائد في التصورات للألوهية والرسالة والجزاء، وتقرير كرامة الإنسان وحقوقه، وخصوصًا الضعفاء من الناس، وتوجيه البشر إلى حسن عبادة الله وتقواه، والدعوة إلى تزكية النفس البشرية، وتكوين الأسرة الصالحة وإنصاف المرأة، وبناء الأمة الشهيدة على البشرية، والدعوة إلى عالم إنساني متعاون»10. وواضح أن هذا المنحى في تصنيف مقاصد الشريعة وليد حاجة العصر إلى التركيز على الحاجات التي هي محل اهتمام ونضال على المستوى العالمي مثل الحرية والكرامة والعدالة والتعاون والتسامح وحقوق المرأة، علاوة على المقاصد الأساسية للدين الإسلامي، وهي حفظ الدين الصحيح، بتصحيح العقائد وبناء الأمة القائمة على نظامه، والداعية إلى عبادة الله، الشهيدة على البشرية.

ومن نافلة القول أن الأدبَ هو في أصله وطبيعته تعبير عن أشواق الإنسان إلى الحرية والعدل والكرامة والأخوة الإنسانية. وأن الأديبَ الحق الذي لم ينحرف عن الفطرة السوية ولم يختلّ في ذوقه وإدراكه ميزان الجمال الحق، هو من يتناول أدبُه طبيعةً لا تكلفا الموضوعاتِ ذات الصلة بهذه المقاصد الإنسانية العليا. وأن أثر الأدب في التوعية بهذه المطالب وحفظ هذه المقاصد كبيرٌ جدُّ كبير.

3.2: المقاصد العليا الدينية والحضارية

لكل تصنيفٍ من التصنيفات التي اعتمدها العلماء لمقاصد الشريعة، فاستقرت، أو اقترحوها ولمّا تستقرّ، وجاهته العلمية وقيمته العملية. وإذا كان التصنيف التقليدي قد حظي بما يشبه الإجماعَ، واستطاع أن يسلك منظومة الأحكام والتشريعات في سلك ناظم لها، مستوفٍ لعناصرها، يستوعبها جميعا ولا يغادر منها شيئا، فإن ذلك لا يعني أن الاجتهاد في المقاصد قد أُغلق، والإضافة عليها قد امتنعت، والعدول إلى تصنيف يختلف عن التصنيف التقليدي ولا يعارضه ليس من الوجاهة واللباقة في شيء.

إن في وسع العلماء أن يُدرجوا ضمن باب الضرورات أو الحاجيات مثلا مقاصدَ أخرى كحفظ الكرامة والحرية والعدالة. وفي وسعهم أيضا أن ينحوا في تحديد مقاصد الإسلام وشريعته منحى أعمَّ وأوسعَ يشملُ المقاصد الدينية والدنيوية الكبرى التي وُجد لأجلها الوجود، وبُعث من أجلها الأنبياء وأنزلت الكتب وسُنّت التشريعات ووُضعت التعاليم. وإذا كان ابن عاشور والقرضاوي قد نحَيا منحى قريبا من ذلك، فإن طه جابر العلواني (توفي في 1437هـ - 2016م) قد اختار تصنيفا للمقاصد أكثرَ شمولا ودقة (في نظري) في الوقت نفسه، تصنيفا يضم كل ما ذكره علماء المقاصد تحت ثلاثة عناوين واسعة دقيقة تشمل الاعتقاد والسلوك وعمارة الأرض، وهي: التوحيد، والتزكية، والعمران11.

فالتوحيد هو المقصد الأول والأسمى، ولأجلِه خُلق الكون وأرسل الأنبياء، وهو يتضمن حفظ الدين قطعا؛ فإنما الدين التوحيدُ أصلا، ولا معنى لدين بغير توحيد.

والتزكية هي المقصد الناتج عن التوحيد، واللائق بالإنسان، والضروري لاستقامة الحياة البشرية العاجلة والآجلة. وهو يتضمن حتما حفظ النسل وحفظ العرض، وله تعلق بحفظ العقل والمال بوجه ما.

والعمران هو المقصد الذي يتفاعل فيه الدين والدنيا، والعبادة والعمارة، وتُتخذ بفضله الحياة الدنيا معبرا للحياة الأخرى؛ وهو عنوانٌ للعمل الصالح، والعقل الراجح، والسعي الناجح، والإتقان المُعجِب، والنظام الدقيق، والاجتهاد الدائم، والحرص الدائب على تطوير نمط الحياة، والعمل المستمر على تزيينها وتجميلها وإشاعة روح البهجة في أثنائها. وهو يتضمن حتما حفظ العقل وحفظ المال، وقد يتضمن حفظ الدين وحفظ النفس والنسل والعرض بوجه من الوجوه. أما الحاجيات فهو في صميمها، وأما التحسينيات فهو لبُّها. وهذا لا يُغني عن التصنيف التقليدي الدقيق لمقاصد الشريعة.

وحين ننظرُ في علاقة الأدب بهذه المقاصد الثلاثة العليا سنجدُه مؤهلا للإسهام بحظ وافر في تجسيدها. فالكلمة الجميلة التي تصدر عن أديب موحِّد جديرة بأن تزرع بذور التوحيد في النفوس وتسقيها. والكلمة الرقيقة الراقية الزكية التي تصدر عن أديب مفعم بالقيم الإنسانية جديرة بأن تبث روحًا إنسانية راقية زكية في نفوس من يتلقاها. والكلمة الجميلة الراقية المفعمة بالقيم العلمية والحضارية البانية جديرة بأن تُسهم في عمارة الأرض وإشاعة القيم الحضارية اللائقة بالإنسانية.

وإذا عُدم الأديب هذه المزايا، وتخلى الأدبُ عن هذه الرسالة، وزاغت الفنون الأدبية عن الفطرة السوية والذوق الرفيع والقيم النبيلة، فراحت تُعلي من شأن الأهواء والشهوات، وتهلل للفساد والانحدار، وتُحرّض على الإلحاد في الدين، والتحلل في الخلق، والتمرد على القيم الحضارية، فإن ذلك سيُلحق بهذه المقاصد أضرارا جسيمة. وهذا مجرد إجمالٍ لما سنعالجه الآن بقدر من التفصيل.

3: وظائف الفنون الأدبية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية

الأدبُ جزء من الفن مادتُه الكلمة، والفن جزء من الجمال وسيلته إثارة الإحساس بالمتعة. فما وظيفة الجمال أصلا؟ وما موقعه من الحياة البشرية ومن مقاصد الشريعة الإسلامية؟ وما وظيفة الفنون الأدبية تحديدا؟ وما واقعها؟ وما تقويمها في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية؟

1.3: الجمال والفن تحسين أم حاجة أم ضرورة؟

نبدأُ من الإطار العام لموضوعنا، وهو الجمال والفن من حيث الوظيفة والغاية، ومن حيث الموقع من مقاصد الإسلام العامة، ونسأل: ما حاجة الحياة البشرية إلى الجمال والفن: أهي حاجةٌ من قبيل التحسين والتزيين لا أكثر، أم هي حاجة ماسّة لا تقل أهمية عن الحاجة إلى الغذاء الصحي الذي يحفظ قوة الجسم، والغذاء العقلي والعاطفي الذي يضمن قدرة الإنسان على ممارسة حياته اليومية على النحو السليم، أم هي حاجة من قبيل الضرورة، فلا استغناء عنها بحال، وهي والضروريات الخمس المعروفة في التصنيف المقاصدي المأثور في مرتبة واحدة؟

ولكي نؤسس تصورا للمسألة أقربَ إلى السلامة ينبغي تحديدُ مفهومٍ أقربَ إلى الدقة للجمال والفن. فما الجمال وما الفن؟

أما الجمال فهو في الفلسفة القديمة أحد ثلاثة أركان يقوم عليها الوجود: الحق والخير والجمال. فهو الركن الذي يتصل بالإحساس، حين يتصل الحق بالمعرفة والخير بالأخلاق. إنه الجزء اللصيق بوجداننا، الممازج لإحساسنا، المغروس في فطرتنا، الملابس لنا طيلة حياتنا؛ إذ يتعلق بنمط إحساسنا بالوجود، وإيقاع حركة الوجود فينا، سواء أكان هذا الوجود ماديًا أم معنويًا.

الجمال إذاً مادّي وروحي، حسّي ومعنوي، يتعلق بالمضمون تعلقَه بالصورة؛ لأن الجمال في حقيقته هو قيمة موضوعية في ما نتلقى إيقاعه فينا تلقيا مصحوبا بالرضا والسرور والمتعة والبهجة والارتياح والطرب؛ وهذه المشاعر والأحاسيس تنتج عن تلقينا للأشكال المادية كما تنتج عن تفاعلنا مع العالم الروحي والمعنوي من قيم عقلية ومعرفية وأخلاقية.

هذا ما يقول به برتليمي حين يعرّف الجمال بأنه: «لذة مركّبة، لكل من الجسد والروح نصيبٌ فيها، ولهذا تأرجح الفلاسفة دائما بين الحسية والعقلية»12. ويقول به سانتيانا حين يقول إن الجمال «هو قيمة إيجابية نابعة من طبيعة الشيء خلعنا عليها وجودا موضوعيا، أو في لغة أقل تخصصًا: الجمال هو لذة نعتبرها صفة في الشيء ذاته»13.

وما يُهمنا من هذا المفهوم هو ارتباطُ الجمال بالإحساس من جهةٍ، وارتباطه بالجسد والروح كليهما من جهة ثانية. إن هذا الارتباط هو الذي يتيح لنا أن نوسّع من دائرة مفهوم الجمال بحيث يغطي مساحة شاسعة من حياتنا، وبحيث يمتد أثرُه في كل اتجاه، ويتغلغل فعله في كل زاوية؛ فالحق جمال أيضا؛ لأننا نستمتع به وتطرب أرواحنا له ونشعر بالرضا لإصابته. والخير جمالٌ كذلك، لأننا مفطورون على حبه والإعجاب به والرضا عمن يقوم به، وهو يترك فينا أثرا طيبا وإحساسًا بهيجًا. إن الجمال إحساس، ولكن هذا الإحساس يشمل المعرفة والسلوك، بلا شك.

لذلك كان تفضيلُ الجمال المعنوي على الجمال الحسي محلَّ اتفاق بين الفلسفة المثالية لدى اليونان والغربيين، والعلماء والفلاسفة المسلمين الصادرين في تصورهم للجمال عن روح الإسلام وتصوره للوجود؛ فهذا الغزالي يعلو بقيمة الجمال الباطن (الروحي)، بعد أن يقرر فطريةَ الإحساس بالجمال ماديّه وروحيّه14. وهذا أبو حيان التوحيدي يبني نظريته في المعرفة والجمال على مبدأ يُعلي من شأن معرفة النفس طريقا لمعرفة الخالق ومعرفة الوجود، ومن شأن العقل وسيلة لإدراك الجمال الحق الثابت المستمِدِّ وجودَه من جمال الخالق. ويحذّر من التعويل على مجرد الحس في تلقي الجمال، إذ الحواسُّ عرضة للتغيّر والزيغ واتباع الهوى، والعقل هو وحده المؤهل لإدراك الجمال المطلق إدراكا لا تؤثر فيه العوارض فلا يتشوّش ولا يتغير15. «فالجمال عند التوحيدي جمال مطلقٌ، وسبيل الوصول إليه هو العقل وحده، وأي خطأ أو توهم في معرفة هذا الجمال مصدره تدخُّل الحس في الحكم، ولذا كان على الإنسان في رأي التوحيدي أن يغلّب العقل على الحس، وأن يضع كلا في موضعه»16. وهذا يعني أن الحسَّ والعقل يشتركان في إدراك الجمال، وأن الواجبَ هو إحسان إشراكهما في هذه المَهمة بحيث يؤدي كل منهما دوره دونَ تفريطٍ ولا إفراط، وينزل الموجودات الجميلة منازلها المستحقة بلا إخلال ولا تعسف. فلو وُفّق الإنسان إلى تحكيم العقل مستعينًا بالحس في إدراك الجمال «لوضَعَ كلَّ شيء موضعه، ونسبه إلى شكله، ولم يرفع الوضيع محل الرفيع، ولم يضع الرفيع في موضع الوضيع»17. وهذه نظرية في الجمال تجمع بين المثالية والواقعية؛ إذ تنبني أساسًا على الإيمان بالجمال المثالي المطلق الذي قوامه الحق والخير ومثالُه أسماء الله وصفاته وأفعاله؛ ولكنها لا تُهمل الجمال المادّي أو السلوكي الذي يُدرَك بالحس، ولذلك يتغير بتغير الزمان والمكان والعادات والأحوال. فالعقل مخوّل لإدراك جمال الجواهر، والحس مخوّل لإدراك جمال الأعراض18، ولكلٍ حصته ومنزلته، ولكن جمال الجواهر أعلى وأنفس. وهو ما يعني أن الجمالَ لا يتسعُ للحق والخير فحسب، بل هو حالٌّ فيهما بحيث يمنحهما جمالا أعلى من الجمال المادي أو الحسي الذي نلحظُه في الأشكال والصور وبعض الفنون.

وأما الفنُّ فهو «صناعة بشرية عاملةٌ في الطبيعة، طالبةٌ للجمال، قاصدةٌ للإعجاب، طامحةٌ إلى إضفاء ألوان من البهاء والمتعة والبهجة على شكل الحياة»19 . وهو أنواعٌ شتى، منها ما يقوم على الكلمة، ومنها يقوم على الصورة، ومنها ما يقوم على الحركة، ومنها ما يجمع بينها على نحو ما. وهو في أصله تعبيرٌ عن الإحساس بالجمال، أو تعبيرٌ عن الشعور ورغبةٌ في التواصل اتخذ له شكلًا من أشكال الجمال، وظيفتُه الفطرية «إرواء أشواق النفس إلى الجمال»20.

ولمّا كان الجمال صورة وروحًا، شكلا ومضمونا، حسًا وعقلا، على النحو الذي قررناه آنفا، كان من البديهة أن يتسع الفنُّ لما اتسعَ له الجمال، وأن يرتبط الفن بالقيمة حسيةً ومعنوية، وأن يرتبط بتصور الإنسان للحياة والوجود، في إبداعه وتصوّره وتلقيه، وأن تتفاوت منازله في التقويم الموضوعي تبعا للتفاوت الحاصل على مستوى تصورنا للوجود. و«إذا أدركنا أنَّ الفن هو محاولة البشر أن يصوّروا حقائق الوجود وانعكاسها في أنفسهم، في صورة موحية جميلة؛ وأن مكان الفنان والفن يتحدد بمدى المساحة التي تشملُها الحقيقة التي يشير إليها العملُ الفني أو يرمز لها من كيان الكون. إذا أدركنا ذلك فقد أدركنا في ذات الوقت أن الفنَّ الذي يمكن أن ينبثق عن التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان، هو أرفعُ فن تستطيع أن تنتجه البشرية»21. فمعلومٌ أن التصور الإسلامي للحياة، وللجمال، هو أكثر التصورات رحابةً ورهافةً وبشاشةً وسماحةً ودقةً وتوازنا وشمولا وإجابةً لحاجات الإنسان المادية والعاطفية والعقلية والروحية؛ ولذلك فإن حظ الجمال في هذا التصور حظٌ وافر لا نظير له، ونوع الجمال في هذا التصور هو النوع النقي السامي الذي يُبهج الحس والروح والعقل في الوقت ذاته. «إنه التصور الذي لا يأخذ الإنسان جسمًا ويدعه روحًا، أو روحًا ويدعه جسمًا، أو جسمًا وروحًا بغير اعتبار لطاقة العقل. ثم هو لا يأخذ هذه العناصر متفرقة منفصلة، بل يأخذها مترابطة متحركة -مع ترابطها- في واقع الحياة. ولا يأخذ الإنسان فردا ويدعه جماعة، ولا جماعة ويدعه فردا، وإنما ينظر إليه في ذات الوقت بوصفه فردا وجماعة مترابطين ممتزجين غير منعزلين في الكيان»22.

ولمّا كان الأمرُ كذلك؛ فإن الجمالَ والفن في منظور الإسلام المقاصدي لا ينفصلان عن روح الإسلام ورسالته: الروح التي قوامها الحق والخير والجمال، أو بعبارةٍ أخرى وتصوّرٍ آخر: التوحيد والتزكية والعمران؛ ففي التوحيد جمالٌ أيُّ جمال، وفي التزكية جمال روحي نقيّ عال، وفي العمران جمالٌ في الإتقان والإبداع والتنظيم والتنسيق والبناء المادي والعقلي والفني متعدد الألوان والأشكال.

الآن، وقد تحدد مفهوم الجمال ومفهوم الفن، يمكننا أن نشرعَ في الجواب على السؤال الذي جعلناه مقدمة لهذا العنصر من البحث: الجمال والفن تحسينٌ، أم حاجة، أم ضرورة؟ تبدو الإجابة بسيطة لو دخلنا المسألة من باب المصطلح؛ فالجمال والحسن مترادفان. وما دام التحسين يعني التجميل فإن الجمال والفنون الجميلة وظيفتها تحسين الحياة لا غير. وهي لذلك ليست حاجة ماسة ولا ضرورة وجود.

أجل، فإن الإنسان لن تهدَّدَ حياتُه، ولا دينه، ولا عقله، ولا نسله، ولا ماله، ولا عرضه، إذا لم يتجمّل وإذا لم يتلقّ الجمال الفني أو يُنشئْه. وإن الإنسان لن يقع في الحرج الشديد إذا لم يتحرّ تجميل حياته ملبسا ومسكنا ومركبا ومأكلا وما إلى ذلك، وإذا لم يجعل الفن جزءا لا يتجزأ من حياته. وقد ضرب الإمام الغزالي مثالا عن الضروريات والحاجيات والتحسينيات يحسن أن يستحضر في هذا السياق، قال: «ومثال الضروري من النعم الخارجة عن الإنسان: الماء والغذاء، ومثال الحاجة: الدواء واللحم والفواكه، ومثال المزايا والزوائد: خضرة الأشجار وحسن أشكال الأنوار والأزهار، ولذائذ الفواكه والأطعمة التي لا تنخرم بعدمها حاجة ولا ضرورة»23. وهذا صحيح جدًا حين يتعلق الأمر بحياة الفرد لا الجماعة، وعدم الضرورة لا يعني نزول القيمة وضعف الحاجة، فهل يبقى الأمر كذلك إذا تعلق الأمر بمصلحة الأمة؟

إن لابن عاشور في ذلك رأيًا جديرا بالمراعاة. فالتحسينيات عنده هي «ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنةً مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبًا في الاندماج فيها أو التقرب منها»24.

إن الأمان والاطمئنان اللذين يحصلان بحصول ألوان الجمال والكمال مادةً وروحًا، وإن بهجة المنظر وطيب السمعة اللذين ينتجان عن رعاية الأمة لأصول الجمال وإشاعتها لمظاهره وألوانه، بما يُغري الأمم الأخرى بالإعجاب بها والتقرب منها والاقتداء بها؛ إن ذلك ليس بالأمر الهيّن في حياة الأمم، لاسيما الأمة التي جعلها الله شهيدة على البشرية. إن ذلك سيغدو بهذا الاعتبار من الحاجات الماسة وإن لم يكن ضرورة وجود.

وليست قيمةُ الشيء مرهونة بضرورته، بل بالفرقِ بين وجوده وعدمه. وقد أحسن العقاد الدفاع عن أطروحة الارتقاء بالجمال والفن إلى مستوى الضرورة حين رأى أن حاجتنا إلى الفنون الجميلة هي حاجةٌ تفرقنا عن الحيوان، وترقى بنا إلى مرتبة الإنسان، أما حاجتنا إلى الخبز فهي حاجة نشترك فيها مع الحيوان. وهو ما يعني عنده أن «الفنون الجميلة ضروريات في الأمم وإن عُدّت نوافلَ في آحاد الناس»25.

فكأن الجمال هو ما يكون به الإنسان إنسانًا بحق. ومعلوم أن الحقَّ جمالٌ، والخلق الحسن جمال، والإنسان إنسانٌ بأخلاقيته كما يرى طه عبد الرحمن26. والفنون الجميلة، لاسيما الأدبية منها تصنع من الجمال ما يرتقي به الإنسان في سلّم الإنسانية، وتُسهم في تمكين الإنسان من الحفاظ على ضرورياته وتحقيق حاجاته؛ فللفنون إذاً تعلقٌ بالتحسينيات والحاجيات، والضروريات أيضا. وفي العناصر الآتية من بحثنا مزيدٌ تفصيل.

2.3: الفنون الأدبية؛ مادتها وطبيعتها وأنواعها ووظائفها

للفنون الأدبية امتيازٌ على بقية الفنون بأن مادتها الكلمة. فللكلمة شرفٌ ليس لغيرها من موادّ الفن. وللكلمة انتشارٌ في الناس أقوى من انتشار سواها. والناس محتاجون إلى الكلمة وسيلةً للتواصل أكثر من حاجتهم إلى غيرها.

الكلمة هُويةٌ وضرورة. فبالكلمة يُعرِب الإنسان فيُعرَف، وبالكلمة يُعبّر عن أغراضه ويتواصل مع غيره. وبالكلمة التي تنطق عن فؤاده يتكامل النصفان اللذان يمثلانِ جوهر الإنسان:

لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ        فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدمِ27

والأدبُ هو الكلمة مستعملةً استعمالًا جميلا بليغا مؤثرا، فهل الكلمة البليغة ضرورة؟ لا، طبعًا؛ فالتواصل ممكن بغير جمالٍ في النسج وقوة في الإقناع وقدرة على الإثارة؛ ولكن البشرية تخسر كثيرا إذا فرّطت في بلاغة الكلمة، وتحفظ مصالحَ كثيرة إذا حرصت عليها، وقيمة الشيء هي في الفرق بين ما تكون عليه وأنت تملكه، وما تكون عليه وأنت محروم منه.

والفنون الأدبية أنواع، تتقاطع في مادتها وبعض خصائصها اللغوية وغاياتها، وتتمايز في أشكالها وطبيعتها وبعض خصائصها اللغوية وأهدافها. ولا بد من مراعاة هذه الاختلافات حين ننظر في وظائفها وكيفية خدمتها لمقاصد الشريعة الإسلامية.

«إن هذه الأنواع الأدبية جميعها تُسقى بماء واحد، ولكنها تختلفُ. وتصبو إلى غاياتٍ شتى، ولكنها تأتلفُ. أما ماؤها الذي تسقى به فيمدها بالحياة فهو اللغة؛ جسما قوامه الأصوات والتراكيب، وروحا قوامه الدلالات والمضامين. وأما الذي هو غاية تصبو إليها فأدناه الإبلاغ والإفهام، وأوسطه الإقناع والتأثير، وأعلاه وأبعده في طريق الفن هو الإمتاع الحسي والمعنوي، النفسي والمعرفي. وهنا مجالٌ للاختلاف بين هذه الأنواع؛ إذ بعضها (الخطبة والرسالة والمقالة) لا يهدف إلى الإمتاعِ إلا بالقدر الذي يعين على الهدف الأساس؛ الذي هو الإبلاغ والإقناع. وبعضُها الآخر (الشعر والقصة والرواية والمسرحية) يجعلُ الإمتاع، بمفهومه الواسع، غايتَه الأولى، ويتخذ من الغايتين الأخريين طريقًا إلى ذلك، أو غاية بعد ذلك»28.

إن طبيعة الشعر منشأً وموضوعا غيرُ طبيعة القصة، وطبيعة القصة غير طبيعة الخطبة أو المقالة. وإن للوظيفة صلةً بالطبيعة، فلا يصح أن يُطالَبَ الشاعر بما يُطالب به الخطيب أو كاتب المقالات، ولا الخطيبُ بما يطالبُ به القاصّ. ولا يصحّ أن يُنظَر في الوجه الذي يتعلق به الشعر بمقاصد الشريعة على النحو الذي ينظر به الوجه الذي تتعلق القصة أو المقالة.

لذلك، يجدر أن نقسّم هذه الفنون أقسامًا، وننظر في وظائفها وصلتها بالمقاصد الإسلامية بناء على ذلك. وقد رأينا أن نقسم الفنون الأدبية ثلاثة أقسام:

4: الأدب الوجداني: الشعر والخاطرة

يمكن أن نجعلَ مقاصد الشريعة الإسلامية قانوناً حاكمًا على كل شيء، فنطالب الشعراء والخطباء والقصاصين والكتاب جميعهم بأن يكتبوا بكامل وعيهم ما يحفظ هذه المقاصد، وما يخدم رسالة الإسلام، وما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة في كثير ولا قليل؛ ولكن ليست هذه هي السبيل الصحيحة في التعامل مع الطبيعة البشرية التي هي مصدر الفنون الأدبية.

لا بد من مراعاة طبيعة كل فن أدبي على حدة، ثم النظر بعد ذلك في النحو الذي يمكن أن يتوافق به مع مقاصد الإسلام.

إن من الفنون الأدبية أنواعًا تصدرُ عن الوجدان مباشرة. تعبّر عن العاطفة في لحظاتٍ خاصة متميزة. يهتزّ بها الانفعال عند اشتداده فيدفعها من حيّز القوةِ إلى الفعل، من حيّز الكمون إلى حيّز الظهور في شكلٍ لفظي ينقل أجواء الانفعال وطبيعته ومقداره. وذلك هو الشعر خصوصًا، ومعه كل الأنواع الأدبية التي يكون موضوعها الشعور، ودافعها الانفعال الجائش القوي، كالخاطرة، وكتلك الأشكال الكتابية التي يجتمعُ فيها للنسج روح الشعر وشكل النثر، كالشعر المنثور و«قصيدة النثر» وما إلى ذلك. يقول سيد قطب:

«ليس في كلِّ لحظة يجد الإنسان نفسه في حاجة لأن يقول الشعر، ولا في كل حالة يحس الدافع إليه. هناك تجارب شعورية معينة تثير انفعالات شعورية خاصة لا يستنفدها إلا التعبير الشعري. وقد لا يكون صاحبها من القادرين على النظم فيعبّر نثرًا، ولكنه شبه موزون من ناحية الإيقاع، ومشحون بالصور والظلال التي هي ميزة الشعر الكبرى. فما هي هذه التجارب؟

هي التجارب التي ترفعُ الإنسان فوق مستوى حياته العادية، والتي ترتفع فيها درجة الانفعال - أيًا كان نوعه - حتى تصل إلى درجة التوهج والإشراق، أو قريبًا منهما. وكلما كانت درجة الانفعال أقوى جاء التعبير أجود بالقياس إلى الشاعر الواحد بطبيعة الحال»29.

الشعر إذاً ناتجُ الانفعال. والانفعالُ يخرج غالبا عن سيطرة العقل والوعي. لذلك يصدر الشعر، غالبا، مزيجًا من الوعي واللاوعي، من الشعور واللاشعور. وكلما كان الأمر كذلك كان الشعر أبلغَ وأجودَ وأقدرَ على الإثارةِ، لأنه أصدقُ وأوفى لطبيعته الفنية.

والانفعال أقربُ إلى الهوى، وأبعدُ عن الرويّة والانضباط؛ فهو إذاً أقربُ إلى الشرِّ، وأدنى إلى تحريك القوتين الغضبية والشهوية في الكائن البشري؛ فهل يعني ذلك صحةَ ما قاله الأصمعي معلقًا على ضعف شعر حسان بن ثابت الإسلامي: «الشعر نكدٌ بابه الشر، فإذا دخل في باب الخير ضعُف»30، وصحة ما ذهب إليه أفلاطون من أن الشعر أكثر مادته العواطف التي تغري بالخمول والرذيلة والفساد، وتثير في النفس الجزء الحقير، وتؤيده وتغذيه فتعرض العقل ذاته للدمار31، ولا تستقيم الحياة في الجمهورية الفاضلة إلا إذا طرد منها الشعراء؟.

لو صح هذا الرأي لكان علينا أن نخرج الشعر من دائرة الفنون الأدبية التي يُعوّل عليها في موافقة مقاصد الشريعة الإسلامية والإسهام في تجسيدها؛ ولكن هذا الرأي يفتقر إلى الدقة، فهو يفتقرُ إلى الصحة وإن قام على أساسٍ من الواقع. إن الانفعال ليس شرًا كله. وإن الشاعر لا يفقد وعيه كاملا، ولا يفقد رقابة عقله وضميره وذوقه وحكمته وهو يحوّل انفعاله إلى نسج بالكلمات. وإن كل إناء ينضح بما فيه؛ فمن كان انفعالُه خيِّرا كان ناتِجُهُ من الشعر كذلك، ومن كان انفعالُه زائغًا عن الخير والحق جاء ناتِجُه من الشعر زائغًا مثله.

لا بد أن يبقى الشعر وفيا لطبيعته الانفعالية وإلا فقدَ كثيرًا من قدرته على الاستهواء والاستجاشة والإثارة. ذلك «أن الشرط الضامن لحلاوة الشعر وجودته ولطف مدخله إلى القلب هو أن يتناول من المعاني والأغراض ما للقلوب علوق به وللنفوس ارتياحٌ إليه، وللطبائع اهتزازٌ له واستئناس به، وأن يكون مبعثه الانفعال والتجربة ومصدره القلب أي العاطفة، وليس العقل الواعي والفكر الجاف والصدق الصريح المباشر. وهو ما يعني أن شعر حسان الإسلامي- إذا صح أن يحكم عليه بالضعف- لم يقتبس من حرارة الانفعال بالتجربةِ ما يكفي لبث الحرارة في حناياه، ولم يتضمن من المعاني اللائطة بالنفوس ما يكفي لحملها على استجلائه والإحساسِ بما ينتظر من الشعر عادة من المتعة والطرب. وهذا الإحساس قد يستجيب لداعي الشر أكثرَ من استجابته لداعي الخير والدين، باعتبار أن النفوسَ ميالةٌ إلى الشهوات، نزاعة إلى ما يريحها ويمتعها ولو كان عاقبتُه المرارة والشقاء، بينما يدعو الدينُ إلى مجاهدة النفس وقمع الشهوة الحرام والتزام ما عاقبته السرور ولو كان مرّا شديدا على النفس. ولكن هذا لا يعني صحة ما ذهب إليه الأصمعي، فإن للنفوس ميلًا كذلك إلى ما هو خير وحق، ولها طرب واهتزاز لما يوافق نزوعها إلى إدراك الحقائق وبلوغ مراتب التفوق والكمال بألوان المكارم والفضائل الشعورية والسلوكية، ولعل أكثرَ الشعر الخالد الذي ما زال يهزنا ويثير إحساسنا بالجمال النفيس، هو ما تضمن هذه الحقائق والأحاسيس؛ وإذا أخذنا المتنبي مثالا فإننا نجد أكثر شعره الجيد في باب الخير والحق، وهو ما يثبت ضعف مقولة الأصمعي، ولعل حقها أن تقوّم لتصير: (الشعر انفعال وطبع، بابه القلب، فإذا دخل في باب العقل لان)»32.

بعد مراعاة الطبيعة الفنية للشعر والفنون الوجدانية الشبيهةِ به، يمكن أن نتوقعَ من الشعر إسهامًا كبيرًا في خدمة مقاصد الشريعة الإسلامية وفقا للإمكانات والاحتمالات الآتية:

أ)- أن يكونَ الشاعر غيرَ ممتلئ بالقيم والمشاعر الإسلامية؛ ولكنه يُعبّر بصدق واقتدار عن المشاعر الإنسانية الرقيقة الراقية، وعن المواقف والقيم النبيلة اللائقة بإنسانية الإنسان؛ فيكون من شأن ذلك أن يحقق مقصدا نفسيًا وآخرَ حضاريا تُعنى بهما الشريعة الإسلامية أيما عناية، وهما «التنفي» و«التهذيب».

إن الفنون التعبيريةَ أكثر ألوان الفن قدرة على الاضطلاع بمَهمة التنفيس، أو التطهير هذه. فإن الأدب في أوجز تعريف له هو «تعبير جميل عن تجربة شعورية»؛ ولا شك أن التعبيرَ هو في ذاته لون من التنفيس، فكيف إذا اجتمع إليه الجمال والمشاركة الوجدانية لتجربة ما؟

إن التنفيسَ الذي يطلق المشاعر من انحباسها، والخواطر من استغراقها في وساوسها، ويحرر الطاقات ويدفعها في طريقها، هو مطلبٌ من مطالب الدين ومطالب الحضارة؛ إذ لا تقوم الحضارة إلا على الأسوياء الأقوياء مشاعرَ وعقولاً. ولا شك أن الأمة التي تُعنى بتوفير هذه المطالب التنفيسية الترفيهية بمختلف أشكالها وألوانها هي الأمة القادرة على حمل مشعل الحضارة: المشعل الذي يحمله الإنسان السوي القوي، المتوازن المتفاعل.

أما التهذيب، فلا شك أن الشعر إذ يتناول، بأسلوبه الرائق الممتع، ألوانا من المواقف النبيلة، والقيم الإنسانية الشريفة، يتغلغلُ أثره في النفوس، فتفيض منه عليها مشاعرُ كريمةٌ وأشواقٌ نبيلة، إلى نمط من الحياة الفردية أو الاجتماعية أو الحضارية تستأنس به الفطر السليمة، وتطيبُ به الحياة البشرية.

فإذا كثُر الشعراء الذين من هذا القبيل حظيت البشريةُ برصيد وافرٍ من أسباب التنفيس المولّد للتوازن النفسي والعقلي، المانع من تدفق الشُّحن الغضبية والشهوية في مجرى الجريمة؛ حيث تهدد النفس والدين والعقل والمال والعرض. وحظيت البشرية أيضا برصيدٍ وافر من أسباب الرقي الأخلاقي والعقلي، حيث ترتفع الهمم إلى طلب الحياة الإنسانية الكريمة الراقية، وتتسامى عن التوافه والدنايا والرذائل؛ طلبًا للمروءة والعزة والمجد. وكم خلّف الشعرُ في تاريخه الطويل من آثار طيّبة في النفوس، وكم علّم من مكارم الأخلاق، ودفع إلى جلائل الأعمال!

لذلك، كان من رأي العقاد أن لا نحمَّل الشعر رسالة اجتماعية ولا أخلاقية ولا سياسية، ولا ننتظر منه منفعةً دينية أو دنيوية مباشرة؛ بل نطلب منه أن يصدرَ عن نفس صحيحة وكفى، فإن ذلك جدير بأن يجدي علينا منافعَ جمة. قال: «فاطلب من الشعر أن يكون عنوانًا للنفس الصحيحة، ثم لا يعنيك بعدها موضوعه ولا منفعته، ولا تتهمه بالتهاون إذا لم يحدثك عن الاجتماعيات والحماسيات والحوادث التي تلهج بها الألسنة، والصيحات التي تهتف بها الجماهير. وهات لنا الشاعر الذي ينظم قصيدة واحدة يحبب بها الزهرة إلى المصريين، وأنا الزعيم لكَ بأكبر المنافع الوطنية وأصدق النهضات وأهنأ مسرات المعيشة ومباهج الحياة. فإن أمةً تحب الزهرة، تحب الحدائق، وتحب التنظيم والتنسيق، وتحب النظافة والجمال، وتحب العمارة والإصلاح، ولا تطيق أن تعيش في الفاقة والجهل والصغار. وهات لنا الشاعر الذي يعلمنا الغزل الجميل وأنا الزعيم لك بأمة من الرجال الكرماء والنساء الكرائم والأبناء النجباء يدرجون في حجر العطف والذوق والصحة؛ لأن الشاعرَ الذي يعرف كيف ينظم الغزل يعرف كيف يقوم المرأة بقيمتها في الأمة، وكيف يهذب البيوت ويشرع القوانين والدساتير. بل هات لنا الشاعر الذي يعلمنا اللهو والطرب وأنا الزعيم لك بأمة تعيش عيش الآدميين، ولا تسخر تسخير الأنعام، وتعمل ليلها ونهارها للقوت الحيواني وضرورة الأجسام»33.

ب-أن يكون الشاعر ممتلئًا بالتصور الإسلامي للحياة، والقيم والمشاعر المتولدة عن هذا التصور؛ فهو يحيا بها وهي تحيا فيه، وهو يتدفق بها تدفقا طبيعيا عفويا بلا تكلف ولا قصد. فحينها يُنتظَر من الشعر أن يكون على تناغم تام مع مقاصد الشريعة الإسلامية بتصنيفاتها المختلفة، وأن يُسهم إسهامًا عظيمًا لا يقوم مقامَه غيرُه في تحقيق هذه المقاصد؛ فإن هذا التصور هو، كما وصفه محمد قطب، هو أشمل تصور عرفته البشرية، وإن الفنَّ الذي يمكن أن ينبثق عنه هو أرفع فن تستطيع أن تنتجه البشرية34.

والشعر ألصق الفنون بالنفس البشرية، وأقدرها على إطراب القلوب والأسماع وإثارة الانفعال؛ فإذا امتلأ الشعر بما امتلأ به صاحبُه من المشاعر الزكية والقيم النبيلة في مختلف شؤون الحياة، لك أن تتصوّر مقدارَ ما ستجنيه البشرية عمومًا، والأمة خصوصًا، من الآثار التي يُحدثها هذا الشعر في النفوس، وألوان التهذيب الذوقي، والتطهير النفسي، والتزكية الروحية، والتربية الحضارية، التي سيغنمها المجتمع، ويتخذ منها زادًا في طريق بناء الشخصية السليمة المتوازنة للفرد، والشخصية القوية المتكاملة للأمة، طريق التوحيد والتزكية والعمران.

رأسُ التوحيد حب الله تعالى، وحب خاتم أنبيائه محمد ﷺ. وقد امتلأ شعراء كثيرون بهذا اللون السامي من الحب، فتدفقوا شعرا رقيقا وراقيا يُحلّق في سماء من المشاعر غير مشوبة بغبار. هذا الشعرُ جديرٌ بأن ينقل عدواه إلى قارئيه فيمتلئوا بحب الله كما امتلأ أصحابه، ولو لمدة من الزمن، ويمتلئوا بالشوق إلى الرسول المصطفى كما امتلأ أصحابه، ولو في قطع متناثرة من الزمن.

والشاعرُ الذي يصدر في شعره عن الشعور الإسلامي بالحياة، والتصوّر الإسلامي والإنسان والكون، صدورا عفويًا انفعاليًا عميقًا قويًا، سيصدر عنه حتماً أزكى ما يمكن أن يصدر من مشاعر، وأنبل ما يمكن أن يصدر من مواقف، وأغنى ما يمكن أن يصدر من معارف، وأرقى ما يمكن أن يصدر من حِكم. وحين تقرأ ديواناً لشاعر من هذا القبيل، كالشاعر الهندي المسلم الكبير محمد إقبال، على سبيل المثال، ستخرج منه وقد امتلأت بالمشاعر والقيم الإسلامية الإنسانية العظيمة الخالدة، وستشعر بأن الشعر ليس كما يُشيع عنه غير العارفين طبيعتَه وحقيقتَه وفضلَه نافلةً من القول، ولوناً من الترفيه أو اللعب أو التهويم في أودية الخيال، وإنما هو حياةٌ كاملة تنبض بنبض قلب الشاعر وتتدفق بأنوار عقله؛ فإذا كان الشاعر مسلما زكيا، ومفكرا عارفا ذكيا، فإن الغنيمة ستكون عظيمة للغاية: غنيمة تحفظ الدين والعقل والنفس، وتُسهمُ، بطريقة أو بأخرى في حفظ المال والنسل والعرض. لا نقول ذلك تعسفًا ولا تظرّفا، بل على سبيل الحقيقة: إن من تمتلئ نفسه بهذا الشعر الذي يتدفق بالرقة والرحمة، والحب والحكمة، ويُحلّق في عالم الصفاء الروحي والرقي الفكري، بعيدًا عن ضجيج الصراع على الدنيا، وحضيض التهافت على مطالب الغريزة، سيكون جديرا بأن يُحافظ على دينه ودين غيره، ونفسه ونفس غيره، وعلى عقله وماله ونسله وعرضه، كذلك؛ إذ الأمر يتعلق بمنظومة كاملة متفاعلة متكاملة، فمن حافظ على دينه حافظ على نفسه، ومن حافظ على نفسه حافظ على عقله وماله، ومن حافظ على عقله حافظ على نسله وعرضه، بالمفهوم الواسع للعرض، ولا عرض لمن سخف عقله، وزلّت به في الرذيلةِ قدمه.

ج)- أن يكون الشاعر ممتلئاً بالقيم الإنسانية الفاضلة، أو القيم الإسلامية العالية، ولكنه يُسخِّر الشعرَ لخدمة هذه القيم تسخيرًا، ويمارس نظم الشعر أو غيره من الفنون الوجدانية ممارسة واعية يحركها القصد لا الانفعال، وقد يشوبها التكلف وتُعوزها حرارة الوجدان. هنا يُفتحُ الباب واسعًا لخدمة مقاصد الشريعة الإسلامية كلها على النحو الذي يتوخاه الشاعر ويقصده؛ إذ يمكن الشاعر أن يستثمر ما في الشعر من قدرة على الإطراب، وسلطة على الأسماع والقلوب بما يملك من فنون التطريب والتخييل، فيقنع القارئ بما يشاء من الأفكار، ويشحنه بما يشاء من المشاعر، ويدفعه إلى ما بشاء من الأفعال والمواقف، وقد قال حازم القرطاجني في تعريف الشعر: «الشعر كلام موزون مقفى، من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها ويكره إليها ما قصد تكريهه، ليحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها، أو متصورة بحسب هيئة تأليف الكلام، أو قوة صدقه أو قوة شهرته أو بمجموع ذلك، وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من الإغراب»35.

أجل، يمكن للشعر أن يكون كذلك. وقد كان للنبي محمد ﷺ شعراءُ يمدحونه ويهجون المشركين وينصرون الإسلام ويبثون الحماسة في قلوب المسلمين لنصرة الدين. وكان يشجعهم على ذلك ويثني عليهم. وكان الخلفاء والأمراء والعلماء يجدون في الشعر أنجعَ وسيلة للوعظ والحث والتأديب بعد الوحي الشريف. وما تزال الأمم إلى الآن تتخذُ من الشعر وسيلة فاعلة في بث المشاعر الدينية أو الوطنية أو القومية، وتلقين التعاليم الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية، وما يزال الخطباءُ يترنمون في خطبهم بأبيات من الشعر يهزّون بها المشاعر، ويبلّغون من خلالها ألوانًا من الحكمة.

غير أن الشعر الذي يكون وليدَ الوعي والقصد والصنعة، أو حاملَ رسالة الوعظ والإصلاح والدعوة، بالتزام ذاتي من الشاعر، أو استجابة لإملاء أو اقتراحٍ أو ضغط مادي أو نفسي من المحيط، غالبًا ما يخرج وهو مفتقر إلى حرارة الوجدان، ومن ثم إلى روح الشعر، ومن ثم إلى سلطة التأثير في القارئ، ومن ثم إلى قوة الإسهام في تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية.

والنقاد مختلفون في تقدير مدى ضرورة الصدور عن الانفعال في قول الشعر وما هو من قبيله من الفنون الأدبية الوجدانية؛ ولكن أكثرهم، على ما يبدو، يلحّون على ضرورة مراعاة الطبيعة الوجدانية للشعر؛ فالشاعر عند العقاد ليس من يزن التفاعيل ولا من يزوّق الألفاظ أو يخترع الخيالات، بل هو من يَشعُر ويُشعِر36. وحضور الفكر في عالم الشعر مشروط فيه، عند سيد قطب، أن يكون «مقنّعًا غير سافر، ملفّعًا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبًا في وهج الحس والانفعال. أو موشّى بالسبحات والسرحات! ليس له أن يلج هذا العالم ساكنًا باردًا مجرّدًا!»37.

وأيّا ما تكن الآراء في هذه المسألة؛ فإن طبيعة الشعر لا تحتمل تحميله رسالة دينية أو أخلاقية أو اجتماعية أو سياسية أو فكرية مباشرة واعية صريحة، يلتزم بها الشاعر التزامًا، أو يُكلَّف بها تكليفًا، كما هو الشأن في الفنون الأدبية الإقناعية كالخطبة والمقالة.

إن الشعر انفعال. الشعر «تعبير عن اللحظات الأقوى والأملأ بالطاقة الشعورية في الحياة.»38 فإذا شاءت الأمة شعرًا رفيعًا خادمًا لمقاصد الإسلام العليا توحيدًا وتزكية وعمرانًا، يُسهم في حفظ الضروريات وتلبية الحاجيات وتحسين نمط الحياة، ويبث في النفوس قيم الحرية والعدالة والكرامة والتسامح والمساواة، فليكن لها عدد وافر من الشعراء قد امتلأوا بروح الإسلام وتشرّبوا قيمه وتعاليمه، كي يتنفسوا به شعراً عفويًا بديعا مؤثرا متدفقا بالحق والخير والجمال. أمّا أن تكون الأمة على حال من الإعراض عن روح الإسلام فكرا وخلُقا وشعورا، بل على حال من التبعية لغيرها تصوّرا للحياة، وتنظيرا للفنون والعلوم والفلسفات، فإن ذلك سينتج حتما شعرا هادما لمقاصد الشريعة لا خادما لها، لاسيما وأن الشعر، كما سبق الذكر، أميل إلى الهوى وأطوع للشر. وهذا ما حصل فعلًا، فإن أكثر شعراء الأمة الإسلامية الآن على مذاهب الغربيين في تصور وظيفة الشعر: لعبٌ بالكلمات، وتهويٌم في الخيالات، وتجريب في الأشكال، أو تعبير عن الأحلام الزائغة، والشهوات الهائجة، وليس له كبير عناية بالقيم الإنسانية العليا، والمقاصد الوجدانية الراقية.

1.4.الأدب القصصي: القصة والرواية والمسرحية

الأدبُ القصصي مختلف في طبيعته وشكله عن الأدب الوجداني، وإن شاركه المادة والغاية. ولكليهما مدخل إلى النفوس لطيف، وسلطة عليها آسرة. وفي كليهما جاذبيةٌ مغرية بالاستثمار، وللطبيعة البشرية بكليهما تعلق وانجذاب.

للنفوس البشرية تعلق بالألحان والمحاكاة. هكذا قال أرسطو في الأقدمين39. والقصة إحدى أهم الوسائل المستعملة لأغراض الوعظ والدعوة والتربية وإقرار الحقائق الدينية، كما هو الشأن في القرآن الكريم. فللقصة إذاً أهمية بالغةٌ في خدمة المقاصد الدينية، ولا يمكن الاستغناء عنها بحال. وللقصة في زماننا الراهن سلطةٌ وانتشار وخطر وشأن، فلا يصح الغفلة عنها والتهوين من شأنها في سياق العمل لبناء الإنسان المؤمن الفاضل المتوازن، الإنسان الذي جاء الإسلام لتحريره وترقيته وتنقيته، حتى يكون أهلاً لبناء حضارة التوحيد والتزكية والعمران.

ولا بد من معرفة طبيعة القصة كما عرفنا طبيعة الشعر. فالقصة مختلفة عن الشعر. و«إذا كان الشعر تعبيرًا عن اللحظات الخاصة في الحياة، فالقصة هي التعبير عن الحياة. الحياة بتفصيلاتها وجزئياتها كما تمر في الزمن، ممثلة في الحوادث والمشاعر الداخلية»40 .

وهنالك فارق آخر بين الفنين الأدبيين الكبيرين: الشعر والقصة. فالشعرُ، كما عرفنا، مبعثه الانفعال القوي، وهو لذلك تعبير عن الانفعال يمتزج فيه الشعور باللاشعور والوعي باللاوعي؛ أما القصة فهي «من عمل الوعي، ونصيب اللاوعي فيها محدود، وأثره لا يبدو على كل حال في التصميم الفني للقصة، ولا في التعبير عنها إلا بمقدار؛ فقد يكون له أثر في تلوين الشخصيات وتصوراتها وأفعالها؛ ولكن أثره ضعيف في التعبير عن هذه التصورات والأفعال، لأن التعبير في القصة يتم في حالة وعي كامل، لا كما يتم في الشعر في بعض الأحيان تحت تأثير تيارات لا شعورية تغمر الوعي وتغرقه لحظات»41.

وفي الفرقين كليهما ما يجعل القصة بأنواعها جديرة بأن تضطلعَ بوظيفة إنسانية نبيلة عظيمة، دينية وحضارية، فتصب في صميم ما تصب فيه مقاصد الشريعة الإسلامية؛ ذلك أن القصةَ متاحٌ لها أن تستوعب قطعة من الحياة ممتدة في الزمان والمكان فتعبّر عنها بتفصيلاتها ودقائقها، بأحداثها وعِبرها، وبأفكار شخصياتها ومشاعرهم، وبدقائق ما يعتمل في أنفسهم وأثر ذلك في أفعالهم ومواقفهم، وفي ما يصيب أوضاعهم من تبدّل وأحوال حياتهم من تحوّل. وتلك فرصة ثمينة لكاتب القصة كي يصوّر الحياةَ على النحو الذي يريد، ويوجّه الأفكار والمشاعر في الطريق التي يشاء، ويُحمّل قصته ما يشاء من الرسائل، ليحقق بها ما يشاء من المقاصد.

ثم إنه حُرٌ في اختيار الوقت الذي يباشر فيه كتابة القصة، فليس محتاجًا إلى باعث خارج وعيه وسيطرته. وهو حر في هندسة قصته وتوجيهها وفقا للرسالة التي يريد أن يحمّلها إياها، لأنه يكتبها بكامل وعيه. فليس بين القصة وخدمتها لمقاصد الشريعة الإسلامية سوى أن يُتاح لها الكاتُب صاحب الموهبة الفنية، والشخصية السوية، والتعلق بالقيم الإنسانية، والترفع عن النزعة المادية أو الحيوانية. فإذا أتيح لها كاتب مقتدر ممتلئ بالتصور الإسلامي للحياة، حصل التناغم التام بين تأثير القصة ومقاصد الشريعة الإسلامية بأي اعتبار تصنيفي أخذنا هذه المقاصد؛ لأن المقاصد تتعلق بالحياة البشرية الفردية والاجتماعية، والقصة تصوّر الحياة على امتداد زمني يكفي لتمثيل عمل الحياة في الإنسان وعمله فيها، وأثر الأفكار والقيم والمشاعر في الإنسان وأثره فيها؛ فللقاصِّ مطلق الحرية في توجيه القصة بأحداثها وشخصياتها ومضامينها من القيم والأفكار والمشاعر، ومآلاتها، في أي اتجاه يشاء.

الحد الأدنى من خدمة الأدب القصصي لمقاصد الشريعة الإسلامية ذلك التنفيسُ الذي ذكرناه ونحن نتحدث عن الشعر؛ فإن القصة، وإن لم تتضمن قيما إنسانية عالية، تستحوذُ على اهتمام القارئ جزءا معتبرا من الزمن، فتنفس عنه، وتصرف طاقته العصبية صرفا مأمون العواقب فتحول بين هذه الطاقة وما يضر به هو ذاته أو يضر بالمجتمع. ولنا أن نتصور أن شخصًا ما كان على وشك أن تحمله ثورته العصبية الغضبية على ارتكاب جريمة، فما منعه من ذلك سوى أن شغل نفسه بقراءة قصة شغلته عن مواصلة التفكير في ذلك، وفثأت غضبه بعد ذلك.

أما إذا كانت القصة حافلةً بالقيم الإنسانية النبيلة، والأفكار القيمة الحكيمة، والمشاعر الطيبة الخيّرة الرقيقة، والأشواق الزكية العالية الشريفة، محبوكةً في سياق الأحداث حبكًا لغويًا وقصصياً شيقًا مثيرا، فإن ذلك جدير بأن يُحوّل قارئها من حال إلى حال، وأن يملأه بالقيم والمشاعر التي ترقى به في سلّم الرقي الإنساني إلى المقام الذي يريده الله من عباده: مقام التوحيد وحسن الخلق ورفعة الذوق وعمارة الأرض. وكل ذلك هو من قبيل الجمال الذي تنشده الفنون الجميلة: جمال التعامل مع الخالق ومع الإنسان والطبيعة والكون كله.

قال ميخائيل نعيمة، في الإشادة بفضل الأدب عمومًا والرواية خصوصًا، وما يُحتمل أن يتركه الأدب من أثر في القارئ:

«فرُبَّ قصيدةٍ أثارت فيه عاصفة من العواطف، ومقالة تفجرت لها في نفسه ينابيع من القوى الكامنة، أو كلمة رفعت عن عينيه نقابا كثيفا. أو رواية قلبت إلحاده إلى إيمان، ويأسه إلى رجاء، وخموله إلى عزيمة، ورذيلته إلى فضيلة. تلك مزية قد خُصَّ بها الأدب. وتلك هي مملكة الأدب التي لا ينازعه عليها منازع»42.

ورُبَّ قائل يقول: ولكن واقع القصة عكس ذلك تماما؛ فرُبَّ رواية قرأها قارئ فقلبت إيمانَه إلحادا، ورجاءه يأسًا، وعزيمته خمولا، وفضيلته رذيلة، بما تتضمنه من تشكيك في عدل الله ورحمته وحكمته، وربما في وجوده، وبما تزيّنه من لحظات الضعف البشري استجابة لداعي شهوته واتباعًا لهواه، وبما تبثه في نفس القارئ من طباع تتسلل في غمرة الإثارة الفنية هي طباع التعويض عن الواقع بالأحلام، وعن العمل بالخيال، وعن التعامل الموضوعي مع الحياة إلى التعامل العاطفي أو الأسطوري الذي تغذيه هذه الروايات.

وله الحق في أن يقول ذلك، وقد قيل43؛ ولكن هذا واقع القصة في زمن ما، لظروف حضارية ما، وليس واقعًا مطلقًا مفروضًا على القصة.

لقد عرف العرب والمسلمون القصة قديما ولم تكن كذلك. وقد استعمل القرآن القصة، واستعملها النبي الأكرم ﷺ ولم تكن إلا كما قال ميخائيل نعيمة وسيلة تحويل من الباطل إلى الحق، ومن الشر إلى الخير، ومن القبح إلى الجمال.

أما ما صارت إليه الفنون القصصية في هذا العصر فلأن القصةَ الحديثة تولى تأسيسَها وتطويرها والتنظير لها وتوجيهها واستثمارها قومٌ تحوّلت بهم مسيرة حياتهم تجاه حضارتهم من الإيمان بالله إلى الإعراض عنه، ومن العناية بالقيم الروحية إلى الاستغراق في عالم المادة والمتعة، ومن تحميل الفن رسالة جمالية إنسانية إلى إعفائه من كل رسالة سوى رسالة الإثارة الفنية، أو اتخاذه وسيلة لتحقيق أغراض نفسية أو مذهبية أو تجارية تقوم على إشاعة التمرد على القيم الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية، وتتخذ من تصوير لحظات الهبوط لدى الكائن البشري فرصة للاستغراق في طلب اللذة، أو الإغراء بالرذيلة.

ومع أن الغربيين أنفسهم أبدعوا روايات وقصصًا كثيرة على قدر عال من السمو في معالجة الحياة البشرية، والدفاع عن القيم الإنسانية، فإن القصة الغربية صدرت عمومًا عن تصور غير التصور الإسلامي للحياة، وتقلّبت في أطوار شابها كثير من التخبط والزيغ عن القيم الجمالية اللائقة بكرامة الإنسان. فلمّا أخذ الأدباء في العالمين العربي والإسلامي أنموذج القصة الغربية، وشرعوا في استيراده ترجمةً وتأليفاً، لم يقع اختيارُهم إلا نادرا على النماذج الراقية من هذا الفن الخطير؛ إذ كان أكثر ما ترجموه وما احتذوه في كتاباتهم القصصية تلك القصص التي تغرق في نزعة رومنسية مفرطة العاطفية والمثالية، أو نزعة واقعية مفرطة في النزول إلى درك الشهوانية. وكان كثير من النقاد ينظّرون لهذه الاتجاهات الفاسدة في كتابة القصة ويشجعون عليها.

قال محمد قطب، بعد أن تحدث عن التحول من موجة «الرومانتيكية» الحالمة الهاربة من الواقع السيئ إلى موجة الواقعية المتطرفة الناقمة على النظرة المثالية الأخلاقية للإنسان والكون:

«البطل في القصة الحديثة هو الشخص العادي،لا الشخص المتميز. وهو الشخص العادي لا في حالات ارتفاعه، ولا في جميع حالاته مع التسوية «النزيهة» في إبراز مكامن الضعف ومكامن القوة، وإنما هو الشخص العادي معروضًا - في الغالب- من نقطة الضعف المسيطرة عليه، ومرسومة لوحاته من هذه الزاوية وحدها أو بصفة غالبة. مع الحرص على إبراز معنى معيّن: هو أن ساعات الارتفاع قليلة وعديمة الأثر في واقع الحياة، وأن الذي يؤثر في خط الحياة فعلا هو لحظات الضعف الكثيرة المتجمعة في مجموع الأفراد. وأن الشخصَ الذي يشذ عن هذا الخط - لخلل في نفسه يجعله يؤثر الارتفاع - سرعان ما يتحطم ويندم على ما كان منه من شذوذ وغفلة.. ويسير مع القطيع! أو ... ينتحر! وهذا كله غير الأدب الجنسي، الذي يصور الحياةَ كلها شهوة جنس عارمة تبحث عن المتاع المسعور، والذي تخصص له أدباء كاملون (...) زاعمين أنهم كتاب «واقعيون»، وأن هذا هو الواقع الحقيقي للإنسان»44.

إن هذا النوع من الأدب القصصي، وهو الشائع الآن، يهدم مقاصد الشريعة ويطعنها في الصميم. إنه وسيلة التحريض على الجريمة التي تهتك العرض، وتسفك الدم، وتهدر العقل، وتفسد الدين، بما تزيّنه من الانحدار، وما تسؤّغه من السقوط، وما تغري به من الرذيلة؛ ومعلومٌ أن الرذيلة منظومة متشابكة متآلفة؛ فالحب المنفلت عن القيم يدعو إلى الفاحشة، وهي هتك للعرض؛ واستشراء الفاحشة مؤثر في استقرار الخلية البشرية التي يتماسك بتماسكها الفرد والمجتمع، وهي الأسرة، ما يضر بمصلحة ضرورية هي حفظ النسل. والإسراف في عالم الشهوة والمتعة دون مراعاة لأية قيمة أخلاقية سيؤدي حتما إلى استسهال ارتكاب الجريمة، سرقة كانت أم اغتصابا أم قتلا أم انتحارا أم إغراقا في عالم السكر والخدر، وفي ذلك تهديد خطير لمصالحَ ضرورية، هي حفظ النفس والعقل والمال والعرض.

ومعلوم أن من الأدب القصصي ما يمثَّل تمثيلاً مسرحيًا أو سينمائيا فيصبح الأثر بهذا التمثيل أشد، والخطر أعظم؛ ولسنا نبالغ حين نرى أن الأمة الإسلامية لم يدخلها من الشر المفسد لأخلاق أبنائها، الموهن لعزائمهم، الفاتك بعوامل القوة النفسية والاجتماعية والفكرية والدينية فيهم، ما دخلها من هذا الباب: باب القصة التي تجرد قارئها من حيائه وورعه وإيمانه، ثم التمثيلية المسرحية أو السينمائية التي تتولى الإجهاز على ما بقي من القيم الأخلاقية في الأسرة، فإذا بمنظومة الحياة الغربية القائمة على التحلل والإباحية في العلاقات بين الجنسين، وعلى ملاحقة المتع الدنيوية والصراع عليها، وعلى استبعاد الدين من التأثير في المجتمع أو السخرية منه ومن ممثليه، يُفتَح لها الباب على مصراعيه لتحل في كل بيت، وينتشر أثرُها شيئًا فشيئًا حتى تكاد أن تقضي على كل خصوصية ثقافية أو حصانة دينية.

إن هذا النمط من الفن ليس له من الجمالِ إلا حظ شكلي يسير، مع أنه ينتشر فينا باسم الجمال والفن. إن القيمة الجمالية لأي شيء يراعى في تقديرها ما يُحدثه ذلك الشيء من أثر طيب أو خبيث في واقع الناس. فما كان مصدرا للذة عارضة ثم شقاء طويل، أو نشوة عابرة ثم قلق أو ضجر شديدين، لا يمكن أن يُعدَّ جميلا، ولا يمكن أن يُعدَّ الفن الذي يتلبس به من الفن الرفيع.

الجمال منظومة قيم. والفن الجميل الرفيع هو الذي يصدر عن هذه المنظومة ويحترمها. وأول قانون في هذه المنظومة هو التوازن: التوازن بين الشكل والمضمون، والتوازن بين الحس والروح، والتوازن بين جوانب الحياة المختلفة فلا يطغى جانب على آخر.

في الحب جمال وفي الجنس أيضًا؛ ولكن مبدأ التوازن والتناسق يشترط في هذا الجمال أن يندرج ضمن منظومة الجمال العامة، ويحتل مكانه لا يعدوه ويأخذ نسبته لا يتجاوزها، وإلا تحوّل ذلك الجمال إلى قبح.

الحياة الإنسانية أوسعُ من أن يستغرقها حبٌ أو جنس أو أية متعة من متع الجسد والعاطفة بعيدًا عن عالم الروح، والفن معبّر عن الحياة فهو أوسع كذلك. يقول محمد قطب:

«والفن - لا شك - أوسع من عالم الجنس لأن الحياة أوسع وأرحب من أن تنحصر في هذا النطاق. وحين «يُحرَمُ» الناس من متعة الشهوة في عالم الفن - ولا حرمان في الحقيقة للإنسان المترفع، الذي يتعوّد حسه على النظافة في كل شأن من شئون الحياة - فعليهم أن يتعوّدوا تذوق مستويات أعلى من الجمال: المستويات الفسيحة الرحيبة، التي تشمل الحياة في نطاقِها الأوسع، والتي تعوض عن الجمال الأصغر الذي تفوته بالجمال الأكبر الذي تسعى إلى تحقيقه: جمال «الخير» وجمال «الحق» وجمال «العدل»، وجمال إقامة الحياة البشرية على هذه المعاني الجميلة كلها، والنضال المستمر في سبيل هذا الهدف، الذي يتصل - حين يتحقق- بسنن الكون كله والحياة. ومراعاة «التناسق» ذاته -وهو عنصر من عناصر الجمال الكوني- تقتضي أن تكون رقعة الجنس في مكانها الصحيح من لوحة الفن، التي هي في الواقع تصوير جميلٌ موحٍ للوحة الحياة»45.

الأدبُ القصصي مثله مثل الأدب الوجداني؛ قالبٌ قابلٌ لأن تحمّله ما تشاء. وسيلةٌ قادرةٌ على أن تبلغ بها من المقاصد الطيبة أو الخبيثة ما تريد. الشأن في الكاتب لا القالب. في الغاية لا الوسيلة. فكلُّ إناء بما فيه ينضح، وعلى الأمة أن تنجبَ أدباءَ يمتلئون بقيمها، ويحملون روحها، لكي يتسنى لها أن تجعل من الأدب القصصي سلاحًا من أسلحتها في مقاومة الشر، وتصحيح الرؤى، وتهذيب المشاعر، وترقية الذوق الفني والاجتماعي والحضاري.

في وسع القصة أن تقدّم نماذج من الحياة مغرية بالاحتذاء، تُحفظ فيها الضروريات والحاجيات والتحسينيات. وفي وسع القصة أن تبثّ في نفوس قرائها وضمائرهم ما يُشيع فيهم قيم الحرية والكرامة والعدالة والتسامح والمساواة. وفي وسع القصة أن تصوّر النماذجَ البشرية والاجتماعية والحضارية التي تقدّم القدوة في بناء إنسانِ الحضارة المثلى: إنسان التوحيد والتزكية والعمران. فالقصةُ ليست ترفيها فحسب، وليست تحسينا وتهذيبا للحياة لا غير؛ بل هي وسيلة لما هو أبعدُ من ذلك وأوسع: إنها تُسهم إسهاما قويا في تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية كلها، حين تكون من الجمال والرقيّ والغنى والتوازن والسمو بحيث تصوّر نمط الحياة اللائق بالبشرية، وتغري به.

ومن المؤسف حقًا أن الأمة الإسلامية اليوم، لا تملك من كتَّاب الأدب القصصي الكبار الذين يصدرون عن التصور الإسلامي للحياة، إلا القليل. وأن لواء هذا الفن الخطير يحمله من لا رسالةَ لهم سوى متابعة الغربيين في مذاهبهم، أو مجاملة القراء في ما يشبع أهواءهم، أو إشباع رغباتهم الذاتية في التمرد أو المتعة أو الشهرة؛ فإذا الأدب القصصي غارق في المضامين النمطية التي ارتبطت بها القصة الحديثة: التجارب الغرامية، والإثارة الجنسية، والجرأة على المقدّس تحت عنوان حرية الإبداع واقتحام المسكوت عنه؛ وكل ذلك خيانةٌ للجمال بمعناه الحق، وخيانةٌ لروح الإسلام تبعا لذلك، وخيانةٌ للإنسان الذي جاء الإسلام لتحريره وترقيته وتكريمه.

2.4.الأدب الإقناعي: الخطبة والمقالة

الأدب كلمة بليغة مؤثرة، مصدر بلاغتها متانةُ نسجها، ودقةُ عبارتها، وحسنُ بيانها عن المراد، وحلاوة إيقاعها في الأسماع، وقوة مضمونها من الأفكار، وحرارة مشحونها من المشاعر؛ ثم تختلف الفنون الأدبية بعد ذلك في خصائص شكلية أو أسلوبية معيّنة.

ضمن هذه الفنون ما يمكن أن يُطلَق عليه «الأدب الإقناعي». فالأساليب الأدبية كما يتصورها حازم القرطاجني46 نوعان: إقناعي، وسيلته تقرير الحقائق بالحجج بما يحمل السامع على التصديق. وتخييلي، وسيلته - كما يوضح مصطفى الجوزو - «إلقاء الشاعر خيالات وصورا، يستعين لها بالفنون البيانية، فيؤثر في السامع تأثيرا نفسيا تطهيريا، بسبب ما يتراءى له وكأنه حقيقة»47.

والتخييلي أكثر حظًا من الفنون الأدبية، وأملك سلطةً على المتلقي؛ لذلك يستعين به الأدب الإقناعي بين الفينة والفينة؛ ولكن طبيعته الإقناعية تأبى عليه المبالغةَ في ذلك. ومن أبرز الفنون الإقناعية: الخطبة، والمقالة.

ووظيفة الفنون الأدبية الإقناعية واضحة من العنوان الذي صنفت في إطاره: الإقناع. وما دام الأمر يتعلق بالإقناع فإن هذه الفنون هي أكثر الفنون قابلية للاضطلاع بمَهمة البناء النفسي والفكري والأخلاقي والذوقي للأفراد، في سبيل الإصلاح الاجتماعي والديني والحضاري للأمة. إنها المَهمة التي يضطلع بها هذان الفنان الأدبيان اضطلاعًا مباشرًا صريحًا وواعيًا، شرط توافر المهارات البيانية الكافية، أسلوبيةً وفكرية.

ويعني ذلك أن كلَّ موضوعات الحياة وقضايا الدين والمجتمع والحضارة قابلةٌ لأن تكون مادةً لهذين الفنّين، وما هو من قبيلهما. ويعني ذلك أن مقاصدَ الشريعة الإسلامية بكل تصنيفاتها صالحةٌ لأن تكون هدفاً للأدب الإقناعي؛ فالمواعظ البليغة، والخطب القوية، والمقالات المحكمة البناء الفكري واللغوي، والتغريدات البديعة على شبكات التواصل الاجتماعي، مجالاتٌ واسعة للنشاط العقلي الفني في سبيل تحقيق المقاصد العليا للإسلام، وأراضٍ خصبةٌ لزرع القيم الفاضلة وغرس مقوّمات بناء الإنسان الكوثر -على حد اصطلاح طه عبد الرحمن48. الإنسان الذي تتكاثر فضائله وتزكو آثاره: إنسان التوحيد والتزكية والعمران.

الخطبة، على سبيل المثال، وسيلةٌ فاعلة جدا في الدعوة إلى الحفاظ على الكليات الخمس للمصالح الضرورية، لاسيما الدين. والمقالة وسيلة ناجعة في بناء الأسس التي تُحفَظ بها مصالحُ ضرورية، لاسيما العقل، وتُستجلب بها حاجات ماسة لاستقرار الحياة ورقيّها، بما تبثه من ألوان المعارف، وأنواع العلوم، وأصناف القيم، وبما توقظه من عزائم، وما تثيره من أحاسيسَ تعلو بقارئها إلى مرتبة الإنسان العارف الراشد صاحب الهمة الحضارية والذوق الجمالي.

الأدبُ الإقناعي أدب عملي. أدبٌ يحتاج إلى أن يُحدد أهدافه بدقة، ويُهندسَ خطواتِه بعناية، ويختارَ موضوعاته بمسئولية، ويمتلك أدواتِه بمهارة؛ حتى يستطيع أن يُغطي حاجات الأمة الدينية والعقلية والنفسية والروحية والأخلاقية والحضارية. وعندما نذكر الحضارية فنحن لا نعزلها عن الحاجات التي سبقتها فهي من مشمولاتها، ولكننا نحب أن نفردها بمزيد عناية كي توحي بحاجة الأمة إلى اضطلاع الأدب ببث القيم التي من شأنها أن تُسهم في النهوض الحضاري، كقيم العمل والاجتهاد والنظام والإتقان والموضوعية والعقلانية والتخطيط والعدالة والأمانة والدقة والذوق الجمالي حسًا وسلوكًا.

ومن اللافت للاهتمام حقًا أن الإسلام جعل في نظامه العبادي شعيرةً تعبدية اجتماعية معرفية تربوية في آن، هي: خطبة الجمعة. وهي فرصة إعلامية وتعليمية وتربوية لا مثيل لها في أيٍ من الأمم، ينبغي أن تُستثمر على أوسع نطاق وأنجع صورة. ولنا أن نتصوّر أمة من مليار مسلم أو يزيد، في صميم واجباتها الدينية أن يستمع مئات الملايين من أبنائها في كل جمعة إلى هذا اللون من الأدب الإقناعي. فلو أن خطباء الجمعة يكونون على قدر من التمكن الأدبي والنضج الفكري والوعي الحضاري، سيكون ذلك خيرَ ضامن لحصانة الأمة مما يزعزع استقرارها، وخير وسيلة لتحفيزها على حفظ مقاصد شريعتها التي هي مقوّمات وجودها. ولكن الواقع غير ذلك، ونسبة استثمارنا لهذه الطاقة المهدورة ضعيفة جدًا!

وفنُّ المقالة بأنواعه مغبونٌ حظُ الأمة منه أيضًا، على خطورة شأنه. فالذين يمتلكون حظا من البلاغة في كتابة المقالات قليلون، والذين يمتلكون مهارات البناء العلمي والفكري المتماسك المتناسق المشوّق المؤثر نادرون. فأكثر ما يُكتب اليوم من مقالات هو من النوع الركيك أسلوبًا، المتهافت فكرًا، القليل الأهمية موضوعًا، الغارق في التبعية مذهبًا ومنهجًا. ولقد كان العلماء والكتاب زمن ازدهار حضارتنا يجيدون الكتابة في مختلف العلوم والمعارف، فيؤثرون في الذوق والفكر معًا؛ أما الآن فيندر أن تجد من يُجيد الكتابة في العلوم الأدبية واللغوية ذاتها، فضلا عن الحقول العلمية الأخرى إنسانيةً ومادّية.

لقد كان جيل عمالقة الكتابة المقالية الأدبية والفكرية أمثال العقاد والرافعي والمنفلوطي وأحمد أمين وزكي مبارك وشكيب أرسلان وميخائيل نعيمة ومحمود شاكر وسيد قطب ومحمد البشير الإبراهيمي وغيرهم، يُسهمون بمقالاتِهم البليغة الشيقة العامرة بالمعارف الزاخرة بالقيم، في تهذيب الأذواق، وغرس القيم، وبناء العقل، وتسديدِ النظر، وتصحيح المفاهيم، وتنوير البصائر، وتثوير العزائم، وتحرير النفوس من قيود الخرافة أو الكسل أو الغريزة؛ لأنهم كانوا أدباء بالمعنى الكامل للأدب: المعنى الذي يجتمع فيه إحسانُ التعبير مع إحسان التفكير، وجمالُ العبارة مع جمال الفكرة والغاية. أما اليوم فقد أوشك الأدب أن يتخلى عن رسالته الشريفة في إشاعة القيم الإنسانية الجمالية والحضارية، بل أن يتنازل حتى عن قيمه الجمالية الشكلية المحضة المتعلقة بتجويد العبارة.

«كان الأدب في بداية العصر الحديث هو جملة الكلام الذي أجاد أصحابه تأليفه في شتى موضوعات الحياة وأغراض النفس والاجتماع. وكان الأديب هو المتميز بقدرته على التفكير والتعبير، والتخييل والابتكار، وغالبًا ما يكون له تأثير في مجتمعه، ودور في ترقية الأذواق وتغيير الأوضاع وتحريك الهمم إلى ما هو أعلى وأكرم (...) ثم جاء زمن آخر فإذا الفكر الحداثي يبسط سلطانه، والمناهج الحداثية تفرض هيمنتها، فإذا الأدب هو اللغة لذاتِها، لا لما تحمله من دلالة وتضطلع به من رسالة، وإذا الأدباء هم الذين ينشغلون بلعبةِ الكلمات وتأليف الخيالات المثيرة، وابتكار الألعاب اللفظية البهلوانية السخيفة، وإذا الدراساتُ الأدبية هي التحليلات البنوية أو السيميائية أو التفكيكية أو التأويلية لخطابٍ شعري أو سردي غير مفهوم، أو غير ذي عمق، أو غير ذي صلة بالحياة ... فما الذي سينتج عن ذلك سوى أن يعتقد العامة أن «الأدب» هو ذلك النوع من الكلام الذي يشبه الفراغ، وأن الأدباء هم ذلك النوع من البشر الذين لا ينتجون ولا يفيدون المجتمع إلا ببعض ما يُحتمل أن يُعينه على قتل الوقت وتزجية الفراغ»49.

هذه إحدى معضلات الفنون الأدبية اليوم، في علاقتها مع مقاصد الشريعة الإسلامية: انصراف الأدباء عن رسالتهم الأدبية الحضارية إلى حيّز ضيق من المشاغل اللفظية والشكلية أو العاطفية.

إن الحياة والأدب توأمان لا ينفصلان، كما يقول ميخائيل نعيمة50. فلا يحتقرُ الأدبَ إلا من يحتقرُ الحياة ذاتها. ولا يُفرّط في رسالة الأدب إلا من يُفرّطُ في رسالة الحياة ذاتها. إذا احتاجت الحياةُ إلى تجميل فالأدب من أهم وسائل تجميلها. وإذا احتاجت الحياة إلى رخاء فالأدب هادٍ للبشرية إلى تحصيل ما به رخاؤها. وإذا احتاجت الحياة إلى حفاظٍ فالأدب من أفضل الوسائل تحفيزا على حفاظ الإنسان على ضروريات حياته الحسية والمعنوية، لاسيما العدل والكرامة والحرية. ولا يضرّ هذه الحقيقة أن يكون الأدبُ وسيلة إفساد وهدم وإشقاء في مرحلة من مراحل التاريخ البشري، في هذه الرقعة الجغرافية أو تلك؛ فإن الأدب حامل، والمسئولية تقع على من يشحنه. سلاحٌ والمسئولية على من يحمله. وهو حاملٌ مقتدر، وسلاحٌ خطير؛ فمن الغبن وضعف الرأي أن تُهملَه أمةٌ تريد لحضارتها أن تنهض، أو تريد لحياتها أن ترتقي، أو تريد لمقوّمات وجودها أن تُحفظ؛ وذلك هو جوهر العلاقة بين وظائف الفنون الأدبية ومقاصد الشريعة الإسلامية.

خاتـمة

إن تصورنا للجمال والفن مرتبط بتصورنا للحياة والإنسان والكون، وليس من المنهج أن نستقي تصورنا لهما من منظومة فكرية وحضارية غير المنظومة التي ننتمي إليها. وقد تتقاطع المفاهيم والمنظورات والقيم في نطاق المشترك الإنساني الذي يُعزى إلى وحدة الفطرة الإنسانية؛ ولكن الاختلاف يبقى واردًا، بل أكيدًا؛ لذلك يجدر بالمسلم أن يتخذ له نظرية خاصة في فلسفة الفن وعلم الجمال.

إن الجمالَ في التصور الإسلامي لا يختلف كثيرًا عن الجمال في الفلسفة المثالية القديمة؛ ولكنه يتميز بالجمع بين المثالية والواقعية. أما مثاليته فهي الإيمانُ بأن مصدر الجمال المطلق هو الله في صفاته وأفعاله، وقد فاض هذا الجمال على مخلوقاته بما بث في الفطرة الإنسانية من قيم روحية وأخلاقية، وبما بث في الوجود المادي والحيويّ من مظاهر التناسب والكمال والانسجام والتنوع. وأما واقعيته فهي الإيمان بأن التلقي البشري لإيقاع الوجود فينا هو روح الإدراك الجمالي للوجود. ولمّا كان لهذا التلقي ظروفه وملابساته وجبت العناية بتهيئة الطريق إلى كيان المتلقي متفاعلاً فيه الحس والعقل؛ كي يحسن التقاط مظاهر الجمال الأسمى في هذا الكون، ولا يقعد به الحس عند مستوى من الإدراك والتذوق لا يعدوه.

إن أهم مبدأ في المنظور الإسلامي للجمال والفن هو الإقرارُ بأن الجمال يصدر عن الشكل كما يصدر عن المضمون، ويُدرك بالحس كما يُدرك بالعقل. ويوجد في المادة كما يوجد في السلوك والمعرفة، في الخير والحق. ومع أن هذا المنظور لا يُفرّط في جمال الصورةِ بل يحرص عليها أيما حرصٍ، فإنه يُعلي من شأن الجمال الباطن ويفضله على الظاهر؛ لذلك يطالب الفنون بأن تحفظ هذا التوازن بين الشكل والمضمون، بين الإمتاعِ باللذة الحسية، والإمتاعِ باللذتين الروحية والمعرفية. وهذا ما يفتح أمام الفنون بابًا واسعًا للإسهام في الرقي بالحياة الإنسانية، وفي إشباع الحاجات الضرورية والكمالية، الدينية والدنيوية والجمالية، للبشرية.

إن مقاصد الشريعة الإسلامية، تظلُّ، وإن اختلفت تصنيفاتها، مقاصدَ متعلقة بالحياة الإنسانية حسيةً ومعنوية: حفاظًا عليها من التلف، وصيانةً لها من الحرج والنكد والضنك، ورقيًا بها إلى مستوى من الجمال الحسي والمعنوي يليق بمقام الإنسان الذي كرّمه الله. وإن الأدب متصل بهذه الحياة الإنسانية أوثق اتصال؛ فهو معبّر عنها، وهو الناطق عن روح الإنسان فيها والواصل بينه وبين محيطه وأغراضه. لذلك لا يمكن أن نتصوّر الفنون الأدبية إلا وسائلَ في خدمة الحياة الإنسانية الراقية الفاضلة. وهنا تلتقي وظائف الفنون الأدبية مع مقاصد الشريعة الإسلامية.

وحين تؤدي الفنون الأدبية وظائفها الجمالية والرساليةَ المتناغمةَ مع مقاصد الشريعة الإسلامية؛ فإنما تؤديها بطريقتها الموافقة لطبيعتها. فالأدبُ الوجداني، وعلى رأسه الشعر، لا يقبل أن تُفرَض عليه أية رسالة خارجَ التدفق الطبيعي للمشاعر الذاتية المعبرة عن إحساس الشاعر بالحياة وموقفه من الوجود. والأدب القصصي يستوعب من الحياة أكثر مما يستوعبه الشعر، ولكنه لا يقبل أن يؤدي رسالته الاجتماعية أو النفسية أو الدينية والحضارية إلا بطريقة الفن، وهي الإيحاء والتشويق والإثارة ومهارة الحبك. أما الأدب الإقناعي فمَهمته أيسرُ وطريقُه أوضحُ في حمل الرسالة الدينية أو الفكرية أو الاجتماعية؛ ولكنه مطالَب بمستوى عال من البلاغة اللغوية والتماسك الفكري.

إن هذه الفنون، كلٌّ بطريقته، بإمكانها أن تُسهمَ أيما إسهام في الحفاظ على المصالح الخمس أو الست الضرورية، وهي الدين والنفس والعقل والمال والنسل والعرض، بما تملكه من سلطة الإغراء، وجاذبية العرض. وبإمكانها أن تكون خيرَ موجِّه للإنسان نحو تحقيقِ حاجاته المختلفة وتجسيد جموحاته في الحياة الكريمة. أما ما تضفيه هذه الفنون على الحياة من جمالٍ، وما تفتحه أمام مدارك الناس وأحاسيسهم من ألوانِ اللذة المعرفية والروحية، وما تُشيعه فيهم من رهافةٍ في الحس ورقي في الذوق، فهو الحد الأدنى مما ينتظر من الفنون الأدبية إسداؤه. غير أن ذلك مرهون بأن يلتزم الأدب مفهوم الأدب كما استقرَّ في المراحل المزهرة من تاريخ الحضارة الإسلامية، وأن يكون الأديب حاملا روح الإسلام صادرًا عن قيمه وموازينه صدورًا طبيعيًا ناضجًا لا تكلف فيه. أما أن يأخذ الشعر لعبًا بالكلمات، والقصة إثارة للشهوات، فتلك عواملُ هدم لمقاصد الشريعة وإفساد للحياة الإنسانية، ولا يقبل التصور الإسلامي للجمال والفن البتة هذا العبث وهذا الدمار باسم الجمال والفن.

لذلك نوصي، في ختام هذا الموضوع، بالتوصيات الآتية:

أن تُعنى المؤسسات البحثية والفكرية والدعوية مزيدَ عناية بالتنظير للفن والنقد والأدب من منظور الإسلام، لا المذاهب والفلسفات والمناهج الغربية. بأن تستكتب في ذلك أهل الاختصاص والخبرة والدراية، وتعقد المؤتمرات واللقاءات العلمية والحلقات النقاشية في ذلك.

أن تحرص الحركات الإصلاحية والمؤسسات العاملة على النهوض الحضاري على أن تجعلَ الأدب أحدَ أهم وسائلها في ذلك. وهو ما يستوجبُ العناية بالمواهب الأدبية، وتشجيع الإقبال على تعلم العلوم العربية بعدّها قاعدة لبناء الملَكة البيانية. كما يستوجب العمل على سد العوز الكبير في الأقلام المتخصصة في الأدب القصصي، لما له من قدرة على التأثير وحظوة لدى القارئ.

أن تُخصص الهيئات العلمية والرابطات الأدبية ذات الإمكانات المالية جوائزَ مُهمةً للأدباء والنقاد الذين يتميزون في خدمة المقاصد الحضارية الإسلامية؛ انطلاقًا من مواقعهم النقدية والأدبية، على غرار ما تفعله جهاتٌ كثيرة داخل الأمة وخارجها، استقطابًا للمواهب الأدبية، وتوجيهًا لها في سبيل خدمة مشاريعها الخاصة، المتعارضة طبعًا مع طموحاتنا المشروعة في النهوض الحضاري، اعتمادًا على منظومتنا الخاصة من القيم والأهداف والمفاهيم.

المراجع

أفلاطون، جمهورية أفلاطون، نقلها إلى العربية حنا خباز، دار الأندلس، بيروت، د.ت.

أنور الجندي، خصائص الأدب العربي في مواجهة نظريات النقد الأدبي الحديث، دار الكتاب العربي، بيروت، 1985م.

التوحيدي (أبو حيان)، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت - صيدا، د.ت.

التوحيدي (أبو حيان)، الهوامل والشوامل، تحقيق أحمد أمين وأحمد صقر، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951م.

جاسر عودة، مقاصد الشريعة، ترجمة عبد اللطيف الخياط، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، لندن-واشنطن، ط1، 1432هـ - 2011م.

جان برتليمي، بحث في علم الجمال، ترجمة أنور عبد العزيز، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، القاهرة ونيويورك، 1970م.

جورج سانتيانا، الإحساس بالجمال، ترجمة محمد مصطفى بدوي، مهرجان القراءة للجميع، القاهرة، 2001م.

جيروم ستولينز، النقد الفني، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، د.ت.

حسين صديق، فلسفة الجمال ومسائل الفن عند أبي حيان التوحيدي، دار القلم العربي - دار الرفاعي، حلب، ط1، 1423هـ - 2003م.

ديوان زهير بن أبي سلمى، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1408هـ - 1988م.

رائد عكاشة، الفن في الفكر الإسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان-الأردن، ط1، 1437هـ - 2016م.

سيد قطب، النقد الأدبي: أصوله ومناهجه، دار الشروق، القاهرة، ط9، 1428هـ - 2006م.

الشاطبي (إبراهيم بن موسى)، الموافقات في أصول الشريعة، تحرير عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، د.ت.

شكري عياد، كتاب أرسطوطاليس في الشعر، نقل أبي بشر متى بن يونس من السرياني إلى العربي، القاهرة، 1387 هـ- 1967م.

الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الدار التونسية للتوزيع، تونس، 1978م.

طه جابر العلواني، مقاصد الشريعة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار الهادي، بيروت، ط1، 2001م.

طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط3، 2006م.

طه عبد الرحمن، من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر، المؤسسة العربية للإبداع والنشر، بيروت، 2016م.

ابن قتيبة، الشعر والشعراء، دار إحياء العلوم، بيروت، ط3، 1407هـ - 1987م.

عباس محمود العقاد، ساعات بين الكتب، المكتبة العصرية، بيروت، د.ت.

عباس محمود العقاد، خلاصة اليومية والشذور، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2013م.

عبد الملك بومنجل، جدل الثابت والمتغير في النقد العربي الحديث، عالم الكتب الحديث، إربد - الأردن، ط1، 2010م.

عبد الملك بومنجل، في الشعر ونقده-مقالات وحوارات، عالم الكتب الحديث، أربد-الأردن، ط1، 2010م.

عبد الملك بومنجل، المصطلحات المحورية في النقد العربي بين جاذبية المعنى وإغراء الحداثة، منشورات مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده، سطيف - الجزائر، ط1، 2015م.

غريب سمير، في تاريخ الفنون الجميلة، دار الشروق، ط1، 1419هـ - 1998م.

الغزالي (أبو حامد)، إحياء علوم الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1419هـ - 1998م.

الغزالي (أبو حامد)، المستصفى في علم الأصول، تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1413هـ.

القرطاجني (حازم) ، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط3، 1986م.

محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، دار الشروق، القاهرة، د.ت.

مصطفى الجوزو؛ نظريات الشعر عند العرب ، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1402هـ- 1981م.

ميخائيل نعيمة، الغربال، دار نوفل، بيروت، ط15، 1991م.

وليد قصاب، المذاهب الأدبية الغربية رؤية فكرية وفنية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1436هـ/2005م.

يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن الكريم، دار الشروق، القاهرة، ط3، 2001م.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
الفنون في ضوء مقاصد الشريعة 2 ، 2019، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 287-344.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

الفنون الخادمة للمقاصد، والمقاصد الخادمة للفنون

نور الدين بن المختار الخادمي؛ وزير الشؤون الدينية السابق بالجمهورية التونسية، وأستاذ جامعي. محتويات المقال:أولا: تأطيرُ البحث وأهميتهثانيا: أهداف البحثثالثا: إشكالية الموضوعرابعا: موضوعات البحث ومنهجهخامسا: خطة البحثسادس...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

إشكالية الفنون الجميلة في علاقتها بمقاصد الشريعة

إبراهيم البيومي غانم؛ عضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، مصر. محتويات المقال:تمهيدأولاً: في النظرية العامة للفنون ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

فقه الحسنِ: الـتأصيل المقاصدي لمفهوم الفن الإسلامي وحدوده المعرفية

إدهام محمد حنش؛ عميد كلية الفنون والعمارة الإسلامية، جامعة العلوم الإسلامية العالمية، الأردن. محتويات المقال:المقدمةفقه الفنأسلمة الفن وإسلاميتهالالتزام والفن الإسلاميإشكاليات التكييف الفقهيمن التكييف الفقهي إلى التأصيل ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المسألة الفنية في النظرِ المقاصدي من خلال مدخل التكييف والتوظيف

أحمد الريسوني؛ مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط – المغرب، وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي. محتويات المقال:تقديمالمبحث الأول: المسألة الفنية من خلال مدخل التكيي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الفنون ومقاصدها عند الإمام القرضاوي: الرؤية والتطبيق

وصفي عاشور أبو زيد؛ دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية، كلية دارالعلوم، جامعة القاهرة. محتويات المقال:مقدمةالمبحث الأول: الفنون عند الإمام القرضاوي: تتبعٌ واستقراءأولا: الفنون الإبداعية أو ما كتبه الشيخ في الفنونثانياً: ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

اللغة الكونية للفن الإسلامي

منور ثامر المهيد؛ مدير عام مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي- عمان - الأردن محتويات المقال:انعكاس الحقائق في الظواهر الطبيعيةالجيومتري وانعكاسها في الطبيعةالدائرةالنسق الهندسي في الفن المقدس وتجلياته الوجوديةالنِسبُ ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

روح العمارة الدينية: أنموذج جامع السليمانية

رجب شنتورك؛  رئيس جامعة ابن خلدون، اسطنبول. محتويات المقال:1- علاقة الرمز والمرموز له وطريقة التأويل في الفكر العثماني2- جامعُ السليمانية بلسان المهندس المعماري سنان3- القانوني وسنان: سلطانا ومهندسا من حيث الخلفية ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وهندسة الحروف كمقبسين للإرادة الإلهية

أحمد مصطفى؛فنّان وعالم معروف دوليًا، وزميل في الفن الإسلامي والتصميم بمركز الدراسات الإسلامية بأكسفورد- المملكة المتحدة. على النقيضِ مما يفترضه عديد من الغربيِّين؛ فإنَّ الإسلامَ لا يعتريه أي إجهادٍ في الجمع بين العلم وا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

رؤية فلسفية للجمال في النظر الإسلامي الأصولي

الشيخ محمد غورماز، الرئيس الأسبق لهيئة الشؤون الدينيَّة بتركي إنَّ علمَ المقاصد والغايات، هو من العلوم المفتخرة لدى المسلمين، فهو - وإن ظن البعض بساطته - ذو أثرٍ ضخم، وامتدادٍ عريض؛ يلقي ظلالَه على كل العلوم الإسلامية، ب...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

ترقية الإيمان مقصداً للفنّ

عبد المجيد النجار: رئيس المركز العالمي للبحوث والاستشارات العلمية تونس. محتويات المقال:توطئةأولاً: الدين والفنّثانياً: دور الفنّ في ترقّي الإيمان التصديقي1 - دور الفنّ في حصول الإيمان2 - دور الفنّ في تقوية الإيمانثالثاً:...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأصول المُعْربة عن الفنون، والفنون المُعَبرة عن الأصول

نورالدين بن مختار الخادمي: وزير سابق، وأستاذ التعليم العالي بتونس. محتويات المقال:تمهيدإشكالية البحثالدراسات السابقةموضوع البحثالمحور(1) تأطير الأصول للفنونالمحور(2) تعبير الفنون عن الأصولالمحور(3) محور الأدلة الشرعية أو...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد القرآن الجمالية وتمثُّلاتها المعرفية في الفنون الإسلامية (التعريف والتأصيل والتصنيف)

إدهام محمد حنش: عميد كلية الفنون والعمارة الإسلامية جامعة العلوم الإسلامية العالمية (الأردن). محتويات المقال:المقدّمةعلمُ المقاصدِ: الدينُ والفلسفةُالنظريات المقاصديةنظرية العمل المقاصديالمقاصد؛ غايات، ووسائل، وطرائقالطر...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

إسلامية الفنون الإسلامية: بين التنظير المعرفي والتطبيق الإجرائي

صلاح الدين شيرزاد: دكتوراه في تاريخ الفن الإسلامي، عضو هيئة التدريس في جامعة السلطان محمد الفاتح بمدينة إستانبول- تركيا. محتويات المقال:تمهيدبدايةُ التسميةالدافع لضبط المصطلحميادين فنون المسلمينفن العمارةأصناف العمارة- ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصدُ الفنونِ العُمرانِية في المدينةِ الإسلامية: قراءةٌ في نصوصٍ تراثيةٍ ورؤيةٌ في الواقعِ المعاصر

إبراهيم البيومي غانم: أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (مصر)، وعضو مؤسس وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية مؤسسة الفرقان لندن. محتويات المقال:استهلالأولاً: المدينة ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المسرح الإسلامي وفق النسق المقاصدي

جميل حمداوي: أستاذ التعليم، وأديب وناقد، وكاتب ـ المملكة المغربية. محتويات المقال:المقدمةأولاً: مفهوم المسرح الإسلاميثانياً: التصورات المسرحية الإسلامية1ــ نجيب الكيلاني ومقصديةُ المتعة والفائدة2: محمد عزيزة، ومقصدية الص...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الخطاب الجمالي للفن الإسلامي وسياقاته المقصدية

عَمَّارة كحلي: مدرس بـكلية الأدب العربي والفنون بجامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم ـ جمهورية الجزائر.  محتويات المقال:مقدّمة1: نحو تجديد الفهم المقاصدي في باب نوازل الجمال والفنون2: صناعة الزينة والجمال في المصادر العربي...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top