الفنون الخادمة للمقاصد، والمقاصد الخادمة للفنون

شارك:

نور الدين بن المختار الخادمي؛ وزير الشؤون الدينية السابق بالجمهورية التونسية، وأستاذ جامعي.

محتويات المقال:
أولا: تأطيرُ البحث وأهميته
ثانيا: أهداف البحث
ثالثا: إشكالية الموضوع
رابعا: موضوعات البحث ومنهجه
خامسا: خطة البحث
سادسا: الدراسات المتصلة بالبحث
سابعا: الجدة والإضافة
الفصل الأول: الفنون من التعريف الضيق إلى المفهوم الواسع
المبحث الأول: التعريف الضيق للفنون
المبحث الثاني: المفهوم الواسع للفنون
المبحث الثالث: استخلاص مفهوم الفنون الإسلامية
الفصل الثاني: الفنون من النصوص إلى المقاصد
المبحث الأول: مرجعية النصوص للفنون
المبحث الثاني: مرجعية المقاصد للفنون
المبحث الثالث: جدلية الفنون والمقاصد
المبحث الرابع: الفنون والمقاصد: كلاهما يخدم الآخر
الفصل الثالث: الفنون من المقاصد والنصوص إلى الواقع والنفوس أو الفنون من فقه النظر إلى فقه العمل
خلاصة المقاصد الخاصة بالفنون
الخاتمة

أولا: تأطيرُ البحث وأهميته

يندرج هذا البحث تحت علوم الشرع وعلوم عدّة، كعلوم الآداب والاجتماع والهندسة والرياضيات والفلسفة، بمقتضى اعتبار العلم ومقام الفكر وسياق الحال.

أ- فاندراجه تحت علوم الشرع، يراد به مباحث معرفية تنتمي إلى هذه العلوم؛ كعلم التفسير والحديث، فيما يتعلق بنصوص بعض أنواع الفنون، كالغناء والموسيقى والرقص، وكعلم الأصول والمقاصد، فيما يتعلق بالاستدلال والاجتهاد والتعليل المصلحي والنظر المقاصدي لهذه الفنون بمختلف أنواعها، وكعلم الفقه، فيما يتعلق بأحكام الفنون وأدلتها الشرعية الجزئية وفتاواها وأقوال الفقهاء فيها.

ب- أما اندراجُه تحت علوم الآداب والاجتماع والفلسفة وغيرها، فبمقتضى ما يعتمد عليه العلماء في ذلك، وما يستندون إليه من الاعتبارات العلمية في الموضوع العلمي ومنهجه وسياقه ومشتملاته ومتعلقاته، كاعتبار الشعر والنثر نوعين من أنواع الفنون، وهما ينتميان إلى علم الآداب واللغة، واعتبار الخط والرسم والزخرفة والنحت معارف هندسية ومعمارية، واعتبار التمثيل والموسيقى والمسرح معارف سينمائية ودرامية، وضرباً من المعارف الثقافية والفنية.

وتكمن أهمية البحث في وصله للفنون بمقاصد الشريعة الإسلامية، باعتبارها جزءاً من حقيقة الإسلام في نصوصه وأصوله وقيمه الإنسانية والحضارية والكونية. وهذا الوصل يكون بمعنى تقرير المشترك، والتداخل والتوافق بين تلك القيم؛ بما يخدم غايات كلٍ منهما، وما يجعل الواحد مرتبطاً بالآخر على مستوى الوسائل والمآلات والمنطلقات، وعلى صعيد النظر والعمل والاستنباط والاستدعاء لبناء الفنون بالمقاصد، وخدمة المقاصد بالفنون.

فالفنون السوية تخدم المقاصد بوضوح، كخدمتها لحفظ النفس بحفظ فطرتها وتنمية مواهبها وتأصيل ملكة الجمال فيها. والمقاصد تخدم الفنون بجلاء، كخدمة وسائل المقاصد للأشكال التعبيرية عن القيم الجمالية، كقيمة الحق والخير، فهذه الوسائل تتقرر بناء على مقاصدها ومآلاتها، فالوسائل لها أحكام المقاصد، فمقاصد إعلاء قيمة الحق والخير وتكثير نتاجهما على صعيد التعامل البشري والانتظام المؤسسي والعمل الأهلي؛ تتقرر وسائلها وأدواتها تأسيساً على ذلك واعتباراً بذلك. وعليه يلزم تحديد أفضل الوسائل المقاصدية لأفضل المقاصد الفنية.

وتحكم هذه الأهمية مجموعة مفاصل وروافد في الموضوع والمنهج والسياق، وارتكازاً إلى النصوص والمقاصد، وفي ضوء مفهوم واسع للفنون، وفي ضوء سياقها وتطورها وملابساتها ومآلاتها... وهو ما يؤثث لهذا البحث في أفكاره الأساسية ومطالبه الضرورية، التي تمثل خطته وفصوله الأربعة.

ثانيا: أهداف البحث

  • تأسيس الوعي بأهمية الفنون في خدمة المقاصد، وأهمية المقاصد في خدمة الفنون، في إطار الوصل بينهما، موضوعياً ومنهجياً وسياقياً، وبروافده ومسالكه، ومنها: التعليم، والخطابة، والتأليف، والتقنين، والتدريب، والتوظيف، والتبني الرسمي لها، واعتماد الحراك الاجتماعي والزخم الفكري والفقهي؛ من أجل تحصيل الفهم الصحيح للفنون وصلتها بالمقاصد وأثرها النفسي والاجتماعي والحضاري، وتأسيس هذا الوعي العقلي والإرادي والوجداني الذي يؤسس للممارسة ويفعل المبادرة والمواكبة.
  • ترسيخ الوعي بضرورة إقامة «الفنون البديلة» وتنزيل مقارباتها ومشروعاتها، بصورة عملية وإجرائية؛ بناء على خصائصها ومقاصدها، وبسياقها وأدواتها، وإرشاد الجهات العاملة في المجال الفني والدعوي والتربوي والسياسي والعلمي والثقافي؛ لوضع البدائل العملية والبرامج التنفيذية والوظيفية، وتعزيز المشترك وتطوير الموجود وتحسينه، وليس الاقتصار على الاهتمام النظري والخطاب الشفوي والتأليف العلمي، الذي لا تكون له أقداره من التحقق والنفع في الواقع.

ثالثا: إشكالية الموضوع

للموضوع عدة إشكاليات جزئية وكلية، وشكلية وحقيقية. وهو مثار جدل وتجاذب وتنازع وتخالف. ومنها: إشكاليات الركود والجمود، والتقيد بالسائد والإذعان للغالب، وإشكاليات الفهوم الحرفية والانطباعات العفوية والشعارات اليومية. وإشكاليات المتغلب الفني بمقتضى الاحتلال والاستبداد والإفساد. وهي إشكاليات معقدة، وآثارها متفاوتة وحلولها مركبة، ويتداخل فيها النفسي بالاجتماعي، والداخلي بالخارجي، والحالي بالماضي، وربما يجوز لنا الوصف بأن هذه الحالة الفنية وإشكالياتها وتعقيداتها.. ﴿لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ [النجم:58].

ولكي نركز على نوع أو ضرب من هذه الإشكالية، نتناول الفراغ الفني؛ باعتباره حالة قائمة ومعلومة وخطيرة، وتأكيد تجاوزها بشروط ذلك. وحالة هذا الفراغ الفني (أو الضعف الفني، أو التراجع الفني، أو الرداءة الفنية...) تلاحظ في عدة دوائر إسلامية، منها:

ـ دائرة المعرفة الإسلامية: التي لم ترتق لمستوى المعرفة الوافية بقضية الفنون، من حيث مفهومها الواسع ومشتملاته ومتعلقاته، ومن حيث نصوصها ودلالاتها ومقاصدها وسياقاتها وجمعها في إطار من الفهم والتطبيق، بما يجلي حقيقة الفنون في الإسلام، نظراً وعملاً.

ـ دائرة الدعوة الإسلامية: التي لم يجر فيها الأداء الفني بالمستوى الذي يستجيب لمتطلباتها وتحدياتها؛ شكلاً مهما من أشكال التعبير عنها وعن أحكامها وقيمها وآفاقها في خدمة الإسلام وتعزيز الفطرة والسماحة وطرد الشبهة والفرية. فكيف يمكن تحصيل الإقناع بالفنون وإعمالها بأشكالها، في إقامة الدعوة إلى الله تعالى، ومنها شكل الصورة والصوت والتمثيل والمسرح؟ ومع الإقناع والإعمال، لا بد من تأثيث ذلك بالمضامين والأساليب والمواد والألوان والجمال والإتقان، حتى نتجاوز السائد، ونعالج الراكد، وننافس المقابل، ونسارع المشاكس.

ـ دائرة الدولة الإسلامية: التي لم يتهيأ لها -بعد- المشروعُ الثقافي الفني المتكامل، المصطلح مع ذاته وهويته، والمتجاوب مع حاله وسياقه. فكيف نقنع بلزوم إقامة السياسة الفنية للدولة الفلانية، على غرار السياسة الصحية والأمنية والتنموية..، وكيف نُعمل ملف الفنون، باعتباره أحد ملفاتها الحيوية والسيادية، وأحد أذرعتها في تحقيق الأمن النفسي والاجتماعي وتأمين مساراتها المختلفة بتناغم وتواصل؟.

ـ دائرة الأمة الإسلامية: التي لم يُلاحظ فيها نظمُ فنونٍ، يخدم قضاياها في الوحدة الإيمانية والتربوية والوجودية، وفي الشهود والحضاري والعمراني، والإبداع القيمي والحقوقي والخيري؛ بل لوحظ في أكثر من موضع خلاف ذلك، من حيث الفن الطائفي المقيت، والعنصري البغيض، والمذهبي المتعصب والسياسي المستبد، والاجتماعي المتناحر، والسلوكي المتدهور؛ إلا من رحم وما رحم الله، وباستثناء الأحوال الإيجابية المعلومة من الشواهد والشخصيات والرؤى والإبداعات الفنية، التي مثلت إحدى دلائل الإعجاز وضروب الإنجاز لخيرية هذه الأمة التي لا تزال بخير إلى قيام الساعة.

فدوائر هذه الإشكالية تمثل كبرى التحديات وأعظم المسؤوليات في التجاوز والانطلاق، بمستويات ذلك ومتطلباته المختلفة، وبحسب جهات ذلك ومرجعياته؛ من حيث الصلاحيات والإمكانيات. فكيف يمكننا بناء على ذلك تحقيق أقدار من التجاوز والانطلاق، وما هي مسارات ذلك ومضامينه ومحدداته وضوابطه؟ إن الجواب عن هذا جواب مركب ومعقد، ومادته وصيغه الدورة كلها، والجهود جميعها؛ في اتجاه تأسيس الوعي وتركيز العمل، بناء على رؤية شاملة واعية وناقدة وناهضة، تكون المقاصد الشرعية والأنظار الاجتهادية إطاراً مرجعياً لها، مع إطار النصوص واللغة والسياق والواقع، ودون أن ننسى منظومة الفنون بمفهومها الواسع وتلبسها بغيرها وتنزلها في الواقع.

رابعا: موضوعات البحث ومنهجه

هذه الموضوعات هي:

موضوع الفنون ومشتملاته ومتعلقاته، بما يرتبط بالبحث، بدقة وإفادة وعمق وإضافة. وهو مجموع القيم الفنية، والأشكال الفنية، والسياق الفني. بناء على التعريف المختار للفنون بمفهوم واسع، وهذا المفهوم هو: «القيم، والتعبير عنها، برؤية الإسلام، ونفع الناس، بسياق وجمال وإبداع».

موضوع المقاصد ومشتملاتها، بما يركز تأطير الفنون بهذه المقاصد، موضوعاً ومنهجاً وسياقاً.

منهج الوصل بينهما، والربط في مستوى العلاقة الجدلية بينهما، وأحوال ذلك من حيث التداخل والتكامل والتناسق والتماهي، وثمرة ذلك في كون الفنون تخدم المقاصد، وكون المقاصد تخدم الفنون.

وقد مثلت هذه الموضوعات أربع حلقات مترابطة ومتواصلة ومرتبة. وهي:

الحلقة الأولى: وهي تناول الفنون من التعريف الضيق المتداول في الغالب، إلى المفهوم الواسع المحرر والمجدد، والشامل لأنواع التعبير وأشكالها المختلفة، ولقيمها ومعانيها، بمراعاة السياق وملازمة الإبداع. وهو المفهوم الذي انتهى إليه البحث، ومفاده:»القيم، والتعبير عنها، برؤية الإسلام، ونفع الناس، بسياق وجمال وإبداع».

الحلقة الثانية: هي مدارسة الفنون من فقه النصوص بألفاظها ودلالاتها وأحكامها وسياقاتها، إلى علم المقاصد موضوعاً ومنهجاً وسياقاً؛ إطاراً شرعياً مرجعياً جامعاً لتأطير الفنون وتنزلها. ففقه النصوص يقتضي النظر فيها برؤية شاملة وجامعة لجميع مدركاتها، وليس الاقتصار على بعضها، وبمعزل عن حقائقها ومناطاتها وسياقاتها ومعقولاتها. أما فقه المقاصد فيراد به:

 أولاً: النظر في الموضوع المقاصدي الذي يُعرف بالمصلحة ومشتملاتها، جلباً ودرءاً، وجمعا وترجيحاً، وحالا ومآلا، ووسيلة وذريعة..

 ويراد به ثانياً: المنهج المقاصدي التعليلي والغائي والمآلي والوسائلي والموازني، والقائم على إعمال الحقيقة الجامعة للشكل والمضمون والمظهر والجوهر، لكلٍ من الفنون والمقاصد.

ويراد به ثالثاً: السياق المقاصدي الذي هو البيئة التي تتنزل فيها الفنون البديلة برؤية المقاصد البديعة، وهي البيئة التي تكون فيه العقليات والنفسيات والمنظومات والمسارات بيئة مقاصدية تعليلية غائية، لا تكتفي بظواهر الأمور ولا حرفيات النصوص، ولا أشباه العلوم والفنون والدول والنظم.

الحلقة الثالثة: وهي تتناول الفنون من فقه المقاصد والنصوص إلى علم الواقع والنفوس، وهو المعبر عنه بفقه النظر وفقه العمل. وهو ما يمثل الإطار العملي الوظيفي الذي تتنزل فيه المشروعات الفنية ومقارباتها في ضوء الممكنات والأوليات والمآلات والمناسبات، وبمراعاة التخصص والصلاحية والمهارة، وبآليات وأسباب وشروط وامتناع موانع، وانتفاء عوائق، وصناعة استطاعة وإحداث صحوة.

الحلقة الرابعة: وهي منتهى حلقات البحث الثلاث المذكورة آنفا، وهي ما يمكن أن نصطلح عليه بالفنون البديلة، التي يُتطلع إليها، إطاراً علمياً وحضارياً خادماً لمقاصد الشريعة ومصالح الإنسان والأوطان؛ بتأسيس الوعي بالفنون في خدمة مصالح الإنسان ومقاصد الشريعة، وتقرير خصائصها العامة: الربانية، والإنسانية، والرسالية، والحضارية، والمؤسسية. وفقهها (فقه الفنون على غرار فقه المعاملات..)، وموضوعها (الأفعال الفنية ونوطها بالأحكام الشرعية)، وأصولها الاجتهادية: الفطرة، والنص، والاستحسان، والمصالح، والاستقراء. وسياستها بمعنى: إدارة شأنها وتدبير مقاديرها وأدوات تنزيلها. ومقاصدها الخاصة بها ومنها: بناء ملكة الجمال، وتهذيب المشاعر وتنمية الذائقة، وخدمة القيم والتعبير عنها بأشكال إبداعية ممتعة. وآفاقها في الواقع الراهن وحراكه الثوري والإصلاحي في مفرداته المتعلقة بالحرية والحقوق والعدالة والتنمية.

خامسا: خطة البحث

أقيم البحث على أربعة فصول:

الفصل الأول: الفنون من التعريف الضيق إلى المفهوم الواسع،

الفصل الثاني: الفنون من النصوص إلى المقاصد،

الفصل الثالث: الفنون من المقاصد والنصوص إلى الواقع والنفوس،

الفصل الرابع: الفنون البديلة في ضوء مقاصد الشريعة.

سادسا: الدراسات المتصلة بالبحث

1) الدراسات الفقهية1 والشرعية2 التي تناولت الفنون أو بعض أنواعها، ببيان أحكامها الفقهية وفتاواها وأقوال الفقهاء فيها. وكذلك بعض البيانات والدراسات في التفسير القرآني والشرح الحديثي، فيما له اتصال ببعض أنوع الفنون، كفن الغناء والموسيقى والتماثيل والصور والنحت... وشيء منها تناول البعد المقاصدي لهذه الفنون، بتفاوت في الشمول والتنوع والكيفيات والمقادير والاستشراف والتوقع3.

2) الدراسات العلمية والفنية والهندسية والأدبية والتاريخية والحضارية والفكرية التي تناولت الفنون، بالاعتبار العلمي والتخصصي والثقافي، ودون ربطها بالفقه والشرع. وهو ما مثل منطلقا لا بد منه في تقرير مفهوم الفنون والبناء عليه.

سابعا: الجدة والإضافة

1) الإضافة النظرية المتمثلة في تقرير مصطلح الفنون البديلة، وما يستوجبه ذلك من المضمون والأسلوب والأمثلة والأدلة والتحقيق المعنوي والتحرير المصطلحي، ومنها: فقه الفنون، وفقه أصولها وقواعدها، والمقاصد الخاصة بالفنون، وفقه الصورة، وفقه الألوان.

2) الإضافة العملية المتمثلة في التوظيف بالفنون، أو الفنون الوظيفية التي تقوم بوظائف متعددة، وتنتج ثماراً مختلفة بحسب مقام ذلك والحاجة في ذلك. ومن هذه الوظائف: خدمة المقاصد، وخدمة الدين، والأوطان، والإنسان، والتنمية،
والتربية، والمواطنة.

3) الإضافة الحيوية المتجددة المتمثلة في حيوية المفهوم ومرونته وتأقلمه مع مختلف الأوضاع الحياتية والمجالية والسياقية، فالفنون ذات مفهوم متحرك يرتكز على الثوابت، والمقاصد ذات مفهوم فسيح يعتمد على أركانه، وكلاهما يناسب الآخر في التآخي عبر الزمن، والتساند بما يقرر التداخل والتكامل والتناسق. وهو ما يترتب عليه أثره في تحصيل الأقدار العالية في التشخيص والمعالجة، وفي النفع والخير، وفي توسيع دوائر النظر وتحريك أسرار الأثر.

وفي ختام هذا التقديم، يسعني القول بأن دورتنا العامرة، بدقة موضوعها ورمزية مكانها وأهلية أربابها؛ تمثل منطلقا لا بد منه لبحث الفنون من منظور مقاصد الشريعة؛ بغية ولوج بوابتها وترتيب ثمراتها، في لحظتنا الراهنة التي هي أحوج ما تكون إلى منظومة فنون، بقصد واعتدال ونفع وخير، وتتجاوز فيه الانطباعيات بأنواعها والرداءة بأضرارها. وهو ما يمثل واجب وقت وفرض أمة وعلامة صحوة وأمارة همة.

ويأتي بحثي هذا؛ جزءاً من أجزاء هذه الدورة، وضرباً من ضروب معاناتها وتطلعاتها، ومشاركة لهموم العاملين في حقل الإسلام بإبداعه والفن بجماله، من أجل الانطلاق نحو الأحسن نزولا ً واتباعاً وابتلاءً وإبداعاً. والله المستعان.

الفصل الأول: الفنون من التعريف الضيق إلى المفهوم الواسع

لم تستقر كلمة العلماء على تعريف موحد للفنون، أو مفهوم وفاقي مشترك، بل ظل مفهوم الفن متفلتاً، وغير محدد لغة واصطلاحاً، في الثقافة الإسلامية4.

وما يمكن قوله في هذا المضمار أن الفنون جمعُ فنٍ، والفن هو القيمة والتعبير عنها، أو هو التعبير عن القيمة وحدها. ومنه: الخط والزخرفة والرسم والنحت، والصورة والتمثيل والغناء5.

ومن هنا يتبين تفاوت العلماء في تعريفهم للفنون، بتفاوت مجالاتها وأنواعها، وباختلاف السياقات والبيئات، وبمستوى الحاجة إليها واستدعاء توظيفها في قضايا الناس ومتطلبات الواقع. وعليه لا بد من تناول الفنون من جهة التعريف والمفهوم والمجالات والأنواع والاستخدامات والآثار؛ حتى يكون الحكم عليها في ضوء المقاصد الشرعية والأبعاد الأخلاقية حكما مصيباً وموفقاً.

 واتجاه توسيع مفهوم الفن له مسوغاته اللغوية والاصطلاحية والموضوعية والمنهجية والواقعية والوظيفية6. ولهذا المفهوم حمولة دلالية ما زالت مشبعة بمضامين فكرية ومعرفة عميقة، وكثافة استعماله لم تبتعد كثيرا عن حدوده ودلالته في البيان والبلاغة والشعر، وغير ذلك من مجالات الأدب، ولم يأخذ موقعه اللائق به في مجالات الجمال والإبداع7.

المبحث الأول: التعريف الضيق للفنون

بدايات تناول الفنون وتحديد تعريفها ومجالها وأنواعها تتصل بتعريف الفنون بأنواع مخصوصة من التعبيرات الفنية، على نحو الغناء والرقص والموسيقى، وبتعريفها على أنها الأشكال التعبيرية عن القيم والمعاني، وعلى أنها المظاهر والأساليب التي تؤدى تعبيرا عن الجمال دون الالتفات إلى بيئاتها وطبيعة المجتمعات التي تتنزل فيها وأحوال الواقع الذي تقوم به. فمستويات الضيق في التعريف تمثلت في ثلاثة أمور أساسية:

الأمر الأول: حصر الفنون في بعض الأشكال التعبيرية، كالرقص والغناء والتمثيل، أو الخط والرسم والتصوير، وعدم التنصيص على استغراق الفنون لكافة أشكالها الواقعة والمتوقعة. وهو ما جعل تناول الأشكال الفنية تناولاً ضيقاً ومحصوراً، ولا يشير إلى اتساعها وكثرتها بمقتضى التطور الفني والجمالي والحيات

الأمر الثاني: حصر الفنون في الأشكال التعبيرية والأساليب المبينة التي تظهر الجمال والإبداع، ودون أن تعتبر فيها القيم والمعاني التي تعبر عنها تلك الأشكال والأساليب. فهذا الأمر، وإن أشار إلى اتساع دائرة الأشكال التعبيرية وتطورها واستغراقها لما هو واقع ومتوقع، إلا أنه أغفل القيم والمعاني التي تعبر عنها هذه الأشكال والأساليب.

الأمر الثالث: عزل الفنون عن بيئاتها وواقعها وسياق ذلك وإمكانياته ومآلاته. وهذا الأمر وإن كان يتعلق بالأشكال التعبيرية كافة وبدورها في التعبير عن القيم والمعاني؛ إلا أنه لم يلتفت إلى البيئة التي تتنزل فيها الفنون، قيماً وأشكالاً، معنى ومبنى. ومعلوم أن الفنون تتنزل في بيئاتها وترد في واقعاتها، وهو ما يكسبها قابلية التطور والتأثر، ويضعها في مسارها التجديدي والوظيفي والحضاري في مواكبة المستجد وتحقيق الأثر؛ بناء على البيئة والواقع.

والحق أن الفنون -في نظامها المعرفي ومسار تنزيله- هي كل ذلك، فهي قيم ومعان، وهي أشكال وأساليب، وهي بيئة وسياق. وهو ما يشكل الإطار العام الذي تُفهم فيه هذه الفنون، وتُتصور في الذهن، وتُؤدى وتُنزل وتُفعل في الواقع. وهو ما يشكل المفهوم الواسع لها، بأنواعها واستخداماتها ومتعلقاتها.

المبحث الثاني: المفهوم الواسع للفنون

يتطور مفهوم الفنون بسرعة واسعة، وهو الاتجاه الذي سار عليه عدد من الكتاب والمفكرين والباحثين قديما وحديثا، ومن داخل العالم الإسلامي وخارجه. ففي الغرب مثلا يتطور هذا المفهوم من المفهوم القديم (الحرف والمهن) إلى المفهوم الجديد وهو بمرتبة الرقي والفن الرفيع وإضفاء القيمة التكريمية8. وفي العالم الإسلامي يتطور من الحرف والمهن إلى العمارة والعمران9، ومن عالم اللهو إلى عالم المشروعات10.

وبناء على هذا التطور، وعلى ما ذكرناه تعليقا على التعريف الضيق؛ يمكن اعتبار الفنون تستغرق القيم والمعاني، والتعبير عنها بأشكال ذلك، ومقاربات تنزيلها في سياقها. وهو ما يشمل الأمور الثلاثة الآتية:

الأمر الأول: القيم والمعاني

وهو الذي يُعنى بالقيم والمعاني والمضامين، ومنها: معنى الجمال الذي اعتبره بعض العلماء الفن ذاته، أو ثمرته وغايته ومقصده11، أو جوهره ولبه وروحه12. فالجمال قيمة ومعنى قبل أن يكون شكلاً نعبر به عنه، وهو صفة ذاتية أصيلة في الإنسان وفطرته، وصفة قائمة بذات الله تعالى، بمقتضى الحديث: «إن الله جميل يحب الجمال13، أي: جميل الأفعال والصفات؛ سبحانه وتعالى. والفن يسعى إلى الجمال الذي هو من مقاصد الله في الخلق14.

الأمر الثاني: التعبير عن القيم والمعاني

وهو مجموع الوسائل البيانية والأشكال التعبيرية15. وقد أشار إليه بعض العلماء بتوسيع أنواع الفنون، على نحو الفنون اليدوية والفنون البصرية والفنون الصوتية16. وعلى نحو الفنون الكلامية كالنثر والشعر، والفنون التصويرية كالرسم والفن التشكيلي، والفنون الحركية كالرقص والغناء، وفنون السكون كالعمارة والتصوير والنحت17.

الأمر الثالث: السياق الذي تتنزل فيه القيم والمعاني والتعبير عنها

وهو البيئة الفكرية والمادية والنفسية والاجتماعية والسياسية والحضارية... التي تتنزل فيها الفنون بقيمها وأشكالها. والسياق بمفهومه الواسع يشمل الواقع وما يحف به ويتلبس به، وما يكون من مقدراته وإمكانياته وتحدياته ومآلاته وتوقعاته. وما يمثل عقليات الناس وأوضاع المؤسسات وطبيعة الحكم والسياسة والتربية والاجتماع والإدارة...، وما يرد من المشروعات الفنية القائمة، وصلتها بالخيارات الفنية البديلة والمنافسة... فضلا عن السياقات الإقليمية والدولية، التي تتلبس بأدوار فنية في إطار الدور الأجنبي بأجنداته وخلفياته وتقلباته، وأثر ذلك في السياق الداخلي والمحلي...، ولا شك أن الدور الفني الأجنبي يمثل أحد الأذرعة لمجموع الدور في مجالاته المختلفة. وشواهد هذا معلومة، واستقراؤه طريق إلى الظن الغالب والبناء عليه.

مجموع الأمور الثلاثة

إن استحضار الأمور الثلاثة في استخلاص المفهوم الواسع للفنون من الأهمية بمكان، على صعيد البحث العلمي والنظر العقلي والاعتبار بالواقع، وعلى مستوى الاستدعاء الوظيفي والأداء العملي والبناء الوطني والإسهام الحضاري. فمهمتنا الفنية المعاصرة لا بد أن تقدم ما ينفع الناس بطريقة عملية، وأداء مثمر ومقاربات ممكنة. وليس بمجرد التخيل والتنظير والافتخار الرمزي والمسارعة النَّسَبِية، فقد جاء في الحديث: «ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه»18، فمناط التقدم والاستحقاق، العمل وليس النسب؛ العمل بأنواعه بناء على أصالة عموم البيان النبوي، ومنه العمل الفني والجمالي الذي يُلاحظ أن البطءَ فيه أكثر من السرعة، وأن التثاقل فيه أعظم من الاجتهاد فيه.

 والنسب الذي جاء في مقابل العمل أو ضدا له، يراد به النسب المذموم، الذي هو كل ادعاء موهوم لا أصل ولا حجة له، وكل مقولة مزعومة مفرغة من معناها وحقيقتها، ومفادها زيف الانتماء إلى الآخر، وكذب التفرع منه بولادة طبيعية أو قيسرية، أو بولادة حضارية أو صناعية أو مجالية، فالنسب العاري عن العمل؛ هو من دعاوى الجاهلية بأنواعها وعمومها وتجلياتها في القديم والحديث.

وقيام المفهوم الواسع على هذه الأمور الثلاثة (القيم، والأشكال، والسياق) اتجاه موفق واستخلاص عميق. وهو ما يمكن أن يؤسس لفنون معاصرة، بشمول في النظر وأدوار في الواقع وإسهام في الحضارة والعمارة المعاصرة.

وهو ما نجده مشاراً إليه ومصرحا به في أعمال علمية وبحثية كثيرة، وقد جاءت عباراته وصيغه متفاوتة في كلام الباحثين وآرائهم. ومن مواضع ذلك ومظانه:

- ما جاء في ذلك من مقتطفات وبيانات وتعليقات، كالقول بأن الفن هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان19. فقد ورد لفظ التعبير الذي يتناول الأشكال، وورد لفظ الكون والحياة والإنسان من منظور تصور الإسلام، وهو ما يشير إلى موضوع القيم والمعاني المتضمنة في الإسلام إزاء الكون والإنسان والحياة، ومنها: قيمة الإنسان من حيث الكرامة والتكليف والتوظيف...، وقيمة الخلق وحرمته ورسالته ونفي العبث عنه... وقيمة الحياة وكونها ميدانا للتكليف الإنساني والعمران البشري والتسخير الكوني.

- وبإطلاق لفظ التعبير الجميل عن التصور الإسلامي للوجود20. وهو ما يشمل كذلك القيم وأشكال التعبير عنها.

- وبتقرير صفة الجمال المطلق إلى الله، حيث يربط الجمال الحسي والعقلي بالجمال الإلهي؛ لأنه أثر من آثاره21؛ فمفاد هذا الكلام أن الجمالَ الذي يظهر بالوسائل التعبيرية والأشكال التمثيلية، إنما يرتبط بالجمال الإلهي الذي هو قيم ومعان في العقيدة والصفات الإلهية والمراد الإلهي، على نحو إصلاح المخلوق والأرض، وتعمير الوجود والحياة، فهذه القيم وغيرها هي التي يُعبر عنها بأساليبها الفنية.

- والجمال هو الكمال الذي نحسنه لونا وشكلا ومضمونا22. وهو ما قرر صراحة الشكل والمضمون، في إطار الكمال والحسن.

- والجمال هو الحسن في الخَلْق والخُلُق23. وهو ما قرر صراحة الخلق بالاعتبار الجبلي والجسدي والعقلي، والخُلق بالاعتبار القيمي والفضائلي.

-  وأحكام القيم التي هي الجمال والحق والخير24، وهي التي يستخدم فيها الأشكال الفنية للتعبير عنها والحمل على تمثلها وإعمالها. وهو ما صرح بالقيم الجمالية والفنية ذاتها (الحق والخير والجمال).

- والجمال بوجه عام صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس سرورا ورضا25، وهو ما ضمن القيم في الأشياء التي تلاحظ فيها، وتبعث على قيمة السرور والرضا.

- يتسع مفهوم الجمال، فيشمل العقل والسلوك والمعنى الذي يحمله اللفظ، وليس الشكل الفني للأداء اللفظي فحسب26، والتصريح بألفاظ العقل والسلوك والمعنى، دلائل واضحة على المعنى والقيمة.

- ومن خلال إطلاق الإحسان والإتقان، فالفن يصل بالمهن والصناعات إلى الإتقان والإحسان27. وقد جاء في الحديث: «إن الله يحب إذا عمل أحكم عملا أن يتقنه»28. ولا مراء في أن الإحسان يكون ظاهرياً وباطنياً، وأعلاه أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وهو ما يشير إلى معنى العبودية وقيمة الإيمان وفضيلة الإتقان. ومعلوم أن أدنى الإحسان أقل صوره الحاوية لمعانيها وقيمها.

المبحث الثالث: استخلاص مفهوم الفنون الإسلامية

هذا الاستخلاص مهم وضروري من النواحي النظرية والعملية والإجرائية، ويمثل أساساً علمياً في دائرة الاصطلاح والتداول، ومنطلقاً للإنتاج والنفع. ومفرداته هي الأمور الثلاثة (القيم، والأشكال، والسياق). ولا أعني بالسياق ضرورة دخوله في التعريف الذي يستوعب ما يكون به التعريف من الحقيقة الذاتية وأوصافها القائمة بها، وإنما أعني بدخول السياق استحضاره في الفهم والإفهام والمفهوم، أي: فهم الفنون، وبِمَ تُفهم، وكيف تُفهم، ولماذا تفهم بمستوى استحضار السياق؟ وما فائدة التعريفات إذا لم يراع فيها مآلها في الواقع وتلبسها بغيرها وتأثرها به؟.

ولعل هذا الاتجاه قد سار عليه لفيف من أرباب الفنون، حيث أدرجوا تعريف هذه الفنون ضمن سياقها الإسلامي والإنساني، فقد عرفوا الفن بأنه اسم جنس معرفي عام لعدد من الفنون الجديرة معرفيا بالجمع بين خصوصية الانتماء الإسلامي، وعمومية الانتماء الإنساني29. وذكروا أنه يبحث عن جوهر الأشياء، ويتطلع إلى التعبير عن حقيقتها الأصلية المرتبطة بالخلق منبعاً ومبعثاً واعترافاً بالنعمة30. وهو المفهوم الذي يرتكز على الأسس المعرفية من اللغة والثقافة والمنهج العلمي بناء على الأعمال والجهود والمحاولات اللغوية والمصطلحية المعجمية31.

والمفهوم الذي نستخلصه للفنون الإسلامية هو:

«القيم، والتعبير عنها، برؤية الإسلام، ونفع الناس، بسياق وجمال وإبداع».

وأظن أن المفهوم المذكور يتسم بالاستغراق والاختصار، وإمكان التداول والاستدعاء، ومع ذلك فورود الملاحظة عليه أمر لا بد منه. فقد ضمنت هذا المفهوم الأمور الثلاثة، وأضفت إليه الرؤية الإسلامية الواسعة الضابطة للفنون، والنفع الإنساني الضابط للغاية والمصلحة الضرورية والحاجية والتحسينية...، والجمال والإبداع باعتبارهما جوهر الفنون والروح التي تسري فيها.

الفصل الثاني: الفنون من النصوص إلى المقاصد

تمثل مرجعية النصوص مادة بحثية زاخرة وثرية، باستقراء ما ورد في الشرع الحنيف من النصوص والأحكام والآثار والقرائن، واستخلاص ما يلزم من المعاني الكلية والجزئية، والمجامع اللغوية والشرعية والسياقية الضابطة للفنون في إعمال وإنجاز. ويتعذر في بحثي هذا تناول هذا البحث، لطوله وعمقه وشدة تداخله وتجاذبه أولاً، وثانياً لوجود مؤلفات عدة فيما يتعلق بعرض النصوص والأحكام والروايات والآثار والتفاصيل والفروع التي تناولت أنواعاً من الفنون؛ كالغناء والموسيقى، بالبيان الفقهي والإرشادي...، وبشيء من الدراسة الجامعة لأصولها وسياقها ومقتضياتها في النظر والعمل، فقد يكون بياني لما ورد في ذلك تكرارا غير مفيد، وثالثاً لخشية أن يأتي بالتفويت على مقصود ما نرنو إليه من التأصيل والتقصيد والتعليل، وما نصبو إليه من تأسيس الوعي وتحقيق الظفر وجلب الدرر، في فنون هي جواهر ودرر، بوضع أصلي وخلق جبلي ونسق نظري وقصد نقي. ولكن، ومع ذلك فقد تم الاستئناس بمستخلص مفيد في هذا المضمار.

المبحث الأول: مرجعية النصوص للفنون

تمثل «مرجعية النصوص» إطاراً شرعياً مهما للفنون، ولاسيما الفنون المتعلقة بالغناء والموسيقى والتمثيل...، مع ملاحظة الأمور التالية:

- تفاوت مقادير هذه النصوص ودلالاتها على الفنون. ومن ذلك اعتبار لفظ اللهو الوارد في نصوصه، لفظا يُطلق على الفن المحرم. وهو ما يخالف المفهوم المقرر له، حيث إنه يشمل اللهو المباح واللهو غير المباح. واللهو المباح هو اللهو المأذون فيه من حيث الأصل؛ إذ الأصل فيه الإباحة، إلا إذا تعلقت به قرينة تحرمه أو مُدرك يحدده. وهو ما تمثل كذلك في أحد ضروب المنهج الفقهي الذي اعتمد في معالجة قضايا الفن والجمال بالخصوص على الأحوطيات والمبالغة في سد الذرائع وتغليب التحريم والتحذير32، وعلى بعض الروايات الضعيفة33، وعلى التطبيقات السلبية التي مثلت مشكلاً في هذا الصدد34، ودون أن يقرر المقاربة الفقهية على مجموع مُدركاتها الشرعية، والمفهوم الواسع للفنون وأنواعها واستخداماتها ومآلاتها.

- تفاوت المراد بالفنون، بين مضيق وموسع، بين من حصرها في عدد معين منها، كالغناء والموسيقى والتمثيل ونحوه.. وبين من وسعها لتشمل فنون العمارة والمدينة والعيش والتواصل والبيئة... وكان لهذا التفاوت في سعة مفهوم الفنون، الأثر الواضح في معاملة النصوص الشرعية في دلالاتها على هذه الفنون، وفي طبيعة المقاربات النظرية والتفسيرية والاجتهادية لهذه الفنون وأنواعها واستخداماتها.

ومن ثم وردت أقوال الفقهاء في هذه الفنون، من حيث المنع والجواز، والتدليل والتمثيل والتعليل، وشيء من التكييف والتوصيف والاستنباط والتنزيل.

وأبرز ما صحب هذا التناول الفقهي أمران مهمان غاية الأهمية:

الأمر الأول: التناول النصي غير المستوعب لمقتضياته النظرية الاجتهادية، ومن ذلك عدم استيعاب مجموع النصوص الواردة في الفنون، واستقراؤها واستخلاص المعاني منها؛ بما يقرر الحكم التكليفي الجامع لموضوع الفنون وحقيقتها.

الأمر الثاني: التناول النصي غير المستوعب لمقتضياته التطبيقية الواقعية، وهوما يُعرف بفقه التنزيل والعمل، الذي يمثل مع فقه النظر شطري إقامة الدين في الأذهان والأعيان.

ولكن، قد مثل التعاطي مع النصوص لمعالجة الفنون منطلقاً مباركاً وموفقاً في الفهم والعمل بأقداره ومستوياته، لبركة النصوص من جهة أولى، وثرائها وسعة دلالاتها وإمكانيات آثارها من جهة ثانية. وأهم ما مثله هذا التعاطي، الإطار المقاصدي للنصوص في الفنون وغيرها من المجالات. وهو ما يُعرف بالاجتهاد المقاصدي، أو المرجعية المقاصدية للفنون انطلاقا من النصوص الشرعية، وفي ضوء الوقائع الإنسانية والأفعال الفنية.

التفقه والفنون: والعدل في الحكم على ذلك

يردُ ارتباطُ الفنون بالفقه في مقام العمل الفقهي تجاه الفنون أو الموقف الفني إزاء الفقه. وهو ما يحيلنا إلى قضية مركبة في المعرفة العلمية والسياق الحضاري والواقع الراهن، برؤية منهجية وتحليلية واستقرائية واستنتاجية. وهذا لا يسعهُ هذا البحث المتنزل في إطاره المقاصدي التعليلي والمصلحي، وليس في إطار المقارنة والتشخيص والتقويم لصلة الفنون بالفقه وتواصل أهل الفقه بأرباب الفنون. وما لا يُدرك لا يُترك جله، على غرار التعبير المتعارف عليه في أمثال هذه الحالة، فيمكنني إبداء ملاحظات عامة هي أقرب للانطباع منها للتحقيق، ولكنها تمثل منطلقاً أوليا يمكن البناء عليه لتحقيق القول في هذه المسألة، وهذه الملاحظات هي:

1) الحكم على أن أزمة الفنون هي أزمة أعمال فقهية واجتهادات شرعية، حكم متسرع وغامض، ويحتاج إلى تحقيقه وتوثيقه وتعميقه؛ ليصلح للتقرير والاستدعاء...، فالأزمة الفنية جزء من الأزمة العامة في المجتمع والإدارة والتنمية والتعليم والثقافة...، فالأزمة مركبة ومعقدة.

2) تعميم القول بأن الفقهاء قد مارسوا سلطاناً فقهيا مثل سدا لتطور الفنون، يعد كذلك حكماً انطباعياً عارياً عن حججه ومؤيداته، وقد يصلح جزئياً من جهة تعلقه بأشخاص أو هيئات أو سياقات أو فترات. وهناك مشهد فقهي متسع في النظر والزمان والبيئة والأثر؛ قد أثرى منظومة الفنون بنوطها بالكليات والمقاصد، وتنزيلها في أفقها الحضاري والإنساني، وهذا المشهد جدير بأن يدرسه الباحثون المحققون، وأن يدعمه العاملون في مجال التحقيق والتراث والتجديد والإحياء.

ولا ينبغي أن يُحَمَّلَ جموع الفقهاء والعلماء، وجموع النظم الفقهي والشرعي، ما وقعت فيه بعض الدوائر والمواقف من الخلل في مدارسة الفنون من الفقه والفقهاء، وما أدى إليه ذلك من الضمور والتراجع في مجال الفنون عبر العصور. ودراسة هذا الضمور35 والتراجع وأثره الحضاري والمعاشي والتنموي جديرة بالعناية الفائقة والاهتمام المعتبر؛ من أجل التجاوز والإنجاز.

3) ينبغي أن يُفهم أن موقف بعض الفقهاء من الفنون جاء متلبساً بأمور موضوعية وسياقية؛ حملتهم على هذا الموقف، أو ما يقرب منه، مع ضرورة مناقشته وتمحيصه ونقده، فقول الفقيه نظر واجتهاد، والفقيه يؤخذ منه ويرد، فمن الفقهاء من تناول الفنون في إطار ضيق مقتصراً على الغناء والرقص مثلا، ومتلبسا بالعوارض والأحوال والمآلات التي تصرفه عن حقيقته، أو متناولاً لصناعة فقهية تعليمية أو إفتائية بمنهجها الفقهي الجزئي الذي لا يجريها على كلياتها ومناطاتها، وإنما يقيمها على سوق الرأي وعرض المسألة بمنهج التفصيل والظاهر والتعليم والتلقين.

4) والخلاصة الجامعة أن الفقهاء ليسوا سواء، والعدل في القول والحكم عليهم مرده قوله تعالى:﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ﴾ [الأنعام:152].

المبحث الثاني: مرجعية المقاصد للفنون

تمثل مرجعية المقاصد للفنون الإطار المقاصدي الذي يُرجع إليه في معالجة الفنون. ويشمل هذا الإطار الموضوع المقاصدي، والمنهج المقاصدي، والسياق المقاصدي. فالموضوع المقاصدي هو: المصلحة والمفسدة، جلبا ودرءاً، والمنهج المقاصدي هو أسلوب التعليل والتقصيد والالتفات إلى الغايات والمآلات والوسائل والنيات. أما السياق المقاصدي فهو البيئة الإنسانية، ومساحة الواقع الذي تتنزل فيه المقاصد موضوعاً ومنهجاً في تأطير الفنون وغيرها.

وبصيغة أخرى يمكننا القول بأن الإطار المقاصدي للفنون هو: مجموع الموضوع والمنهج والسياق الذي يؤطر هذه الفنون نظراً وعملا، وفق موازنة ذلك.

فالموضوع المقاصدي يؤطر الفنون، من جهة المصلحة التي تؤطرها، ومن جهة الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والقصود والمآلات والوسائل وسائر الغايات.

والمنهج المقاصدي يؤطر هذه الفنون من جهة أسلوب التعليل والحكمة وكشف المعنى وتحقيق المناط ومراعاة الأَولى والممكن وفعل المراكمة والبدلية والتوسل...

والسياق المقاصدي يؤطرُ هذه الفنون من جهة مراعاة الواقع الذي تتنزل فيه المقاصد المؤطرة للفنون، فقد يكون الواقع واقعاً ظاهريا وسطحيا، لا يستوعب غائية الفنون ولا أسرار الدين، فيقع في أطروحات تأويلية ومواقف عملية تجافي المراد وتجانب الحق. كما قد يكون الواقع واقع هيمنة سياسية أو قهر فكري أو تسلط أجنبي، مما يستصحب فيه المجون الفني، والتخدير بـ»القيم الجمالية المتوهمة والمشوهة»، من أجل زيادة الابتزاز للإرادات والقدرات، وتعظيم الاستدارج لتهميش الكليات والتلهية عن الأولويات وإضعاف الشعوب وطمس النظم وتهديد السيادة والهوية.

 وليس سوق الرداءة الفنية المصاحبة للسفاهة السياسية والسذاجة الثقافية والسكر الأغلبي والإغماءة الحضارية، إلا دليلاً على التلهية بألوان من الفنون، بتحريفها عن مواضعها، وفصلها عن جمالها، وإفراغها من قيم الحق والخير والحسن. ولذلك يمثل السياق المقاصدي العقلية العامة الواعية بالواقع وتحدياته، التي تلتفت إلى حقائق الظواهر، ومنها بعض «الظواهر الفنية» وبعض «العروض الثقافية» التي تخفي وراءها طمس الجمال الحقيقي، بجمال الإنسان الحر والوطن المستقل والمجتمع المزدهر وأمة الشهود وإنسانية التعارف والتعايش، والتي تعمل على تعميق الأزمة وتجديد الفتنة وتأبيد الرذيلة، في رداءة إنتاج سياسي وفساد أخلاقي وتهارج اجتماعي وتكالب حضاري.

تماهي (أو وحدة) مرجعية النصوص والمقاصد للفنون

الحق أن النصوصَ والمقاصدَ يمثلان حقيقة واحدة في تقرير المرجعية الواحدة للفنون وغيرها. وذلك لكون النصوص دالة على المقاصد ومتضمنة لها وداعية إليها، أو لكون المقاصد مركوزة في النصوص ومبثوثة فيها. والاحتجاج لهذا الأمر لا غبار عليه في علم الأصول والقواعد، وهو ما تقرر بالاستدلال36والتأويل والاستقراء. واستقر في الأمة والمعرفة، كما كان مركوزاً في الفطرة والفطنة. وقد جاء في القواعد: «المصلحة المحافِظة على مقصود الشرع، حجة لا خلاف فيها»37. وأظهر شواهد هذا الاحتجاج:

- الاحتجاج لمقاصد الشريعة في المجالات كافة، وهو ما تواترت الأمة على تقريره. جاء في مقاصد الشريعة لابن عاشور: «لا يمتري أحد في أن كل شريعة شُرعت للناس، أن أحكامها ترمي إلى مقاصد مرادة لمشرعها الحكيم تعالى»38.

- الاحتجاج لمقاصد الشريعة في مجال الفنون39، باعتبار تفرع مقاصد الفنون عن مقاصد المجالات كافة، وفق ميزان ذلك في النظر والتعليل والاجتهاد والعمل.

وعليه، فإن الفنون تستند إلى النصوص والمقاصد، وفق مقام ذلك، من حيث الموضوع والمنهج والسياق، ومن حيث فقه النظر والعمل المقرران في إقامة الدين واعتماده في الفنون وغيرها. والتحقيق لذلك يكمن في التفصيل والتفكيك والفصل والتمايز وملاحظة التداخل والتكامل وإبداء الفرق والجمع وتقرير الاستثناء والقادح، ومراعاة الأولى، والممكن، والتدرج، والبديل، واعتماد خير الخيرين وشر الشرين وهكذا...

الموضوع المقاصدي الذي يؤطر الفنون

موضوع المقاصد هو المصلحة. وبصيغة أخرى أقول: لماذا وضعت المقاصد؟ فيجاب بأنها وضعت للمصلحة. كقول القائل ما موضوع الفقه؟، فيجاب: بأنه فعل المكلف، أي أن الفقه وضع لبيان الفعل الإنساني من حيث تعلقه بالحكم الشرعي.

فالمصلحة عندئذ تمثل موضوع المقاصد، أي وضعت للمقاصد، فالمقاصد تتناول المصلحة من حيث فهمها وتقريرها وجلبها وترجيحها وتقديمها أو تأخيرها... وهذا وغيره يُعرف في علم المقاصد بمباحث المصلحة، من حيث مشتملاتها ومتعلقاتها، كتعريف المصلحة وحجيتها والاستدلال لها وأمثلتها وقوتها وغلبتها
وغير ذلك.

والمصلحة التي تؤطرُ الفنون هي المصلحة الابتدائية، التي تعرف بالمنفعة التي يحصلها الإنسان، كمنفعة التسلية والمتعة بموجب الصوت الحسن والصورة الجميلة والخط البديع...، وهي كذلك المصلحة بمستوياتها وأنواعها، من حيث الضرورة إليها والاحتياج إليها، ومن حيث عمومها وخصوصها، ودوامها وظرفيتها. وهذا الاعتبار للمصلحة يحيلنا إلى ما يمكن أن نصطلح عليه بمستويات المصلحة أو مراتبها، وهو ما نبينه فيما يلي:

مستويات المصلحة التي تؤطر الفنون

مستوى المصلحة ابتداء

المصلحة هي كالمنفعة وزنا ومعنى. وهي ما يحصل للإنسان من النفع والخير وإزالة الضر والشر، وإدراك الملائم ونفي المؤلم. وهي على خلاف المفسدة. وعند علماء الأصول تطلق ثلاثة إطلاقات: فالأول: أنها تطلق على السبب المؤدي إلى مقصود الشارع، والثاني: أنها تطلق على مقصود الشارع نفسه، والثالث: أنها تطلق على اللذات والأفراح وأسبابهما40.

والمصلحة تؤطر الفنون، من جهة كون هذه الفنون محصلة لما ينفع الإنسان ماديا أو نفسيا، فرديا أو جماعيا، حاليا أو مآليا، فتمثل المصلحة غايةً مرجوة بإقامة الفنون كلها أو بعضها، كإقامة فن الأدب والشعر في مصلحة العلم بالشيء وحيازة فضله، وترسيخ قيم الفضيلة وقداسة الشعيرة، وكإقامة فن الرسم والخط للطفل لتنمية المواهب الحركية والوجدانية والذهنية، وربطه بدائرة التعلم والتمدن والتحضر. فاعتبار المصلحة في الفنون يمثل ميداناً فسيحاً من النظر والعمل، ومجالاً واسعا باتساع مجالات الفنون وتطلعات الإنسان وآفاق الوجود وتنامي الحضارة. وهذه المصلحة موزونة بميزانها، من حيث ضبطها، ونوطها بمتعلقاتها، ووصلها بمستوياتها، ونظمها بفهم واع وعمل دائم وأثر باق.

مستوى المصلحة الضرورية والحاجية والتحسينية

يمثل هذا المستوى مراتب المصلحة من حيث الافتقار إليها، فهناك المصلحة الضرورية41 التي يكون الافتقار إليها أعلى المراتب، وهناك المصلحة الحاجية42 التي يكون الافتقار إليها دون ذلك، وهناك المصلحة التحسينية43 التي يكون الافتقار إليها على سبيل التحسين والتكميل.

وهذه المصلحة تؤطر الفنون، من جهة مراعاة ما هو ضروري أو حاجي أو تحسيني من هذه الفنون. وهذا الأمر في غاية الأهمية البحثية والوظيفية: أ- حيث يقوم على نظر دقيق لما هو ضروري وحاجي وتحسيني من هذه الفنون، بناء على اعتبارات ذلك ومسالكه، ومنها: كلام المتخصصين وتجارب الناس وشواهد الواقع ومقادير النفع والخير، ب- وحيث يهدف إلى اعتبار هذه الفنون من المقاصد الضرورية أو الحاجية أو التحسينية للفرد أو المجتمع، وإلى تقريرها وتنزيل مشروعاتها؛ لتحقيق النفع وجلب الخير.

مستخلصات البحث في هذا المستوى وآفاق

هذه المستخلصات هي:

- أن الفنون تحسينية، أي أن الافتقار إلى الفنون يكون أمراً تحسينياً يقصدُه الناس لتحسين حياتهم وتكميل رغباتهم، كالافتقار إلى فن جمال الصورة والصوت، فهو أمر تحسيني يجمل الصورة ويسهل التعامل معها، ودون أن يكون ذلك مفتقراً إليه بشدة، فالصورة غير الجميلة تؤدي الغرض وتحقق فائدة التعرف عليها وتحصيل معلومها، ولكن دون أن يرقى مدلول الصورة غير الجميلة إلى مرتبة الحسن والجمال، وإحداث البهجة والمتعة.

- أن الفنون حاجية، أي أن الافتقارَ إليها يكون حاجياً، بمعنى يكون أمراً لازماً دون الضروري وفوق التحسيني، فإن الصورة غير الجميلة تسبب الحرج والضيق، ولكنها تؤدي الغرض وتحصل الفائدة بوجه من وجوه ذلك.

- أن الفنون قد تكون ضرورية، أي أن الافتقار إليها يكون أمرا لازما لا بد منه، بحيث يكون تخلفه مؤدياً إلى فوات المطلوب وضياع المقصود، ومنه الصورة غير الجميلة التي قد يختل بعض أمرها؛ مما يشوش على موضوعها ومناطها، أو يخل بهوية صاحبها واستحقاقه واستئثاره، فهذا الوجه من القبح يمثل أمراً مخلاً بما هو ضروري في هذه الصورة من جهة ما هو ضروري لصاحبها، من حيث استحقاقه لحق أو براءته من اتهام، أو تلبسه بشبهة ومفسدة، وبمقتضى ما تقرر من اختلاف أحوال الصورة في تلبسها بمراتب الضروري والحاجي والتحسيني، يمكن القول بأن فن الصورة وسائر الفنون، تتحدد مراتبها بحسب أحوالها في الوجود، ومآلاتها في المستقبل، وملابساتها المختلفة، وسياقاتها القائمة، وهو الأمر الذي يورث الانطباع الإجمالي المبدئي بأن الفنون تكون ضرورية وحاجية وتحسينية؛ بما تكون عليه من حيث أنواعها ومآلاتها وتلبسها بأصحابها ومدى افتقارهم إليها في تحقيق المطالب وسد الرغبات، وإن اتسمت في الظاهر والسائد بأنها تحسينية وتجميلية، أو أنها حاجية بوجه من الوجوه.

وهذه الآفاق هي:

- تعميق البحث، وتحرير المصطلح، وتوثيق البيان وتحقيق المعنى لما هو من الفنون الضرورية والحاجية والتحسينية، بناء على أنواع هذه الفنون وحقائقها، وتلبسها بغيرها، ومآلها واستخدامها.

- أن يقوم هذا البحث على الدراسة الإحصائية والاستقرائية والاستنتاجية، التي يتولاها العلماء المتخصصون في الشريعة والفنون، على غرار الدراسات الفقهية الطبية التي يتولاها فقهاء الشريعة وعلماء الطب. ويبنى هذا على الموضوع المشترك بين المتخصصين، حيث يتولى الطبيبُ الموضوعَ الطبي، ويتولى الفقيهُ الموضوعَ الفقهي، في إطار مشترك لا بد فيه من العلم بالموضوعين.

- أن يجري هذا البحث على الفعالية والمرونة والتجدد بجريان الواقع وتطوراته، فليس الأمر يجري على نسق واحد من حيث طبيعة الفنون وتطورها وتداخلها، وإنما الأمر يجري على التسارع والاتساع في القضايا والملابسات والخلفيات والتحديات، وهو ما يقرر دوام النظر والمواكبة والمراجعة في ضوء تغير الزمان والمكان والحال والأشخاص والأعراف والموانع والشروط والأسباب...

مستوى الكليات الخمس

الكليات الخمس هي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وفي عددها وترتيبها مقال بحسب الاعتبار والحيثية والسياق44. قال الشاطبي: «ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل»45.

وتعد الكليات الخمس دائرة من دوائر تأطير الموضوع المقاصدي للفنون، بحسب الأنواع والاستخدامات والمآلات، وبما يحدد الطبيعة الفنية في صلتها بالمصلحة الشرعية الكلية، ولذلك يمكن الحديث عن حفظ هذه الكليات بمزاولة أنواع من الفنون بمضمونها المعرفي وسماتها الإجمالية وخصائصها الإبداعية وأثرها فيما وضعت له من حفظ الذاكرة والتراث، وإمتاع الذائقة وجلب المسرة وتحصيل الناتج النفسي والمادي. ولنأخذ مثالا على ذلك، يعنى بحفظ المال من جهة إقامة الفنون المعمارية والتشكيلية، ومن حيث إقامة صنائع العمران والرسوم والتصاميم، وترويج أموالها والتشغيل بمقتضاها، والتداول لثمارها ومكاسبها، والفوز بأرباحها وتحمل تبعاتها، وهذا وغيره يعد من وسائل حفظ المال وتحصيل الرزق وسد الحاجة. وكذلك نجد أمثلة أخرى تُحفظ بها الكليات بإقامة الفنون بأنواعها ومضامينها وقيمها، كقيمة الحق باعتبارها أحد عناصر القيم في مجال الفنون والمنطق والفلسفة، فيكون الحق واردا في حفظ كلية النفس من حيث كرامتها وحريتها ومسؤوليتها، وفي كلية حفظ النسل والمال من حيث ما يكون رافداً لتقرير الفنون الخادمة لذلك. وأيضا نجد قيمة الخير وقيمة الجمال باعتبار اندراجهما تحت موضوع القيم والمعايير الفنية، حيث يخدمان الكليات الخمس بمقتضى مسالك ذلك وتعبيراته ومحتوياته ومتطلباته.

ولا ضير في تقرير معنى خدمة الفنون للكليات الخمس من جهة العدم، حيث تستبعد سائر الفنون القبيحة؛ من أجل الحفاظ على هذه الكليات، وخدمة الفنون للكليات من جهة الوجود والإعمال، بإقامة ما يحقق ذلك، من الوسائل والصور والأشكال، وما يبنى على المعنى الجمالي والشكل الجمالي والنقد الجمالي، وما ينطوي على قيم الحق والخير والمعروف والنفع الإنساني النقي.

 وهذا يمثل ميدانا رحبا في الشواهد والأمثلة والآفاق والآثار والمجال والمسار، ويعد من دلائل سعة المشتركات الفنية والمقاصدية، وتداخل كثير من أنواع الفنون واستعمالاتها بالكليات الخمس ومفرداتها.

مستوى المصلحة الأَوْلى، أو الموازنة بين المصالح

المصلحة الأَوْلى هي الأَحرى بالاعتبار التي تُقدم على غيرها عند تعذر جمعها بها. وهو ما يعرف بالموازنة بين المصالح جمعا وترجيحاً؛ حيث إن الأصل هو الجمع بينها، والترجيح عند تعذر ذلك الجمع. جاء في القواعد: «الجمع بين المصلحتين أَوْلى من إبطال إحداهما»46 و«كل مصلحتين يمكن الجمع بينهما جمع بينهما»47.

 ومثالها: تُقدم المصلحة العامة على الخاصة، والمتعدية على القاصرة، ونحو ذلك. ويظهر هذا المستوى في الفنون بكيفية دقيقة وعملية، من جهة تقديم الأولى بالصلاح والنفع، على غرار مثال: أولوية اعتماد الفنون التشكيلية على فن الإلقاء في مجالات التحصيل والتكوين والتدريب، وفيما يعمق الوعي الذهني والتمثل الوجداني والأداء الحركي والتفاعل البناء في تحصيل قضايا المعرفة والتزكية. وربما من هذا القبيل تقديم البدائل الفنية الأقل شراً وضرراً، لمنافسة الأعمال الفنية الأكثر ضررا والأعمق أثرا؛ مما يهيئُ لمسار تدريجي في إقامة تلك البدائل والإفادة بها. وهذا عمل مضن ويحتاج إلى فقه في الدين ومقاصده، وعلم بالفنون ومجالاتها، وبالواقع ومجرياته وإمكانياته.

الوسائل التي تؤطر الفنون

تعد الوسائل48 موضوعاً من موضوعات المقاصد، في ارتباطها بالمصالح، فهي لازم المصالح التي تمثل موضوع المقاصد، بل المصلحة ذاتها تكون أحيانا وسيلة لغيرها، أي وسيلة لمصلحة أخرى ضمن سلسلة مصالح تتوالى وتنتظم في مسار تفضي فيه المصلحة إلى الأخرى، بحسب مقام ذلك وسياقه. والمثال الأظهر على ذلك: الوضوء، فهو مصلحة من حيث طهارته والامتثال بمقتضاه ونيل ثوابه، وهو مع ذلك وسيلة للصلاة التي هي مصلحة من حيث أداء الامتثال والاستجابة للأمر وإقامة التعبد وتبرئة الذمة وتحصيل الأجر...، ومع ذلك تكون الصلاة وسيلة لمآلات القيام بها وثمار المحافظة عليها، من حيث الطمأنينة والاستقامة والانتظام التعبدي الجماعي المفضي إلى الانتظام الحضاري والوطني والإنساني.

والوسائل ذات صلة وثيقة بالفنون، باعتبار ارتباطها بمقاصد الفنون وأهدافها الذهنية والنفسية والمجتمعية والإنسانية، كتنمية الشعور الفطري والمواهب الفطرية وتهذيب الذوق وترشيد الناس وتجميل الواقع وتحسين الحياة وتلطيف الجو وتعزيز الإرادة.. فهذا وغيره من مقاصد الفنون بحسب أنواعها واستخداماتها وروابطها، وبموجب حضور الإنسان المكلف والمجتهد والسياسي والإعلامي والحضاري، وفعله وحراكه؛ بما يجدد هذه الفنون ويقيمها على أصولها وقيمها، وينزلها بمقارباتها من حيث الممكن والبديل والأولى والأنسب.

والوسائل هي الطرائق التي يتوصل بها إلى المقاصد. وهي نوعان: وسائل ثابتة ووسائل متغيرة. فالوسائل الثابتة مستقرة، وتجري على نظم واحد دون أن تتأثر بالمجريات والتغيرات في الزمان والمكان والحال، وهي مجموع الأصول والقيم في العقيدة والعبادة والمعاملة والحضارة. أما الوسائل المتغيرة فتتأثر بالزمان والمكان والحال والأشخاص والأعراف... وهي تدور مع مقاصدها وجودا وعدما، بحسب طبيعة تلك المقاصد وأحوالها ومراتبها، ولذلك قال أهل العلم بأن: «الوسائل لها أحكام المقاصد».

وتجري هذه الوسائل بنوعيها في مجال الفنون جرياناً مطرداً ومتلبسا بها، على نحو وسائل النظر والفهم والتأويل والتفسير والتخطيط والتنظيم والتفعيل والتوظيف إزاءَ منظومة الفنون بأنواعها وأحوالها، فتظل هذه الوسائل ثابتة مطردة من حيث المبدأ والأصالة في التعاطي مع هذه المنظومة، ولا يمكن أن تشذَّ عن مسارها في فهم الظاهرة الفنية والأداء الفني...، وإن كانت هذه الوسائل قد تتغير إلى حد ما، وفي بعض تفاصيلها، مما يتلبس بالزمان والمكان الحال، ولكن دون أن يعود ذلك التغير الجزئي التفصيلي على أصل تلك الوسائل في تحقيق مقاصدها المتعلقة بحصول معارف الفنون وحقائقها وتحقيق ثمارها النفسية والمجتمعية والحضارية. وربما نمثل لذلك بمثال وسيلة التخطيط في الفنون، الذي يظل وسيلة ثابتة في إقامة الفنون، فلا حياة لمجال فني أو غيره دون تخطيط وترتيب وتنظيم...، ولكن هذا التخطيط يتطرق إليه شيء من التغيير في بعض تفاصيله وتقنياته وأدواته وإجرائياته، فمن التخطيط الإجمالي والفردي أو الفئوي والعفوي، إلى التخطيط التفصيلي والجمعي والتخصصي والمؤسسي، الذي يواجه تحديات العلوم وتطورات التجارب ومتطلبات الإنجاز ومقتضيات الثبات، في عالم عمت فيه البلوى الفنية السلبية، وطغت فيه المادية والشهوانية والشبهاتية خارج إطار الدين والفطرة والقيم. ولذلك تعد الوسائل الثابتة طريقا محمودا في إقامة الفنون بأنواعها وبأغراضها، ومن ذلك مراعاة أصول الفضائل ومقتضيات الفطرة ومقدسات الدين وتعاليم الهداية، في مزاولة فن وأداء شأن، عمارة أو غناء، وتمثيلا أو رسماً، وخطاً أو صورة...

أما الوسائل المتغيرة فتجري في عالم الفنون باطراد في ملازمة هذه الفنون ومواكبتها لأطوارها وتحولاتها، واختيار الأفضل والأحسن فيها، وتخليصها من الشوائب والفواحش. وهو ما يمثل ميدانا رحباً في مراعاة حقيقة الوسائل المتغيرة في إقامة الفنون الجميلة والبديلة والبديعة، وفي اعتماد الأحسن في الوسيلة بما يحقق الأحسن في الغاية. وهذا أمر شديد الوضوح وعظيم الفائدة وعذب المذاق، في الإفادة بالإطار الوسائلي في تحقيق مقاصد الفنون ومصالح الحياة عامة، بمرجعية الدين ومقاصده في الخلق والأمر.

وخذ إليك مثال العرض الإعلامي في مجال أدب أو علم أو مسرح...، وتأمل في مختلف وسائل ذلك وتقنياته وألوانه وأشكاله؛ فستجد بلا شك أن شدة التأثير تحصل بشدة الشكل وقوة الصورة وجمال الخط ونبرة الصوت وإحكام الحركة، فضلا عن متانة المضمون وقوة الفكرة وغيرها. ولذلك تعددت الوسائل التقنية والاتصالية والإعلامية في الآونة الأخيرة، وتنافست في التسويق لمضامينها وأطروحاتها، بل وتتنازع في أحيان كثيرة وتمارس منطق الغلبة الإعلامية والتأثيرية، بما يقوي التموقع ويعظم العائد ويديم السيطرة على الأذهان والبلدان.

 وما يمكن التذكير به أن إطار الوسائل في عالم الاتصال والإعلام باعتباره فنا من فنون التعبير عن الذات والهوية، وشأنا من شؤون الحيازة والمكانة؛ يمثل إطارا مقاصديا مهما خادما لهذا الفن وغيره.

المآلات التي تؤطر الفنون

المآلات هي المنتهيات والمصائر، أي منتهيات أفعال الناس ومصائر الأمور. وهي معتبرة في الشرع والعقل. قال الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبرٌ مقصود شرعا»49.

وتعد المآلات50 موضوعاً من موضوعات المقاصد، من جهة كونها نتيجة للوسائل والمقدمات، ومنتهيات للواقع والسياسات، وثمرة للتكليف والتدين والمسؤولية العامة والخاصة.

وقد نص العلماء على أنها معتبرة شرعا ومقدرة واقعا. وهي من دلائل العقل الواعي والتصرف بمقتضى الحكمة والرشد، وليس بموجب السفه والعته. وكم ابتليت طوائف وفرق بالسفه الجماعي والعته الحضاري والغيبوبة بأنواعها، الأمر الذي أتى بالسفهاء من خارج الذات والهوية والأمة، فضلوا وأضلوا في الفنون والعلوم والحضارة والعمارة، بسبب الجهل بالمآلات والاستشرافيات، والتعصب للراهن والتقيد بالسائد، دون استبصار بالآتي ولا اعتبار بالماضي.

وموضوع المآلات في الفنون إطار علمي مقاصدي شرعي مرجعي مهم وأصيل، لما يمثله من ثراء ومتانة موضوعية ومنهجية وواقعية في تأطير الفنون بمراعاة مآلاتها وغاياتها، فلا يُحكم عليها بحقائقها وماهياتها فحسب، بل يُحكم عليها بذلك بما تؤول إليه من النتائج والمكاسب، والمصالح والمفاسد، كمصلحة الفنون البديلة في تكثير الخير وتقليل الشر، والتوسل المرحلي لإقامة فنون إسلامية وإنسانية أصيلة تجمع بين التسلية والتزكية، والإمتاع والإبداع، وتنأى بذاتها عن الاستثمار المادي والفلسفي في الأنفس والأعراض والقيم والأعواض.

ويشكل موضوع المآلات ميداناً علمياً رحباً ومجالاً بحثياً واستقصائياً لرصد المآلات الفنية وتقويمها والاستخلاص منها؛ في اتجاه تعزيز المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، وإحداث البدائل الممكنة والمقاربات المناسبة، بمقتضى قانون غلبة النفع للضرر، ودوام الأثر وتهاوي الضرر. ويمكن أن يستند إعتبار المآلات إلى الاستشراف والتوقع51، بناء على قواعد ذلك وأدواته الاجتماعية والاستبيانية، مما يعرف باستطلاع الرأي واستبيان الوضع، وهذا يوفر الجهد ويكسب الفرصة، ولا يبقى رهين وقوع الحوادث وترتب مآلاتها عليها. وهو من فقه التوقع والتقدير الذي له اعتباره في الدين والعقل والواقع.

القصد الذي يؤطر الفنون

موضوع القصد من موضوعات المقاصد. ومعناه: النية والإرادة. أي نية المكلف وإرادته. وهو ما يستقر في القلب من الإيمان والقصد والعزم. ولذلك قال العلماء: «الأمور بمقاصدها»52 ؛ أي بقصد المكلف ونيته أولاً، وبحسن عمله وصحته وخلوه من المبطلات ثانياً. والأمور جمع أمر، وهو القول والفعل والسلوك، كقول: «السلام»، وفعل الصلاة، وسلوك الحيازة والتصرف والبيع والهبة والحكم والإدارة...

وتعد الفنون أمراً من الأمور الواردة في القاعدة، فهناك الفنون القولية والصوتية النطقية كالشعر والنثر والغناء والإنشاد، وهناك الفنون الفعلية كالنحت والرسم، وهناك الفنون التي تتداخل فيها الأصوات والحركات والرسوم والتشكيلات...

والمعيار في الحكم على هذه الفنون ضابطان:

الضابط الأول: نية القلب، أي قصد الإنسان من هذه الفنون وإرادته التغيير بمقتضاها، وإحداث البديل، وتكثير الخير وتقليل الشر، وتشجيع المهارة وتهذيب الذوق...، فهذه القصود لها اعتبارها في الحكم على هذه الفنون وإعمالها... وقد جاء في الحديث: « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»53:

الضابط الثاني: صحة العمل، أي أن يخلو العمل من المفسدات له، أو أن يقوم على مقتضياته الدينية والأخلاقية والجمالية، دون أن يعارض أصلاً دينيا كتوحيد الله تعالى وقداسة الحرمات والمحكمات، ودون أن يعارض فضيلة أخلاقية كالحياء والعرض والحرية والمسؤولية، ودون أن يحدث الهرج، ويقوي الفحش ويهتك الأدب... فمصلحة تسلية النفس وترويحها وإمتاعها، لا تُجلب بانتهاك حرمة إنسان أو عادة قوم أو عرف شعب أو إحداث النعرات والإشغال بالملهيات والتفويت للأولويات... ومعلوم أن عددا من الفنون اليوم تتخذ مدخلا لاحتلال العقول ومهاجمة البلدان وضرب المقدسات والنيل من المرجعيات والتلهية عن الأولويات.

المنهج المقاصدي الذي يوجه الفنون

الفنونُ يتعين أن تكون محكومة بالمنهج المقاصدي كما هي محكومة بالموضوع المقاصدي.

فالموضوع هو المعنى والمضمون، وهو المصلحة ومشتملاتها، كما بينا ذلك فيما مضى. أما المنهج فهو إقامة الموضوع بكيفياته ومسالكه، على نحو التبويب والترتيب والتقرير، والاستقراء والاستجلاء والاستنتاج.

والمنهج المقاصدي الموجه للفنون هو إقامة الموضوع المقاصدي المؤطر للفنون بكيفيات ذلك ومسالكه وسائر متطلباته في النظر والعمل، وفي الإنتاج والإنجاز، في الواقع والحياة. وهو في مجمله يشمل تقرير المقاصد وتنزيلها في عالم الفنون، بمسالك النظر والفهم والعمل والتنزيل، وبأدوات الترتيب والتنظيم والتبويب، وبكيفيات التعليل والتفسير والتحليل...

ونحسب أن المنهج المقاصدي في موضوع الفنون يعنى أساساً بـ:

1- منهج التعليل والتقصيد

الذي يعنى بإثبات العلل والحكم والمقاصد، والنظر إلى الغايات والأسرار، والالتفات إلى ما وراء الظواهر في اللغة والخطاب والواقع والأشخاص والطبيعة من المعاني والمدلولات والفوائد. وهو يشمل تعليل الدين والواقع والفنون، وليس الاقتصار على الظواهر الواردة في النصوص والفنون والوقائع.

أما تعليل الدين فمراده مقاصد الشريعة وأسرار الأحكام، وإثبات معقولية المُنزل ومشروعية المنجز. وقد جاء عن الآمدي قوله: «المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة أو دفع مضرة، أو مجموع الأمرين»54. وقال الشاطبي: «وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا»55. وجاء عن ابن القيم قوله: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ﷺ أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام»56.

وأما تعليل الواقع، فمراده العلم بما وراء هذا الواقع من الأسرار والمعاني والخلفيات والبواعث. وأما تعليل الفنون فمراده تحصيل معناها أو معانيها، وتكييف أوضاعها وأنواعها وأشكالها تكييفا يتحدد بالمعنى المركوز في المبنى، وبالحقيقة الجامعة لمفرداتها وعناصرها. والفنون في بعض مجرياتها ترد في سياقات وأجندات وخلفيات في السياسة والاجتماع والصراعات والنزاعات، فترد للتشويش والتهريج، وتغيير الأولويات وتخدير الشعوب. وكثيراً ما ترتبط بمحافل ومحطات في الهزيمة والتراجع والتخاذل.

ومن هذا القبيل تكييف الفنون وضبط معانيها وتحديد طبيعتها؛ مما يجلي أحكامها بناء على ذلك وغيره، وهو ما يطرح الأسئلة المتعلقة بهذه الطبيعة، فهل هي لهو ولعب، أم تجارة وكسب، أم زينة وجمال، أم سياسة ودعاية، أم ضرورة وحاجة، أم تكميل وتحسين..؟ ولا شك أن الجواب عن هذه الأسئلة سوف تكون له فائدتان، الفائدة الأولى: تقرير الحكم في ضوء الطبيعة والاستخدام، بناء على قاعدة: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، والفائدة الثانية: الوعي بهذه الطبيعة والعمل على تحصيلها بمنهج ذلك من حيث الإحصاء والاستقراء والاستنتاج، وليس بمجرد التصور الانطباعي لها والتفاعل العاطفي معها. ونظائر هذا في البحث الفقهي والاجتهاد الشرعي والفقه الواقعي: لفظ الخنزير البري بطبيعته المخالفة لطبيعة الخنزير البحري، وكذلك العطية التي تأخذ طابع الهدية أو طابع الرشوة، بمقتضى الطبيعة والمآل والسياق، وليس بموجب التسميات والشعارات التي قد تسوي بينهما في ظاهر الأمر وادعاء القول. وهذا نظر في الدين عميق، ويُعرف بفن الفروق57، وفن التفريق بين الفنون والعلوم والمصطلحات والمتون. وهو ما يجعلنا نقرر نوعا آخر من أنواع المنهج المقاصدي الذي يعنى بالتفريق بين الأشياء والأسماء.

2- منهج التفريق بين الأشياء والأسماء

وهو المنهج الذي يعنى بالتفريق بين الأشياء والأسماء التي تتفق في الصور والأشكال وتختلف في الحقائق والأحكام. وقد جاء في القواعد: «نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماءٍ وأشكال»58. وقاعدة «الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني»59. ومثالها كما ذكرنا: الخنزير البري والخنزير المائي، فهما متفقان في الاسم وفي غالب الشكل أو ملامح الهيئة، ولكنهما يختلفان في الحقيقة الخلقية والطبيعية، ويختلفان بناء على ذلك في الحكم الشرعي، فالبري محرم والبحري جائز، ولكل دليله وحكمة مشروعيته. وفي الفنون يتسع مجال بحث هذه الفنون بناء على منهج التفريق بين أنواعها ومفرداتها واستخداماتها، في ضوء طبائع ذلك الأصلية، فالمعتبر في الحكم على الفنون هو طبائعها من جهة أولى، واستعمالاتها، ومآلاتها من جهة ثانية، وهو ما يجعل الحكم قائما على مراعاة الطبائع والحقائق وليس قائما على الأشكال والأسماء، وإن كان هنالك اتفاق وتطابق بين هذه الأسماء مع التباين والاختلاف في الحقائق والأحكام.

3- منهج المآلات

وهو الالتفات إلى منتهيات الفنون ومصائرها بمستوياتها ومقاماتها، فقد تؤول إلى الخير والنفع، وقد تؤول إلى الشر والضر، وقد تؤول - وهو الأغلب- إلى الخير والشر والنفع والضر بتداخل وتشابك، فيحكم على ذلك كله بقاعدة الغالب والسائد والدائم والعام والباقي. جاء في القواعد: «يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما»60.

4- منهج الإمكانيات والمباحات

يعنى هذا المنهج بمراعاة الإمكانيات والمباحات، سواء ما كان ممكناً في الحال، أم ممكنا في المآل. فالممكن في الحال يعتمد عليه في عمل الفنون أو بعضها، بما يحقق نفعها ومعروفها، وغير الممكن يعتبر في تهيئة مقدمات تحقيق الإمكانيات وتعزيز القدرات.

ويرد الممكن وعدمه في المجال الواحد بحسب الأوجه والأحوال، فقد يكون فن من الفنون ممكنا في وجه أو جهة أو ظرف، ويكون غير ممكن في غير ذلك. وهو ما يحيلنا إلى فعل الممكن وتهيئة ما يزيل غير الممكن لتحقيق الممكن كليا أو جزئياً. وقد نص العلماء على أن الممكن لا يسقط بغير الممكن، وهو الذي عبروا عنه بقولهم: «الميسور لا يسقط بالمعسور»61.

5- منهج الأولويات

يعنى هذا المنهج -كذلك- بتقديم الأولى والأحرى وتأخير غيره وخلافه. وتحديد الأولويات عملية ذهنية وإجرائية تقوم على النظر في الوقائع والتجارب والمنافع والمكاسب، وهي في الفنون مطلوبة غاية الطلب، من جهة تحديد الأوليات في الفنون، نوعا وصنفا، ومضمونا ومعنى، وشكلا وصورة، وزمانا ومكانا، وغير ذلك مما يتحدد بناء على كلام العلماء ونتائج الخبراء وفضل الصلحاء.

6- منهج الاستقراء والإحصاء والتقويم والاستخلاص والتقييس والتثمين:

يعنى هذا المنهج باستقراء الشواهد والأعمال، وإحصاء الظواهر والمحاصيل والمواقف، من أجل الاستخلاص منها واعتمادها في المقايسة؛ «لجس النبض»، ورصد الحال وضبط الظاهرة وتطوير الأداء، وتعميق الأثر وتثمين الجهود وتجديد الطاقات، وتحيين الفرص وتحرير المبنى والشكل والمصطلح والشعار من الدواخل والزوائد، وتخليص المعنى مما ليس له معنى.

7- منهج اعتماد البدائل

يُطرح منهج البدائل من عدة جهات: الجهة الأولى، وهي اختيار الصيغ والمشروعات الفنية التي تكون بديلا عن غيرها، من حيث أولويتها وأصلحيتها. والجهة الثانية، وهي تقليل الآثار السيئة لبعض الفنون، فتقليل الشر مقصود، ودرء الأفسد مطلوب ومعقول. أما الجهة الثالثة فهي تعزيز قدرات الوعي بالبدائل وترفيع أقدار العمل به، فيُلاحظ في الواقع المعاصر ضمور هذا الوعي في الذهنيات العامة فضلا عن العقليات الخاصة، وكأنه غير وارد في الشرع والعقل، أو أنه وارد بمستوى ثانوي وجزئي، على غرار وروده في بدلية التيمم عن الوضوء والغسل، وفي بدلية قضاء رمضان عند تعذر أدائه في وقته... ولم يتقرر بناء على ذلك الوعي التام بفريضة البدلية أو شعيرة البديل، التي تحل محل الأصل عند تعذره، بسبب العذر الشرعي والعجز الإنساني. وقد تقرر ذلك في التأصيل والتحقيق فيما يُعرف بالرخص في مقابل العزائم، والشروط في مقابل الموانع، وهو ما اتسم بالكلية والقطعية بمقتضى الاستقرار والاستدلال. وعالم الفنون اليوم فسيح ومعقد وضخم ومركب، وهو قابل لأن تؤدى فيه البدائل الفنية والجميلة في مقابل الأعمال الردئية الذميمة، بمنهجية التدرج والترفق، وبمسارات التراكم والتنافس، وبآليات التحسين والتطوير. وقد جاء في القواعد: «إذا تعذر الأصل يُصار إلى البدل»62.

السياق المقاصدي الذي يحتضن الفنون

السياق هو البيئة الإنسانية والواقع القائم، الذي تجري فيه الحوادث وتؤدى فيه الأعمال وتعيش فيه الأنفس. وعبارة «المقاصدي» الواردة قيداً لعبارة السياق، يراد بها اتسامه بالمقاصد، واتصاف أهله بالوعي والعمل بها، في مجالات الحياة كلها، بما في ذلك مجال الفنون.

والسياق المقاصدي يعد الميدان الرحب والمهم في إقامة الفنون وإنجاح عملياتها وتحقيق آثارها، وذلك بالنظر إلى ارتكاز الفنون على جلب المصالح ودرء المفاسد، وإلى معاملة هذه الفنون على معانيها الحقيقية في الجمال والإبداع والزينة، وليس على ظواهر صورها وقبيح مشاهدها، وإلى اعتبار هذه الفنون جزءا من العلوم والمتون، التي تقوم عليها المجتمعات والدول في بناء الإنسان الصالح، وعمارة الأرض الطاهرة، وتجميل المدن بعد تخطيطها، وتشييد البنيان بعد ترسيمه وتصويره.

وخلاف السياق المقاصدي معاكسةٌ للفنون في جمالها وإبداعها، ومصادمةٌ للفطرة السوية التي ركز فيها حب الجمال والإتقان، وتعطيلٌ للنمو العمراني الإنساني المبني على الفنون بأنواعها، مما هو ضرورة معاش، أو حاجة ناس، أو تحسين
مقام وبيئة.

ولما غاب الوعي بالمقاصد المعتبرة في الفنون وغيرها، ظهر التظاهر بحب الجواهر، وعم الجهل والتعصب والتنطع، وانتشرت الرداءة بأنواعها، واستفحلت ظواهر العفن وقبيح الفتن، مما هو ملاحظ في تكدس الفضلات، وتعثر الإصلاحات، وتبعثر المنتوجات، وخراب شمل العمران والإنسان. وهو ما أوقع كثيرا من الناس والبرامج والسياسات في الهبوط الأخلاقي والتراجع الحضاري، بمزاولة الأدواء الفنية وليس الأدوار الفنية، التي أقل ما يقال في بعضها: إنها تهريج وضعف وهشاشة، في أشكالها فضلا عن مضامينها.

ولذلك يلزم الوعي بالمقاصد فهما وعملا، باعتبار مرجعيتها في إقامة الفهم الصحيح للدين الجامع لنصوصه وغاياته وأسراره، وإقامة العلم الدقيق بالفنون وماهيتها ورسالتها وأثرها في حفظ الفطرة والهوية وتعزيز الموهبة والوطنية وترسيخ الأمة والإنسانية، وإقامة الإحاطة المستنيرة بالواقع وسياقه ومتطلباته.

المبحث الثالث: جدلية الفنون والمقاصد

تتراوح هذه الجدلية بين الفنون والمقاصد من عدة جهات، كجهة التداخل وجهة التكامل وجهة التناغم والتوافق، وهو ما يعبر عن الوصل بينهما في هذه الجهات، وفي المواكبة والمرافقة، فالمقاصد بموضوعها المصلحي وبعدها الغائي والمآلي والوسائلي واعتبارها المعنى الذي يجمع بين المبنى والمعنى، ترافق الفنون في تأطير أنواعها والتكيف مع اتساع مفهومها، وفق ضوابط المقاصد وميزان المصالح، بل إن المفهوم الواسع للفنون والنظر الفسيح للمقاصد يتناسبان في مسار كلٍ منهما، وفي سياقهما وأحواله ومآلاته، وهو ما يجعل دراسة الفنون في ضوء المقاصد أمرا واعدا على صعيد الفهم والفعل، وتقرير الفنون الجميلة والبديلة وتحصيل ثمارها ونفعها.

وبخلاف ذلك تنفصم الروابط بين الفنون والمقاصد، ويضعف استثمار ذلك في التوظيف بالفنون والتأطير بالمقاصد، وهو ما يُلاحظ لما يضيق مفهوم الفنون ويختل العمل بها، ولما يضيق مفهوم المقاصد وتختل مراعاتها والاعتبار بها. وشواهد ذلك تشمل القيم والأشكال والسياق والبيئة، وما يكون عليه كثير ممن أغفلوا قيم الجمال ومعاني الفن، وأهملوا الاعتبار بالغايات والمآلات والسياقات، وأوقعوا في الفهوم السطحية والتطبيقات المشوهة والسياسات الفاسدة، فهؤلاء قد ضلوا وأضلوا، والعياذ بالله من الخذلان والخسران.

ومن ذلك كذلك تفاوت مستويات النظر إلى الفنون من منظور المقاصد، حيث نظر البعض إلى ذلك باعتبار الفنون تخدم المقاصد التحسينية وربما شيئا من المقاصد الحاجية، ونظر البعض الآخر إلى اعتبار الفنون تخدم المراتب الثلاث، بناء على حيثيات ذلك وسياقاته.

المبحث الرابع: الفنون والمقاصد: كلاهما يخدم الآخر

تتحدد هذه العلاقة الجدلية والتفاعلية بين الفنون والمقاصد وفق المفهوم الواسع للفنون والنظر الفسيح للمقاصد، وبعلاقة جدلية تفاعلية، ونسق معرفي ومنهجي وسياقي. فكلاهما يخدم الآخر ويتواصل معه. وهو ما نبينه ضمن المطلبين الآتيين:

أولاً: الفنون الخادمة للمقاصد

الفنونُ بمفهومها الواسع (القيم، والتعبير عنها، بمرجعية الإسلام، ونفع الناس، بسياق وجمال وإبداع)؛ تخدم المقاصد بنظرها الفسيح: بموضوعها: (المصلحة ومستوياتها الضرورية والحاجبة والتحسينية والوسائلية والمآلية ...)، ومنهجها وسياقها... وهذه الخدمة تكون بعدة أضرب، ومنها:

الضرب الأول: تأسيس الوعي العميق بالمقاصد، إطاراً مرجعياً للتعبد والتدين والتمدن والتحضر، ومنهجا لتنشيط حركة التعليل والتقصيد، وربطاً للمباني بمعانيها والظواهر بحقائقها، وتجاوز حالات الانطباعية والشكلية والسطحية في معاملة الأشياء والأشخاص، والمقولات والموضوعات، والسياسات والمنظومات .

الضرب الثاني: تحقيق النفع الإنساني والصلاح العمراني والحضاري، بإحداث المشروعات وتحقيق المنجزات وترتيب الآثار؛ بمقتضى تقرير الوعي والعمل بالمقاصد والوسائل، وتنزيل ذلك في سياقاته وإمكانياته وآلياته.

الضرب الثالث: خدمة الموضوعات المقاصدية ذاتها، كموضوع حفظ العقل، بإنارته وعمارته بالمفيد والمجدي، وصرفه عن سائر المشغلات التي تطمس حقيقته وتشاغب دوره في الحياة والواقع، وتعمل على إسكاره؛ بمسكرات الحس، كالخمر والمخدر، ومسكرات الباطن، كالخرافة والمغالطة. بل تعزم على إخراجه من دائرة الرشد الإنساني والحضاري، وإدخاله إلى دياجير السفه والعته والبله، حقيقة ومجازا، وتصورا وإنجازاً.

الضرب الرابع: خدمة الفطرة بوصفها خصيصة الإنسان، وحقيقة الخلق، ومصلحة الدين، وضرورة المعاش، ووعاء الحكمة والفطنة والمصلحة... وتكمن هذه الخدمة بتأثيث منظومة الفنون بما يلزمها من المضامين والصيغ والقيم والضوابط، من أجل حماية هذه الفطرة مما يهدد وجودها أو يقلل أثرها؛ بمقتضى مشروعات استهداف القيم واستعداء الدين، وبموجب سياسة الإكراه على الزيغ الفطري الخطير بأنواعه وخلفياته ومآربه.

الضرب الخامس: خدمة السلم والأمن داخل الأوطان وفي العالم، وترسيخ أواصر التعايش والتعارف، بدل التنازع والتقاتل؛ بناء على مقاصدية السلم والأمن وغائية ما يترتب على ذلك من التنمية الشاملة والعمارة الحضارية؛ فبوسع الفنون البديعة والجميلة أن تقوي هذا المقصد وترسخ الوعي والعمل به.

الضرب السادس: خدمة العلم والفهم والنظر والاجتهاد والبذل والعطاء والإنتاج والإنجاز والتعاون والتكافل، وسائر ما يمثل الأبعاد الغائية والموضوعات المقاصدية والمصالح الإنسانية، وذلك يتنزل في إطاره وبمقامه، وبمدى تقدم الوعي وتطور الفكر وإرادة التجاوز؛ من أجل الإصلاح.

ثانيا: المقاصد الخادمة للفنون

شطرُ العلاقةِ الجدلية والتفاعلية بين المقاصد والفنون، هو أن المقاصد تخدم الفنون وتطورها وتجددها وتقيمها على الجودة والحوكمة والفائدة والحكمة.

وأبرز ضروب هذه الخدمة:

الضرب الأول: خدمة قيم الفنون ومعانيها باعتبارها حقائق مبانيها وجواهر ظواهرها. وهذه القيم دينية وأخلاقية وإنسانية ومدنية وحضارية وسياسية. وهي مع ذلك مركوزة في الخلق ومخزونة في الوجدان ومبثوثة في العقل.

 وللفنون أثر بالغ في خدمتها وتقويتها وتعظيم آثارها، أو في تنقيحها مما علق بها من شوائب الزمان والمكان والحال، وتخليصها من براثن الجهل ومفاسد الهوى ومكامن الضعف والسهو. ومثال ذلك: قيم الحرية والعدالة والكرامة، وقيم الأمومة والأبوة والأسرة، وقيم التكافل والتعاون والتعارف؛ فهذه القيم وغيرها يمكن أن تُخدم وتسند بأعمال فنية إبداعية؛ تقيم الجمال الحسي والمعنوي، وتجلب النفع والخير، وتقر الحق والمعروف، أي؛ تكون إطاراً لتنمية قيم الحق والخير والجمال، وفضائل الدين والعقل والخلق، ومقاصد النصوص والأحكام.

الضرب الثاني: خدمة الأشكال والصور الفنية التعبيرية، التي تبين تجليات قيم الفنون في الواقع والحياة، برؤية وظيفية وإنتاجية، ومسار عملي وتطبيقي؛ وبهدف اعتماد القيم إطاراً يوجه السلوك الإنساني، ويهذب الذوق، وينمي الذائقة، ويجلب النفع والمتعة بميزان العدل والحق والمعروف.

 وتظهر جليا خدمة المقاصد للفنون من جهة وسائل المقاصد، التي تعد الطرق المفضية إليها؛ فالوسائل تأخذ حكم المقاصد. وخدمة الصور والأشكال الفنية التعبيرية يمكن أن نعدها من الوسائل لأنها مقدمات وطرق توصل إلى حقيقة القيم ذاتها، وتؤدي إلى جلب المصالح والمنافع، بموجب ذلك؛ فهي والوسائل بمعنى واحد، على صعيد الاشتراك في المآلات النافعة والمصالح المعتبرة والقيم الأصيلة.

الضرب الثالث: خدمة المرجعية الإسلامية والمنفعة الإنسانية والجمال الأصيل والإبداع المحمود، وذلك من جهات عدة؛ وهي:

الجهة الأولى: نوط القيم والصور الفنية بمبادئ الإسلام (كالتوحيد والتزكية والعدل والإحسان والحق والخير والمعروف والحسن...).

الجهة الثانية: نوطها بالنفع الإنساني العام والخاص، وفق مساقاته ومساراته؛ فالفنون ينبغي أن تكون فنونا نافعة، تجلب الخير وتكثره، وتدرأ الشر وتقلله، وتوازن بين الخيرين والشرين، وتحدث المسرة والبهجة، وتدخل الأمل والحسن، وتدفع إلى العمل والإنتاج.

وميزان النفع في الفنون، النفع بمدركاته ومجامعه، كالجمع بين نفع الفرد في إطار نفع المجموعة (الأسرية، الوطنية، نفع الأمة، الإنسانية...)، والجمع بين انتفاع الجسد بغذائه وهوائه ودوائه، وانتفاع الروح والعقل والقلب والوجدان، بما
يلزم من الفكر والذكر والفقه والفهم والترقي والتوقي، في مجال التربية والتزكية والانكسار والاستثمار.

 والانتفاع في منظومة الفنون البديلة البديعة نظم من المعارف والمسالك، ومجمع من الخيرات والمدارك، لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا تغلب فيه ولا تغول، بل يجري على نسق، تُجمع فيه مجامع النفع في الحال والمآل، والفرد والمجتمع، والظاهر والباطن، والخاص والعام، ويبنى على وضع الدنيا التي تعمر الآخرة، من جهة كون الدنيا متاعاً نافعاً، وخير متاعها دوامه في الدار الآخرة وثباته؛ فاعتقاد أهل الفن بمرجعية الإسلام، اعتقاد نفعه في الدارين، كتقرير نفعه للوضعين؛ وضع الظاهر والباطن، ووضع الذات والآخر ووضع المأمول والحاضر...

الجهة الثالثة: نوطها بالجمال الذي يمثل جوهر الفنون ولبها ومدارها، وهو الجمال بحقيقته الجامعة لجمال الظاهر والباطن، وجمال الدين والإنسان والطبيعة، وجمال العلم والفقه والحكمة، وجمال الأسرة والمجتمع والأمة... وقد جاء في نصوص الشرع الحنيف ما يدل على عموم الجمال وشموله للذات والصفات والنصوص والأحكام والقيم والفضائل؛ فقد جاء قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4]؛ مشعرا بالجمال في الخلق والتكوين والمظهر والتصوير63؛ فلفظ الأحسن يشمل الوضع الأحسن في نفخة الروح وقبضة التراب، أي: في خلق النفس وجمال الصورة وإبداع التكريم والتكليف.

 الجهة الرابعة: نوطها بالإبداع الذي هو الاختراع المتزايد والابتكار المتجدد، الشامل للأفكار والوسائل والصيغ والبدائل، والمواكب للتطور والتغير، والمناسب لزمانه وحاله، والجالب لخيره وبره. ومن الإبداع إبداع الفطرة في وضعها الخلقي الجبلي الصافي بإرادة حرة وإدراة محررة، وفي أهليتها في تعمير الوجود وتعبئة المفقود، وليس في تغيير خلقها وإفراغها من قيم الإيمان والعمل وتشويهها وتدنيسها..

 إن الفنون ينبغي أن تحتضن الفطرة وتحتقر الفتنة، من حيث كونها تلبيسا وتدليسا للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومصادمة للدين القيم الذي أنيط بالفطرة السوية. قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[الروم:30] .

الجهة الخامسة: نوطها بالسياق الذي هو مقام تنزل الفنون وتفعيلها، وهو ما يستوجب المسايرة في حق، والمرافقة في أمن، والمداومة في أثر ومنتوج، وهذا يقتضي التأثيث بالمضامين والمشروعات واللوازم والأدوات.

الفصل الثالث : الفنون من المقاصد والنصوص إلى الواقع والنفوس أو الفنون من فقه النظر إلى فقه العمل

بعد أن بينا الفنون، من اعتماد النصوص الشرعية إلى تقرير المقاصد المرعية، بناء على وحدة المرجعية في ذلك؛ من حيث النصوص والمقاصد، اللذان يمثلان الوحي الإلهي قرآنا وسنة، بمقاربة الاجتهاد والتحقيق، وبموازنة منهج الجمع بين النصوص والمقاصد، والجزئيات والكليات، كما هو معتبرٌ عند العلماء المحققين.

فبعد هذا البيان، يمكننا تقرير الفنون بناءً على النصوص والمقاصد؛ تقريراً لما يصطلح عليه بفقه النظر، الذي يعنى بحقيقة العلم النظري المستقر في الذهن، بخصوص العلم بالنصوص والمقاصد في مجال الفنون والمجالات الأخرى.

وهذا الفقه يشملُ ماهية كلٍ من النصوص والمقاصد والفنون، من جهة التشابك بينها، وهو ما يشمل مفهوم كل من النصوص والمقاصد، والإطار المرجعي لهما، من حيث بناء المواقف عليه. ومن حيث بيان حكم الفنون من جهة التكليف الحاوي لأحكامه المعلومة، وهي: الوجوب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة، والأَوْلى وخلافه، والوجوب الكفائي، والحكم بالكل والجزء، وغيره.

الحكم الشرعي للفنون

الحكم الشرعي هو: «خطاب الشارع المتعلق بأفعال الناس، بالاقتضاء (أي الطلب)، أو التخيير أي (الإباحة)، أو الوضع (أي: ما وضعه الشارع أمارة تكون سببا لحكم التكليف أو شرطا له أو مانعا له...»64.

والفنون أفعال إنسانية يتعلق بها الحكم الشرعي التكليفي والوضعي. ويمثل الحكم التكليفي فقه النظر. ويمثل الحكم الوضعي فقه العمل، وفقا للنصوص المقررة للحكم، والمتضمنة للمقاصد بإقامة هذا الحكم65.

الحكم التكليفي للفنون

يتحدد الحكم التكليفي للفنون بناء على طبيعتها وأنواعها ومآلاتها ومقاصدها وتلبسها بغيرها... وهي تأخذ الأحكام الخمسة بحسب ذلك، فتكون واجبة إذا تعلقت بالواجبات والضروريات والحاجيات، كفن العمارة في إقامة البنيان والمعاش وحماية الأنفس والأبدان والأعراض والصحة، وكفن الخط في حفظ المتون والعلوم والحقوق والمواثيق... وتكون محرمة إذا أشغلت عن القيم وأدت إلى المفاسد وأخلت بالمصالح والفطرة. وتكون فرضاً كفائيا إذا تعلقت بالمجتمع والدولة والأمة، وبمجالات الصالح العام الذي تكون الفنون فيه إحدى مجالاته الحيوية، كسائر فنون الصحة والتعليم والنقل، حيث يتعين أن تتخصص فيه فئة، وأن يرصد له مال، وأن تقام جهة حاضنة لكل ذلك. ويتطرق إلى الفنون حكم الندب أو الكراهة والأولوية وخلافها؛ بناء على نصوص ذلك ومقاصده، وبحسب سياق ذلك واعتباره.

الحكم الوضعي للفنون

الحكم الوضعي عند العلماء هو مجموع الأمارات المجعولة لإعمال الحكم التكليفي وتنفيذه. وهذه الأمارات هي: السبب والشرط والمانع والعزيمة والرخصة والصحة والبطلان66.

والحكم الوضعي للفنون هو إعمال الحكم التكليفي لها بناء على تلك الأمارات. فالفنون لها أسبابها وشروطها وموانعها وعزائمها ورخصها وصحتها وبطلانها. فبمجموع هذه الأمارات تتقرر الأحكام التكليفية لها، بناء على نصوصها ومقاصدها.

وتعنى الأسباب بدخول أوقات الفنون وقيام الحاجة إليها، ومثال ذلك: جواز ضرب الدف والاستماع للطرب بدخول وقته يوم العيد، الذي هو وقت فرح وبهجة، فهذا الوقت يؤذن باستعمال هذا النوع الفني من فنون الطرب والغناء.

 أما الشروط فتعنى بما يلزم وقوعه في الفنون من حيث شرط الحاجة إلى ذلك، وشرط الإفادة بذلك، وشرط التوازن مع المجالات الأخرى دون إفراط وتفريط، وهو ما نص الفقهاء عليه بقولهم بخصوص أمن التوازن النفسي، والانضباط الخلقي67، وملازمة التوسط في ذلك كله.

وأما الموانعُ فتعنى بما يمنع إعمال الفنون، سواء فيما يتعلق بالفساد الذي تشتمل عليه، أو بالظروف التي تحيط بها، والتي تمنع قيام الفنون الإسلامية والجميلة والإبداعية. فمن الفساد الفني اختلاطه بالمحرم كشرب الخمر وإثارة الشهوة وإيقاع العداوة...، ومن الظروف التي تمنع الفنون الإسلامية مواجهة الفن البديل وقمع أصواته وحراكه، والتفرد باللون الفني الواحد المساير لثقافة الحزب الواحد والزعيم الواحد والأنموذج الواحد.

أما العزائم والرخص فهي الأحوال العادية الاختيارية والأحوال الاضطرارية الاستثنائية، التي تكون عليها الفنون، من حيث الإقدام أو الإحجام، ومن حيث مقادير ذلك وأشكاله وضوابطه وأدواته... وهو ما يمثل بحثا علميا يحتاج إلى الأقدار العالية من التحقيق والتدقيق.

وأما صحة الفنون وبطلانها، فهو ثمرة ذلك كله، من حيث الحكم عليها كليا أو جزئيا بالصحة والسلامة الدينية والإنسانية والأخلاقية، أو بالبطلان والفساد؛ لفوات سبب أو شرط، ولحصول مانع وقادح، ولانتفاء الضرورة أو اختلال الاختيار.

موضوع الحكم الشرعي

للحكم الشرعي موضوعه أو موضوعاته، وهي أفعال الناس وتصرفاتهم المختلفة والمتنوعة. والتعبير بالموضوع يشير إلى أن هذه الأفعال قد وضع لها الحكم الشرعي، أي وضع هذا الحكم لبيان موقف الشرع منها، وفقا لأقسام الحكم من حيث الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة وغيرها. ومثال ذلك باقتضاب ويسر: المشي والانتقال، فيكون واجباً إذا كان لعمل وحاجة أسرة، ويكون مندوبا إذا كان لزيارة مريض واتباع جنازة وفعل نزهة، ويكون حراماً إذا كان لفتنة وسرقة ومفسدة، ويكون مكروها إذا كان بين الفضلات والأوساخ. ويكون الأصل فيه الجواز والإذن، إذا خلا من القرائن التي تصرفه إلى الوجوب أو التحريم أو الندب أو الكراهة.

وتعد الفنون موضوعاً للحكم الشرعي، أي أن هذا الحكم قد وضع لبيان موقف الشرع منها، بناء على النصوص والمقاصد، وفي ضوء الملابسات والمآلات. ولا شك أن هذا الحكم ليس بمستوى واحد أو بوجه واحد، بل هو بمستويات كثيرة متعددة بتعدد أنواع الفنون واستخداماتها وسياقاتها ومآلاتها. وهو ما يجعل بحث أحكام الفنون عملاً علمياً مضنيا ودائما، فضلا عن كونه عملا متخصصا ومتداخلا مع غيره، وأداء يرتبط بالإمكانيات والبدائل والوعي والإرادة والعموم والشمول.

واعتبار الفنون موضوعا للحكم الشرعي يفضي إلى القول بكونها أفعالا لهذا الحكم أو للفقه الإسلامي المبين للحكم، نظرا وعملا، أي فيما استقر في الذهن من المعلوم النظري، وفيما ينزل في الواقع بتلبسه بأصحابه وأحواله وإفضائه إلى مآلاته ونتائجه.

الفنون أفعالٌ للحكم الشرعي والفقه الإسلامي

الفنون أفعال؛ أي أقوال وتصرفات ومواقف تصدر من أصحابها الفنانين والمعماريين والخطاطين، وتصدر سياسات هذه الفنون من أصحاب القرار السياسي والحكومي، وأرباب الشأن المدني والعلمي والثقافي والمالي.

طبيعة الأفعال الفنية

1) أنها فردية وجماعية، وبسيطة ومركبة، ومختلطة ومتداخلة، ومتشعبة ومتطورة ومتراكمة، وهو ما يجعل الحكم عليها يبنى على حسن التصور والتكييف والتحليل والتفكيك والتنويع والتفريق، وغير ذلك مما لا بد منه في فقه النظر وفقه العمل.

2) أنها تبنى على المعنى الذي يكون أحياناً مضمونا دينيا أو خلقيا أو إنسانيا، في العقيدة أو السلوك، وفي النظام والبيئة والمحيط. فالتوحيد، وهو مضمون العقيدة الإسلامية ومعنى فني مركوز في النفس والكون، يقع التعبير عنه بالأفعال الفنية الظاهرية كالرسم والخط والشعر والأدب والتمثيل والتصوير، في إطار من التجريد المثري لهذا المعنى، وليس التجسيد الذي يفقره ويخدشه ويقلل أثره68. ولذلك يلزم رد الفنون إلى معانيها وحقائقها، وليس إلى ظواهرها وأشكالها بمعزل عن ذلك، وهو ما يجعل الحكم عليها حكما موضوعيا، أي بناء على الموضوع الحقيقي والمعنوي، وحكما واقعيا، أي بناء على جريان هذه الفنون أو الأفعال الفنية في واقعها ومآلاتها وسياقاتها، وليس خارج ذلك كله، فالموضوع أو الأفعال الفنية في ذاتها، والواقع الذي هو الأعمال الفنية في جريانها فيه بأحواله وملابساته؛ كل هذا يمثل الإطار الإنساني الذي يتأطر بالحكم الشرعي المنوط بنصوصه والمتضمن لمقاصده.

3) أنها معقولة المعنى، وتقبل التفسير العقلي والحكمي والمصلحي، وتتعدد وسائلها وكيفياتها، وتختلف باختلاف الزمان والمكان والحال والأشخاص والأعراف والعادات والنظم والسياقات والقرائن...، وهي واقعة في مقابل التعبدي التوقيفي الذي تم ضبطه ضبطاً دقيقاً وثابتاً في المقادير والكيفيات والمدة والبقعة والثمرة والربط بالآخر... أما معقولية معنى الفنون فمضبوطة في الأصول العامة والقيم الفاضلة والمقاصد المعتبرة، باستثناء ما ورد بنصه وبيانه، فيستصحب فيه التعبد والتقيد. ومثاله زخرفة المساجد والتغني بالآذان ونحت أشخاص الأنبياء وتجسيدهم.

وهذا المعنى المعقول للفنون يجعلها تقبل سعة النظر ورحابة الاجتهاد وإمكانية التقدير والتطوير والتفعيل؛ بما يحقق مقاصدها ويقيم وزنها ويجلب منافعها. وخلاصة ما ورد يقرر المعنى العادي للفنون؛ أي إنها من العادات وليس العبادات، إلا ما استثناه الدليل، كفن خط رسم المصحف، فهو تعبدي من جهة الحفاظ على معانيه وأحكامه وحدوده؛ وفق ما نزل به وورد، وهو معقول المعنى من جهة تعدد ألوانه وأحجامه. وإذا تقرر أن الفنون عادات وليس عبادات، أمكن إجراء الاجتهاد فيها بمقتضى مراعاة المصالح جلباً والمفاسد دفعاً، والاعتبار بالعرف والحاجة والشخص والمكان.. جاء في القاعدة «الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني»69. وفي القاعدة: «الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبد»70.

4) أنها وسيلة لمقصود أو ذريعةٍ إليه، ويحكم على الوسيلة أو الذريعة بحسب المقصد والغاية، بناء على قاعدة «الوسائل لها أحكام المقاصد»71. وتدخل الوسائل الفنية -في عمومها- في الوسائل المتغيرة، التي تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والإنسان والنظام الحاكم والحالة السياسية والظاهرة الاجتماعية.

5) أن أغلب أنواعها ومسائلها ونوازلها مصالح مرسلة لم يرد فيها دليل خاص من الكتاب أو السنة، وإنما تتأطر بالقواعد الكلية والأصولة العامة، فالفنون (بمقادير ومجالات وأنواع..) مصالح مسكوت عنها، ويكون بعضها مفاسد مسكوتا عنها، وهذا كله يتحدد حكمه بناء على تصويرها، وتكييفها وإدخالها تحت قواعدها وأصولها، وتقرير فتاواها الفقهية ومقارباتها الشرعية.

الاجتهاد في الفنون

الاجتهاد في الفنون هو بذل العلماء جهودهم النظرية والنفسية والذهنية من أجل استنباط أحكام الفنون وتقرير فتاواها، بغلبة الظن ورجاء الحق وإرادة الخير. وشروطه هي: شروط معرفية، تتعلق بالحكم الشرعي ومدركاته، وشروط واقعية، تتعلق بالواقع وحالاته وملابساته وسياقاته، وبالإنسان وكرامته ونيته ومصالحه ومتطلبات معاشه ومصائر حياته.

وينضاف إلى هذه الشروط شرط العلم بالفنون وماهياتها وأنواعها واستخداماتها ومسائلها ومستجداتها... وهو ما يستوجب تضافر جهود علماء الشرع وخبراء الفن وصلحاء القوم؛ لتكوين الرأي واعتماد الأثر وتعميق النظر وتحصيل الثمر.

أصول الاجتهاد في الفنون

الاجتهاد هو النظر والاستنباط والتخريج والتعليل والتأويل والتفسير. ومنه القياس، بمعنى تسوية المجتهد بين الأشباه ومراعاة الاشتراك بين العلل والمعاني...، ومنه كذلك الاستحسان الذي هو الاستثناء من الأصل لمصلحة راجحة، والذرائع سدا وفتحا، والاستصلاح وطلب المصلحة وإعمالها وجمعها وترجيحها...

وأصول الاجتهاد هي مدركات هذا الاجتهاد، وهي النصوص الشرعية، ولغتها التي نزلت ووردت بها72، وقواعد الفطرة والحياة وسنن الوجود والكون.

والاجتهاد في الفنون يعتمد على ذلك كله، بالنظر إلى ما ورد في هذه الفنون من النصوص واللغة والأسباب والسياق، وما تعلق بها من الوقائع والمواهب، وما تلبس بها من الحاجة والضرورة والزينة والتحسين. وهو ما يمثل مدركاته ومحدداته في الحكم على هذه الفنون بأنواعها الكثيرة وتغيراتها الوفيرة. وهذا يحيلنا إلى علم أصول الفقه وقواعد الشريعة ومقاصدها، فضلا عن علوم التفسير والحديث والتخريج والتفريق...؛ من أجل إقامة الاجتهاد الصحيح، بصحة مدركاته وأدواته ومناسباته، وليس بمزاولة ظاهر من الأمر الاجتهادي، وجانب من النظر الفقهي والفني.

الفصل الرابع: تحقيق القول في مصطلح «الفنون البديلة»

ترد الفنون البديلة في إطار التعدد الفني والثقافي، ودون أن تكون مصادمة للفنون الأخرى بالضرورة، وهو ما يستوجب المنافسة والمسارعة، بناءً على الحق والكفاءة والسيادة والخصوصية في ذلك. وفي عالم التعدد لا يمكن الإنكار على المشروعات الفنية بمرجعيتها الإنسانية والإسلامية والوطنية، وبحرية أصحابها فيما يختارون.

وترد في مقابل ألوان من الفنون التي شذت عن الفطرة والسيادة والأمة، واتجهت اتجاهات كان لها الأثر السلبي على مصالح الشعوب وكرامة الأمة وطهارة الإنسانية.

كما ترد في واقع عالمي متحرك بشدة، وتفرض فيه الخيارات بقوة، وهو ما حمل على المقاربات البديلة والمنافسة، على غرار بدائل الاختيارات والنظم الاقتصادية والسياسية والقانونية.

وقواعد الفنون البديلة هي مرجعيةُ الإسلامِ بنصوصه وأصوله ومقاصده وقيمه، وبمناط الإنسانية ونفع البشر، وتقرير الجمال والإبداع، ومراعاة السياق والمقام. وهذا يتنزل في فضاءاته المحلية والإقليمية والدولية، وبمراجعه العلمية والفنية والمنهجية والإجرائية.

وحقيقة البدلية (اعتماد البديل عن الأصل عند تعذره) تجري في النصوص والمعقولات والواقع والمنظومات73. وهي ثابتة من ثوابت الإسلام، تقررت بجزئياتها وكلياتها، وهي تبدأ من التيمم بدلا عن الوضوء، لتصل إلى البدائل العليا والأمثلة الكبرى في العمارة والعمران والحضارة وقضايا الإنسان.

وقد أطلقنا ألقابا أخرى على هذه الفنون البديلة، على غرار لقب البديعة والجديدة..، للدلالة على نظم في الفنون متين ونسق في الفهوم مكين. وليس ينبغي أن يفهم ذلك على أنه تعصب وانقلاب أو تسيب وتهيب.

إن هذه الفنون البديلة لا يراد بها أن تطرح لتواجه الفنون الأخرى بالإقصاء والاستثناء، وإنما تطرح في مسار المنافسة وحراك الإرادة؛ ضمن المناخ الثقافي التعددي بخصوصياته وبحسب أهله وأوطانه، وبمقتضى البقاء للأصلح والأنفع، وليس بمسوغات التردي والرداءة، وإن كانت في كفالة ظلم واستبداد، أو حماية احتلال واستيطان.

وإنما تُطرح هذه الفنون البديلة لتعديل المشهد الفني، وتحقيق التوازن فيه، ومنع التغول لنمط فني معين، قد يجد طريقه للانفراد والاستبداد. فتأتي مشروعات هذه الفنون على صعيد البحث والوعي بها وتنزيل مشروعاتها؛ لمواجهة تمييع الذوق الإنساني، ومواجهة الفن الرخيص المبتذل على الإعلام بجميع وسائله وأدواته، البصرية والسمعية، وليمكن للفنان الحق -ونزعم أن الفنان المسلم جدير بهذا الوصف- أن يبث الوعي الفني في الجمهور المتلقي، وأن يعيد بناء الذائقة السليمة74.

المراد بالفنون البديلة

هي الفنون التي تنطلق من الواقع بإمكانياته؛ ومن أجل إصلاحاته، على صعيد طبيعة الفنون وأنواعها ومشروعها في حرمة الإنسان والعمران، وشهادة الأمة الخيرية الإنسانية. كما تستلهم من الماضي بتعدده وثرائه على صعيد الفنون بمنظومتها الحضارية وآثارها المادية والمعنوية؛ من أجل الاستئناف للاستشراف والاستعفاف؛ الذي فيه طلب العفة بمفهومها الفسيح ومعناها البديع، الذي يدل على العافية الدائمة في الدنيا والآخرة.

ويراد بهذه الفنون تقرير موضوعها، الذي يتسم بالسعة والفسحة، حيث إنه يستوعب الفنون بأنواعها المقررة لدى أصحاب العلم، كما يستوعب المستجد في ذلك بحسب تطور العلوم وتفرعها، وقيام تخصصاتها وزيادة مجالاتها.

كما يراد بها، تنزيلها في إطار مقاصد الشريعة التي توسع مدلول هذه الفنون، وتكسبها الثراء والتعاظم في المقادير والكيفيات والمنتجات والمآلات؛ بمقتضى موضوع المقاصد ومنهجها وسياقها، ونظمها العام، الناظر في المرامي والغايات، والناقد لسوء النية والإرادات، والجامع بين المباني والمدلولات، والمتطلع إلى الحاضر وربطه بالمآلات. وهو ما يجعل المقاصد والفنون يتلازمان ويتواردان، مهما اتسعت مفاهيم كل منهما وتداخلت قضاياهما وتجاذبت مشكلاتهما.

وإقامة هذه الفنون البديلة75في ضوء المقاصد الشرعية يستوجب بيانا لإطار هذه الفنون، من حيث الخصائص والمضامين وغيرها، ومن حيث تحقيق القول في ترددها بين مرجعية الإسلام (نصوصا ومقاصد، ونظرا وعملا)، وبين إطارها الإنساني (تكريما وتكليفا وتحضرا)، وهو ما نبينه فيما يلي:

أولا: فنون إسلامية أم إنسانية؟

كثيرا ما يتجاذب أهل العلم والفكر الحديث في طبيعة الفنون من جهة مرجعيتها الإسلامية وإطارها الإنساني، فيطرح هذا التساؤل المعني بإسلامية الفنون وإنسانيتها، وهو يمثل إشكالاً كبيراً في المعرفة الفنية موضوعاً ومنهجاً وأثراً وسياقاً، وارتباطاً بالآخر المعرفي والحضاري وتفاعلاً معه.

فبأي معنى واعتبار تكون الفنون إنسانية أو إسلامية، وإلى أي مدى ومنتهى يظل هذا الإشكال مرسلا عن تحقيق مضمونه وتحرير مصطلحه وفك مشكلاته، وبأي كيفية وسياقية يمكن أن ننزل مقاربة هذا الإشكال في الواقع بمقاديره وأقداره؟

الفنون بمناط الإنسانية ومرجعية الإسلام

المناط الإنساني هو حقيقة الإنسان ظاهراً وباطناً، تكريماً وتكليفاً، حالا ومآلا، انفرادا وانتظاما. وهو المعنى الوارد في نصوص الدين وسنن الوجود وقواعد العقل وشواهد الحق.

ومرجعية الإسلام هي النصوص بمدركاتها الجزئية والكلية، والنقلية والعقلية، والشرعية والكونية، فهي الأساس الذي يرد إليه التصور للوجود، وسائر المواقف في مفاصله ومفرداته وقضاياه. وليس هناك انفصام بين مناط الإنسانية ومرجعية الإسلام، وفق الوضع الأصلي، من حيث الخلق والتكريم، ووفق الوضع التكليفي، من حيث خطاب التكليف ومقاصده وأسراره، ومن حيث إرادة التناسب بين الخلق والأمر، ومن حيث الوضع الأصلي الابتدائي، ومن حيث الوضع الإنجازي المأمول بمستوياته وإمكانياته ومقاربته.

ومرجعية الإسلام تؤطر الإنسان وجودا ودورا وتفاعلا وتأثيرا، وتخاطب الإنسان بوصفه إنسانا، يقيم ذلك على صعيد الفطرة والكرامة والمسؤولية والحرية، أي بمناطه الخلقي ومناطه التكليفي الإنجازي عبر حياته ومساره. وهو ما يقرر إنسانية هذه المرجعية، وإنسانية التمثل لقيمها والامتثال لأحكامها والتمثيل لمقاصدها ومعقولاتها.

إنسانية الفنون للتعارف

يتصور توصيف الفنون بوصف الإنسانية، كونها للإنسان بوصفه إنساناً، لا بوصفٍ آخر، يُضيق من دائرة الإنسان الذي توجه إليه هذه الفنون، كوصف الجنس أو اللون أو الدين أو العرق.

فهي تخدم فطرته وفطنته، وتعزز إرادته وعقيدته، وتقوي عطاءه وإنجازه، وتناسب بين وجوده ومصيره، وحاجياته وإمكانياته، وحقوقه وواجباته، وتجعله الكائن المكرم الذي يعمر الحياة ويثمر الوجود، وليس الكائن المصادم لفطرته وإنسانيته، بما يقع فيه من نزعات التنطع والتشدد، ومنازع الانفراد والاستبداد، ومزالق الهوى بأنواعه، كالإلحاد والإفساد، ودعاوى التفوق بالعرق أو الحزب أو الجاه أو النسب.

وعليه يمكن لهذه الفنون أن توصف بالإنسانية، ولا تتعارض في ذلك بين وصفها بالإنسانية والإسلامية في آن ونسق.

وذلك للاشتراك بين المناط الإنساني والمرجعية الإسلامية من حيث الخلق والتكريم والتكليف والجزاء والحرية والمسؤولية وسائر قيم الإنسانية والمؤطرة بمرجعية الإسلام، جزيئاً وكلياً.

وهو ما يمكن معه تقرير وصف الفنون بالإسلامية، من جهة انبنائها على مرجعية الإسلام، ونصوصا ومقاصد وضوابط وموجهات، تخدم إنسانية الإنسان، وتجلب نفعه، وتقرر جماله، وتفعل إبداعه، وتراعي سياقه ومقامه.

إسلامية الفنون للتمايز

قد لا يتآخى الوضع الإنساني مع المرجعية الإسلامية، أحيانا وأشخاصاً وظواهر ونظماً، وسياسات وسياقات.... وهو ما يؤذن بالتضاد والتعارض، وتتفرع عن ذلك مواقف وأنماط في الفكر والسلوك، والعيش والانتظام .. بما لا يجري على وفق تعاليم الدين ومقاصده، ومن ذلك ظهور أنماط وتعبيرات في الفنون تخالف الإسلام في الاعتقاد، كالتعبيرات الفنية الوثنية والإلحادية، وفي السلوك والممارسات كالتعبيرات الفنية الماجنة التي تثير الغرائز خارج إطارها المنتظم بالزواج وعقده وقصده وأثره، أو التعبيرات الفنية المفرقة للجماعات والداعية إلى النعرات، والتي تثير العصبيات بنزعات الأهواء وحصول الأدواء ... أو سائر التعبيرات التي ترتبط بسياقاتها وتعبر عن طبائع أصحابها من الأفراد والشعوب والأمم، والتي تتصادم مع مرجعية الإسلام، اعتقادا وانتظاما وفنونا وحضارة وعمارة .... وهو ما يقرر التمايز الإسلامي في الفنون وغيرها وفق معالم ثلاثة:

1) معلم تمايز الفنون الإسلامية عن تلك الفنون غير الإسلامية، بالنظر إلى مخالفتها لمرجعية الإسلام عقيدةً وأحكاماً وأنماطاً وانتظاماً ...، ويعني هذا التمايز إسناد الفنون المؤداة في عالم المسلمين إلى المرجعية الإسلامية وفق إمكانياتها ومآلاتها وموازناتها... والابتعاد عن تداول الفنون المتلبسة بما يصادم الدين ويجافي الفطرة ويفسد القيم. وتحقيق المنافسة والمسابقة، بجدارة وكفاءة وإبداع وجمال، وألا يكون ذلك بنزعة استعداء وإقصاء واستفزاز وجلب الخصومة وإثارة الخصوصية وإكراه الآخر واحتقاره76.

2) معلم رصد المشترك وتعزيزه، وتشخيص الخلل وتدقيقه، والعمل على كسب القلوب واستثمار الفطرة والقيم الدينية والأخلاقية والموروثات الحضارية المستخلصة من رسالات السماء ودعوات الأنبياء وجهود المصلحين والفلاسفة والعلماء والخبراء.

3) معلم تعزيز الروابط وتأثيث الروافد بالمضامين والقيم والمشروعات الفنية البديلة والجديدة والمشتركة، والبحث عن القواسم المشتركة والمنتجات الوفاقية في الأساليب والأدوات والمصطلحات ...، والفصل بين ما هو موضع خصوصية اعتقاديه أو تعبدية أو حضارية، وما هو موضع عموم واشتراك بناء على المناط الإنساني (فطرة، تكليفا، نفعا عاما...)، أو بناء على العوارض والملابسات التي تؤذن بالجواز.

ومن مظاهر تمايز الفنون الإسلامية

المظهر الأول: مبدأ التجريد في الأعمال الفنية، وهو عدم التعبير عن المطلق بالصور والأشكال الفنية التجسيمية الحسية، التي تجعل المطلق اللامتناهي في النسبي المتناهي.

وهذا المبدأ التجريدي يلاحظ في قضايا الإيمان والمطلق بمشتملاته، كذات الله سجانه وصفاته، والغيب والكون... ولذلك أقيم الاجتهاد في التعبير عن القيم الإسلامية في قضايا المطلق على هذا التجريد والتصوير اللامتناهي، الذي وصفه العلماء بأنه يغني المعنى ويحقق المقصود ويفعل الخيال والتفكر، ويثري النظر ويحفظ العقل...

 ولعل التعبيرات الفنية عن الآخرة مثلا، يمثل عملا تجريديا أولا، من جهة عدم الحسم في الأشكال والصور والكيفيات والمقادير التي تمثل معنى هذه الآخرة نعيما مقيما وعذابا أليما ... وتمثل خدمة للمعنى ثانيا، من جهة نوط عمل الدنيا بهذا المعنى المحفز إليه والمرغب فيه، وتمثل تعميرا للدنيا ذاتها ثالثا، من جهة الصنائع والمهن والتدافع والتنافس، وما إلى ذلك مما يعمر الدنيا ذاتها، بإقامة وجودها وحياة الناس فيها.

والتجريد في هذا المضمار يخدم الوجود، ويقوي المعنى، ويُعظم المنتوج، فتصوير غير المحصور بغير المحصور يجعل الإنتاج غير محصور، مصداقا لقوله تعالى:﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ:26]، وتمثيل غير المحصور بالمحصور، حصر لغير المحصور في الواقع، بناء على حصره في التصور.

إن الشارع في تقريره عالم الآخرة وبالإيمان بها والعمل لها، إنما أراد تأصيل بذل الوسع وتعظيم الأداء وإرادة الأكثر والأحسن، في مقابل الجزاء الأحسن والعطاء الأوفر والنعيم الأتم.

وهو ما يمكن لفنون التجريد وتعبيراتها المختلفة وصورها المتجددة بتجدد الجديدين (الليل والنهار) وتناغم الوجودين (الدنيا والآخرة)، وتكامل الوحيين (القرآن والسنة) وتناسق الفقهين (فقه النظر وفقه العمل)؛ أن تحققه وتدفقه وتعمقه.

وما على خبراء الفنون بمرجعية الإسلام ومحبة الخير ونفع الناس ومراعاة السياق، ألا أن يبذلوا قصارى جهدهم ومنتهى إمكانهم من أجل الأحسن جزاءً، للأحسن أداءً؛ ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ [النبأ:26]

المظهر الثاني: مبدأ التسديد الذي يراعى فيه الاختصاص الشرعي والتمايز الإسلامي، وهو الاعتبار بالنية والقصد، وحسن العمل وصحته، والذي يصطلح عليه بمقاصد المكلف والتكليف، في مقابل مقاصد الخلق والتكوين.

فما كان متعلقا بالتكوين، فهو موضوع اشتراك في الفنون وغيرها، كالتعبير اللغوي والتصويري والرسمي والتمثيلي عن طبيعة الخلق وتكوينه في عالم الإنسان والحيوان والنبات والكواكب...

وما كان متعلقا بالتكليف والتشريع، فهو موضع تمايز واختصاص يبنى على الاعتبار بالنية والقصد وحسن العمل وصحته، فالمسلم لا يعبر عن العبودية بالسجود (صورة وحقيقة) إلا لله تعالى الذي يفرد هو وحده بعبادته والسجود إليه.

والفن الإسلامي لا يشترك مع غيره من الفنون الحاوية للشرك والإلحاد، والتي تتضمن صورا وتعبيرات شتى لذلك، فلا يسجد إلا لله، ولا يجوز له أن يصنع تصويرا فنيا يعبر عن ذلك الشرك ويقنع به ويدعو إليه. بل يعمل على الفنون بأشكالها وصورها التي تقرر تخصيص الخالق المعبود بالسجود له وحده سبحانه قال تعالى ﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر:66].

ثانياً: الخصائص العامة للفنون البديلة

ربانية الفنون البديلة

المراد بمصطلح الربانية، التنسيب إلى الرب تبارك وتعالى، بمستوى ذلك ومنهجه. أي إضافة الفنون إلى الله تعالى على سبيل حقيقتها التوحيدية والأخلاقية والإنسانية، فالفنون الأصيلة والأمينة، من دلائل وجود الله وجماله وجلاله، ومظهر ينضاف إلى الإبداع الإلهي في الخلق؛ بما يجليه من الصور والتصاميم والصيغ، التي تعبر عن عظمة الله وقدرته وإرادته. وهذه الفنون تخدم الأخلاق وتقر الفضائل، وتقوي إرادة الإنسان وتحفظ كرامته وحريته ومسؤوليته، وهذا كله يوصف بأنه رباني الخلق والتكريم والتكليف والتشريع.. وهو جوهر معيار التفريق بين طبيعة الفنون الفطرية الأصيلة المبدعة في إطار مراد الله تعالى ومقاصد شرعه ومصالح خلقه، وطبيعة الفنون المشوهة والمتوهمة التي يتنادى إليها كثير من الناس، برشد مغشوش وسفه مهووس.

ودقائق وصف الفنون بالربانية هي:

- قيام الفنون على عقيدة التوحيد ومبدأ العبودية الخالصة لله وحده، والرؤية الإسلامية الشاملة للإنسان والحياة والكون، والتحرر من كافة الانحرافات والخرافات والأساطير77، والإكراه على التغليط والتشويه. وكذلك معرفة جواهر الأشياء والتعبير عن حقيقتها الأصلية المرتبطة بالحق سبحانه78. وقد علم أن البنية المعرفية للفن الإسلامي تنطلق من مبدأ الوحدانية الذي مثل جوهر الاعتقاد الإسلامي، ومكن الفنان المسلم أن يبني هوية ثقافية فنية لها قواعدها وشروطها وأفكارها79. وعليه يكون الأصل في الفنون، أنها لا تمس وحدانية الله تعالى، فالفن تابع للرؤية التابعة لوحدانية الله تعالى، ويأتي خادما للتصور عن الطبيعة والإله والإنسان80.

- قيام الفنون البديلة على مبدأ التجريد فيما يتعلق -على وجه الخصوص-بالمطلق، وفيما يتعلق بالذات والأسماء والصفات الإلهية، والقضايا الغيبية على نحو القيامة والملائكة..، فالتجريد الإسلامي تلبية لحقيقة التعالي الذي جاء به الإسلام في عدم تمثل المطلق بأي وجه من الوجوه التشخيصية. والقول بتجريدية الفنون يتأسس على ربانية هذه الفنون، فمفهوم العبودية في الفلسفة الإسلامية أعلى شأنَ الإنسانِ؛ إذ ربطه بالمطلق، وجعل كل المخلوقات مسخرة له، لتحقيق معنى خلافته في الأرض، وهو ما انعكس في فلسفة الجمال الإسلامية بوضوح المفهوم ووحدة الوظيفة81.

ويمثل الاتجاه التجريدي في الفنون البديلة في العصر الحالي، فيما يتعلق بالمطلق والغيب وبقضايا الألوهية والنبوة والرسالة...، اتجاها مهما من الناحية المعنوية والعقدية والعملية، فهو يثري المعنى ويراعي الإيمان ويصحح الأداء ويثمر منتوجه، وينفي طابع التجسيد الذي يفقر المعنى ويشوه الموضوع ويفوت المطلوب، على نحو ما قرره أهل التخصص في المجال؛ حيث اعتبروا الاتجاه التجريدي تطورا نوعيا ومأمونا لعدة صيغ فنية، كالتمثيل والتصوير والرسم والنحت، ويرد في مواجهة الاتجاه التجسيمي، حيث لا فائدة كبيرة له، وقد يؤول إلى النزاع وطمس الإبداع وآثاره الكمية والنوعية82.

- قيام الفنون على الطابع التعبدي فيما هو امتثال للأمر والنهي الواردين في إقامة هذه الفنون وتعليلها في الواقع، وفعلٌ لحُسن النية وسلامة القصد من السوء والقبح والحيلة، وسلامة العمل من الإفساد والإضرار. وهو ما يجعل الأداءَ الفنيَّ واقعاً في دائرة التعبد بالمعنى الواسع، وجالبا للمثوبة والرضا؛ بناء على ذلك.

- إنسانية الفنون البديلة83

أي: قيامها على الفطرة والكرامة والمصلحة الإنسانية والنفع العام. وأنها موجهة لحماية إنسانية الإنسان وحفظ حقوقه وتقرير استحقاقاته، فمدار الفنون حياة الإنسان والعيش الكريم والمعاش السعيد، بمقتضى المشروعات والأعمال والخدمات الفنية التي تعيد اعتبار الفضيلة عند طمسها، وترجع الثقة عند زعزعتها، وتقوي الإرادة عند فقدها... فالعبودية لغير الله والطائفية والعرقيات والتعصبات والأهواء بأنواعها.. كل هذا يمكن أن يُعالج بالفنون تعريفاً وتوصيفاً وتكييفاً، وتمثيلاً وتصويراً وتأليفاً. وسائر الانتهاكات في مجال حقوق الناس وحرمات الأوطان ومقدسات الشعوب... تكون الفنون الجميلة والأصيلة والمتينة إطارا ثقافيا مهما في التشخيص والمعالجة وفي البناء والإنماء.

- أخلاقية الفنون البديلة

 أي: قيامها على القيم والفضائل؛ بما يخدم الإنسان في فطرته وكرامته وانتظامه في الحياة على أساس التعايش والسلم والتنافس والتصالح، وعلى تسخير الفنون لخدمته وليس لتدميره. وهو ما يمثل معيار القيم اللازم في إقامة منظومة الفنون، ومنه: قيمة الحق والخير والجمال، كما ينص على ذلك علماء الأخلاق والفنون أنفسهم.

- حضارية الفنون البديلة

أي: قيامها على تعمير الوجود وتعزيز العمران المادي والمعنوي، بتكثير المنتوج وتعزيز الموجود وتعظيم المعنويات بالأمل والتجدد والتبسط، وبمزاولة الفنون التي تنطلق من الترفيه لمنع الاكتئاب؛ ولتصل إلى التعمير لدرء العذاب، وبين هذا وذاك تراوح بين الجد والهزل، باعتماد القول الفصل في إقامة فنون تحضرية ومدنية، تثمر الإنتاج المادي والروحي بأنواعه وأقداره.

- سيادة الفنون البديلة

أي جعلها تتسم بسيادة ذاتية ضمن فضاء سيادة الدول والشعوب، وضمن التواصل مع مجالات الصحة والتعليم والخدمات والطرقات...، في إطار رؤية وطن وانتظام أمة وتعارف إنسانية، والنأي بها عن الانسلاخ من الذات والتداعي إلى قصعة العدو ومأدبة المفسد. وهو ما يجعلنا نبحث مشروعات للفنون البديلة، تخدم قضايا الأوطان في الوحدة والتنمية والحرية والإغاثة، بمقتضى ما ينتهي إليه الوطنيون الأحرار ضمن مقاربات جمعية وسياقية، تودع منطق الاصطفاف الإيديولوجي والحزبي، والتفرق الطائفي والمذهبي، والتمزق المدني والشعبي... كذلك تبحث مشروعات فنية بديلة تنتصر لوجود الأمة وبقائها وعطائها، وتواجه الجيوش الفنية الغازية -بحسب تعبير العلامة أحمد الريسوني- التي عم بلاؤها وتعاظم أثرها في أوساط الأمة وفي قضاياها التحررية والسيادية والحضارية. وكذلك تبحث مشروعات فنية عالمية مشتركة لإنقاذ الإنسانية من الحالة الخطيرة التي تتعاظم سوءا وفساداً، ولحملها على التعارف والتعايش بدل التنازع والتقاتل، وليس هذا صعب المنال، وإن كان شديد المقام والمقال، إذا تنادى عقلاء العالم في مجال الدين والسياسة والفنون والاقتصاد والإعلام...، لتأسيس الوعي العالمي -والفنون بوابته الكبرى- للتجاوز والإنجاز والتأمين والرفاه.

- رسالية الفنون البديلة

أي: إن الفنون ذات رسالة في الحياة والمجتمع والدولة والأمة...، وهذه الرسالة ذات أبعاد عقدية وتربوية وتنموية ومجتمعية... وأنها تقبل التجديد والتفعيل والإحياء...، وأنها تؤطر وجود الإنسان المادي والنفسي والعقلي والعاطفي..، وأنها تقيم الدول على أبعاد الثقافة ووجوه الإبداع والجمال، وليس على الفقر الفني والغش الثقافي والتصحر العلمي. وتحتاج رسالةُ الإسلام اليوم إلى الرسالة الفنية التي تمارس في مجال التعريف به والدعوة إليه والدفاع عنه؛ بناء على هذه الرسالة في مقاصدها وقيمها وآفاقها في التمدن والتحضر والتعمير والتسيير. وتحتاج مؤسساته وحركاته وسائر مشروعاته إلى هذا كله84. إن الجاذبية والجمال في تقديم الدعوة لا بد أن يكون مرتكزا على جانبين هما: الشكل والمضمون85.

- مؤسسية الفنون البديلة

 أي: اعتبارها أداء مؤسسيا يقوم على الهيكلة المدروسة والإدارة الرشيدة والتسيير الحديث، ويستند إلى الرؤية الفكرية والفلسفية، ويقوم على المشروعات والسياسات والبرامج والآليات، ويخضع للتحكيم والحوكمة، والمراجعة والمحاسبة، والتثمين والمرابحة... وليست الفنون البديلة مجالا تكفي فيه الآراء الانطباعية المرسلة، ولا المواقف الاجتهادية العارية عن مدركاتها وسياقاتها ومآلاتها. ويؤيد قولنا هذا عدة أمور، منها: تعاظم هذه الفنون من الناحية العلمية والتخصصية والثقافية والمجالية، وتداخلها مع علوم كثيرة وتخصصات بديعة، كعلم الصحة والتعليم والإعلام والدعاية وتخصصات القانون والدستور والسياسة والحكم... وهذا وغيره يجعل التعامل معها يرد إلى شروط الحيازة المعرفية والتخصصية، وشروط المهارة والكفاءة والإبداع. وهو ما يمثل مدخلاً مهماً في انتقال الفنون الجميلة والآثار باعتبارهما مثالين أو نوعين للفنون- من الأمر الشرعي والنظري.. إلى المشروع الاجتماعي والخطة والممارسة والالتزام والتطبيق86.

المشملات العلمية الشرعية للفنون البديلة

تشتمل الفنون البديلة على علوم كثيرة، وهي علوم الفنون ذاتها، وعلوم الشرع التي تؤطرها بإقامتها وتفعيلها وتطويرها. وعلوم الفنون مقررة لدى أربابها المتخصصين وأقسامها الأكاديمية ومدوناتها المعتبرة. وليس مجال بحثي -هنا- تقرير هذه العلوم على الوجه التخصصي الذي له اعتباره ومتطلبه، وإنما أكتفي بما ذكرته في تعريف عام للفنون، الوارد على سبيل التمهيد به، وبناء المقاربة المقاصدية في ذلك. وهذه المشتملات العلمية الشرعية نوعان:

النوع الأول: المضمون العلمي الفقهي للفنون البديلة

وهو أحكام هذه الفنون بمدركاتها النصية وأمثلتها وأنواعها ومقارباتها في الدرس الفقهي والإفتاء والإرشاد والتأليف والتحقيق والتصنيف والفهرسة والأداء المعجمي والمصطلحي وتطور المفهوم، وتحقيق المعنى، ونوط ذلك بقواعده ومصادره، وتوظيفه في واقع الناس وقضايا المجتمع.

فقه الفنون البديلة

وهو أحكام الفنون البديلة، والمجال الذي يتنزل فيه المضمون العلمي الفقهي، جرياً على عادة الباحثين والمحققين الذي خصوا الفقه بمجالاته وأبوابه، كمجال فقه العبادات وفقه المعاملات وفقه الأسرة؛ وهو الأمر الذي آل إلى إقامة التخصصات والأقسام العلمية الفقهية بناء على ذلك. بل إن الأمر تطور أكثر على صعيد توسيع مجالات الفقه في اتصاله بمجالات الحياة، حيث تقرر ما يُعرف بفقه الصحة وفقه الإدارة وفقه الأقليات وفقه الثورة...، وقد تأسس هذا الأمر على ملاحظاته واعتباراته العلمية والسياقية، وفوائده المتعلقة بتعميق النظر وتقديم الحلول، فضلا عن خدمة التخصص وأقسامه.

موضوع فقه الفنون البديلة

هو الفنون في مسار قيامها بديلاً منافساً عن الفنون القائمة؛ بتجاوز إخلالاتها وتطوير مضامينها وتفعيل آلياتها، وتعزيز المشترك بينها وبين سائر الفنون الإنسانية، وفقا لخصائص إنسانية الفنون وأخلاقيتها وغيرها مما ذكرناه آنفاً.

ومفاد هذا الموضوع هو الفنون باعتبارها أفعالًا إنسانية، يؤطرها الفقه الإسلامي والتكليف الشرعي، بالحكم عليها وإصدار فتاواها، فضلاً عن إقامة درسها الفقهي بمتعلقاته ومشتملاته.

أصول فقه الفنون البديلة

هذه الأصول هي مدركات الفنون البديلة الشرعية الجزئية والكلية، على نحو آحاد النصوص والروايات المتعلقة بفن ما، ووجه فني ما، واستعمال فني ما، وعلى نحو مجموع القواعد العامة والمبادئ الكلية المتعلقة بفن ما أو الفنون عامة، بمنهجية الجمع والفرق، والأصل والاستثناء، والحال والمآل، وغير ذلك مما يمثل نظما أصوليا جامعا لمفرداته وأدواته، ويتحرى التحقيق والتدقيق، ويعتمد على ما يصطلح عليه في بعض البحوث العلمية والدراسات الأصولية والفقهية بالجمع بين الجزئيات والكليات والفروع والأصول، وكذلك الاعتبار بالحال والمآل، والأولى وخلافه، والممكن وبديله، والأحوط والأيسر، والصالح والأصلح، وغيره.

ومنظومة الفنون البديلة المعاصرة تتوقف على الأصول الفقهية والمقاصد الشرعية التي تجمع بين مجموع ما هو مُدرك شرعي، ومنهج نظري، واتجاه عملي؛ بغيةَ تحقيق الحق من مفهومها وسياقها ومآلها، وتأثرها وتأثيرها وتلبسها بغيرها وتمايزها عن مقابلها؛ بما يجعل العقل الإسلامي معتمداً على مقتضيات الدين ومتطلبات الواقع ومصالح الناس، وفق ما ذكرنا وبينا، على صعيدي النظر والعمل، وليس على مستويات من الفهوم السطحية والتأويلات المتعسفة والتطبيقات المشوهة.

ومن أصول الفقه في مجال الفنون، وفضلاً عن النصوص والأخبار والروايات واللغة والسياق النصي واللغوي والخبري، وفضلاً كذلك عن حقائق هذه النصوص وعللها ومقاصدها وأسرارها، وفضلا كذلك عن الإجماعات ومجموع الآثار النقلية والعقلية المنسوبة إلى الأئمة والمذاهب والفرق...، ففضلا عن ذلك كله، نجد مدركات أصولية لهذه الفنون، هي بمثابة الركائز والمنطلقات الأساسية في التعامل مع الفنون البديلة؛ فهماً لطبيعتها وتحقيقاً لمعناها وتحريراً لمصطلحها وتحقيقاً لمناطها وتنزيلاً لمقارباتها...ومنها: الفطرة باعتبارها وضعاً جبلّيا مركوزاً في الخلق الإنساني، ومنوها بحقيقة وجوده وأهمية اعتباره في فهم الدين وتقرير الاجتهاد وإقامة السياسة وتقرير الفتاوى والمواقف. وعلاقة الفطرة بالفنون علاقة أصيلة، من جهة صفاء كل منهما في قابلية الخير والحق والجمال، ولفظ الشر والباطل والقبح، ومن جهة التجاوب بينهما في التكامل والتناغم؛ بما ينفع الناس ويصلح الوضع ويزهي المعاش ويعمر الوجود.

 وما يقع خلاف ذلك، سواء على مستوى تشويه الفطرة أو تحريف الفنون، فمرده الغفلة -بالقصد أو عدمه- عن طبيعة كل منهما وتناغم الواحد مع الآخر؛ بما يحقق التوازن الإنساني والأداء الوظيفي الحضاري، وهو ما يستوجب العمل على منع التشويه والتحريف، ودرس أسباب ذلك وعلاته وأدوائه، لإرجاع الأمر إلى نصابه وفق مراد الخالق في أصالة الفطرة وصفائها، ومصلحة المخلوق في أصالة الفنون وجمالها. قال تعالى: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم:30].

ومنها -كذلك- أصل الجمال، الذي هو جوهر الفن وفؤاده وسره وسداده، وهو أصل بالنظر إلى أصالته في الفطرة ورسوخه في الدين، وتركزه في العقل، وجريانه في الواقع السوي. وإعماله أصلا يعتد به؛ إعمالٌ لمدركاته الشرعية التي أقرته واعتبرته، واعتبارٌ بقواعد العقل والحياة والمنطق.

أضف إلى ذلك أصول العرف والاستقراء والاستصلاح والاستحسان والذرائع...، فهذه الأصول جديرة بأن يحقق النظر فيها، وتفعل أقدار عالية منها؛ من أجل ملاحقة الفنون في تطوراتها وتعدد سياقاتها، برشد وإبداع وإحسان وإتقان.

سياسة فقه الفنون البديلة

السياسةُ هي: فنًّ المتاح المباح، أو علم التقدير والمقدار في مجال ما، كمجال الدولة والحكم، أو مجال الأسرة والمجتمع. وهو علم إدارة الشأن وتدبير مصالحه في ذلك المجال. والفنون البديلة تحتاج إلى سياسة فقهية تبنى على التقدير الاجتهادي والمقادير اللازمة في تنزيل المواقف وإقامة البرامج، على نحو تجلب فيه المصلحة وتدرأ فيه المفسدة، ويفعل فيه الممكن، ويزالُ فيه المانع ويختار فيه الأولى.

ومسارات هذه السياسة كثيرة، منها مسار الحكم والدولة والتشريع والأوامر والخطط، ومنها مسار التربية والإرشاد والدعوة والتوعية، ومنها مسارُ الإفتاء والاجتهاد والقضاء، ومنها مسارات أخرى إعلامية ومالية وإدارية...، تتحدد بناء على رؤية المجتمع للفنون، وموقعها من القضايا والملفات المختلفة، ووقعها وأثرها في تحقيق الأهداف وتقليل المشاكل وتعزيز الانتظام الاجتماعي والتوازن النفسي والتآلف الحضاري.

وعليه، يمكن القول: إِنَّ الفنونَ البديلة تمثل أحد الملفات الوطنية والإنسانية الكبرى، بناء على شمول الرؤية ودقة الوعي وتمام الإرادة، وليس ينظرُ إليها على أنها جانب ملف أو نقطة بيان؛ قد لا يُعبأ بها، ولا يلتفت إلى تلبسها بغيرها وشدة أثرها وتمام الحاجة إليها.

وطالما أن أولي الأمر في العلم والسياسة والمال... لم ينظروا إلى الفنون بهذا الاعتبار الجمعي المركب، فإنهم سيواجهون التهميش، إما في الفنون ذاتها، أو في المتون الحضارية، في الصناعة والإدارة والزراعة وغيرها.

ونلحظ تأكيد هذا الاتجاه مركوزاً في عمق النظر الشرعي المقاصدي، الذي يؤطر الفنون بمستوى التأطير المقاصدي الموضوعي والمنهجي والسياقي، وبمستوى تأطير الوعي، بشمول النظرة وعمق الفكرة ومناسبة المقاربة لسياقها وتحدياتها.

النوع الثاني: المضمون العلمي المقاصدي للفنون البديلة

يتصل هذا المضمون العلمي المقاصدي بالمضمون العلمي الفقهي، باعتبار وحدة المرجعية الشرعية النصية والمقاصدية، فالنصوص تؤسس للمقاصد، والفنون تتأطر بهما -كما ذكرنا هذا آنفا- وبالنسبة إلى المضمون الفقهي، فيمكن القول بأنه اجتهاد الفقهاء ونظرهم فيما جاء في النصوص والأحكام إزاء الفنون، وهذا الاجتهاد شديد الارتباط بالمقاصد، من جهة أن النصوص وأحكامها أساس للعلم المقاصدي
-كما هو معلوم-.

مقاصد الفنون البديلة

هي مقاصد الشريعة بوجه عام، كمقصد جلب المصلحة وتحقيق الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والحفاظ على الكليات الخمس...، وقد بينا سابقا كيف أن الفنون تخدم مثلا حفظ الدين والنفس والعقل..، وأنها تجلب مصالح اقتصادية ومالية وتنموية... ومن هذا القبيل ما ذكره بعض الباحثين، من أن المقاصد تهدف إلى التربية والتعليم، وحماية المجتمع المسلم والدعوة إلى الله...87.

وهي -مع ذلك- مقاصد تخص مجال الفنون، وما يمكن أن نصطلح عليه بالمقاصد الخاصة بالفنون البديلة، وهو ما نبينه فيما يلي:

المقاصد الخاصة بالفنون البديلة

السؤال هو: هل للفنون أو لبعض الفنون أو للفنون البديلة أو الجميلة مقاصد خاصة بها؟ أم أن مقاصد الفنون هي نوع من مقاصد المعاملات والعبادات والآداب والعادات؟

يمكن بإجمال وعموم أن نقول: إن للفنون مقاصدَ تخصها وتتعلق بها، على غرار مقاصد العبادات ومقاصد المعاملات، على النحو الذي ذكره العلماء الذين أقروا ما يُصطلح عليه بالمقاصد الخاصة88.

والمحدد في هذا التخصيص، اعتبار العلماء في الإطلاق والتقرير، والتفاتهم إلى الفنون وما يمكن أن تحققه من منافع وما تقره من أسرار، بمقتضى طبيعة الفنون واستخداماتها وآثارها. فيُقال مثلا بأن فن الرسم الجميل يشعر بالابتهاج والتمتع به.

وهو ما لا يتعارض مع المقاصد العامة المتعلقة بسائر المجالات، ومنها: حفظ نفس الإنسان، فهذا يُعد مقصدا عاما وكليا، يتحقق بالعبادات والمعاملات والصحة والعمل والنقل والفن والعلم...، ولكنه يتفرعُ إلى مقاصد خاصة تندرج تحت المقاصد العامة، ولكنها تتعلق مباشرة بموضوع المجال الذي تتعلق به المقاصد الخاصة، ففي مجال الصحة مثلا، يُقال بأن المقصد الخاص هو حفظ الصحة والعافية والسلامة، مندرجاً تحت حفظ النفس بكافة وجوهه الصحية والتعليمية والغذائية والترفيهية... ومن هذه المقاصد كذلك: مقصد الابتلاء بالزينة والجمال89، على غرار الابتلاء بالمال والجاه والعلم والفكر. قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف:7]. ومنها كذلك: تأصيل منهج الاعتدال والتوسط بمزاولة الفنون، كتأصيله، بمزاولة الصنائع وتناول الطيبات.

والمقاصد الخاصة بالفنون هي على هذا النحو، فهي تندرج تحت المقاصد العامة والعالية، وتختص بمنافع معينة هي أقرب للفنون منها لغيرها من المجالات.

وعلى العموم؛ فإن هذه المقاصد الخاصة بالفنون مسألة اعتبارية وتقديرية على صعيد البحث والدراسة والاستنتاج والتقرير والإعمال والتفعيل. ومردُّ ذلك زوايا النظر المختلف لاختلاف الوقائع والمواقف، ودواعي الحاجة إلى إعمال الفنون في ضوء مقاصدها ووسائلها، وأحوال الإمكانيات ومقاديرها...

وبقراءة غير قليلةٍ لمظان بحث مقاصد الفنون، يمكنني إيراد هذه المقاصد على صعيد أولي وابتدائي، يُعنى بتقرير مشروع هذه المقاصد وليس بتقريرها نهائياً، وإنما يلزمه تعميق النقاش وتأصيل النظر واعتماد المستخلص الذي يبقى مفتوحاً على التقويم والاستدراك والتطوير. وهذه المقاصد أوردها فيما يلي:

1) بناء مَلَكة الجمال

الجمال جوهر الفنون ومعارضها. وجمال أي فن: روحه وجسده، وأعضاؤه التي يعبر بها عن نفسه، ولسانه الذي ينطق باسمه، وسَمتُه الذي يكتنز سره.

وهو باللغة الفنية والفلسفية والاصطلاحية، المبنى الحاوي للمعنى، والشكل المظهر للمضمون؛ تجسيداً وتجريداً بحسبه وضابطه.

والتعبير بملَكة الجمال يؤسس لأصالة الجمال في ذاته وصفاته، ولأصالة الجمال في أصحابه ورجالاته، فالفن جمال، والجمال فن، وصاحب الفن جميل، وصاحب الجمال فنان، وبهذا يكون الفن مركوزاً في النفس، ومركزا في النَفس، ويجري مجرى العروق من الدم والكلم، ويحوز الفضائل والقيم. والملكة كما يقول العلماء: السجية والفطرة والسليقة والفطنة، وهي مع ذلك علم ودربة وفهم ومهارة وكفاءة وأمانة، ومن أصبح عالما بالفنون ومدركاً لعلومها ومقاصدها وقيمها، فهو حائزٌ لملكةٍ، وفائزٌ بحكمةٍ.

ولذلك جاءت كلمات أهل التخصص في الشرع والفن والفلسفة والمنطق... تنص على الجمال وتدعو إليه وتحمل الناس عليه؛ بتنمية الإحساس بالجمال وفهمه90، والتعبير عن الأشياء التي ترتاح إليها النفس91، وتقديم التصور الإسلامي للقيم الجمالية92، وتربية المسلم على استشعار قيمة الجمال93.

2) إقامة الزينة وتحقيق الاستمتاع بها، وقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [الحجر:16]، وقوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف:31].

3) تهذيب المشاعر الإنسانية والتعبير عنها94، وتلبية الأشواق الزائدة على الضرورات95، والسمو بالذوق البشري96، وتنمية الذائقة الفائقة97؛ بل وإنتاج التذوق، وإذكاء الاستجابة الوجدانية والحس الجمالي للناشئة من أبناء المجتمع والأمة98.

4) تحقيق الإمتاع والاستمتاع، فربما كان الجمال يمتعنا بمجرد تأمله99، والتعبير عن بعض الانفعالات والأفكار100، وتعميق ثقافة المتعة، فالمواد التي تزين بها مثلا الأشكال المعمارية كالمرمر والرخام والذهب وغيرها من المواد تعكس ثقافة المتعة101.

5) إظهار السرور والفرح، ووجدان الفرح، والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان102، والترفيه والترويح عن النفس103.

6) ترسيخ قيمة الطهارة الظاهرة والباطنة، التي هي من الجمال الحسي والمعنوي، فضلاً عن ارتباطها بالعقيدة وصفات الله والعبادة والسلوك، وقد جاء في الشرع ما يؤكد ذلك: ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة:222]، وقوله: ﴿إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب:33]، وقوله: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:4]، والحديث: «إن الله جميل يحب الجمال»104. وقد جاء في كلام الدكتور إبراهيم البيومي غانم أن يوسف إدريس قد صرح بأن النظافة المرتبطة بالعبادات الإسلامية؛ هي مما تفردت به الشريعة باعتبارها نظاما جماليا105.

7) خدمة التجريد الفني الذي تقوم فلسفته على ثوابت غيبية وعقدية خاصة، فهو تجريد مطلق لا نهائي، تحكمه قوانين منظمة، ويستعمل وسيلة للتعبير عن المضمون العقدي والروحي106. والمراوحة بين التجريد والتجسيد بحسب مقاربة ذلك، موضوعا ومنهجا وسياقا.

8) جمع المبنى بالمعنى، وربط المظهر بالجوهر (الفن والمعرفة)، مما يسمح بتحديد معالم التربية الفنية والتنشئة عليها، وبنائها على مضامين ومفاهيم فكرية، توضح علاقة الفنان المسلم بالعالم، عن طريق التشكيل الفني الجميل والممتع للمفاهيم الإسلامية؛ لتغدو نمطا في التعبير والتفكير107؛ ومنه جمع الشكل الفني بمضمونه التعبدي أو الخلقي أو الفطري، وهو ما يحقق الأداء الفني القائم على معناه والمعبر عنه بشكله، وليس فقط الاكتفاء بالأشكال التعبيرية التي قد لا توحي بمضامينها ولا تشير إلى قيمها الذاتية. ومن ذلك ما تمثله بعض الوحدات الزخرفية النباتية والهندسية والكتابية، فهي تمثل زخارف مجردة، ظاهرها جمالي وباطنها تعبدي، وتحمل معاني رمزية108. وهو ما يؤدي إلى تنمية الذائقة .

9) حفظ الصحة الإنسانية وعلاج المرض وإزالة الداء وتحقيق السلامة الجسدية والنفسية والعقلية؛ بمقتضى التنمية بالفن التي يمكن أن تقوم بأدوار في ذلك، وفق ضابطه ومقداره ومقامه.

10) تنمية العمران البشري وتأثيث البنيان المعماري: بجمالية البلدان، وتخطيط المدن، وتنظيف البيئة، وتنقية الأجواء من الملوثات الحسية والمعنوية، والابتهاج بالأزهار والأنهار، وإثراء البنيان المعماري بقيمه الجمالية ومظاهره في الحسن، وجواهره في الطمأنينة والمودة والتناغم بأنواعه وأقداره وأسراره. وقد نسب الدكتور البيومي إلى الماوردي في كتابه تسهيل النظر وتعميق الظفر، أن مقاصد عمارة المدن: أن يستوطنها أهلها طلبا للسكون والدعة، وحفظ الأموال، وصيانة الحريم، والتماس ما تدعو الحاجة من متاع وصناعة، والتعرض للكسب والمال109. ومن هذا القبيل: تكثير الصنائع، وتدعيم المواهب، وتقرير التناسب بين الوجود والداء الإنساني.

11) إقامة الذاكرة وتدوين السند والمتن في العلوم والأنظار والفنون والمعمار، ورصد تطور الأفكار والنظم، وتنافس الحضارات وتتبع التقلبات، على صعيد اللوحات والسياسات.

خلاصة المقاصد الخاصة بالفنون

أولاً: تنمية الإنسان في مجال الجمال والإبداع، والزينة والإمتاع، والذوق والذائقة، والتسلية والترفيه، والمشاعر والجواهر، والتخيل والتجرد، والتصور والتجسد، والطهارة والصحة والرقة والسماحة والحسن والإحسان والإتمام والإتقان...

ثانيا: تنمية العمران في مجال المنتوجات والمنظومات والمباني والمنشآت والصنائع والمهارات والمدائن الجميلة والمشاهد البديعة.

وجمال الإنسان وجمال العمران مرادان لله سبحانه، الموصوف بالجمال والجلال والكمال. فالله يحب الجمال الإنساني والجمال العمراني، بمعاني ذلك ومبانيه وأشكاله ومضامينه.

الفنون البديلة في الواقع الراهن والحراك الإصلاحي

أدت حوادث الواقع الراهن إلى طرح قضية الفنون بشدة، باعتبار موقع هذه الفنون من هذه الحوادث، وأثرها في المواكبة والمرافقة:

 أ) فقد كان لاندلاع الحراك الثوري والإصلاحي في أكثر من قطر عربي أثره الواضح في تبني الخيار الفني، باعتباره أحد الخيارات المطروحة في التصدي لمسائل هذا الحراك وتطلعات الثوار والمصلحين إلى تحقيق مطالبهم من خلال الفنون، كمطلب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والانتقالية والتشغيل والتسيير... وبسبب ذلك قامت جهود عدة على صعيد الصياغة الدستورية والقانونية، والأداء المؤسسي الرسمي والعمل المدني والترويج الإعلامي والتداول العلمي والبحثي، فضلاً عن الأدوار والأعمال الفنية ذاتها؛ من أجل مواكبة هذا الحراك، وتأثيثه بالمضامين والأدوات في مجال مشروع الفنون، بوصفه أحد المشروعات الوطنية والثورية والإصلاحية. أضف إلى ذلك قضايا الراهن في المجتمعات الغربية التي مثل الوجود الإسلامي مكوناً رئيساً فيها، وهو ما أوجب ضرورة الاعتناء بالفنون، من حيث اتصالها بتلك المجتمعات، وبالوجود الإسلامي نفسه، وبقضاياه ومشكلاته وآفاقه ومتطلباته القانونية والاجتماعية والحضارية.

 ومعلوم أن الفنون يمكنها أن تسهم في تعزيز ذلك الوجود وتنمية أدواره الإيجابية، في التعبير عن الهوية والمواطنة، والتقدير لتوازن الحق والواجب، والتثمير للانتماء والاتصال.

 ب) وكان -كذلك- للثورة الاتصالية والمعلوماتية والعولمة من قبل، الأثرُ البارز في لزوم الاعتناء بالفنون البديلة، فقد كان البعد الفني أحد أبرز أبعاد تلك الثورة والعولمة؛ وهو ما دعا إلى تحقيق العناية؛ رافدا مهما لذلك.

 ومقتضيات هذه التحديات بموجب هذه الحوادث، أن يتجه الفاعلون في مجال الإصلاح والإحياء إلى اعتماد الفنون البديلة بأنواعها وإمكانياتها وسياقاتها، إطاراً كبيراً في تقرير مطالب الحراك الثوري والإصلاحي، على غرار مطلب الحرية والعدالة والتنمية، ومطلب التعارف الحضاري والالتزام الحقوقي والمواطني. وهو ما يقوم على الأعمال الفنية بأشكالها المختلفة وقيمها الجميلة وذائقتها التائقة، من أجل ذلك كله.

كما يمكن مع ذلك مواجهة القبح العالمي التي تدل عليه حملات التقبيح والتشنيع والتهجير والتعنيف والتشديد والتدمير... بالجمال العالمي، والحسن بأنواعه الإقليمية والدولية، المضمونية والشكلية، الحسية والمعنوية..

آفاق الفنون البديلة على صعيد المجالات الإنسانية:

تتنزل هذه الآفاق على صُعدٍ كثيرة ومجالات عدة، كالمجال التعليمي والإعلامي والصحي والتربوي والخطابي والإفتائي...، وهو ما يتيح لنا طرح الأفكار العامة في هذا الصدد؛ واستحثاث المعنيين على تأثيثه، بما يلزمه من ناحية المضمون العلمي والمنهج المتبع، وسائر المتطلبات المادية والإدارية... وهذه المجالات والآفاق هي: الفن الجمالي، والفن الاتصالي، والفن البيئي، والفن العلاجي، والفن في المجال الفلاني بحسب دواعي ذلك وسياقه، ومرد هذه الآفاق تحقيق الفائدة منها، نفعاً للناس وجلباً للخير وسداً للفجوة ودرءاً للمفسدة. ولنا أن نسأل: هل يمكن أن نقيم فناً علاجياً مثلا، يعالج المرضى ويداوى الموجوعين والمهمومين، وهل لنا أن نقيم فناً اتصاليا يشكل معرضاً أو معارض للإسلام في عالميته وسماحته وإنسانيته، وليس عرضه بمستوى بؤرة الدماء والأدواء والأهواء؟ وأول العلم سؤال ثم ينتشر، كما أن أول الغيث قطر ثم ينهمر.

فن الصورة

يعد فن الصورة أحد أنواع الفنون البديلة في الواقع المعاصر؛ بالنظر إلى أمور عدة، ومنها:

1) التأثير الشديد للصورة فـي العصر الحالي، والحضور القوي في
مجالات الحياة كلها، كمجال الدعاية التجارية والانتخابية، والتواصل الاجتماعي والاتصال بأنواعه.

2) تزايد الاهتمام العلمي التخصصي وتعاظم الأدوار الوظيفية والإنتاجية للصورة، وتلبسها بعلوم ومعارف شتى، وجريانها في الواقع ضرورة وحاجة وتحسيناً.

3) ضعف الاهتمام العلمي الإسلامي الفقهي والحضاري بالصورة وموقعها من مشروعات الأفراد والدول والأمة، إلا ما كان موضع استثناء وتميز لعدد قليل من المهتمين على صعيد المدراسة والممارسة.

4) مصادمة واقع الصورة ودراساتها في المدونة المعرفية لمكامن القوة الإبداعية والإنتاجية للصورة المعاصرة، وهو ما مثل شحناً فكرياً وثقافياً جارياً على خلاف أخذ زمام المبادرة في اتجاه تفعيل لدور الصورة المعاصرة في بناء المفاهيم وشحذ الهمم وإقامة المشروعات بأنواعها.

فقه الصورة ومقاصدها

هو مجموعُ أحكامِها الشرعيةِ المنوطة بمدركاتها الكلية والجزئية، ومنها مقاصد الشريعة في الصورة، كمقصد الجمال والحسن، والتداول الإعلامي والدعوي والحضاري، وتبادل المعلومات والسلع والخدمات، وتحصيل الاستحقاقات السياسية والانتخابية والشعبية، وتوثيق الذاكرة وتحريك المشاعر بإمعان النظر في الصور المختزلة للتاريخ وسير الآباء والأمهات، ومحطات التحولات الوطنية والحضارية، ودرر الطفولة وذكريات الشباب وبراءة الأصحاب...

ومن أصول فقه الصورةِ كلياتُها الشرعية الراجعة إليها، تحقيقاً معنوياً، وتحريراً مصطلحياً، ونوطا بمصالحها ومآلاتها، وملاحظةً لفروقها، وتنزيلا لمقارباتها في قضايا تكون الصورة أحد أوعيتها التكوينية والتوظيفية. فالصورة ليست بضرب واحد من الأحكام الشرعية والمدركات الجزئية والكلية والسياقية والواقعية، بل هي بمستويات تبنى عليها الأحكام والفتاوى. فهل تكفي بيانات أحادية النظر وظاهرية المعتبر لبيان حقيقة الصورة وبيان أحكامها بناء على تلك الحقيقة، وفي ضوء الملابسات والمآلات؟

إن الحكم على الصورة بالحرمة بإطلاق أو الإذن بعموم110، يجافي حقيقة الدين ومقتضيات الاجتهاد ومنطق الواقع وجوهر النفع؛ بل إن الحق الذي ينبغي أن يُصار إليه إرجاع الصورة إلى مدركاتها ومناطاتها ومآلاتها ومجموع ما تقام به حقيقتها، وهو ما نلحظه في الصورة والتصوير والتصويرة... من تعدد الدلالة، وتنوع الحكم، وتغير الاجتهاد، وتبدل الفتوى، وتفاوت مقادير وتجاذب الأنظار، بناء على ذلك كله.

آفاق فقه الصورة

1) آفاق نظرية عملية، بتناول الأحكام بمدركاتها ومناطاتها وسياقاتها، وتناول المعارف العلمية الفنية الجمالية المندرجة تحت علومها، كعلم الهندسة والفنون الجميلة والإعلام والاتصال...، وفق منهجية تجمع بين العلمين وتدمج الأمرين؛ لتقرير الصورة؛ فناً جميلاً بمرجعية الإسلام ولنفع الناس وبمراعاة السياق.

2) آفاق عملية وإجرائية ووظيفية وإنتاجية، تقرر التوظيف بالصورة في مشروعات التعليم والتنمية والدعاية والتسويق، وفي مجالات التعارف والتثاقف والتبادل والتعاوض. ومن ذلك: تربية الناشئة وتعهد الشعوب بحسن المظهر وجمال المشهد، وشكل الصورة ومضمونها، بروية نظر، وعمق اجتهاد، وإرادة خير، وتكثير نفع وخير.

فن النكتة

النكتةُ أو الطرفةُ أو الدعابةُ..، تمثل ضرباً فنياً تعبيرياً مهماً في مجال التواصل الاجتماعي والترويح عن النفوس، وتفريج الهموم واسترجاع النشاط، وتجديد الطاقات، وتهوين الرزايا والمصائب. ولذلك يُلاحظ تكاثر النكت بتزايد المحن، ربما لأن النفوس تدرك ذروة انكسارها، فترجع إلى اعتدالها، بما يحقق التوازن بين اليأس والأمل والخوف والرجاء. وكثيراً ما ترد النكتة فور الانتهاء من المشقات والأعمال المهمات؛ من أجل معاودة التوازن واستقرار الجوارح وملاطفة الأجواء لطرد الأدواء... وهو ما يؤذن بأهمية النكتة في حياة الناس، وأثرها في التحسين والتوسيع، وفي تسديد الضرورة والحاجة.

وليس بدعاً من القول: أن النكتةَ مظنة المعرفة والتنمية، وموضع التدريب والتكوين، وعلامة مهارة وكفاءة؛ فهي من ضروب فن الخطاب والإلقاء، ومجال التصدي لمواجهة الجمهور ومخاطبة العقول، وتحريك المشاعر، وإثارة الوجدان، وتوجيه المتابعين وشد انتباههم وإعجابهم وتجاوبهم. وهو ما أورث الانطباعَ وأوجب الاستماع، بخصوص ما عرف به لفيف من العلماء والفقهاء والشعراء والأدباء والساسة والخطباء والتجار والمدراء، من استخدام النكت وترويج الطرائف وتدوين اللطائف، حتى أضحى أمر هذه النكت شأناً معرفياً وحضارياً ومهنياً واجتماعياً، وأصبح يُعرف بنكت الفقهاء والقضاة والساسة والدعاة والتجار والجباة... وقد انتهى إلى المسامع النكت الرقمية111 التي صار إليها جمع من الفقهاء، تفاعلاً مع كل ما هو رقمي في عالم الأنترنت والفضائيات، والتعليم عن بعد والمجالات الافتراضية، وتجميعاً للقوى لاستيعاب الأحجام الضخمة للنكت والطرائف، حيث إنهم عجزوا عن استيعابها بعناوينها ومحتوياتها، وعن إيرادها وإعادتها..، فعملوا على ترقيمها وتقعيدها؛ لحصرها والقدرة عليها، وكانوا إذا اجتمعوا اكتفوا بعرض الرقم وربما بذكر الباب، وهو ما جعلهم يذكرون أكثر ما يمكن من النكت، ويحققون أبلغ ما يمكن من الفسحة والسعة، في جو أدب وأمارةِ صدق. وما كان أكثر عملا كان أكثر فضلا. والله يؤتي فضله من يشاء. وليس الفضل مقصوراً على باب أو أبواب، وإنما هو جنس عال لكل بر ومعروف وإحسان. ومن ذلك: الابتسامة وإدخال السرور وتحريك المشاعر والجوارح وترويج الفوائد واللطائف.

وما ننتهي إليه في هذا الفن، أنه فن واعدٌ وأمل عائد، ولا بد من تأثيثه بمضامينه وأساليبه، وتحريره وتحقيقه، والتنسيق بينه وبين أحكام الضحك والصدق واللهو، ومعالم الجمال والإبداع والإتقان، ويلزم أن تعودَ الابتسامة والنكتة في عالم الفكر، ومنابر الإعلام، وميادين الدعوة ودواليب الدولة، فرب نكتة أورثت حكمة، ورب موعظة أورثت فتنة. والأمور بمقاصدها، والأعمال بالنيات، وما أحوج الأمة إلى استرجاع سمتها الفكاهي في بهجة وانشراح، وخصيصتها في السماحة والدعابة واليسر والتلطف، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وما أعسر المقام والمقال، لولا سعة الدعابة ومراوحة الساعة، مصداقا لمنهج النبوة، وطبيعة الفطرة، وصدق التجربة، وإبداع الجمال، ونكت الرجال.

فنون أخرى

 ومنها: فن الكاريكاتور، وفن الإشهار، وفن العلامة التجارية، وفن الشعار والرمز للشركات والجمعيات والمؤسسات والدوريات والمناسبات، وفن المقطع التلفزي الموجز في مبناه، والعظيم في معناه، وقد أصبحت المقاطع بالدقائق والثواني بعد أن كانت بالساعات. وهي فنون لا تنحصر، وتحتاج إلى الاهتمام والإلمام. ومن ضروبه: التفقيه والتثقيف، والتأصيل، والتنزيل، والدعوة، والإرشاد، والسياسة، والتربية، والإصلاح بأنواعه112.

الخاتمة

لهذا البحث آفاق نظرية وعملية وتشغيلية وحضارية...، وأظهر ذلك: تأسيسُ الوعي بالفنون بمرجعية الإسلام وقوعدة المقاصد، وتركيز المشروعات الفنية بمقارباتها ومتطلباتها، والعمل على تجاوز الرداءة وتجنب السفاهة. وهو ما يمثل تجديدا معتبراً، قد يكون استجابة لمقتضى المائة الوارد في التجديد، حيث إنها إشارات إلى ذروة زمان، وحال وثمرة جهود وأعمال، تتعلق بمحطات ومجالات، ومنطلقات ومنعطفات. ولعل تأسيس نهضة فنية بأفقها الإنساني واستغراقها المعرفي وأصالتها الإسلامية؛ يمثل ضرباً تجديدياً عظيماً تستوعبه دلالات حديث التجديد بوجه من وجوه التأويل والتبيين.

كما لهذا البحث عدة نتائج وتوصيات، يمكن إيرادها فيما يلي:

1) بدايات الوعي بالفنون آخذة في الازدياد، نظراً شرعياً وفنياً، واعتباراً بالواقع وتحدياته وبدائله.

2) قيام مشروعات فنية بديلة جزئية وموضعية، يمثل بدايات تشييد
الفنون البديلة.

3) ربط الوعي الفقهي بالعلم المقاصدي، دال على نضج العقلية الإسلامية وإرادة التفقه الشرعي المحقق والمدقق. ونوط الفنون بالعقيدة والمقاصد والقيم والوظيفة والأثر، مؤذن بانعطافة فنية حضارية رائدة.

4) تقدم أبحاث الفنون من منظور مقاصدي، فقد كُتبت عدةُ أبحاث، وعقدت عدة دورات في هذا الصدد. وجدلية المقاصد والفنون، جدلية تفاعل وتكامل في الموضوع والسياق والتطور، ومتطلبه المرافقة والمراكمة والإرادة الصادقة
والإدارة الراشدة.

5) قيام بعض الجهود المشتركة بين الفقهاء والفنيين والخبراء؛ مؤذن بتحقيق المقاربة المناسبة والموضوعية للفنون في سياقها وبمقاصدها.

6) تحقيق بعض القضايا العلمية المهمة، على غرار الضروريات والحاجيات والتحسينيات الفنية.

وأهم ما نوصي به:

1) تخصيص أبحاث فرعية للفنون، تتسم بالتخصص والدقة والإضافة، وتتكامل مع غيرها في اتجاه تحقيق رؤية شاملة ومنظومة متكاملة للفنون البديلة.

2) وضع مناهج علمية وبرامج دراسية لفقه الفنون وأصولها ومقاصدها، ومنها: فقه الصورة وغيرها.

3) إقامة الموسوعات والأقسام والكليات في مجال الفنون بمرجعية الإسلام وبسيادة الأوطان وكرامة الأمة وخدمة الإنسانية.

4) إنشاء جهات أو آليات للإحصاء والرصد والتقويم والمقايسة على غرار ما ذكره وأكده الدكتور إبراهيم البيومي غانم. والله تعالى أعلى وأعلم.

وكتب الخاتمة محب النكتة نورالدين بن مختار الخادمي

بمكتبه بعاصمة تونس

ضحى السبت 8 أكتوبر 2016، الموافق لـ 7 من شهر الله المحرم 1438.

وختمت المراجعة ظهر الاثنين 14 نوفمبر 2016.

والله أعلى وأعلم.

والحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

المصادر والمراجع

ـ  الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، سيف الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 1400ھ /1980م، و1983م.

ـ  الاستقراء ودوره في معرفة المقاصد الشرعية، نورالدين الخادمي، مكتبة الرشد، الرياض، ط1،1482ھ/2007م.

ـ  الأشباه والنظائر، السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1،  1403ھ/1983م.

ـ  الأشباه والنظائر، ابن نجيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405ھ/1985م.

ـ إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، ط1، 1411ھ/1991م.

ـ  التجريد في الفن الإسلامي، أحمد سمير كامل علي، ملخصات بحوث المؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، 4-5 جمادى الآخرة 1433/25-26 نيسان (أبريل) 2012م، عمان، الأردن.

ـ  تحولات المصطلح في لغة الفن الإسلامي، إدهام محمد حنش، ملخصات بحوث المؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، 4-5 جمادى الآخرة 1433ھ/
/25-26 نيسان (أبريل) 2012م، عمان، الأردن.

ـ  تعقيب إبراهيم البيومي على مداخلة عصام البشير «حقيقة الجمال والفن وعلاقاتهما بالدين الإسلامي» في ندوة الفنون بمركز دراسات التشريع والأخلاق، الدوحة، قطر، 2012م.

ـ  الجامع الصحيح بشرح عمدة القارئ، البخاري، دار القلم، بيروت، 1987م.

ـ  الجامع الصحيح بشرح النووي، الإمام مسلم، دار الخير، 1416ھ/1996م.

ـ  الجامع لأحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، مؤسسة الرسالة ناشرون، ط1، 1434ھ/ 2013م.

ـ  جمالية فن المنشآت المعمارية المائية بمدينة غرناطة حاضرة بني الأحمر ودلالته الرمزية، إبراهيم القادري بوتشيش، وسعيد بنحمادة، ملخصات بحوث المؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، 4-5 جمادى الآخرة 1433ھ/25-26 نيسان (أبريل) 2012م، عمان، الأردن.

ـ  حقيقة الجمال والفن وعلاقاتهما بالدين الإسلامي، عصام البشير، مداخلة في ندوة الفنون بمركز دراسات التشريع والأخلاق، الدوحة، قطر 2012م.

ـ  الحلال والحرام في الإسلام، يوسف القرضاوي، المكتب الإسلامي، ط14، 1405ھ /1985م.

ـ  الرخص الفقهية من القرآن والسنة والنبوية، محمد الشريف الرحموني، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، تونس، ط2، 1992م.

ـ  السنن الكبرى، البيهقي.

ـ  المعجم، للطبراني.

ـ  الغناء والموسيقى بين المجيزين والمانعين، هشام عرافة، شركة المستقبل، د.ت.

ـ  الغناء والموسيقى بين اللهو والوعيد، عبد الله بن عبد الحميد الأثري، الغرباء، الدار الأثرية للترجمة والنشر والتوزيع، اسطنبول، تركيا، ط2، 1433ھ.

ـ الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام، عبد الله بن يوسف الجديع، مؤسسة الريان، بيروت، لبنان، ط3، 1428ھ/2007م.

ـ الفروق الفقهية والأصولية، يعقوب الباحسين، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1430ھ/2009م.

ـ  فقه التوقع، أعمال ندوة تطور العلوم الفقهية، سلطنة عمان، 1430ھ/2009م.

ـ  الفن المعاصر، علي بن حمزة العمري، ص56، دار ابن حزم، بيروت، لبنان، ط1، سنة 2010 م.

ـ  الفنون والجماليات في خدمة مقاصد الشريعة، إبراهيم البيومي غانم، مجلة التفاهم، مسقط، العدد 143، السنة 12، 1435ھ /2014م.

ـ  الفوائد في اختصار المقاصد، أو القواعد الصغرى، العز بن عبد السلام، تحقيق إياد خالد الطباع، ط1، 1416ھ/1996م، دار الفكر المعاصر، بيروت، لبنان، ودار الفكر، دمشق، سورية.

ـ  في ظلال القرآن، سيد قطب، ط1، 1982م.

ـ  قواعد الأحكام في إصلاح الأحكام، أو القواعد الكبرى، العز بن عبد السلام، تحقيق نزيه كمال حماد، وعثمان جمعة ضميرية، ط1، 1421ھ/2000م، دار القلم، دمشق.

ـ  قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، عبد الرحمن بن إبراهيم الكيلاني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، دار الفكر، دمشق.

ـ  الفروق، القرافي، دار المعرفة، بيروت.

ـ  الفكر الإسلامي المعاصر وعلم الجمال، زكي الميلاد، ورقة بحثية بالمؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية، وكلية العمارة والفنون الإسلامية، وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، خلال 4-5 جمادى الآخرة 1433 ھ/25-26 نيسان أبريل 2012 م، عمان، الأردن.

ـ  قواعد المقري، تحقيق أحمد بن حميد، ط. جامعة أم القرى بمكة المكرمة، د.ت.

ـ  لسان العرب، ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد، دار صادر، بيروت، ط3، 1414ھ /1994م.

ـ  المستصفى، الغزالي، تحقيق محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط1، 1417ھ/1997م.

ـ  مشكلة الفن، زكرياء إبراهيم، مكتبة مصر، 3 شارع كمال صدقي، الفجالة. مصر، د.ت.

ـ  ما معنى الفن الإسلامي، نبيل خلدون قريسة، ملخصات المؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية، وكلية العمارة والفنون الإسلامية، وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، خلال 4-5 جمادى الآخرة 1433ھ/25-26 نيسان أبريل 2012 م، عمان الأردن.

ـ  مدخل إلى علم المنطق، فضل الله مهدي، دار الطليعة، بيروت، 1990م.

ـ  المستصفى، أبو حامد الغزالي، دار الفكر، سورية، وتحقيق محمد سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط1، 1417ھ/1997م.

ـ  معلمة زايد للقواعد الفقهية، مجمع الفقه الإسلامي، جدة، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي، دولة الإمارات، ط1، 1434ھ/2013م.

ـ  معيار العلم في فن المنطق، الغزالي، دار الأندلس، بيروت، د.ت. ندلس، بيروت، دا

ـ مفاهيم الجمال في الفلسفة الإسلامية ومقارنتها بالفلسفات الغربية، سامي محمود إبراهيم، ورقة بحثية .

ـ مفاهيم الجمال رؤية إسلامية، أسامة النقاش، مقدمة الكتاب، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417ھ/1996م.

ـ مفاهيم الجمال في الفلسفة الإسلامية ومقارنتها بالفلسفات الغربية، ملخص البحث، سامي محمود إبراهيم، بالمؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية، وكلية العمارة والفنون الإسلامية، وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، خلال 4-5 جمادى الآخرة 143ھ/25-26 نيسان أبريل 2012 م، عمان الأردن.

ـ المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف حامد العالم، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، المملكة العربية السعودية، والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، الولايات المتحدة الأمريكية،ط2، 1415ھ/1994م.

ـ  مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، تحقيق ومراجعة محمد الحبيب ابن الخوجة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة قطر، 1425ھ/2004م، وتحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، الأردن، 1421ھ/2001م.

ـ  مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، ط2،  1988م.

ـ  مقاصد الشريعة عند الإمام العزّ بن عبد السلام، عمر بن صالح بن عمر، دار النفائس، الأردن، ط1، 1423ھ /2003م.

ـ  مقاصد الفن الإسلامي، لقمان بهاء الدين أحمد، ورقة بحثية بالمؤتمر العلمي «الفن في الفكر الإسلامي»، تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية، وكلية العمارة والفنون الإسلامية، وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، خلال 4-5 جمادى الآخرة 1433ھ/25-26 نيسان أبريل 2012م، عمان، الأردن.

ـ  منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، دار الشروق، ط6، 1403ھ/1983م.

ـ الموافقات في أصول الشريعة، الشاطبي، أبو إسحاق، تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان أبو عبيدة، دار ابن عفان، 1421ھ، وشرح عبد الله دراز، دار المعارف، بيروت، ط2، 1395ھ/1975م.

ـ الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد بن حنبل، وزارة الشؤون الإسلامية، الرياض، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1420ھ/1999م.

ـ  الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، الكويت، ط4، 1427ھ/ 2006م.

ـ ميادين الجمال في الظاهرة الجمالية في الإسلام، صالح أحمد الشامي، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط1، سنة 1980م.

ـ  نظرية المقاصد عند الشاطبي، أحمد الريسوني،  ط1، 1992م.ـ  الورقة التأطيرية للمؤتمر العلمي الدولي «الفن في الفكر الإسلامي»، تنظيم المعهد العالمي للفكر الإسلامي ووزارة الثقافة الأردنية، وكلية العمارة والفنون الإسلامية، وجامعة العلوم الإسلامية العالمية، خلال 4-5 جمادى الآخرة 1433ھ/25-26 نيسان أبريل 2012 م، عمان الأردن.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، 2017، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 33- .125

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

إشكالية الفنون الجميلة في علاقتها بمقاصد الشريعة

إبراهيم البيومي غانم؛ عضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، مصر. محتويات المقال:تمهيدأولاً: في النظرية العامة للفنون ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

فقه الحسنِ: الـتأصيل المقاصدي لمفهوم الفن الإسلامي وحدوده المعرفية

إدهام محمد حنش؛ عميد كلية الفنون والعمارة الإسلامية، جامعة العلوم الإسلامية العالمية، الأردن. محتويات المقال:المقدمةفقه الفنأسلمة الفن وإسلاميتهالالتزام والفن الإسلاميإشكاليات التكييف الفقهيمن التكييف الفقهي إلى التأصيل ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المسألة الفنية في النظرِ المقاصدي من خلال مدخل التكييف والتوظيف

أحمد الريسوني؛ مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط – المغرب، وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي. محتويات المقال:تقديمالمبحث الأول: المسألة الفنية من خلال مدخل التكيي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الفنون ومقاصدها عند الإمام القرضاوي: الرؤية والتطبيق

وصفي عاشور أبو زيد؛ دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية، كلية دارالعلوم، جامعة القاهرة. محتويات المقال:مقدمةالمبحث الأول: الفنون عند الإمام القرضاوي: تتبعٌ واستقراءأولا: الفنون الإبداعية أو ما كتبه الشيخ في الفنونثانياً: ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

اللغة الكونية للفن الإسلامي

منور ثامر المهيد؛ مدير عام مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي- عمان - الأردن محتويات المقال:انعكاس الحقائق في الظواهر الطبيعيةالجيومتري وانعكاسها في الطبيعةالدائرةالنسق الهندسي في الفن المقدس وتجلياته الوجوديةالنِسبُ ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

روح العمارة الدينية: أنموذج جامع السليمانية

رجب شنتورك؛  رئيس جامعة ابن خلدون، اسطنبول. محتويات المقال:1- علاقة الرمز والمرموز له وطريقة التأويل في الفكر العثماني2- جامعُ السليمانية بلسان المهندس المعماري سنان3- القانوني وسنان: سلطانا ومهندسا من حيث الخلفية ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وهندسة الحروف كمقبسين للإرادة الإلهية

أحمد مصطفى؛فنّان وعالم معروف دوليًا، وزميل في الفن الإسلامي والتصميم بمركز الدراسات الإسلامية بأكسفورد- المملكة المتحدة. على النقيضِ مما يفترضه عديد من الغربيِّين؛ فإنَّ الإسلامَ لا يعتريه أي إجهادٍ في الجمع بين العلم وا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

رؤية فلسفية للجمال في النظر الإسلامي الأصولي

الشيخ محمد غورماز، الرئيس الأسبق لهيئة الشؤون الدينيَّة بتركي إنَّ علمَ المقاصد والغايات، هو من العلوم المفتخرة لدى المسلمين، فهو - وإن ظن البعض بساطته - ذو أثرٍ ضخم، وامتدادٍ عريض؛ يلقي ظلالَه على كل العلوم الإسلامية، ب...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

ترقية الإيمان مقصداً للفنّ

عبد المجيد النجار: رئيس المركز العالمي للبحوث والاستشارات العلمية تونس. محتويات المقال:توطئةأولاً: الدين والفنّثانياً: دور الفنّ في ترقّي الإيمان التصديقي1 - دور الفنّ في حصول الإيمان2 - دور الفنّ في تقوية الإيمانثالثاً:...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأصول المُعْربة عن الفنون، والفنون المُعَبرة عن الأصول

نورالدين بن مختار الخادمي: وزير سابق، وأستاذ التعليم العالي بتونس. محتويات المقال:تمهيدإشكالية البحثالدراسات السابقةموضوع البحثالمحور(1) تأطير الأصول للفنونالمحور(2) تعبير الفنون عن الأصولالمحور(3) محور الأدلة الشرعية أو...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد القرآن الجمالية وتمثُّلاتها المعرفية في الفنون الإسلامية (التعريف والتأصيل والتصنيف)

إدهام محمد حنش: عميد كلية الفنون والعمارة الإسلامية جامعة العلوم الإسلامية العالمية (الأردن). محتويات المقال:المقدّمةعلمُ المقاصدِ: الدينُ والفلسفةُالنظريات المقاصديةنظرية العمل المقاصديالمقاصد؛ غايات، ووسائل، وطرائقالطر...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

إسلامية الفنون الإسلامية: بين التنظير المعرفي والتطبيق الإجرائي

صلاح الدين شيرزاد: دكتوراه في تاريخ الفن الإسلامي، عضو هيئة التدريس في جامعة السلطان محمد الفاتح بمدينة إستانبول- تركيا. محتويات المقال:تمهيدبدايةُ التسميةالدافع لضبط المصطلحميادين فنون المسلمينفن العمارةأصناف العمارة- ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصدُ الفنونِ العُمرانِية في المدينةِ الإسلامية: قراءةٌ في نصوصٍ تراثيةٍ ورؤيةٌ في الواقعِ المعاصر

إبراهيم البيومي غانم: أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (مصر)، وعضو مؤسس وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية مؤسسة الفرقان لندن. محتويات المقال:استهلالأولاً: المدينة ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

وظائف الفنون الأدبية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية (دراسة تأصيلية في طبيعة الفنون الأدبية ومقاصدها الجمالية)

عبد الملك بومنجل: مدير مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده، جامعة سطيف، جمهورية الجزائر محتويات المقال:1: أسئلة الجوهر والغاية في فلسفة الفن وعلم الجمال.1.1: جمال المُدرَك أم ذوق المدرِك؟2.1: جمال الشكل أم جمال المضمون؟...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المسرح الإسلامي وفق النسق المقاصدي

جميل حمداوي: أستاذ التعليم، وأديب وناقد، وكاتب ـ المملكة المغربية. محتويات المقال:المقدمةأولاً: مفهوم المسرح الإسلاميثانياً: التصورات المسرحية الإسلامية1ــ نجيب الكيلاني ومقصديةُ المتعة والفائدة2: محمد عزيزة، ومقصدية الص...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الخطاب الجمالي للفن الإسلامي وسياقاته المقصدية

عَمَّارة كحلي: مدرس بـكلية الأدب العربي والفنون بجامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم ـ جمهورية الجزائر.  محتويات المقال:مقدّمة1: نحو تجديد الفهم المقاصدي في باب نوازل الجمال والفنون2: صناعة الزينة والجمال في المصادر العربي...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top