فهمي هويدي
محتويات المقال: هل الإيمان بالإسلام شرط للمواطنة في المجتمع الإسلامي؟ ما هي حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي؟ |

النظر إلى حقوق غير المسلمين في مجتمع المسلمين لا يتحقّق إلا إذا استوعبنا أمـوراً عدة في البداية تتمثّل فيما يلي:
• أن تقــرير الحقوق والواجبات في المفهوم الإسلامي مصدره اللّـه عز وجل؛ ذلك أن هـدف الرسالات السماوية – طبقاً للنص القرآني – هو أن يقوم الناس بالقسط.
أي أن يتحقّق العدل الذي يعطي لكل ذي حق حقّه، وحين يصبح ميزان الحقّ والواجب نصوباً من قبل العدالة الإلهية؛ فإن ذلك يكسب الاثنين – الحق والواجب – عمقاً عقيدياً بحيث يطالب المـرء بحقّه في إصـرار ثبات ويجاهد لأجله؛ لأن ذلك الحقّ ليس منحة من أحد، ولكنه
من أمـر اللّـه ينبغي ألا يـفرِّط فيه، وإلا كان من الظالمين لأنفسهم. وتقــــرير الحقوق من قبل اللّـه ليس معناه تخــــدير المشــاعر وتبــريـر الاستسلام والخضـوع والتواكل؛ لأنـه في واقع الأمـر يرفع مرتبة حقوق الإنسان بحيث يجعلها مستمدّة من العقيدة، ويجعل الإيمان حارسا عليها ودافعاً إلى الحفاظ عليها والنضال من أجلها.
• إن نظـرة الإسلام لحقوق غير المسلمين جزء من نظرة أوسع وأشمل للـكون والحياة، وتنطلق الفكرة الإسلامية في هذا الصدّد من الإيمان بأن اللّـه سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون، وموجود في كل صغيرة وكبيرة فيه، هو خالق الناس والطير والحيوان والنبات وكل ذي روح فيه، فضلاً عن أنه خالق الجبال والأنهار ...الخ.
وفي النصوص القرآنية أن كل تلك الكائنات تتعبّد للّـه، ولكن الناس لا يفقهون تسبيحهم
ولأن الكائنات كلها من خلق اللّـه؛ ولذلك فإن لها حصانة وحرمة، وهي حصانة لا تظلل كائنا دون آخر، فضلا عن أنها ليست مقصورة على إنسان دون آخر.
ولئـن كانت الخبـرة الإنسانية المعــاصرة قـد أعلـت من قيمــة حقوق الإنسان، ثـم عـاودت في طـور آخر فتحدّثت عن حقـوق الحيـوان، وأخيراً تعالـت أصـوات «الخضـر» داعـية إلى الدفاع عن الزروع والبيئة، فإن الإسلام منذ نزلت رسالته قبل أرعة عشر قرنا تحدّث عن حقوق الكائنات التي خلقها اللّـه جميعا سواء كانت إنسانا أم نباتا أم حيوانا ...الخ.
• في هذا السياق يعتبر الإسلام أن الإنسان هو مخلوق اللّـه المختار، فقد خلقه اللّـه في أحسن تقويم - طبقاً لنص القرآن - وهو خليفة اللّـه في
الأرض، المكلف بإعمارها وبإشاعة الخير والنماء فيها، ولأجل أن ينهض بمسئوليته تلك فإن اللّـه سخّر له كل الكائنات الأخرى لكي تكون في خدمته ورهن إشارته.
وحين ذكـر القـرآن أن اللّـه سبحانه وتعالى كرّم بنـي آدم وأعلى من مرتبة الإنسان فوق كل المخلوقات، حتى طلب من المـلائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام ، حين وجه ذلك الخطاب فـإنه استهدف الإنسان لذاته لمجرد كــونه إنسانا، وقبل أن يصبح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا أو بوذيا، وبصرف النظر عن لونه أو عرقه1.
ولـيس صحيحا أن الحـفاوة الـقرآنية بالإنسان مقصورة على المسلمين وحـــدهم كما يتصوّر البعض، والنصوص القرآنية شـديدة الوضوح في هذه النقطة بالذات، فهي تارة تتحدّث عن «الإنسان» وتارة تتحدّث عن «بني آدم»، ومرات أخرى توجّه الحديث إلى «الناس». وهذا التعميم لا تخفى دلالته على أي عقل منصف ومـدرك للغة الخطاب في القرآن الكريم، التي تستخدم موازين للتعبير غاية في الدقة، تحسب بها متى يكون الخطاب لـلإنسان وللناس بعامة، ومتى يوجّه الكلام للمؤمنين والمسلمين قبل غيرهم.
ومن أهم ما قرأت في تبيان هذه النقطة، تلك الشهادة التي أوردها واحد من كبار علماء الأزهر. هو الدكتور محمد عبد اللّه درّاز- وقال فيها:
«الكـرامة التي يقرِّرها الإسلام للشخصية الإنسانية ليست كرامة مفردة، ولكنها كرامة مثّلثة: كرامة هي عصمة وحماية، وكرامة هي عزة وسيادة، وكرامة هي استحقاق وجدارة ... كرامة يستغلها الإنسان من طبيعته ﴿ولقد كرّمنا بني آدم﴾ (الإسراء: 70)، وكرامـة تتغذّى من عقـيدته ﴿ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين﴾ (المنافقون: 8)، وكـرامة يستوجبها بعمله وسيرته ﴿ولكل درجات مما عملوا﴾ (الأحقاف: 19)، ﴿ويؤت كل ذي فضل فضله﴾ (هود: 3). وأوسع هذه الكـرامات وأعمّها وأدومها تلك الكـرامة الأولى التي ينالها الفرد منذ ولادته، بل منذ تكوينه جنينا في بطن أمه ... كرامة لم يؤدّ لها ثمنا ماديا ولا معنويا، ولكنّها منحة السماء فس=ي شـريعة فطــرته والتي جعلت كـرامته وإنسانيته صنــوين مقتــرنين في شريعة الإسلام.
ما حقيقة تلك الكرامة؟ -تساءل ثم أجاب-إنها قبل كل شئ سياج من الصيانة والحصانة. هي ظلّ ظليل ينشره قانون الإسلام على كل فرد من البشر: ذكراً أو أنثى، أبيض أو أسود، ضعيفاً أو قوياً، فقيراً أو غنياً، من أي ملّة أو نحلة فرضت .. ظلّ ظليل بنشره قانون الإسلام على كل فرد يصون به دمه أن يسفك، وعرضه أن ينتهك، وماله أن يغتصب، ومسكنه أن يقتحم، ونسبه أن يبدل، ووطنه أن يخرج منه أو يزاحم عليه، وضميره أن يتحكّم فيه قسراً، تعطل حـريته خداعاً ومكراً. كل إنسان له في الإسلام قدسيه، إنه في حمى محمي وحـرم محرم، ولا يزال كذلك حتى يهتك هو حــــرمة نفسه، وينزع بيده هذا الستر المضروب عليه، بارتكاب جريمة ترفع عنه جانبا من تلك الحصانة. وهو بعد ذلك بريء حتى تثبت جريمته وهو بعد ثبوت جريمته لا يفقد حماية القانون كلها؛ لأن جنايته ستقدّر، ولأن عقوبته لن تجاوز حدها، فإن نزعت عنه الحجاب الذي مـزّقه هو، فلن تنزع عنه الحجب الأخرى.
بهذه الكرامة يحمي الإسلام أعداءه كما يحمي أبناءه وأولياءه ... إنه يحمي أعداءه في حياتهم، ويحميهم بعد موتهم، يحميهم في حياتهم، فيحول دون قتالهم إلا إذا بدؤوا بالعدوان ويحميهم في ميدان القتال نفسه؛ إذ يؤمنهم من النهب والسلب والغدر والاغتيال. ثم يحميهم بعد مـوتهم؛ إذ يحـرّم أجسادهم على كل تشــويه أو تمثيل (بنص الحـديث الشريف).. ولـم لا؟ أليسوا أناسـى؟ فلهم إذا كرامة الإنسان ...
هذه الكرامة التي كرّم اللّـه بها الإنسانية في كل فرد من أفرادها، وهي الأساس الذي تقوم عليه العلاقات بين بني آدم2.
• هذه الحقـيقـة الكبرى في التصّـور الإسلامي، كانت لها أصداؤها في عديد من النصوص والشـواهـد، ففي ظلها تفهم أبعاد البيان الإلهي في سورة المـائدة﴿من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا﴾ (المائدة: 32). وهو تصـوّر بالغ القوة في الدلالة على بشاعة جريمة قتل الإنسان ظلما بغير حق؛ إذ هي في هذا النص ليست عدوانا على الفرد فقط، ولا عدوانا على المجتمع كما تنص القوانين الجزائية أو الجنائية الوضعية، ولكنها شيء أكبر وأفدح: إنها عنـد اللّـه سبحـــانه وتعـــالى عدوان على الناس جميعا، على الجنس البشري بأسره!
إن النص القرآني هنا يتحدّث عن «النفس الإنسانية» وعن «الناس» دون تفـرقة بين لـون وجنس وملـة؛ «لأنه لا فرق نفس ونفس»، كما يقول ابـن كثير، فضلا عن أن الآية «تعلمنا ما يجب من وحدة البشر، وحـرص كل منهم على حياة الجميع، واتقائه ضرر كل فرد؛ لأن انتهاك حـرمة الفرد، انتهاك لحـرمة الجميع. والقيام بحق الفـرد من حيث إنه عضو من النوع، وما قرر له من حـقـوق المساواة فس الشـرع، قيـام بحق الجميع»، كما يقول الشيخ رشيد رضا3.
في ظل تلك الحقيقة الكـبرى نـفهم قـول النبـي ﷺ: «إن اللّـه يعـذّب الـذين يعـذّبـون الناس في الدنيا»، فالعدوان على كرامة الإنسان هنا لايكفي فيه العقاب الدنيوي-إن وجد-وإنما تلك وصـمة تلاحق المعتدي في الآخرة، حيث يلقى جـزاءه عند اللّـه أيضا.
في ظلها أيضا نقرأ القصة التي يسجٍّلها البخاري، من أن النبي ﷺ قام من مجـلسه تحية واحتراما لجثمان ميت مـر أمـامه وسط جنازة سائرة، إنها جنازة يهودي؟ ... عندئذ جاء رد النبي ﷺ واضحا وحاسما: أليست نفسا؟ أليس إنسانا من خلق اللّـه وصنعه؟
استحضر الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه تلك المعاني في كتابه إلى مـالك الأشتر، حين ولاه مصر عندما قال: «وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم ... فـإنهم صنفان: إما أخ لك في الـدين، أو نظير لك في الخلق»4.
ومن هذا الشعور العمميق بقيمة الإنسان، فإن الإمام أبا حنيفة أفتى بعدم جواز الحجر على السفيه؛ لأن في هذا الحجر إهداراً لآدميته، ولما كان الضرر الذي يصيب إنسانيته من جراء هذا الحجر أكبر من الضرر المادي الذي يتــرتّب على سوء تصــرّفه في أمواله، فــإنه لا يجوز دفع الضر بــأعظم منه .. ولا يجوز بــالتالي-في رأيه-الحجر عليه؛ إذ المساس بالمال محتمل وإن أضر، لكن المساس بقيمة الإنسان غير مقبول وغير محتمل، وإن أفاد.
هكذا تظل قيمة الإنسان واحدة من الثوابت الأساسية في التفكير الإسلامي، التي لا تقبل الانتقاص بأي قدر، وإن قبلت الإضافة إلى أبعد مدى، ويظل أي انتهاك لهذه القيمة بمثابة تصادم وتناقض مباشرين مع دعامة أساسية في التصور الإسلامي بنصه وروحه.
لـم تكتف النصوص الإسـلامية بـالتـأكيد على القيمة المطلقة لـلإنسان، ولكنها أقامت انطلاقاً من تلك الحقيقة الكبرى عديداً من الجسور التي تفتح الطريق واسعا لإخوة بني الإنسان، من أجل بناء حياة تملؤها المودة والـرحمة باعتبار أن الجميع ينتسبون إلى أصل واحد يمتد إلى آدم وحواء.
فثمّة نصوص مباشرة في هذا المعتى خاطبت كافة خلق اللّـه، من كل جنس ولـون ومـلة، تقول مثلا: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء﴾(النساء:1)،﴿ياأيها الناس إناخلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير﴾ (الحجرات: 13)، «أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أبــاكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقـاكم، ليس لعـربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ألا فليـبلغ الشاهد منكم الغائب» (من خطبة الرسول ﷺ في حجة الوداع). وقد كان من دعائه ﷺ في صلاة آخر الليل: «اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن العباد كلهم إخـوة» (أبو داود).
إن هذه النصوص تذكّر بالأصل الواحد لبني الإنسان، وتنبِّه إلى أن ثمّة حكمة إلهية في اختلاف الخلق شكلا وموضوعا، مؤكّدة أنه ليس في هذه الدنيا إنسان بطبيعته أفضل من إنسان، إذ الكل من نفس واحدة، أبوهم آدم وأمهم حواء .. والتفاضل فقط أمام اللّـه سبحانه، وله معيار واحد هو: التقوى، التي هي الإيمان والعمل الصالح.
• في الوقت الذي يقرّر فيه الإسلام وحدة الانتماء الإنساني، معتبرا أن العباد كلهم إخوة، فإنه يحثُّ المسلمين على الاعتراف بكل الرسلوالأنـبياء، ويعتـبر ذلك شـرطاً لسـلامة اعتقادهم، الأمـر الذي يعنـي أن الآخر غير المسلم معترف به وبدوره، وله شرعيته في المجتمع الإسلامي
وفي هذا المعنى تقـرّر الآيات القرآنية:
﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون﴾ (البقرة: 136). ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرِّق بين احد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ (البقرة:285). ﴿والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما﴾ (النساء: 151). |
هذه الآيات وأمثـــالها تفتح واسعا باب التــــــلاقي بين المسلمين وغيرهم، حيث تعلن للكافة أن المسلمين مؤمنون بكل الأنبياء والرسل، وأن جوهر الرسالات السماوية واحد في غير تعارض أو تنافر.
بعد إعلان حق الكرامة لكل بني الإنسان، بعد الاعتراف بشرعية الآخر استنادا إلى الإيمان المطلوب بكل الــــرسل، هناك مبادئ ثــلاثة تضبط إطار العلاقة بين المسلمين وغيرهم، تتمثّل فيما يلـي:
- لا إكـراه في الـــدين، وهذا المبدأ الذي أرساه النص القـرآني لكـي يحصِّن كل صـاحب اعتقاد من أن يُكره على ترك دينه أو الـدخول في ديانة أخرى، حتى وإن كانت هي الإسلام، وفي تفسير الطبري أن الآية نـزلت فيمن أرادوا تحـويل أبنـائهم الـذين دخلوا في الـديانة اليهودية، وإجـبارهم على الـدخول في الإسلام بعد ما نــزلت رسـالته، وإذا كان الإسلام قد قرّر أنه لا إكراه في الدين، فمـن البديهي أن يكون أي إكراه في الدنيا مرفوضا بدوره.
- قـاعدة الـبـر والقـسـط التي يعتبـرها الإسلام أصـلا في التعامل مع غير المسلمين؛ إذ تقـرِّر الآية أنه:﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ﴾(الممتحنة:8)، وهي تعني أنه طـــــــالما يعيش الآخرون في أمان مع المسلمين فيتعينَّ على المسلمين أن يقيموا علاقتهم معهم على أساس من المودّة والإنصاف.
- لهـم مـا لنا وعلـيـهـم ما عـلينا»، وهي القـــاعدة الفـقهية التي استقرّت علـى مدار التاريخ الإســلامي، وأسَّست قـاعدة المساواة بين المسلمين وغيـــرهم في الحقوق والواجبات، وقد تـــرجمت هذا المبدأ «الصـحيفة» التي هي بمثـــابة أول دستور في الدولة الإســلامية، وتـمّ تحـريرها بعد هجرة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة، ونصّت على أن هل الكتاب - اليهود آنذاك - أمـة مـع المــؤمنين؛ أي أن لهم حقوق المواطنة الكـــاملة، يمارسون عبـادتهم بكل حـــريتهم، وينـــاصرون المسلمين، ويتناصـرون في حـمـاية المـدينة ... ويتعاونون كلُّ في موقعه على حمل الأعباء.
هل الإيمان بالإسلام شرط للمواطنة في المجتمع الإسلامي؟
ثمّة جدل حول هذه النقطة، انحاز فيه البعض إلى فكرة أن الإسلام شرط المـواطنة، وقالـوا بأن غير المسلمين يُعدُّون مواطنين من الدرجة الثانية (من الـذين كتبوا في هذا المعني الدكتور مجيد خـدوري والدكتور هشام شـرابي)، وهناك آخرون اعتبروهم مواطنين لهم درجات متفاوتة من الحقوق (قال بـذلك الــدكتور يـوسف القـرضاوي والشيخ محمد الغزالي ومـولانا أبو الأعلى المودودي والدكتور عبد الكريم زيدان).
وهذا الـرأي الأخير هو الأولـى بالقبول، والأكثر اتساقا مع التعاليم الإسلامية التي حفظت لكل إنسان كرامته، واعتـرفت بشـرعية ذلك الآخر في المجتمع الإسلامي.
ذلـك أن إنكار المـواطنة علىى غير المسلم يتعارض مع المبـدأين السـابقين، حيث يحطُّ من كرامته ويطعن في شرعيته في الوقت ذاته.
ثم إنني لست مع الـذين قالـوا: إن الإيمان بالإسلام شرط للمواطنة في المجتمع الإسلامي؛ لأن الإسلام لا يقيم عـلاقته مع الآخرين على أساس من عقــائـــدهم، وإنما على أساس من مســـالمتهم للمسلمين واستعدادهم للتعايش معهم؛ ولذلك نجد أن الآية الداعية إلى معاملة غير المسلمين بــالـبـر والقسط قــــرنت ذلك بشرط مســـالمتهم وعدم اعتدائهم على المسلمين.
في هذا المعنى ذكـر الـدكتور عبد الـوهاب خلاف-وهو من علماء الأصول. «أنه ليس مناط الاختلاف مع الآخرالإسلام وعــدمه، وإنما مناطه الأمـن والفزع»5، وقد أيَّد الدكتور صبحي محمصاني هذا الرأى حين ذكر أن «الإسلام لم يميِّز بين المسلمين وغير المسلمين على اعتبار اختلاف الـــدين، كما لم يميِّز بين المواطنين والأجــانب على أساس جنسيتهم أو تابعيتهم؛ فلذا من الخطأ الناتج عن الجهل والتضليل زعم بعض الكتاب أن صفة المواطن كــانت للمسلمين وحــدهم، وأن غير المسلمين كانوا جميعا من الأجانب».6
ما هي حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي؟
أول ما يخطر على البال حين يطرح هذا السؤال أمـران هما: حـرية العبادة، والمساواة مع غيرهم من المواطنين.
وإذا أردنـا أن ننـاقش مـدى استجـابة المجتمع الإسلامي لكل من هـذين المطبين، فلن يختلف معنا أحد في أن قضية حرية الاعتقاد من المسلمات المحسومة والبديهية فيما يتعلق بأصحاب الديانات السماوية، والتي بلغت حد كفــــالة هذه الحــــرية. قبل ألف سنة- للمجوس والزرادشتين والهندوس والبوذيين، كما سبقت الإشارة من قبل.
غير أن هناك جدلا حول الشعائر والمعابد تستوقفنا في صدده ثلاثة أمور:
• الأمـر الأول: أنه ليس في نصوص القرآن والسنة قيد من أي نوع على حق غير المسلمين في ممارسة شعـــائـرهم. بل إن العكس هو الصحيح، فاعتراف القرآن بأصحاب الديانات الأخرى، والتوجيه الإلهي الداعي إلى التعامل معهم بالبر والقسط، بمثابة دعوة ضمنية لاحترام حق غير المسلمين في أداء الشعائر وإقامة المعابد.
• الأمر الثاني: إن الوقائع والممارسات التاريخية في هذا الصدد، لم تخل من درس واختلاق، الأمـر الذي يدعونا إلى الحذر الشديد في التعامل معها، ومن أشهر النماذج الدّالة على ذلك ما يسمى ب «العهد العمري»، المنسوب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.ومع ذلك فـإن ما هو صحيح من تلك الوقائع والممارسات يظل قابلا للمناقشة والمراجعة في ضوء اعتبارات المصلحة الـراهنة، طـالما أنه في النهـاية اجتهاد خاص، لا التزام فيه إلا بقدر موافقته للكتاب والسنة الصحيحة، نصا وروحا.
• الأمر الثـالـث: أن جانبا من قضية الشعائر والمعابد يظل محكوما باعتبارات النظام العام والشعور أو الذوق العام، وتلك مسألة تقديرية قد يختلف فيها الرأي باختلاف الزمان والمكان، فضلا عن تعذَّر وضع صيغة ثابتة ومحدّدة لإحكام معالجتها، غير أنه يمكن أن يقال هنا: إن الأقلية - وقد كلفت لها حـرية العبادة كقاعدة - ينبغي أن تتصرّف في ممارسة عبادتها، بـالشكل الذي لا يجرح الشعور العام والذوق العام لـلأغلبية.
فيمـا يتعلّق بـالشق الثـاني المتعلق بـالمساواة، نجد أن النصوص الشرعية لا تدع مجالا للبس في تقرير هذا المبدأ حيث نواجه بحشد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تضع الجميع منذ البداية ليس فقط على قدم المساواة، وإنما تـــــؤكِّد أصلهم الواحد، مشدِّدة على كـرامة الإنسان وحصانته، كما ذكرنا من قبل.
وإضافة إلى عنصري الأصل الواحد وحصانة الآدمية لذاتها، يطرح التصوُّر الإسلامي دعــامة أخرى لها دورها أشرنا إليها أيضا، هـي اعترافه بــأنبياء اليهود وبــالمسيح عليه السلام،فـــأضاف الإسلام في أسس التعامل مع الآخرين وشيحة إيمانية، إلى جانب الوشيحة الإنسانية.
«وبقبولـه لأنبياء اليهود وللمسيح، فإن الإسلام قد حدّ من كافة الفروق بينه وبين تلك الديانات، وجعلها مجرد اختلافات داخلية، قد تكون راجعة للفهم الإنساني، أكثر من كـونها راجعة للّـه أو ديـن اللّـه. وبذلك فإنه قد قلل الهوة بين المسلمين واليهود والمسيحيين إلى أقل حد ممكن، فقد جعل الفارق بالنسبة للديانات الثلاث فارقا داخليا».7
إن الأساس القوي للمساواة قائم في نصوص القرآن والسنة، حتى يكاد يصبح بدوره من مسلّمات التصوّر الإسلامي للعلاقة مع الآخرين، فحديث رسول اللّـه ص: «من آذى ذمــيا فـليس منا، أو فأنا خـصيمـه يـوم القيـــــامة»، لا ينصبّ فقط على ما يتصوّره البعض إيذاءً مادياً أو
جـسـديًا، ولـكنه يشـمل أيضاً الإيـذاء المعنوي، الذي يقـوم أسـاسـا على احترام الشـعور والكـرامة، ولفـظ الإيـذاء استخدم في القرآن الكـريم في عـدة معان، بينـها إيـذاء الشعور، ففي مقام توجيه المسلمين إلى التأدّب والتوقير في معاملة النبي ص، ودعوتهم إلى عدم دخول بيته بغير إذن، يقول اللّـه تعالى: ﴿إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم﴾ (الأحزاب: 53).
ثـم، ألا تؤكّد هذه المساواة تلك القاعدة الفقهية التي تقـرّر أن «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، وكلمة الإمام علي رضي الله عنه: «إنهم قبلوا عقد الذمة لـتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم»8، ثـم قـول واحد من مشـاهير الفقهاء هو السـرخسـي:»ولأنهم قبلوا عقد الـذمة، لتكون أمـوالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم»9.
وقد ذهب الفقه الإسلامي مـدى أبعد في هذا الاتجاه، فـلم يكتف بتقرير المساواة بين المسلمين وغيرهم، بل زاد على ذلك أن أعطى غير المسلمين حقّ مباشرة التصرّفات التي تتعارض مع ما تقضي به الشـريعة الإسلامية، ما دامت شرائعهم ودياناتهم تسمح بها. وإبـاحة الخمر وتـربية الخنزير هما أبـرز مثال على ذلك، وأفتوا بأنه إذا أتلف أحد من المسلمين خمـر الـذمي أو خنزيره كان عليه غـرمه. وفي «الدر المختار»، «ويضمن المسلم قيمة خمره وخنزيره إذ أتلفه»10.
في هذا السياق تثار تساؤلات حول الـــــذمّة والجـــــزية وحقّ غير المسلمين في تبوّء المناصب والولايات في الدولة الإسـلامية، وسنـحـاول الإجابة على تلك التساؤلات واحدا تلو الآخر.
• الــذمـّة: لـم يـذكر المصطلح بمعناه الشائع في القرآن الكريم، ولكنه تردّد في بعض الأحاديث النبوية، ومعروف أن الكلمة كانت ضمن قاموس خطاب القبـائل العربية قبل الإسلام. إذ كانت عقود الـذمة والأمان هـي صيغة التعايش التي تعارف عليها عـرب الجاهلية، وبعد الإسلام استمر العمل بفكرة الذمّة التي أصبحت تطلق على عقود التعايش والأمان التي كــانت تبرم مع غير المسلمين، واعتبرت الـــذمة العينية هي ذمـة اللّـه ورســــــوله، وليست ذمة أحد من المسلمين، غير أن المصطلح أسيء استخدامه بعد ذلك، خصوصا في أواخر العهد العثماني، حتى اقترفت فكرة الذمّة بدونية الآخر ومعاملته بحسبانه مواطنا من الدرجة الثانية، الأمـر الذي أصبح يتعارض مع حقّ الكرامة الذي يكفله الإسلام لكل إنسان.11.
وكان عقد الذمّة نظاماً اتّبع في التجربة الإسلامية، وليس جزءا من خــريطة القيم والتعـاليم الإسلامية، ولأن قيام الدولة وسيادة فكرة المواطنة كانا من العناصر الطاردة لفكرة الذمّة، فالاتفاق منعقد بين الأغلبية الساحقة من فقهاء المسلمين المعاصرين، على أنه لـم يعد هناك وجه أومسوِّغ لـلالتزام بفكرة الذمّة، ومنهم من قال: إن المصطلح أصبح الآن مجرد وصف لعقد «تاريخي» لا يشترط الإصرار عليه، ولـم يعد له محل أصلا12.
• الجــزيـة: ليست الجـــزية ابتكارا إسـلاميا، ولـكنه نظام فارسـي الأصل طبق في عهد كسرى أنو شروان ملك الفرس، والأصل الفارسي للكلمة هو: «كذيت». وقد حقّق الكلمة أحد العلماء الهنود - الشيخ شبـلى النعماني - ونشرت له جريدة «المنار» رسالة في معناها وأصلها13، ومن الفرس انتقـلت الفكرة إلى الروم، وأخذت طـريقها بعد ذلك إلى الجـزيرة العربية. وقد تعدّدت أقوال الفقهاء في شرح مفهوم وعلّة الجـزية، فمن قائل: إنها عقوبة مفروضة على غير المسلمين، ومن قائل بظانها أجرة لسكن الدار، وقائل: إنها إتاوة أو عوض. إلا أن أرجح الأقوال وأكثرها معقولية تشير إلى أنها مجرّد بدل حماية ومنعة؛ أي بدل نقدي يـدفعه غير المسلمين مقابل قيام المسلمين بالـدفاع عنهم والموت دونهم. الأمـر الـذي يعني أنه إذا شارك غيـر المسلمين في القتال وتــولّـوا الـدفاع عن حياض بلادهم جنبا إلى جنب مع المسلمين فلا محل للجـزية ولا مجال لأي حديث بشأنها.
ينطبق ذلك على الأوضاع السائدة الآن في كافة الأقطار الإسلامية حيث يشارك غير المسلمين في جيوشها، ويتحمّلون مع إخوانهم المسلمين مسئولية الدفاع عن الأوطان، الأمـر الذي يستعبد طرح فكرة الجـزية من الأساس.
وفي التّاريخ الإسلامي وقائع وشواهد على تعزيز هذا المنحـى الذي ننحاز إليه، فمـن الثابت أن أهـل البـلاد المفتوحة الـذين يؤدّون الـجزية للمسلمين كانت تسقط عنهم الجزية إذا ما شاركوا في الحرب دفاعا عن أنفسهم.
ويذكر أن من مسقطات الجزية أمورا عديدة، من بينها عجز الدولة عن حماية الـذمي، واشتراك الـذمـي في الدفاع عن دار الإسلام، وهذا العـامـل الأخير هو السـائد في الواقـع الإسـلامي الـراهـن، الأمـر الـذي يقتضـى صـرف النظر عن فكرة الجزية واستعبادها من إطار العلاقات بين الدولة العصـرية ومواطنيها من غير المسلمين.
• الـولايـات: للفقهاء اجتهادات عدة في هـذه المســـألة، حيث أجـاز الماوردي في «الأحـكام السلطـانية» لغير المسلم أن يتـولّـى ولاية التنفـيذ
دون ولاية التفويض؛ أي أن يكون له الحـقّ في أن يكون مسؤولا تنفيذيا أو وزيـرا دون أن يكون صاحب قرار مصيري (رئيس وزراء مثلا).
وهناك اتّفاق بين لبفقهاء تقـريبا على أن القاضي ينبغي أن يكون مسلما؛ لأنه يجتهد ويفتى، الأمـر الذي يستعبد بصورة تلقائية إمكانية تولّـي غير مسلم لمنصب من هذا القبيل، والمستقر بين الفقهاء أن غير المسلمين لهم أن يتولّوا كافة الوظائف التي هم أكفاء لها، إلا ما كان ذا صبغة دينية، وأوردوا في ذلك مناصب معينة مثل الإمـامة ورئاسة الدولة وقيادة الجيوش في الجهاد والولاية على الصدقات، فضلا عن القضاء14.
غـير أننا نلفت النـظر إلى أن هذه كـلها مجـرّد اجتهادات تمّ استيحاؤها من المصـالح العـامة والمقـاصد الشـرعية، وهـي تحتمل اجتهادات أخرى يـمكن أن تصـدر في حال تغيّر الظروف، على سبيل المثال فإن المستشار طارق البشري له اجتهاد آخر في تولـّي غير المسلمين الولايات العــامة في الوزارة أو في القضاء؛ حيث يـرى أن آليات الحكم والإدارة في الدولة العصـــرية أصبحت أكثر تعقيداً بحيث لم تعد صـلاحيات المسؤول بالاتساع الذي كانت عليه في الماضي، فوزير التنفيذ الذي تحـدّث عنه الماوردى وأجاز تولـي غير المسلمين لمنصبه كان يملك من الصــلاحيات أكثر مما يملك رئيس الـوزراء في الــوقت الحــاضر، إضافة إلـى أن القـرار أصبح الآن يمرّ بقنوات عدة- لجان ومـؤسسات ومستشارين عديدين - الأمر الذي تقلّص فيه دور الفـرد إلى حد كبير، بحيث لم يعد يختلف الأمـر فيه باختلاف ديانة المسؤول، وهذا حاصل أيضا بـالنسبة للقضاء، الذي بات محكوما بقوانين ولوائـح وسوابق قضــائية، فضلا عن أن القـاضي لا يقضـي بمفرده، وإنما للمحكمة «هيئة» تضـم عضــوين آخـــرين معه عن يمين وشمال. وذلك يعني أن القاضي لـم يعد بالضرورة مجتهدا، ومن ثمّ فلا محل لاشتراط الإسلام فيه15.
هكذا فإنها تظلّ ثابتة قاعدة تولّي غير المسلم لكافة الوظائف العامة التي تنطبق عليه شروطها، إلا ما كان ذا صبغة دينية - ويبقـى السؤال مفتوحا للاجتهاد حول ماهية تلك الوظائف.
غيـر أننا لا نستطيع أن نتجاهل اللغط الذي يثيره البعض حول حقّ غير المسلمين في تولّي الوظائف العامة، حيث يرى هؤلاء أن ثمّة نصوصا شرعية تقيّد ذلك الحقّ، وتفضّل المسلمين على غيرهم فيما يتعلّق بإدارة المجتمع الإسلامي. وهذه النصوص تتمثّل في آيات قرآنية ثلاث تنصّ على ما يلي:
1-﴿لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويحذِّركم الله نفسه وإلى الله المصير﴾(آل عمران: 28).
2-﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيناً لكم الآيات إن كـنتم تعقلون﴾ (آل عمران: 118).
3 -﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخدوا اليهود والنصارى أولياء﴾ (المائدة: 51).
ومن التيارات الإسـلامية المعاصـرة، من يتشـدّد في معـاملة غير المسلمين، مستندا إلى تلك الآيات، فيما يعتبرونه دعوة إلى عدم «موالاة الكافرين».
غير أن أية قراءة لسياق النصوص القـرآنية، قبل وبعد تلك الآيات، تقودنا على الفور إلى أنه لا صلة البتة بين هذه الآيات، والتعامل العادي مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، فهي جميعا واردة في المعتدين على الإسلام، والمحاربين لأهله، وتنفير أفـراد الأمة من خصومها واجب يتجدّد في كل عصره»16.
فالآية الأولـى ﴿لا يتخذ المؤمنون الكافــرين أولياء ...﴾ تقول للمؤمنين ما معناه: لا تتّخذوا أيها المــــؤمنون الكفار (أهل الكتاب ليسوا معنيين بالخطاب هنا) ظهورا وأنصارا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلّونهم على عوراتهم؛ فإنه من يفعل ذلك فليس من اللّـه في شيء؛ يعني بذلك: فقد برئ من اللّـه، وبرئ اللّـه منه بارتداده عن دينه، ودخـــوله في الكفر، إلا أن تتّقوا منهم تقاة، إلا أن تكـونـوا في سلطانهم فتخـافـوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشـايعـوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل17.
أمـا الآية الثانية﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ...﴾ ففيها «نهـى اللّـه المؤمنين أن يتّخذوا بطـانة ممن قد عرفوه بالغش لـلإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة على على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصـوفين بتلك العداوة، والشنآن والمناصبة ... (ومن لم يثبت في حقهم ذلك) فغير جـــائز أن يكـــــونوا نهوا عن مخــــــالفته ومصـادقته»18.
«وأنت ترى أن هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطــانة، لو فرض أن اتّصف بها من هو مـوافق لك في الــدين والجنس والنسب، لما جاز لك أن تتّخذه بطـانة لك، إن كنت تعقل ..(بينما) خفـي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود فظنوا أن النهي عن المخالف في الدين مطلقا»19.
والآية الثالثة يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء .. فيكفينا ما يقول في شـرحها الشيخ محمد الغزالي: «يجـيء أحـدهم إلى هذه الآية؛ فيبترها عما قبلها وما بعدها، ويفهم منها أن الإسلام ينهي نهيا جازما عن مصادقة اليهود والنصارى، ويوجب قطع علائقهم، ويهدِّد المسلم الذي يصادقهم بــــأنه انفصل عن الظغسلام والتحق بـاليهوديـة والنصـرانية، والمعنى بهذا التعميم باطل، والآيات الـلاحقة بهذه الآية المرتبطة بها في موضوعها، تحدّد الموضوع بجلاء لا يحتمل خلطا»20.
ثم يضيف الشيخ الغزالي قائلا: إن الآيات نزلت تطهيرا للمجتمع الإسلامي من ألاعيب المنافقين، ومن مـؤامراتهم التي تدّبر في الخفاء لمساعدة فريق معين من أهل الكتاب، أعلنوا على المسلمين حربا شعواء، واشتبكوا مع الدين الجديد في قتال، هو بالنسبة له قتال حياة أو موت؛ فاليهود والنصارى في هذه الأية قوم يحاربون المسلمين فعلا، وقد بلغوا في حربهم منزلة من القوة جعلت ضعاف الإيمان يفكِّرون في التحبُّب إليه والتجمُّل معهم؛ فنــــزلت هذه الآية، ونزل معها ما يفضح نوايا المتخاذلين في الدفاع عن الدين الذي انتسبوا إليه:﴿فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمـر من عنده، فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين﴾ (المائدة: 52).
ثم تستطرد الآيات في تـوصية المـؤمنين بتـدعيم صفــوفهم أمام المتربِّصين والمتهجِّمين، تطالبهم بمقاطعة المحاربين لـلإسلام من أهل الكتاب، مسوغة هذه المقاطعة بأنها رد فعل للعدوان:﴿يا أيها الذين آمنوا لا.
تتّخدوا الذين اتخّدوا دينكم هزوّا ولعباً من الذين أوتوا الكـتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كـنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخّذوها هزواً ولعباً﴾ (المائدة 57 85).
ويتساءل الشيخ الغـزالي بعد هذا الإيضاح: هل هناك ضـير على دين ما، إذا منع أتباعه من مصادقة الذين يتهكّمون بتعاليمه، ويسخرون من شعائره؟
ولأجل السياق الذي نحن بصدده أضيف تساؤلا آخر: هل حقا تشكّل هذه الآيات قيدا على اشتراك غير المسلمين في تسيير شؤون ومـلاافق الدولة الإسلامية؟
إن تفاسير الآيات وشروحها تقول: إنها جميعا لا تضع قيدا على حركة وممارسات الآخرين من المسالمين، غير المعتدين ولا المتآمرين.
ورحلة التاريخ الإسلامي تقول: إن تلك الآيات لم تشكّل - بوجه عام - قيدا يذكر على عطاء الآخرين وإسهامهم في مختلف نشاطات الإدارة الإسلامية.
حتى إن تـرتون يذكر في كتابه «أهل الذمـة في الإسلام» أنه عنـدما ولى الحكم الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك كان المسلمون يتولّـون في الحكومة الوظائف الثانوية التي لا يعتدّ بها21 وأن الدواوين حتى زمـن أبيه عبد الملك بن مروان، كـانت تدوّن بـاليـــونـانية والفارسية والقبطية دون العربية.22
وإزاء تولّي النصارى قيادة جيوش المسلمين في بغداد والأندلس، قال علي بن عيسى من وزراء العباسيين لأبي الحسن بن الفرات الوزير: «أما اتقـيت اللّـه في تقليدك جيوش المسلمين رجـلا نصـرانيا، وجعلت أنصار الـدين وحماة البيضة يقبلون يده ويمتثلون أمـره!» فقال له: «ما هذا شئ ابتدأته ولا ابتـدعته. وقد كان المستنصر باللّـه قلّد الجيش إسرائيل النصـراني كاتبه، وقلّد المعتضد باللّـه مالك بن الوليد النصـراني كاتب بدر ذلك»، فقال له علي بن عيسى: «ما فعلا صوابا» فكان رده: «حسبي الأسوة بهما، وإن أخطآ على زعمك»23.
وحدث في بغداد أن دخل أحد الوزراء النصارى، واسمه عبدون بـن صاعد،على القاضي إسماعيل بن إسحاق، فوقف له مـرحبا به، ولاحظ القاضي أن الشهود وبقية الحاضـرين أنكروا عليه هذا العمل، فلما خرج الوزير، قال لهم إسماعيل: «قد علمت أفكاركم، وقال اللّـه تعالى: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم﴾، وهذا الـرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين خليفتنا وهـذا من البـر، فـآمن السامعون على قوله وبه»24.
إن الإسلام حين دافع عن كرامة كل إنسان، وحين دعا إلـى البـر والإنصاف مع كل من لم يناصب المسلمين العداء ولم يبدأهم بقتال، كان متّسقا مع تعاليمه حين أباح للمسلمين طعام غير المسلمين، كما أباح الزواج منهم ومصاهرتهم بحيث يعيش المسلم مع زوجته غير المسلمة في بيت واحـد، وينجب منها أبناء، لهم أخوال وأجداد من غير المسلمين، الأمـر الذي يسوغ لنا أن نتساءل: إذا اتّسع صدر الإسلام لمسلم يعيش مع زوجته المسيحية تحت سقف واحد، فكيف يضيق صدره عن احتمال عيش المسلمين مع غيرهم تحت سقف وطن واحد؟!
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: ندوة حقوق الإنسان في الإسلام: المنعقدة في مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 12_10 محرم 1420هـ / 28_26 نيسان 1999م. مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص312-359. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |
مقالات ذات صلة
-
إقرأ المزيد
الحقوق والحريات في الإسلام
أحمد فرَّاج محتويات المقال:الأمر الأول: إزالة ما علق بالإسلام من تشويه...
مقالات متعلقة بأيام دولية -
إقرأ المزيد
موقف المنظمات الدولية من جرائم الدول ضد الإنسانية مع رؤية من منظور إسلامي
محمد شكري الدقّاق موقف المنـظمات الدوليةالمسؤولية عن الجرائم ضد الإنسا...
مقالات متعلقة بأيام دولية -
إقرأ المزيد
تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان
محاولة للتأصيل من منظور إسلامي محمد سليم العوّا 1- لا يخطيء من يقول إن...
مقالات متعلقة بأيام دولية -
إقرأ المزيد
تأصيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من منظور مقاصد الشريعة الإسلامية
الناظر في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة نبيه محمد (صلى الله عليه وسل...
مقالات متعلقة بأيام دولية -
إقرأ المزيد
مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور
محمد سليم العوا بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على...
مقالات متعلقة بأيام دولية -
إقرأ المزيد
مقاصد الشريعة الإسلامية الكلية ومكافحة الإتجار بالبشر
فايز حسن إن أخطر مشكلة بين مجتمعي الشرق والغرب تتمثل في اختلاف الرؤية ...
مقالات متعلقة بأيام دولية -
إقرأ المزيد
مقصد العدل في القرآن الكريم
محمد سليم العوَّا: مفكر إسلامي وخبير قانوني وهو عضر مجمع اللغة العربية...
مقالات متعلقة بأيام دولية