موقف المنظمات الدولية من جرائم الدول ضد الإنسانية مع رؤية من منظور إسلامي

شارك:

محمد شكري الدقّاق

موقف المنـظمات الدولية
المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي الجنائي
أ– القــانون الـدولي الجنـائي
ب– القـــانون الدولي الجنـائي
التفرقة بين المسؤولية الجنائية للدولة ومسؤوليتها عن العمل غير المشروع
هل من الممكن أن تنعقد المسؤولية الجـنائية على عاتق الدولـة برغم كـونها شخص معنوي؟
أ– أعمال الجهاز التنفيذي والإداري
ب– أعمال القوات المسلحة
جـ– أعمال الجهاز التشريعي
المسؤولية الجنائية للدولة ولـلأفراد في القانون الدولي
المسؤولية الجنائية لرؤساء الدول وكبار موظفيها
مسؤولية صغار الموظفين والدفع بتنفيذ الأوامر العليا
دور الأمم المتحدة
مدى تمتع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من إلزام
موقف منظمة حلف شمال الأطلنطي
موقف القضاء الدولي
موقف الإسلام من جرائم الدول ضد الإنسانية
المسؤولية الجنائية للدولة في نظر الإسلام
المسؤولية الجنائية للدولة ومسؤولياتها عن العمل غير المشروع في ظل الشريعة الإسلامية

موقف المنـظمات الدولية

المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي الجنائي:

اسـتقـرّ شراح القـانون الدولي بوجه عام على أن القانون الدولي ينظّم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية وسائر الكيانات الأخرى في الجماعة الدولية، وبالرغم من عدم دقة هذا التعريف، فإنه لا خلاف على أن الدول وسلوكها تشغل الجانب الأكبر من موضوعات القانون الدولي وموقفه من انتهاكات الدول لحقوق الإنسان. ومن هنا تقفز فكرة السيادة وفكرة المسؤوليات كأمرين متعارضين لا سيما المسؤولية الجنائية للدول1.

وبــادئ ذي بدء نجد أنه من الضروري التفــرقة بين تعبيـــرين شاع استخدامها في الفقه الدولي وهما:

أ–  القــانون الـدولي الجنــائي:

الذي يعنى بالجرائم التي ترتكب في ظل القــــانون الداخلي، وتتضمّن عنصراً أجنبيا مثل مكان ارتكاب الجريمة (كما إذا قارفها الجـاني على أرض دولة أجنبية)، أو جنسية الجاني أو المجني عليه، ففي هذه الأحوال يظهر القانون الجنائي الدولي ليعالج المشاكل الناشئة عن الاختصاص، التي قد تنشأ بين القـانون الداخلي والقانون الأجنبي.2

ب– القـــانون الدولي الجنــائي:

ولقد استقر هذا القـــانون في الجماعة الدولية نتيجة إبرام المعاهدات بين الدول، ولذلك يقول جـلاسر أن القانون الدولي الجنائي ذو طبيعة دولية أكبر منه قانون داخلي، إلا أن بلاوسكس يرى أن هذه التفرقة تكاد تختفي بسبب تطوّر الجماعة الدولية.3

التفرقة بين المسؤولية الجنائية للدولة ومسؤوليتها عن العمل غير المشروع:

يشير مفهوم المسؤولية الدولية غالبا إلى المسؤولية عن العمل غير المشروع، ولذا فإن بعض الشراح يعتبر أن انتهاك التزام دولي هو فيحـقيقـته عمل غير مشروع، ومع ذلك فإن اصطلاح (العمل غير المشروع) يكتـنفه الغـموض، ولـذلك فإن المادة 19 من مشروع لجنة القـانون الدولـي تعـرف مسؤولية الدولة بأنها:4

  1. سلوك يصـدر عن الدولة يشكل انتهاكا لالتزام دولي، ويعتبر عملاً مؤثمـا، بغض النـظر عن موضوع هذا الالتزام الذي جـرى انتهاكه من جانب الدولة.
  2. سلوك يؤثمـه القانون الدولي ينشأ عن انتهاك الدولة لالتزام أساسي لحماية المصلحة العليا للجماعة الدولية، والتي يعتبر المساس بها جـريمة ضد الجماعة الدولية ككل، بحيث يشكل في ذاته جـريمة دولية.
  3. بالنظر إلى البند الثاني، سالف الـذكر، فإن الجـريمة الدولية يمكن أن تنشأ عما يلي:
    أ– انتهاك صارخ لأحد الالتزامات الدولية الأساسية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، مثل الدول بالامتناع عن العدوان.
    ب– انتهاك صارخ لأحد الالتزامات الدولية الأساسية لصيانة حق تقرير المصير للشعوب مثل منع إقامة المستعمرات بالقوة.
    جـ– انتهاك صارخ لـلالتزام العام الواقع على كافة الدول لحماية الإنسان مثل منع الاسترقاق والإبادة والتعذيب والتطهير العرقي.
    د– انتهاك صارخ لالتزام دولـي أساسي يقتضي الحفاظ على البيئة مثل تلويث الجو أو البحر أو الأرض على نطاق واسع.
  4. أي سلوك آخر يؤثمـه القانـون الدولـي، مما لا يدخـل في مفهوم الفقرة الثانية من تلك المادة (أي المادة 19).

وفي نطاق القـانون الدولي الجنائي تفرق لجنة القانون الدولي بين مجـرد ارتكاب الدولة لعمل غير مشروع، وارتكــابها لجـــريمة دولية. فالأولى يكفي للتخلّص من المسؤولية منها تعويض المضرور عما سببه الفعل غير المشروع من أضرار، بينما يتعيّـن في الحـالة الانية توقيـع العقاب على الدولة المخــالفة، بشرط أن تمثّل هذه المخــالفة انتهـــاكا صـارخا لأحد الالتزامات الأســـاسية للدولة، مما سبق ذكره، ومن ثمّ يمكن القول، أن كل جريمة دولية تتضمّن بالضرورة عملا غير مشروع.

والحقيقة أن لجنة القانون الدولي قد استلهمت تلك التفرقة بين نـــوعي المسؤولية من الفقه الأنجلــــوسكسـوني، فـــالسمة الأساسية للمسؤولية الجنائية هي توقيع الجزاء الجنائي على المسؤول عنها، بينما يكفي أداء التعويض في حالة المسؤولية عن العمل غير المشروع5

والسؤال الهام الذي يفرض نفسه في هذه الحالة هو هل من الممكن أن تنعقد المسؤولية الجـنائية على عاتق الدولـة برغم كـونها شخص معنوي؟

ويعترض بعض الشراح على إسناد المسؤولية الجنائية للدولة ذاتها كشخص معنوي تــرتكب فعلا، أو امتنـــاعا يشكل جـــريمة دولية، إذ الحقيقة أن الدولة ترتكب الجـرائم الدولية بواسطة ممثليها، ومن ثمّ تنعقد المسؤولية الجنائية قبلها بسبب أعمال ممثليها وأجهزتها وهم:

   أ– أعمال الجهاز التنفيذي والإداري:

قد يـرتكب موظفو الجهاز التنفيذي أو الإداري للدولة أفعالاً تشكِّل جرائم دواية، وفي هذه الحـالة تسأل الدولة كشخص معنوي عن تلك الجــرائم. وعلى سبيل المثال، فإن الدولة تسأل عن جريمة الاضطهاد والتطهـير العرقي التي يمارسها موظفو جهازهـا التنفيذي أو الإداري ضد جمـاعة عـرقية داخل الدولة، كأن يمارسوا عمليات القبض دون زجه حق، أو التعذيب البــدني، أو التـرحيـل الأجبـاري عن مـوطنهم، أو الإعتقال دون تهمة محددة.

ب– أعمال القوات المسلحة:

تطبق ذات الأحكام على الدولة، إذا ما ارتكب إفراد قواتها المسلحة إذا قامت بغزو أو مهاجمة أو قصف إقليم دولة أخرى، فكل هذه الأفعال تشكِّل جـريمة العدوان، وهي انتهاك للسلم والأمن الدوليين، ومن ثمّ فإن الدولة المعتدية تتحمّل كشخص معنوي المسؤولة الجنائية عن أفعال هذه القوات، وما يترتّب عليها من آثار، وتتحمّل أية عقوبات تطبقها عليها الجماعة الدولية من خلال الأمم المتحدة، تأسيسا على المواد 42،41 من الباب السابع من ميثاقها.

جـ– أعمال الجهاز التشريعي:

إن ما يرتكبه موظفو الجهازين التنفيذي والتشريعي، غالبا ما يكون تنفيدا لقوانين محليه وضعتها السلطة التشريعية بالدولة، ومن ثمّ فإن الدولة تكون مسؤولة أيضا مسؤولية جنائية عن أعمال تلك السلطة، لما أصـدرته من قوانين وقواعد تـرتكن إليها السلطات سـالفة الـذكر في ممارسة الأفعال المكونة للجرائم الدولية، ولقد أشارت الإتفاقية الدولية لمكافحة الإضطهاد الغرقي إلى دور السلطة التشريعية للدولة في هذا الصدد بقولها:

أ– إصدار أية نشـريعات تؤدي إلى إعـاقة الجمـاعة العـرقية عن الانـدماج في الحياة السيـاسية والاجتمـاعية والإقتصادية والثقافية لمجتمع الدولة، والعمل على منع تطور الجمـاعة العـرقية، وعلى وجه الخصوص إنكار الحقوق والحـريات الأساسية لتلك الجمـاعة، بما في ذلك الحقّ في العمل، أو تكــوين اتّفاقيات تجـارية، والحقّ في التعليم، والحقّ في الخروج أو الدخـول لإقليم الدولة، والحقّ في اكتساب جنسية الدولة، والحقّ في الإقامة والانتقال والحقّ في إبداء الرأي وحـرية التعبير والحقّ في تكوين جماعات ومؤسسات بالطريق السلمي.

ب– إصدار أية تشريعـات تؤدِّي إلى تقسيم الشعب في الدولة على أساس عـرقي أو عنصري، مثل إقامـة حدود فاصـلة بين أمـاكن إقامة الجماعة العرقية، وبين أفراد المجتمع، أو منع الزواج منهم أو الاختلاط بهم. كل هذه الأعمال من قبل السلطة التشــــريعية تشكل جـــريمة الاضطهاد العرقي6.

 ولعل المثل الواضح لـلأفعال التشريعية التي تشكِّل جـريمة دولية هي تلك الإجراءات التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين في الأراضي  العربية المحتلة – كما يحدث الآن – في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث قـــامت إسرائيل ببناء جدار عازل بين الفلسطينيين واليهود، مغتصـبة مساحات كبيرة من الأراضي الفلسطينية، بـدعـوى حمـاية المسـتوطنات اليهودية المـوجودة داخل منـاطق الأراضي الفلسطينية، بالرغم من الإدانة الدولية من شعوب وحكومات العالم.

ولقد كشفت إحدى الكاتبات الإسرائيليات وتـدعىٍ أسـتر كوهين، عن الأعمال التشريعية والإدارية التي تمارسها إسرائيل تحت ما تسميه(بالإجراءات القانونية لحماية الأمن)، والتي تشكِّل في حقيقتها جـرائم دولية ضد الإنسانية فتقول:

«إنه طبقا للمادة الثــالثــة من الإعلان رقم2، تكون للحــاكم العسكري الإسرائيـلي في الأراضـي المحتلة كـــافة السلطات الإدارية والتشريعية، بحيث يحلّ محل الحكومة في هذا الصدد، وبذلك أصبح الحاكم العسكري هو السلطة العليا دون شريك في الإقليم المحتل.»7

المسؤولية الجنائية للدولة ولـلأفراد في القانون الدولي:

يـــذهب بعض الشرّاح إلى صلة الدولة بـــالجرائم الدولية غير واضحة، إذ أن الأفراد هم في الحقيقة الذين يقترفون تلك الجـرائم ومن هنا يقرِّر أنه لا يمكن من الناحية العملية إسناد ثمة جريمة إلى الدولة كشخص معنوي، ومن ثمّ لا تسأل عنها تلك الدولة.8

إلا أننا نرى – من ناحيتنا – أن الدولة يمكن كشخص معنوي، يمكن مساءلتها جنائيا عن الجرائم التي يرتكبها موظفوها الذين يتصرّفون باسمها. ويترتّب على ذلك، أن العقوبات الدولية يمكن أن تنزل بالدولة ذاتها كشخص معنوي باعتبارها مسؤولة مبـاشرة عن تلك الجـرائم. ويؤيد غالبية الشراح القانون الدولي هذا النظر، إذ يشترط أن توقع على   الدولة ذات العقوبات المطبقة على الأفراد الطبيعيين في القانون الداخلي، بل يمكن أن يطبق عليها ما يناسبها من عقوبات. مثال ذلك قطع العـلاقات الـدبلـومـــاسية، أو فرض الحصار البحري أو منـاطق الحظر الجوي وهي عقوبات لا نظير لها في القانون الداخلي، وهي تتّفق مع طبيعة الدولة كشخص معنوي، ويـــرجع ذلك إلى اختلاف سمات وطبيعة القانون الدولي وأشخاصه الذين هم أساسا الدول والمنظماتالدولية، عن سمات وطبيعة وأشخاص القانـون الداخلي وهم الأفراد العاديين.9

وفضلا عن ذلك فإن المعـــــاهدات الدولية ذاتها تقرِّر المسؤولية الجنائية للـدول، وكذلك العقوبات التي تنزل بها، وذلك من خلال الأمم المتحدة كمنتظم عالمي يختص بحفظ السلم والأمن الدوليين، ولعل كثيرا من السوابق بين الدول تشهد على ذلك، حيث أنزل العقـاب الدولي على الدول التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، وهو ما يجري عليه العمل في الواقع العملي الدولي.

ويمكن التغلّب على المشاكل القانونية الناشئة عن تلك الأوضاع بأن ينص في المعـاهدات على التزام الدول بمعـاقبة الأفراد الــذين ارتكبوا جـلرائم ضد الإنسانية، أو أن تسلمهم للمحاكم الدولية. وإن لم تفعل تعتبر الدولة مسؤولة شخصيا عن هذه الأعمال، وتتحمّل عقوبتها، ليس باعتبارها فقط شريكا، ولكن باعتبارها فاعلاً أصليا، ولعل المحاكم الجنائية الدولية هي أنسب الهيئات القضائية التي تختص بمحاكمة الأفراد والدول عن الجـرائم التي تـرتكب ضد الإنسانية. وفي الحـالتين يجب تطبيق قواعد القانون الدولي عن تلك الجـرائم.

ولقـد خوّل ميثاق لندن 1945 سلطة محــاكمة وعقاب مجــرمـي الحـرب العــــــالمية الثـــــانية، ونص في مادته السادسة فقرة (ج) على اختصاص المحكمة بنظر الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، وخصوصا جـرائم القتل والإبادة والاستــــرقاق والتـــــرحيل، وكـــــافة الأفعال ضد الإنسانية، التي ارتكبت ضد المـدنيين، قبل وأثناء الحرب العالمية أو جـرائم الاضطهاد على أساس عنصري أو سياسي أو ديني، سواء كانت هذه الأفعال تشكِّل جرائم في القانون الداخلي للدولة التابع لها هؤلاء المجرمون أم لا10.

كما نصّـت المادة السادسة من معاهـدة منع جـريمة إبادة الجنس البشري والعقاب عليها بقولها:

«الأفراد الذين يُتهمون بارتكاب جريمة الإبادة أو أية أفعال أخرى منصوص عليها في المادة الثالثة من المعاهدة يُحاكَمون عن تلك الأفعال أمام المحكمة المختصة في إقليم الدولة التي ارتكبت فيها هذه الأعمال، أو أمام محكمة دولية جنائية مختصة، طبقا لما اتّفقت عليه الـدول أطراف المعاهدة»11.

كما قضت المعاهدة الدولية ضد التعذيب في المادة الثانية (فقرة أولى) على أنه:

«على كل دولة اتخاذ التشريعات أو الإجراءات القضائية أو أية إجراءات أخرى، من أجل منع أعمال التعـــذيب التي تجري في نطاق إقليمها»12.

وبإمعان النظر في هذه النصوص، نجد أنها أحلّت اختصاص الدولة الداخـلي في محاكمة وعقاب مـرتبكي هذه الجرائم محل الاختصاص الدولي. والحقيقة لا نستطيع أن نفهم كيف تقوم الدولة بمحـــاكمة موظفيها الـذين ارتكبوا جرائم التعذيب أو الإبادة ومعاقبتهم عنها وهي جـرائم يرتكبها الموظفون غالبا بأوامر من سلطات الدولة وتدخل في نطاق أداءهم لوظائفهم من أجل تحقيق أهداف الدولة. ولذلك فإننا نرى أن الحالات التي يمكن فيها محاسبة الافراد على ما يرتكبونه من جرائم في غياب الدولة أو في حــالة عدم خضـــوعهم لسلطـــانها. كمحـــاكمة وعقاب القواد الألمان عن جرائمهم ضد الإنســــانية التي ارتكبوها قبل وابان الحرب العالمية الثانية، وكذلك الجرائم التي يرتكبها أفـراد العصــــابات الدولية. ففي هذه الحالات يتحمل هؤلاء الأفـراد شخصيا المسؤولية الجـنائية، ويطبق عليهم العقاب دون الدول التي ينتمون إليها.

المسؤولية الجنائية لرؤساء الدول وكبار موظفيها:

لقد عرف القانون الدولي المسؤولية الجنائية لرؤساء الدول وكبار موظفيها، فقد نصّت المادة السابعة من ميثاق المحكمة العسكـرية الملحق بـاتفاق لندن 1945 بقــولها: «إن المنـاصب الــرسمية التي يتمتّع بها المتّهمون سواء كانوا رؤساء للدول أو موظفون كبار في أجهزة الدولة لا يجوز أن تحميهم من المسؤولية، أو تخفّف عنهم العقاب وكذلك فإن المبدأ الثالث من مبادئ القانون الدولي الذي أقرّته محكمة مجـرمي الحرب بنورمبرج مفاده أن الشخص الذي يرتكب جرائم يؤثمها القـانون الدولي، سواء كان تابعا للدولة أو مسؤول كبير في الحكومة، لا يمكن أن يحتج بمنصبه الحكومي، لإعفائه من المسؤولية الجنائية في ظل القانون الدولي. من أجل ذلك نصّت المادة الرابعة من معاهدة منع جـريمة إبادة الجنس البشري والعقاب على جعل رؤساء الدول والحكومات وموظفي الحكومة مسؤولين جنائيا عن الأعمال التي ارتكبوها بمقتضى وظائفهم الرسمية»13.

إلا أن الوقع العمـلي يشهد بأن الدولة ذاتها لا تعتبر الأعمال الإجرامية التي ارتكبها رئيسها أو مـوظفـوها الكبار أعمال مخــالفة للقانون، بل أكثر من ذلك، فن المشكلة الـدقيقة تكمن في أساس وجود هيئة قضائية مختصة تحاكم وتعاقب مثل هؤلاء الموظفين. كـذلك فإن الحصـــانات التي يتمتّعون بها تقف عـــائقا أمام التحقيق معهم أو محاكمتهم عن تلك الجـرائم، على عكس ما يحدث أما المحاكم الدولية

التي لا تعترف بتلك الحصانات، ومن أجل ذلك فإننا نرى أن المحاكمة عن تلك الجرائم والعقاب عليها لا يجب إسنادُه للقضاء أو السلطة المحلية للدولة التابع لها هؤلاء الأفراد، بل يتعين أن يسند إلى القضاء الدولي ومعاقبتهم بمعرفة الجماعة الدولية.

مسؤولية صغار الموظفين والدفع بتنفيذ الأوامر العليا:

لقد عالجت محكمة نورمبـرج هذه الحـالة، فقـرّرت أنه يعفى من المسؤولية الجنائية فقط هؤلاء الذين كانوا يجهلون الأهداف الإجرامية التي جنّدوا من أجلها، أما الـــــــذين ارتكبوا أعمالاً إجرامية واضحة بطبيعتها، فإنهم ولا يعفون من العقاب عليها.

ويُسـتفاد مما تقدّم، أنه لا مسؤولية على الموظف الصغير إذا نفّذ أمراً صادراً من سلطة أعلى لتحقيق أهداف إجرامية لا يعلمها الموظف إلا أنه صدر إليه أمر بإرتكاب أفعال لا يخفي عللى أحد أنها تشكّل جرائم بطبيعتها وبالرغم من ذلك أتى هذه الأعمال فإنّه لا يقبل منه الدفع بانتفاء مسؤوليته بأنه كان ينفذ أمرا صادرا إليه من رؤسائه14.

وفي الحقيقة فإن هذا المبدأ مقرر في القوانين الجنـــــــائية ومنها القانون الجنائي المصري (المادة 63 عقوبات).

دور الأمم المتحدة:

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أصبحت الجرائم التي ترتكب ضد الإنســـانية أكثر حــاجة إلى العقاب من ذي قبل، وأصبح الاختصاص القضائي بنظر هذه الجرائم اختصاصاُ دوليا، باعتبار أن حماية حقوق الإنسان صارت التزاما يفرضه القانون الدولي، مثلما يـفرضه القانـون الداخلي.ولقد قرّرت الأمم المتحدة نظاما قانـونيا للعقاب على هذه الجرائم، تتّسـم برد جمـــاعي تمرسه الجمــاعة الدولية ضد الدول التي تقترفها، باعتبارها جرائم تهدِّد السلم والأمن للجماعة الدولية، وتعرف هذه الطائفة من الجرائم بالجرائم الموجهة ضد النظام العام الدولي، والتي لا يمكن لأي معاهذة الاتفاق على مخالفتها.15

والسمـة الأســاسية لهذه الطـائفة من القواعد أنها، في الأصل قواعد عرفية تعارفت عليها الحماعة الدولية منذ زمن بعيد، فلم تعد هذه الجرائم شـكِّل مجرد تعديا وانتهاكا لمواد القانون الدولي فحسب، ولكنها في درجة أعلى تشكّل جرائم دولية تقتضي الجزاء الدولي، إما في صورة إجراءات وقائية أو عقابية، وذلك من أجل حماية ضحايا هذه الجرائم، سواء كانو من رعايا الدولة المعتدية، أو من غير رعاياها.

والمثال على ذلك هو:

اتّفاق الجماعة الدولية في معاهدات عديدة على معـاقبة الدول التي ترتكب جرائم العدوان ضد دولة أخرى، باستخدام القوة وجرائم الإيادة والاسترقاق والتطهير العرقي، ولقد نصّت ديباجة ميثاق الأمم المتحدة في هذا الصدد على مبدأين أساسين:

الأول:– حفظ السلم والأمن الدوليين، وعدم التفرقة على أساس الجنس أو العنصر أو اللغة أو الدين.

الثاني:– ضرورة الوفاء بالالتزامات الدولية التي قرّرتها المعاهدات الدولية، أو أي من المصادر الأخرى للقانون الدولـي، لذلك فقد ربطت المادة 55 من ميثاق بين مبدأ حفظ السلم والأمن الدوليين، وبين حماية حقوق الإنسان بقوله:

«بــاالنظر لـدواعي الاستقرار والـــوفاق الضروري لقيـام عــلاقات سلـمية وودية بين الأمم قائمة على احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب، وحق تقرير المصير تعمل الأمم المتحدة على ما يلـي:

أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحـريات الأساسية للجميع دون تمييز، بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو العنصر

كـــــــذلك نصّت المادة 56 من الميثاق على التزام الدول بتحقـيـق الأهداف التي أشارت إليها المادة 55 سالفة الذكر بقولها:16

«يتعهّد جميع الأعضاء بأن يقومـوامنفردين أو مشتـركين بما يجب عليهم من تعاون مع المنظمة لتحقيق المقاصـد المنصوص عليها في المادة 55».

كـذلك نـلاحظ أن المادة 56 قد فـرضت التزاما على عـاتق الدول الأعضاء مجتمعين أو منفردين، بتدعيم واحترام حقوق الإنسان، وذلك عن طريق أجهزتها الحكومية، ولقد أوضحت محكمة العدل الدولية أن تعهد الدول الأعضاء باحترام حقوق الإنسان وحـرياته الأساسية، وعدم التفـرقة بسبب الجنس أو اللون أو العنصر أو الدِّين هو تعهّد ملـزم لها، إذ أن العدوان على هذه الحقوق يشكل جرائم ضد الإنسانية، وبالتالـي يعد انتهاكا للسلم والأمن الـدوليين، قد يستدعي تطبيق أحكام الباب السابع من الميثاق.

وبـناء علـى ذلك، فـلا يحـقّ لأي دولـة الادعـاء بـأن ما تتّخـذه من إجراءات ضد شعبها هو أمر داخلـي يتمتّع بحماية المادة 2 فقرة 7 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تحظر التدخل في الشئون الداخلية للـدول الأعضاء، وذلك باعتبار أن هذا المسلك من جانب الدولة يشكّل عدوانا على حقوق الإنسان بصورة مطلقة، بقطع النظر عن وقوع هذا العدوان داخل حـدود إقليم الدولة أو خارجه، وبقطع النظر عن وقــوعه على رعـاياها أو رعـايا دولة أخرى، باعتبار أن هذه الحقوق تتّصل اتّصالا وثيقا بالمصلحة العلـيا للجماعة الدولية، وأن أي عدوان عليها يمثّل عدواناً على هذه المصلحة17.

مدى تمتع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من إلزام:

يــؤكد غــالبية شراح القــانون الدولي أن الإعـلان العــالمي لحقوق الإنسان الصادر 1948 بقوة إلزامية استنادا إلى أحكام ميثاق الأمم المتّحدة الصادر قبله عام 1945، وبعبارة أخرى فإن الإعلان العـــالمي لحقوق الإنسان يستمد قوته القانونية من ميثاق الأمم المتحدة ذاته.

كذلك فإن المسلك العمليلاالذي جرت عليه الدول يؤكد القوة الملزمة لـلإعلان، فمن ناحية يمكن أن نستنتج من السوابق الدولية أن المبادئ التي تضمّنها الطغعلان تبدو، في نظر الدول، ذات قوة ملزمة مثال ذلك موقف دول العالم المناهض لحكومة جنوب أفريقية العنصرية السابقة، كــذلك مــوقفها من مشكلو حقوق الإنسان في كل من بلغاريا واامجر وشيلي، ومن ناحية أخرى فقد قـامت الدول – بوسائلها الخاصة –  بـوضع هذه الأحكام مــوضع التنفيذ، إذ عمدت إلى إبرام الإتفــاقيات الدولية، التي من شأنها حماية هذه الحقوق ووضعها موضع التنفيذ، كما نصّت في دساتيرها على المبادئ التي تضمّنها إعلان حقوق الإنسان: كالمساواة في المعاملة بين الوطنيين دون تفـرقة بسبب الجنس أو اللغة أو الدين، وكضمان الحق في الحياة والأمن والسكينة.18

نخلص مما تقدّم إلى تقـرير حقوق الإنسان وحمايتها قد حظي باهتمام بالغ، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، إلى الحد الذي جعل منها الميثاق قضية ترتفع إلى مستوى النظام العام الدولي، ومن ثمّ فإن أي انتهاك لهذه الحقوق يعد انتهاكا للمصـالح العليا للجماعة الدولية، قد تستدعي إعمال أحكام الباب السابع من الميثاق، وتطبيق الإجراءات المنصوص عليها في المواد 42،41،39، والتي تخوِّل لمجلس الأمن التدرج بين اتخاذ التدابير الوقائية إلى التدابير العقابية، حسب ظروف الحال، كأن يبدأ بالعقوبات الاقتصادية والحصار البحري انتهاءً إلى استخدام القوة المسلحة ضد الدول التي تمعن في العدوان على هذه الحقوق.

ومن الأسف أنه، بالـرغم من السلطات الواسعة التي تتمتّع بها الأمم المتّحدة وأجهزتها، وما يَسَّره لها الميثاق من وسائل قانونية، من أجل حماية حقوق الإنسان ضد الدول التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية، إلا أن الـواقع المــرير قد أعطى صورة مغـــايرة تمــاما لما يجب أن يكون والـــــدليل الصارخ على ذلك هو المــــوقف المتخاذل لمجلس الأمن حيال الجرائم التي ارتكبها الصرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، وما يـرتكـبونه الآن من مجازر ضد شعب كوسوفو المسلم الأعزل واستخدام دولة صـربيا آلة الحرب الرهيبة ضدهم، بما يشكِّل كافة أنواع الجرائم ضد الإنسانية: من إبادة وتطهير عرقي وترحيل وتعذيب واغتصاب جماعي للنساء المسلمات، وبالرغم من ذلك كله لم تتحرّك الأمم المتحدة باتخاذ أي تدبير إيجابي لوقف عمليات الذبح الجماعـي التي مارسها الصرب ضد المسلمين في البوسنة، إلا أنه وبسبب الضغوط الشعبية في أوربا والـولايات المتحدة أصـدر مـجلس الأمن في 13 أغسطس 1992 قراره رقم770، الذي لم يخرج عن كونه مناشدة لأطراف النزاع لإيقاف أعمال العنف، ودعوة للدول للتعاون مع الأمم المنحدة لتقديم المعوناتالإنسانية لمسلمي البوسنة والهرسك، وهكذا ساوى مجلس الأمن بين المعتدي والضحية، واقتصر على مجرّد الاستنكار والشجب، دون اتخاذ أي أجـراء أو تــــدبير لإيقاف هذه الأعمال الــــوحشية، وكان حــرياً به استخدام سلطاته المخولة له بالمواد 42،41 من الباب السابع من الميثاق كي تكون الحل الأمثل لمواجهة جرائم الإبادة التي ارتكبها الصرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك19.

 الضحايا البوسنيين

وقد كان من نتائج المـوقف المتخاذل للمنظمة الدولية من جرائم الصرب في البوسنة، أن أعاد الصرب الكرة مرة أخرى بمهاجمة شعب كوسوفو المسلم، في أبشع عملية تطهير عرقي عرفها التاريخ، تحت سمع وبصر العـالم كله، ولم يكن اليوم بـأفضل من البارحة، فقد تقـاعس مجلس الأمن مرة أخرى عن اتخاذ أي قرار أو إجراء ضد مجــــرمي صربيا لوقف هذه الجرائم، مما استدعى تدخل منظمة إقليمية هي منظمة حلف شمال الأطلنطي.

موقف منظمة حلف شمال الأطلنطي:

حلف شمال الأطلنطي المعروف (بــالنـاتو) هو إحدى المنظمات الدولية الإقليمية في أوربا، إلا أنها ذات طابع عسكري، وكان قد نشأ في الأصل 1949، كوسيلة من وسائل المعسكر الغربي ضد التكتّل الشيوعي في دول أوربا الشرقية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.20

والهدف الأساسي من إقــامة هذا الحلف هو الــدفاع عن الدول الأعضاء، إلا أن وظيفته لم تقتصر على الشؤون العسكرية فقط، بل تنبسط إلى غير ذلك من شؤون، بحيث يعتبر خط الدفاع عن المـدنيةالغــــربية في نظر أصحـــابها، ولعلّ ذلك هو أحد الأسباب التي دعت الحلف إلى أخذ زمام المبادرة في أزمة ألبان كوسوفو، ومهاجمة دولة صـربيا، بـاعتبار أن هذه الأزمة ليست فقط ذات طـابع إنساني، بل أصبحت تشكِّل خطراً على أمن دول أوربا بأسرها، فضـلاً عن الفشل الذريع الذي مُنيت به الأمم المتحدة في معالجة أزمة البوسنة والهرسك، وما نتج عن ذلك من آثار سلبية في مصداقية الأمم المتحدة وقدرتها على حل المشاكل الدولية وحماية حقوق الإنسان.

ومع ذلك فإن تدخُّل حلف شمال الأطلنطي جاء متأخراً بعد أن تمّ تفريغ كوسوفو من أبناءها، وتناثروا كلاجئين في مختلف الدول المجاورة، وبعد أن تحقّق لدولة صـربيا هـدفها في القضاء على شعب كوسوفو المسلم وتشتيت من بقي حياً منهم في  الدول المجاورة، فضلاً عمّا ارتكبه من جرائم التعذيب والاغتصاب والقتل الجماعي.

ولعل ما حدث في البوسنة والهرسك بالأمس، وما يحدث الآن في كوسـوفو، يـدعـونا لإعادة النظر في تكــوين الأمم المتحدة وأجهزتها وقدرتها على تنفيذ الإرادة الدولية، وأهمّها حماية حقوق الإنسان ضد جرائم الدول، والبحث  عن إطار جديد يكون أكثر فاعلية تستطيع من خلاله المنظمة من القيام بواجبها في حماية هذه الحقوق، والتي يشكّل انتهاكها في الوقت الراهن تهديدًا حقيقيا للسلم والأمن الدوليين.

موقف القضاء الدولي:

عنــــدما أعلنت جمهورية البـــوسنة والهــــرسك استقلالها عن يوغوسلافيا السابقة سنة 1992، قامت القوات اليوغوسلافية بالتعاون مع صرب اليوسنة بمهاجمة البوسنيين بضراوة شديدة، وارتكبت ضدهم مجازر وحشية، بهدف التّطهير العـرقي، مما حدا بجمهورية البـوسنة والـهرسك إلى الالتجاء إلى محكمة العدل الدولية سنة 1993، وأقامت دعوى ضد دولة صربيا والجبل الأسود (يوغوسلافيا السابقة)، وطلبت تطبيق أحكام معاهدة منع جرائم إبادة الجنس البشري التي ارتكبها الصرب على مسلمي البوسنة ومعاقبتهم عليها.

وقد صدر حكم شهير من محكمة العدل الدولية في 13 سبتمبر سنة 1993، بإدانة دولة صـربيا والجبل الأسود. وطلبت المحكمة في حكمها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن تطبيق العقاب على صــربيا والجبل الأسود، لارتكابهما جريمة إبادة الجنس البشري ضد مسلمي البوسنة.21

إلا أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يحرّكوا ســاكنا، رغم ذلك، مما أدّى إلى تمادي الصرب في جرائمهم وارتكاب أيشع المـذابح ضد مسلمي البوسنة، على نطاق واسع: من إبادة واغتصاب جماعي للنساء وطرد إجباري من الـــديار، الأمر الذي استلزم تشكيل محكمة دولية خاصة في لاهاي، بمحاكمة مجـرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة التي مازالت تعمل حتى الآن.

وقد حذّر الكثيرون ممن يعبِّرون عن المجتمع الدولي بأن السلام في البوسنة، لا يجب أن يكون مقايضة مع ثمن هو التغاضي عن أعمال مجـرمي الحـرب، الذين ثبتت التـهم في حقـهم. وطلبت المحكمة الدولية الخاصة سالفة الذكر محاكمتهم ومثولهم أمامها، بعد التحقيقات الواسعة والموثقة التي أثبتت تورطهم بشكل فاحـش في أعمــال التّطهير العــرقي وإبادة الجنس البشري والاستهانة بالحياة الإنسانية إلى أبشع حد.

وإننا نؤيّد ما ذهب اليه الكثيرون من علماء القـانـون من تحفّظ شديد على تقديم السلام على متطلبات القانون الدولي، لسبب بسيط هو أن التسـويات السياسية الهادفة إلى إنشاء أوضاع معينة، قد تفيد الأحياء ممن أفلتوا من جرائم الحرب، ولكن الشعور بأن هذه التسويات جاءت على حساب اعتبارات العدالة والقيم والأخلاق التي أرســـاها المجتمع الدولي عبر معاناته الطويلة، يشجع المجرمين وغيرهم على ارتكاب المــزيد من الجرائم، مادام إفــلاتهم من العقاب أصبح الثمن المدفوع مقدمًا لأية تسوية مقبله.

ولقد تأكّدت مصداقية هذا النظر – وبصورة أكثر وضوحا – ففي ذات الظروف وذات المكان وذات الحقبة الزمنية، وبعد أن رأينا سفاحي الصرب، وعلى رأسهم كاراديتش وميلاديتش، يرتعون في أمان وأطمئنان وهم يتلمّظون بدماء مسلمي البوسنة، خرج الصرب مرة أخرى، وعلى رأسهم كبيرهم السفاح ميلوسوفيتش رئيس دولة صـربيا والجبل الأسود، يعيد الكرة من جديد ي هجوم وحشي على ألبان كوسـوفا العـزل في أبشع عملية قتل جماعي وتطهير عرقي شهدها القرن العشرون على أيدي قواته النظــــاميه، ومرة أخرى ذهب محقّقو المحكمة الدولية الخاصة وشاهدوا وعاينوا بأنفسهم المقابر الجماعية والقرى المحرقة بأكملها واستمعوا إلى شهادات تشيب لها الولدان من اغتصاب جماعـي للنساء، وتعذيب جماعي للمدنيين، ومذابح للعزل من المدنيين من النساء والشيوخ والأطفال، ولم تجد المحكمة إزاء ذلك كله مناصا من إصدار أمـرها بالقبض على السفاح الصـربي الرئيس ميلوسوفيتش، بثبوت مسؤوليته ومسؤولية قواده وجنوده عن تلك الجرائم.

ولكن يبدو أن اليوم ليس أفضل من البارحة، فبعد أن ذخلت القوات الدولية إلى كوسوفا – بعد فوات الأوان – سمعنا عن مماحكات لتسوية الأزمة سياسيا، ومكافأة المعتدي على جرائمه للمرة الثانية، فقد صرّح رئيس حلف شمال الأطلنطي خـــافير سولانا أنه يتعذّر القبض علىميلـوسوفيتـش ومحاكمته عن جـرائمه، يحدث هذا، والمجـرم الصـربي ما زال قابضا على سدّة الحكم، ويعلن في تبجُّج أن جـرائمه التي ارتكبها في حق الإنسانية هي انتصار على إرادة المجتمع الدولي وعلى حلف شمال الأطلنطي.

والحقيقة أن القضاء الدولي الذي يمثّل واجهة العدالة، يعاني محنة شديدة في مقاومة الجرائم ضد الإنسانية في الوقت الراهن، فالبـرغم من تشكيل المحكمة الجنائية الدولية مؤخرا، وصدور نظامها الأساسي في روما في 17 يوليو سنة 1998، وبالرغم من النص في ديبـاجته إلى ضرورة وجود هذه المحكمة لـوضع حد لإفلات مـرتكبـي الجـرائم التي تهدّد السلم والأمن الدوليين، والتي ترتكب ضد الإنسانية، وبالرغم من أن واضعي دستور المحكمة قد راعوا وضع نظام دقيق في أبوابه الاثني عشرة لكـافة النواحي الإجرائية والمـوضوعية لمحــاكمة مــرتكبي هذه الجرائم ومعاقبتهم عليها، سواء كانوا من الأفراد والدول، فإن الدول المشاركة لم تصدق حتى الآن على نظام المحكمة. بل أن عـددا من الدول – ومنها اسرائيل – اعترضت على بعض بنوده دون سبب مفهوم، سوى محاولة التخلص من المسؤولية الجنائية التي يرتكبونها بالفعل ضد الإنسانية، مثل ممارسات قوات الإحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطنيين وإبعادهم عن وطنهم بإقامة المستوطنات.

***

موقف الإسلام من جرائم الدول ضد الإنسانية

المسؤولية الجنائية للدولة في نظر الإسلام:

نشيـر بادئ ذي بدء إلى أن الإسلام عـرف فكرة الدولة كشخص معنوي، فيشير القرآن الكريم في العديد من آياته إلى القـرية باعتبارها كيان معنوي لها كافة خصائص الدول من شعب وإقليم وسلطة سياسية، بل أنه في بعض الآيات أشار القرآن إلى اسم الدول ورئيسها على وجه التحديد.22

﴿ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر﴾ (الزخرف:51)

كذلك قولـه تعالى:

﴿وجئت من سبأ بنبأ يقين﴾ (النمل:22)

وعلى خلاف الفقه السائد في القانون الدولي المعاصر يرى البعض أن القانون الدولي الإسلامي – إن جاز هذا التعبير – لا يمكن قواعده من إرادات الدول التي تعبّر عنها المعاهدات الشارعة، بل تأتي قواعده نزولاً على مبـادئ إلهية سامية، هي جزء من العقيدة والدين، ويترتّب على مخالفتها وجوب العقاب.23

وفوق ذلك فإن القـــانون الدولي لا ينفصل عن أحكـام الشـــريعة الإسلامية، بل إنه ينظِّم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول غيرالإسلامية، وتعتبر قواعده جزءاً لا يتجزَّأ من النظام القـانــوني الشامل للشـريعة الإسلامية، وبذلك تتجنّب الشريعة مشكلة التنازع بين القوانين التي يعاني منها القانون الوضعي، لا سيما بين قواعد القانون الدولي والقانون الداخي، ففي الشريعة الإسلامية لا يوجد مثل هذا التنازع والتضارب، بل يوجد تكامل وانسجام كامل بين كافة قواعدها سواء ما تعلّق منها بالعلاقات الداخلية أو العلاقات الدولية24.

المسؤولية الجنائية للدولة ومسؤولياتها عن العمل غير المشروع في ظل الشريعة الإسلامية:

يعترف الفقه الإسلامي بفكرة المسؤولة التقصيرية، أي المسؤولية عن العمل غير المشروع، وتعويض الأضرار النشئة عن خطأ المسؤول سواء كان المسؤول شخصاً طبيعي أو اعتباري فيقول ﷺ «لا ضرر ولا ضرار» في الإسلام، ومن ثـمّ تكون الدول مسؤولة عن الأضرار التي تسبّبها للغير25.

ومن نـاحية أخرى، فقد عـرّف الفقه الإسـلامي فكرة المسؤولية الموضوعية، أي المسؤولية بدون خطأ – والمعروفة في القانون الدولـي –  وأسّسها الإسلام على فكرة الضمان، وأن الضرر يُزال ومفاد ذلك، أن تتحمّل الدولة إزالة الضرر الذي سببّه فعلها للغير، حتى ولو لم يصدر منها ثمة خطأ.

وبذلك فإن النظرية الإسلامية تستوعب المسؤولية القائـمة على الخطأ، وكذلك فكرة المسؤولية الموضوعية المعروفة في الفقه الدولـي، والتي لا تشترط وجود الخطأ، لاستحقاق التعويض ما دام فعل الدولة –  ولو تجرّد عن الخطأ – قد سبّب أضراراً للغير26.

وقد سبق أن عـرضنا أن جوهر المسؤولية الدولية الجنائية يمكن في انتهاك الدولة بفعلها للمصالح العليا الأساسية للجماعة الدولية التي يجب حمايتها وصيانتها، ويعبر الفقه الإسلامي عن هذه المصالح بأنها:

3– صيانة العقل2– صيانة النفس1– صيانة الدين
5– صيانة المال4– صيانة النسل

هذه المصــالح الأسـاسية الخمسة في الشـريعة الإســلامية تمثِّل ضرورات الحياة، التي لا غنى عنها، بحيث يؤدي أي انتهاك أو انتفاض منها إلى الإضرار بالنظام العام والأمن وشيوع الفوضى في المجتمع، ومن ثـمّ تقرّر الشـــريعة أشدّ العقاب لمن يحاول المساس بهذه المصــالح أو العدوان عليها.27

فإذا وقـع هذا العـدوان من الفـرد، كان مسؤولا عنه مسؤولية جنائية، ويتحمّل العقاب في صورة حد، أو قصاص أو تعزير.

أما إذا وقع هذا العدوان على أي من المصالح سالفة الذكر، وكان المعتدي هو الدولة والمجني عليه هو جماعة أو دولة أخرى فإن الإسلام يقرِّر المسؤولية الجنـائية على الدولة المعتــدية، لا سيما إذا كان هذا العدوان يشكّل جـريمة ضد الإنسانية، مثل الإبادة أو الطرد من الديار أو التعـذيب أو الاستـرقاق واغتصاب النساء، وسواء ارتكبت الدولة تلك الجـرائم ضد رعاياها أو رعايا دولة أخرى28.

وقد أشار القرآن الكريم إلى العقاب الذي نزل بالقرى التي ارتكبت مثل هذه الجرائم في حقّ الجماعات المستعفة، وهو عقاب جماعي ينزل بالدولة الظالمة بكل رعاياها ويدمِّر كل مقوماتها.

ولكن السؤال المطروح هو: ما هي طبيعة الأفعال التي تأتيها الدولة بحيث تستحق عنها ذلك العذاب الأليم؟؟

والجواب على هذا السؤال نجده في الآيات القرآنية الآتية:

﴿فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة﴾ (الحج: 45).
﴿وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليّ المصير﴾ (الحج: 48)
﴿ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا﴾ (يونس: 13).
﴿وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة﴾ (هود: 102).
﴿وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا﴾ (الكهف: 59).
﴿وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين﴾ (الأنفال:54).

وبــالتــأمل في هذه الآيات الكـــريمة نستخلص انعقاد المسؤولية الجنائية للـدولة، إذا ارتكبت جريمة تستحق عنها العقوبة، ولكن أية جريمة وأية عقوبة؟؟

أ– تتميّز الجـريمة بأنها تنطوي على الظلم الشديد (أي اعتداء صارخ على النفس أو الدين أو النسل أو النسل أو المال) وهي المصالح العليا للفرد والجماعة التي يحميها الدين:

والظلم جريمة كبرى شدّد اللّـه سبحانه وتعالى على العقاب عليها، ونبّه النبي الكريم ﷺ على النهي عنها، فيقول اللّـه في حديثه القدسي:

«يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محـرما فلا تظالموا» رواه مسلم.

وتنعقد المسؤولية على الحاكم وبطـانته ومن يأتمر بأمره. فيقول سبحانه وتعالى:

﴿إن فرعون وهامان وجنودهما كاموا خاطئين﴾ (القصص:8).

وصور الظلم عديدة، منها ما يمثل جريمة إبادة الجنس البشري والاسترقاق، فيقول تعالى:

﴿واذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم﴾ (البقرة:49).

وقوله تعالى أيضا:

﴿وإذ تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد﴾ (البقرة: 205).

كما أشار القرآن في مواقع عديدة إلى جريمة التطهير العرقي وبين صورها، وهي إجبار الفئة المستضعفة على ترك الديار وترحيلهم بالقوة عن مواطنهم، وتشريدهم في الأرض، فيقول تعالى:

﴿وقال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أوَ لو كنا كارهين ﴾(الأعراف: 88).

وقوله أيضا:

﴿وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم﴾ (محمد:13).

وقوله تعالى:

﴿قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهّرون﴾ (النمل: 56). وقوله تعالى:

﴿وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا ولتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين﴾ (إبراهيم: 13).         

كما أشار القرآن الكريم إلى جريمة القرصنة، باعتبارها جريمة دولية على المال، ولو ارتكبها الحاكم، فيقول تعالى:

﴿وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا﴾ (الكهف: 79).

ونخلص من ذلك كله، أن الظلم أو العدوان هو جوهر الجريمة التي يرتكبها الحكّام أو المحكومين في حقّ الأقلية المستضعفة، سواء تمثّلت هذه الجريمة في قتل جماعي، أو إخراج من الديار أو تعذيب أو استيلاء على الأموال أو استرقاق للنساء، كما تشمل جرائم الاغتصاب وهي كلها جرائم تستحقّ العقاب الشديد من اللّـه على الدولة حكامًا ومحكومين.

ب– يتميّز العقاب على تلك الجـرائم بأنه شامل وجمـاعي ينزل بالحاكم والمحكوم على حد سواء:

ويختلف العقاب في هذه الحالة عن العقاب المقرر للجرائم الفردية: وهي الحدود والقصاص والتعازير، فهي عقوبات يحكمها مبدأ شخصية العقوبة، أي لا تطبّق إلا على الفاعل بنفسه، أما في جـرائم الدولة فإن العقاب قد يصيب – فضلا عمن ارتكب تلك الجـرائم بــــــالفعل –   أشخاصاً آخرين لم يرتكبونها، ولكنهم لم يعترضوا عليها، فيقول تعـالى:

﴿واتقو فتنة لا تصيبن الذين الذين ظلموا منكم خاصة﴾ (الأنفال: 25).

وقوله ﷺ:

«إن اللّـه عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة» رواه أحمد في مسنده.

ولا يقبل من المحكوم عذره بأنه عند اقترافه الجريمة كان مغلوبا على أمره، وينفّذ أمر الحاكم، إذ يقول تعالى:

﴿فاستخف فقومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين﴾ (الزخرف: 54).

ويقول تعالى:

﴿وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا﴾ (الأحزاب: 67).

ويقول تعالى:

﴿يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار﴾ (غافر:52).

وعلى ذلك لا يستطيع مــوظّفوا الدولة والجنود ورجال الشـــرطة الاعتذار بأن أعمالهم كانت تنفيذاً لأوامر عليا لا حيلة لهم فيها، ومن ثـمّ يلحقها العقاب سواء بسوء مع قادتهم وسادتهم.

والعقاب الجماعي الذي ينزل بالجماعة الظالمة: إما أن يكون عقابا إلــهيا صرفا: كالكوارث الطبيعية والأمراض، وإما أن يكون بيد المظلومين أنفسهم، أو يكون قوة إنسانية عليا مكّن اللّـه لها في الأرض بحيث تعـاقب الظالم وتردعه وتنصر المظلوم وتنصفه.

وفي صدد العقاب الإلهي يقول تعالى:

﴿فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين﴾ (العنكبوت:37).﴿وأمطرنا عليهم مطرآ فساء مطر المنذرين﴾ (النمل: 58).

﴿وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين﴾ (هود: 94)

كذلك قوله تعالى:

﴿فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين﴾ (الأعراف: 133).

من هذه الآيات نجد أن اللّـه يرسل اللـّه عقابه من السماء لعنة على الذين ظلموا، وهذا العقاب لا بد للمظلومين فيه، فهو مجرّد انتقام إلهي جزاء وفاقا لما اقترفوا من جرائم في حقّ الفئة المستضعفة، ولكن الحال لا يجري دائما على هذا المنوال، فالمـؤمن لا يجب أن يتواكل ويـرضـى بضعفه منتظرا العون الإلهي من السماء، بل عليه أن يجاهد للدفاع عن حقوقه، ولـذلك فإن اللّـه سبحانه وتعالى يستحثّ عباده المستضعفين أن يجاهدوا ولا يستسلمون للظلمة والجبارين، ويأمرهم بالجهاد ومقاتلتهم وهو من ورائهم ظهير ونصير.

فيقول تعالى:

﴿وأخرِجوهم من حيث أخرجوكم﴾(البقرة: 191).

كما يقول أيضا:

﴿أُذِن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير﴾ (الحج: 39).

ويقول أيضا:

﴿قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا نتقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد اُخرجنا من ديارنا وأبنائنا﴾ (البقرة: 246).

كما يقول الرسول الكريم ﷺ «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» رواه أبوداود.

وقد يقيّض اللّـه القوة والبأس الشديد لشخص أو هيئة أو جماعة تتّسم بـالمحكمة بالإنصاف والعدل والنزاهة، يمكّن الله لها في الأرض فتضرب على يد الدول المعتـدية التي ترتكب الجرائم ضد المستضعفين وتنصر المظلومين، وتعيد الحق إلى أصحابه، ولقد أشار القرآن إلى هذه القوة العالمية في شخص سليمان عليه السلام وذي القرنين وأمة الإسلام التي تمتلك كل هذه المقوّمات.

فيقول تعالى:

﴿فلما جاء سليمان قال أتُمِدَونن بمال فما آتان الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبِل لهم بها ولنخـرجنّهم منها أذلة وهم صاغرون﴾ (النمل: 36 – 37).

وعـن ذي القــــــرنين الذي مكّن له اللّـه في الأرض، ونصـر القوم المستضعفين على قوم يـأجـوج ومــأجـوج، وأقـام العدل في بقاع الأرض، يقول تعالى:

﴿قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا، قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا﴾ (الكهف: 86 – 88).

كما قال ربنا مخاطبا أمة الإسلام:

﴿كنتم خير أمة أخرجـت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ (آل عمران: 110).

نخلص مما تقدم، أن الإسلام قد فرّق بن الجرائم العادية التي يرتكبها الأفراد، وكذا العقاب المقرّر لها، وبين الجـرائم التي ترتكبها الدولة ونوع العقاب المقرّر لها.

فجـرائم الأفراد تسند إلى أشخاص بذواتهم ويطبّق عليهم العقاب طبقا لمبدأ شخصية العقـوبة، وهذا الجرائم والعقـوبات هـي الحدود والقصاص والتعازير، ويتولّى الإمام – بصفته ممثل الدولة – تطبيقها على الجناة، أما الجرائم التي ترتكبها الدول وتتّسم بالظلم الشديد، أي العدوان على جماعة أو طائفة – وهي غالبا جرائم ضد الإنسانية – كالإبادة والطرد من الديار والتعذيب والاغتصاب الجماعي، فإن العقاب على تلك الجرائم يتّسم بـأنه عقاب جمـاعـي يشمل كل أفراد الـدولة الظالمة ومقوِّماتها: حكّاما ومحكومين، وإذا كان اللّـه قد أشار إلى العقاب الإلهي الذي ينزل على الذولة الظالمة، فإنه سبحانه وتعالى يحثّ الفئة المظلومة أن تدافع عن نفسها وديارها وتقاتل المعتدي قدر طاقتها وهذا نوع من الجهاد في سبيل اللّـه.

كما أشار اللّـه سبحـانه وتعالى إلى إمكان وجود هيئة يتـوفّر لها أسباب القوّة والبأس والحكمة – كالأمم المتحدة – مثلا، ولكن يشترط في هذه الهيئة أن تقيم العدل بين الدول بتجرّد ونزاهة، فلا تكيل بأكثر من مكيال، ولا تتصرّف لحساب مصلحتها أو مصلحة إحدى الدول على حساب الأخرى، خـــوفا منها أو طمعا في عــــونها ورضــــاها، فـتفـقـد مصداقيتها، وتتحوّل إلى قوة غاشمة وليست قوة منصفة، ولذلك فقد وضع اللّـه سـبحـانه وتعـالى معــايير السلوك العادل لهذه القوة بقــوله تعالى:

﴿الذين إن مكناّهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر﴾ (الحج:41).

وبــــذلك نرى أن الإسلام قد عرّف المسؤولية الدولية الجنـــائية والجرائم الدولية والعقاب عليها، ووضع الأحكام العادلة لـردع المعتدي ومنع هذه الجـرائم – ليس في نطاق المجتمع الإسـلامي فحسب – بل على مستوى المجتمع الدولي بوجه عام.

وجـدير بالذكر أن الكلام عن مبادئ الشـريعة وأحكامها شيء، أما التطبيق والالتزام بهذه الأحكام فشيء آخر، ويكفـي استعراض ما عاناه المسلمون في قلب أوربا على يد الصرب في البـوسنة وكـوسـوفو من مـذابح مـروعة، راح ضحيتها مئات الآلاف، ما بين قتل جزع ومشرّد، فضلا عما يحدث للفلسطنيين على أيدي قوات الإحتلال الإسرائيلي، كذلك ما يحدث للمسلمين من اضطهاد وإبادة وتطهير عـرق في أنحاء أخرى من العالم، ككشمير والصين وبورما والفلبين والشيشان.

ويقع كل هذا تحت سمع وبصر الإسلامية، التي لم تعد تملك سوى الشجب والاستنكار، بعد أن وهنت قوتهم وتفرّقت كلمتهم، وصاروا أشداء على أنفسهم رحماء على أعدائهم، فتحقّقت فيهم نبوءة رسول اللّـه ﷺ حين قال:

«يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: أمن قلّة نحن يومئذ؟؟ قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنّكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّا الله من صدر عدوّكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن، قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت». صدق رسول اللّـه ﷺ. رواه أبوداود.

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
ندوة حقوق الإنسان في الإسلام: المنعقدة في مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، 10_12 محرم 1420هـ / 26_28 نيسان 1999م. مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 165- 210.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي

فهمي هويدي محتويات المقال:هل الإيمان بالإسلام شرط للمواطنة في المجتمع الإسلامي؟ما هي حقوق غير المسلمين في المجتمع الإسلامي؟ النظر إلى حقوق غير المسلمين في مجتمع المسلمين لا يتحقّق إلا إذا استوعبنا أمـوراً عدة في البداية ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الحقوق والحريات في الإسلام

أحمد فرَّاج محتويات المقال:الأمر الأول: إزالة ما علق بالإسلام من تشويهالأمر الثاني: الذي أرى أننا مـدعوون إليه هوالتطوّرالتقويمالحريات في الإسلامالقيود حماية الحق عندما نتحدّث عن حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام، نتحدّث ع...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان

محاولة للتأصيل من منظور إسلامي محمد سليم العوّا 1- لا يخطيء من يقول إن «حقوق الإنسان» هي شعار الـربع الأخيرمن القرن العشــرين الميلادي. فـقـد نشطت حـركة الـدفاع عن حقوق الإنسان منذ أواسط السبعينيات من هذا القرن نشاطا فاق...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة الإسلامية الكلية ومكافحة الإتجار بالبشر

فايز حسن إن أخطر مشكلة بين مجتمعي الشرق والغرب تتمثل في اختلاف الرؤية الأوروبية الغربية لحقوق الإنسان عن الرؤية الإسلامية، وهو المعيار الذي يتم به تصنيف الدول والعلاقات الدولية، ومن أهم هذه الجوانب جانب جريمة قديمة، ولكن...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور

محمد سليم العوا بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإننا لو تحدثنا عن مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور منذ شهرين لكان حديثاً مكروراً مُعاداً لا يجد الإنسان له صدى في واقع حياته اليومية...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد العدل في القرآن الكريم

محمد سليم العوَّا: مفكر إسلامي وخبير قانوني وهو عضر مجمع اللغة العربية بمصر، والأكاديمية الملكية الأردنية، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي – منظمة لمؤتمر الإسلامي – جدة محتويات المقال:أولا: بين الشاب والشيخثانيًا: ما هو العد...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top