رؤية فلسفية للجمال في النظر الإسلامي الأصولي

شارك:

الشيخ محمد غورماز، الرئيس الأسبق لهيئة الشؤون الدينيَّة بتركي

إنَّ علمَ المقاصد والغايات، هو من العلوم المفتخرة لدى المسلمين، فهو - وإن ظن البعض بساطته - ذو أثرٍ ضخم، وامتدادٍ عريض؛ يلقي ظلالَه على كل العلوم الإسلامية، بل وعلى الحياة الإسلامية برمتها.

أقول هذا وأنا أسائلُ نفسي:

هل حصرنا علم المقاصد - قصداً أو دون قصدٍ - في زاوية ضيقة عندما جعلناه فرعاً من العلوم التشريعية المختلفة مثل: الفقه، وأصول الفقه، وما سواهما؟

هل خسرنا النظرةَ الشموليةَ لهذا العلمِ العظيم فترةً طويلةً من الزمانِ، مقابل نظرةٍ حاصرة ومضيِّقة ومشدِّدة؟

إذا وافقتموني على الجوابِ بنعم على هذين السؤالين، فدعونا نوسع إطار طرحنا لهذا الموضوع في هذا المؤتمر أيها الكرام، ولنحاولَ أن نعيد للموضوع ألَقه، وللعلم أصالتَه، ولنجعل من أنفسنا قدوةً للجيل العلمي الصاعد، الذي ينظر إلينا بعين المسؤولية.

ونحن إذْ قدمنا بهذه المقدمة التي لا بد منها نقول... ثمَّ أمَّا بعدُ:

فعندما نحاولُ أن ننظرَ إلى المقاصد بنظرةٍ شموليةٍ، نجدُ أننا نعاينُ خمسةَ أنواعٍ أساسيةً من المقاصد؛ وهي بالترتيب: مقاصد التكوين، ومقاصد العمران، ومقاصد التنزيل، وأخيراً مقاصد التشريع، ومقاصد التكليف.

والترتيبُ في هذا التقسيم هو ترتيبُ أهميةٍ، لا ترتيب فصلٍ نوعي؛ فبعض مقاصد التشريع تابعة لمقاصد التكوين وهكذا.

وإذا أردنا أن ندرسَ علم المقاصد، يجب علينا أن نركِّز أولاً على مقاصد التكوين، فهي المفتاح لفهم ما بعدها. وأزعمُ أن كثيراً من الخلل حاصل في بعض الأحكام والفتاوى يرجعُ إلى تقديرٍ خاطئ لمقصد شرعي في مواجهة مقصد كوني أو عمراني، وهكذا.

فإذا ركَّزنا على المقصدِ الكوني؛ فالمقصد العمراني، فالمقصد التنزيلي، وانتهينا بالمقصد التشريعي؛ كانت النتيجة عِقداً فريداً من الأحكام والأفكار، تعيد للأمة الإسلامية ذاك الزخم العلمي الذي عشناه يوماً.

تعرفون - أيُّها الأفاضلُ- أننا نجري على التقسيم الثلاثي للمصلحة: فهي ضروريات أو حاجيات أو تحسينيات. وهذا التقسيم جميلٌ وشامل. ولا أعتقد أن من الممكن الإتيان بأفضلَ منه، إلا إنَّ هناك خللا ً في التعامل مع هذا التقسيم لم يقع فيه من وضعه أو فهمه حق الفهم، لكن بعضنا وقع فيه فأورده حوض الخطأ.

لقد تعاملنا مع التحسينيات ردْحاً طويلاً من الزمان على أنها ثانويات، وزيادات، ومكملات، أو أمورٌ لا أهمية حقيقية لها، وإنما هي مجردُ أمور حسنة جميلة، نأتي بها إن كان معنا وقت، ونتركها عند أول شعور بالثقل أحياناً.

حتى إنَّ الفقه، بشكل عام، ركز كثيراً على مفهومي الضروريات والحاجيات، وجعل «الضرورات» مقدرة بقدرها، والضرورات تبيح المحظورات، والحاجة تنزل منزلة الضرورة وهكذا. والقواعد في هذا الباب كثيرةٌ، مما يدلُّ على اهتمامنا الشديد بها، لكن التحسينيات - أيُّها الكرامُ - ظُلِمت بهذه التقسيمات من حيث لا ندري، فقد وُضعت على هامش الاهتمامات في الفكرِ الإسلامي عموماً، وفي الفقهِ خصوصاً.

ربما يكونُ هذا التهميشُ مقبولاً أو مفهوماً (أقول ربما) في العلوم التشريعية من فقه وأصوله؛ لأن هذه العلوم أساساً علومٌ عملية حدية، فمجالاتها الحلال والحرام، وهما مفهومان حديان يحتاج العامل فيهما إلى اتخاذ قرار بالسلب أو الإيجاب. والحال كذلك في الشرط والمانع والسبب، وحتى في المندوب والمكروه؛ فالقرارُ يجب أن ينبني عنده على سببٍ، والسبب غالباً يدور مع الضرورة والحاجة.

وأنا إذْ أقول: إنَّ هذا التهميشَ (ربما) يكون مقبولاً من المشتغلين في الفقه، فأنا أصرِّحُ أنَّ تهميش التحسينيات في منظومة الفكر الإسلامي عامة جريمةٌ بحقِّه؛ تُفقده جمالَه ورونقَه الذي حباه الله به، فهذا الدين- أيها الأخوةُ- أنزله الله الجميل البديع، ولا ينزّل الجميلُ إلا جميلاً سبحانه وتعالى.

فهل يمكننا - أيُّها الكرامُ - أن نوسِّع مفهوم التحسينيات ليشمل الحياة كلها، فالتحسينيات للضرورات والحاجيات كمثل السنن للفرائض والواجبات، من ضيعها محكومٌ عليه بأنه سيضيع أصلها، فتركك للسنة يقودُك لترك الفريضة، وتركك للتحسيني يقودُك لترك الحاجي والضروري في النهاية؛ فما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجب. وهذه إشارةٌ لطيفة أشار إليها الأستاذ طه عبد الرحمن - الفيلسوف المغربي المعروف - في أكثر من موضع.

أما عن فلسفة الفن والجمال.. فما علاقتها بالمقاصد؟

دعونا ننظرُ إلى الجمال في مقاصد التكوين: لقد قال اللهُ تعالى في محكم تنزيله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]. ويحق لنا هنا أن نتساءل: لماذا خلقنا اللهُ في أحسن تقويم؟ لماذا لم يخلقنا (كيفما اتفق)؟ لماذا جعل في الشكل البشري آيةً من آيات الجمال؟ ولماذا جعل العالم بديعاً هكذا؟.

بل دعونا نوسع السؤال: لا يفتأُ القرآن يذكرّنا بأن هذا الكون كله بما فيه مجرد متاع:﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [الحديد : 20] ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ [النساء : 77] ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ﴾ [الرعد : 26]، ووصفها سبحانه قائلاً: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ [الحديد : 20]؛ بل إن نبيَّه وصفَ حالَ المؤمن بأنه في الدنيا غريب أو عابر سبيل. فإذا كانت الدنيا متاعاً زائلاً مؤقتاً، وإذا كان المفترضُ أن نكون فيها غرباء عابري سبيل.. فلماذا خلقَها الله جميلةً بهيجةً؟ ولماذا خلقنا الله في تلك الدنيا الجميلة في أحسن تقويم؟ وجعل لنا القدرة على رصد الجمال والاستمتاع به؟. لقد ذكر الإمام الشاطبي هذا السؤال في سياق كلامه عن التحسينيات في كلام أنقله بتصرف:

إنَّ الله حين هيأَ لنا الدنيا، لم يكتفِ بإيجاد ضروريات الحياة بأن يطعمنا بقدرِ ما نعيشُ، بل لبَّى حاجاتِنا فوق ذلك أيضاً، فمنح لنا مساحةً واسعةً للعيش في مناكِبها وإمكانيات هائلة وكوناً واسعاً، ولم يكتف بذلك بل أسبل عليها من صفاته الجميلة؛ فتارة أظهرها لنا في أجلى صورة وأبهاها، وتارةً أخفاها لِحكمٍ يعلمها؛ ذلك أنه الأولُ والآخر، والظاهر والباطن، وأنه تعالى كما أفاد بذلك في كتابه المحكم:﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام : 73].

فالجوابُ إذن - أيها الأخوة - لقد خلقَ الله هذا الوجود جميلاً، ورزقنا الإحساسَ بالجمالِ؛ لأنه هو جميل وبديع سبحانه. وهو يشيرُ بهذا الفعل إلى أهمية الجمال في الوجود، بتحسينياته قبل ضرورياته وحاجاته. والبحث عن الجمال والاستمتاع بالجمال، وصناعة الجمال عبادة نتوجه بها إلى الله إن صحت النية.

يقول الشاعر التركي الكبير نجيب فاضل قيصاكورك:

أدركتُ أن الفنّ سعي إلى الله... هذا هو الإبداعُ وما عداه حديدٌ ومقْمَع

و لربما يجب أن نتطرق إلى فكرة التحسين والتقبيح كباب مهم من أبواب الحديث عن الفن. والفرقُ بين الحسن والجمال له علاقة بالمنظور. فالحسنُ صفةٌ ذاتية، لا يخضع لمعايير الحكم النسبي.. فأسماء الله حسنى، و لما أمرَنا الله أمرَنا بالعدل والإحسان. لكن الجمال متعلقٌ بالآخر، فينظر الشخصُ لوادٍ ذي زرع فيراه جميلاً. ورؤيةُ الجمال تختلفُ بين الشخص وغيره، أما الحسنُ؛ فلا خلافَ عليه لإنَّه صفةٌ لازمة لذاته. والجمالُ إحساسٌ يعتمد على وجودِ من يحس به، أما الحسنُ فمفهومٌ مستقل قائمٌ بذاتِه.

والتحسينُ والتقبيحُ في الإسلامِ يرجع أساساً إلى نظرة الإسلام للكون؛ فقد كثرُ الجدال في الفلسفة الغربية - وخاصة في علم الجمال - عن المعايير التي تجعلُ الحسن حسناً، والقبيح قبيحاً؛ بل إن الكلامَ دائرٌ داخل الدائرة الإسلامية؛ فمن جاعلِ التحسينَ والتقبيحَ عمليةً عقليةً محضة، إلى من جعلها عمليةً نصية محضةً، وبُني على هذا خلافاتٌ، لسنا بصددها الآن، لكن ما نحن بصدده هو الكلام عن فكرة التقبيح والتحسين، وأثرها على نظرتنا للفن. وحتى نتكلمُ عن نظرتنا للتقبيح والتحسين، تجدر بنا العودة قليلاً إلى الوراء، إلى نظرتنا للخالق سبحانه.

في الأدبيات المسيحية واليهودية - ويلحقُ بها الكثير من التصورات الغربية عن الإله - نجد أن الله - حاشاه - خلقَ الخلقَ وتركَه؛ أي إنَّ عملية الإبداع والخلق تمت في الأيام الستة ثم انتهت. إنَّه تصور صانعٍ خلقَ الأرضَ في ستةِ أيام ثم انزوى جانباً؛ بمعنى أن الإنسانَ حين خُلق عليها، وجدَ أن العمل الفني قد اكتمل، فلا يوجد هناك ما يمكن إضافته أو إزالته منه، فهو هناك ينبغي مشاهدتُه والإحساسُ به، وما على الإنسان سوى الإحساس به، ولا يختلفُ الأمرُ كثيراً، إذا ما أضفنا إلى ذلك التصورَ اليوناني للخالق، فهناك في عالمِهم آلهةٌ كثيرةٌ، لا علاقة لهم بموضوع الخلق، وأما أولئك الذين يُسقطون ذلك إلى القوة الخلاقة أمثال أرسطو؛ إنما يتحدثون عن قوةٍ تخلقُ، وتنتهي.

أما الأدبياتُ الإسلاميةُ - في مقابل ما سبق - فتتحدثُ عن خالق هو «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»، فإذا اعتبرنا أنفسنا ضيوفاً في هذا العالم، فالله سبحانه مستمرٌ في استقبال ضيوفه؛ فلم نعد نتكلمُ ههنا عن مشاهدة جمالٍ مكتمل تم الانتهاء منه، وإنما نتحدث عن فعلٍ مستمرٍ لا ينتهي عن استقبالٍ للضيوف، وإذا ما كان الفعل هو المحور، فلا بدَّ من انتقالٍ إلزامي بين الجمال والأخلاق؛ ذلك أنَّ العملَ مرتبط بالأخلاق؛ فالفعلُ الجميل هو فعل جيد وخيّرٌ أيضاً. ففي هذا التصور، لا يمكنُ أن نتخيل جمالاً جُرِّد من الخير، فكما تتغيرُ صور وحيثيات أفعال الخالق وإظهار فنه في كلا التصورَين، تتغيرُ صور الإدراك والإحساس لدينا، فحينَ نتصورُ هذه الكائنات خلقاً تم الفراغ منه، لا يبقى للإنسانِ سوى المشاهدة، أما الخلقُ المستمر فيجعلنا أمام فعل مستمر نتفاعل معه، والتفاعل يستوجب العمل بينما المشاهدة لا تستوجب العمل.

أيها العلماءُ الأفاضل..

بما أن الخلقَ مستمرٌ فالفنُّ مستمرٌ؛ والإنسانُ جزءٌ من هذا الفن، لكنه ليس مشاهداً. هو عامل ومنتج. إنّ هذه الميزة الأساسيةَ للتقاليد الإسلامية تُظهرُ نفسَها في التحسينيات التي كونتها، حيث يتحاشى الفنُّ الإسلامي تقليد الخالق. وحين يعمد إلى ذلك لا يحملُ همَّ إيجاد نوعَ مطابقةٍ مع الخالق ؛ إذ لا يمكن المطابقة مع ذات الله لا في التصور ولا في مجموعة الاحتمالات؛ لأن التقليدَ يستصرخُ المثلية أوالمطابقة، بل لأن التقليد يجردُ المرء من معنى المخلوقية، فالمرء المنتِج للفن في الأدبيات الإسلامية يبقى في عالم المخلوقات، يُجري فنَّه جزءاً من ذاك العالَم ولا يتجاوز حدوده، والسبب الكامن وراء ذلك أنه مجرد ضيفٍ وزائر يحفظ أدبه حيال مالك الكون؛ بينما يتراخى الواحد في حفظ آدابه في المنزل الذي نظمه مالكه ورتبه وتركه فيه، وربما اختار الفنُ الحديثُ تجريدَ الجمالياتِ عن الأخلاق لتصورهِ الكونَ لوحةً منتهيةً، وعمد إلى فتح باب الجدال لقطع الأوصال بين الخير والجمال.

إنّ طريقةَ تصورنا للخالق تحدد بشكلٍ كبير الطريقةَ التي ننظرُ بها إلى الكون، أما تأثيرُه على الفن فلا يقتصر بما ذكرناه آنفاً، فالخالقُ الذي خلق الكون في ستةِ أيامٍ ثم مالَ إلى الراحة يدعوك إلى الراحةِ والركود. وأعتقد أن ارتقاء الإنسان الغربي إلى ما هو مرئي كان من نتاج هذا التأثير؛ لأن المرئي راكد، أو بمعنى آخر فأنت ترى الراكد بوضوح، فكل حركة تطمس الصورة بشكلٍ أو بآخر. ومن ناحية أخرى؛ فالتصور في الأدبيات الإسلامية مبني على العمل، لذلك فإنّ كلَّ إنتاجٍ للفن ههنا يستلزم العمل، وهذا العمل مرتبط بالأخلاق أيضاً.

إنَّ الفعل والركود ينبئ في الوقت نفسه عن علاقة الزمان والمكان؛ إذ المكانُ يستلزمُ الركود، والزمان يستلزم الحركة. والفن الإسلامي ينشئ نفسه في البعد الزمني؛ فالتذهيبُ، والهندسةُ المعمارية، والموسيقى، والشعر فنونٌ تعتمد على الزمن، والرسم أقل شيوعاً.

إن الأماكنَ التي تستخدم فيها المنمنمات، وفن الإيبرو، تصف الحدثَ أكثرَ من المكان؛ فالعلاقات المكانية لهذا الحدث ثانويةٌ. والفن الإسلامي من حيث هو فنٌ يدفعُ إلى السلوك دفعاً في زاوية منه. وهذا ليس من قبيلِ الصدفة. لنأخذ المسجدَ مثالاً على ما نقول؛ فالمساجدُ الكبيرة غالباً ما ترشدكم إلى آداب دخول المسجد، فلا يمكنكم الولوج إلى المساجد مباشرةً؛ إذ لابد من الدخولِ إلى صحن المسجد أولاً، وهذا نوع تهيئةٍ للدخول، وهناك في الصحن تجدون الميضأةَ التي تذكركم بوجوبِ التطهر، تعلمكم استحالة دخول المساجد دون وضوءٍ، وأخيراً تجدون في المساجد حِجْرَ المصلى؛ الذي يذكركم بأوان توجيه وجهتكم إلى الآخرة. ووجودُ هذه العناصر هناك لم يكن عبثاً وإلا لكان الأولى إزالتها؛ إذ يرشدكم وجودها إلى مزيدٍ من العمل. إنها صورةُ تهذيبٍ معماري. ولكم أن تفرعوا على ذلك: فالمساجدُ السلجوقية تقومُ على نطاق واسع وبهذا يتسع الصف الأول لأكبر عدد من المصلين لفضيلة الصلاة في الصف الأول. إنَّ مساجد السلاجقة كتلة آداب. إنها تهذيبٌ من نوعٍ يدفعكم إلى الصلاة في الصف الأول. وكذلك عدمُ إطلاع نوافذ المنازل في مدينة صفران بولو على بعضها، تهذيبٌ أيضاً يحولكم عن التجسس ويوصيكم بعدم النظر إلى منازل الآخرين. وكذلك الأحجار المرصوفة على الأرض يضطركم إلى النظر على الأرض، وهو تفسير حكم الله القائل في كتابه القويم:﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم... وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن﴾.

انظروا كيف كانت التحسينيات مؤديةً لأداء الفرائض و لكمال الأخلاق في الفن الإسلامي.

إننا نقول هذا، ويحزن قلوبنا، أنْ نرى بعض الأماكن الإسلامية المقدسة وقد سُلبت منها الروحانية، وانتُزع الخشوع من جنباتها، واصطبغت بصبغة الرأسمال، ولم يعد الناظرُ حولها يميزها عن تلك المدن المضاءة ليلاً، وتختفي فيه المشاعر لحساب الفنادق والمحلات التجارية... لمثل هذا يذوبُ القلبُ منْ كمد.

وطرحُ جانبِ الفنونِ من باب المقاصدِ ليس غريباً على الأمة الإسلامية سابقاً، فقد تكلم فيه أبو حامد الغزالي وابن طفيل وغيرهم. وتحدثوا عن أثر الحركات المتسقة والصور المتراكبة، والسماع المتناغم وغير ذلك على خلق الإنسان ونفسيته بل وعلى صحته، بل إن الإمام الغزالي يقول: لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسنات الله، وأثرٌ من آثار كرمه، وغَرفة من بحرِ جوده ؛ سواء أُدرك هذا الجمال بالعقول أو بالحواس. وجماله تعالى لا يتصور له ثان، لا في الإمكان ولا في الموجود. لكن، ومنذ ذلك الوقت، تكاد الساحة تخلو ممن يتكلمُ عن هذا الموضوع بالنَّفَس المقاصدي إلا بعضاً من النابغين هنا وهناك. ولنذكر معاً علي عزت بيجوفيتش حين قال: «في جذور الدين والفن وحدةٌ مبدئية».

والفن الحديثُ - أيها الأخوةُ - وإن غلبت عليه التفاهة والرأسمالية، إلا إنه عرف المقاصدية من حيث المبدأ. فها هو بلنسكي الأديب الروسي الشهير يقول: «إن الجمال شقيقُ الأخلاق. والصور الفنية الإيجابية التي تعكس حياة الناس ونبلها وجمالها، تفرضُ الاحترام والحب والإعجاب المخلص. وتعطي أنماطَ الأبطال الحقيقيين في الحياة للقارئ والمتفرج متعة وبهجة جماليتين. أما الصور السلبية فهي تثير مشاعر الاستنكار الأخلاقي، والاحتقار، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا في طابعها بمشاعر الازدراء والاحتقار التي نحسها عندما ندرك ما هو قبيح ودنيء. ومن ثم فإن وحدةَ الجمالي والأخلاقي هي أساسُ الدور التربوي ودور التحويل الأيديولوجي اللذين تقوم بهما الفنون في الحياة الاجتماعية».

أيها العلماءُ الأفاضلُ، إننا ندعو اليوم لإعادة الاعتبارِ لمفهوم التحسينيات، وإخراجه من الحصار الذي دامَ فيه طويلاً؛ فالله سبحانه وتعالى يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه. وبالمناسبة فإن بعض الروايات تذكر أن سبب ورود هذا الحديث فيه درس عظيم وله علاقة أصيلة بموضوعنا اليوم..

تقول بعض الروايات إنه: لما تُوفي إبراهيمُ ابن النبي ﷺ، وأخذه النبي ومعه المسلمون ليدفنوه، رأى رسول الله ﷺ فرجةً في القبر فأمرَ بها تسد فقيل للنبي ﷺ فيها، فقال: أما إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عينَ الحيِّ، و إن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه.

انظروا إلى مقام الإحسان الذي كان فيه سيدُنا محمد ﷺ، ففي وقت صعبٍ كهذا، ينتبه إلى ما يحسن المنظر، ويعترفُ أنه لا يفيد الميت، لكنه يريحُ عين الإنسان إذا نظر إليه. ويا سبحانَ الله: يحرصُ النبي على الكمال والتحسين والإتقان ما استطاع، ونترك نحن التحسينيات فضلاً عن الحاجيات والضرورات عند أقلِّ أزمة.

أيها العلماءُ الأفاضلُ، نحن نعيشُ اليوم صراعاً هوياتياً، وصراعاً ثقافياً، وصراعات عسكرية، وصراعاً اقتصادياً. والمسؤوليةُ علينا ضخمة وكبيرة. ونحن بأمس الحاجة إلى توسيعِ أفقنا ومداركنا؛ لنستطيع العبورَ بالأمة من هذا المنحنى الخطير. والأجيالُ القادمة من العلماءِ ستنظر إلى إنتاجنا العلمي وحركتِنا المعرفية. فهل سيقولون: «أولئك أبائي فجئني بمثلهم»، أم سيقولون: تلك «أمة قد خلت»..

التحسينيات - أيها الأفاضل - ليست زياداتٍ لا معنى لها، ولا إضافاتٍ لا محل لها من الإعراب؛ بل هي جمالُ هذا الدين، وروعتُه وألقه.. بل وانتسابُه إلى خالقه البديع سبحانه؛ الذي خلقنا في أحسن تقويم.

وصل الله اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
الفنون في ضوء مقاصد الشريعة 2 ، 2019، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 15-42.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

الفنون الخادمة للمقاصد، والمقاصد الخادمة للفنون

نور الدين بن المختار الخادمي؛ وزير الشؤون الدينية السابق بالجمهورية التونسية، وأستاذ جامعي. محتويات المقال:أولا: تأطيرُ البحث وأهميتهثانيا: أهداف البحثثالثا: إشكالية الموضوعرابعا: موضوعات البحث ومنهجهخامسا: خطة البحثسادس...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

إشكالية الفنون الجميلة في علاقتها بمقاصد الشريعة

إبراهيم البيومي غانم؛ عضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، مصر. محتويات المقال:تمهيدأولاً: في النظرية العامة للفنون ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

فقه الحسنِ: الـتأصيل المقاصدي لمفهوم الفن الإسلامي وحدوده المعرفية

إدهام محمد حنش؛ عميد كلية الفنون والعمارة الإسلامية، جامعة العلوم الإسلامية العالمية، الأردن. محتويات المقال:المقدمةفقه الفنأسلمة الفن وإسلاميتهالالتزام والفن الإسلاميإشكاليات التكييف الفقهيمن التكييف الفقهي إلى التأصيل ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المسألة الفنية في النظرِ المقاصدي من خلال مدخل التكييف والتوظيف

أحمد الريسوني؛ مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط – المغرب، وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية بمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي. محتويات المقال:تقديمالمبحث الأول: المسألة الفنية من خلال مدخل التكيي...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الفنون ومقاصدها عند الإمام القرضاوي: الرؤية والتطبيق

وصفي عاشور أبو زيد؛ دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية، كلية دارالعلوم، جامعة القاهرة. محتويات المقال:مقدمةالمبحث الأول: الفنون عند الإمام القرضاوي: تتبعٌ واستقراءأولا: الفنون الإبداعية أو ما كتبه الشيخ في الفنونثانياً: ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

اللغة الكونية للفن الإسلامي

منور ثامر المهيد؛ مدير عام مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي- عمان - الأردن محتويات المقال:انعكاس الحقائق في الظواهر الطبيعيةالجيومتري وانعكاسها في الطبيعةالدائرةالنسق الهندسي في الفن المقدس وتجلياته الوجوديةالنِسبُ ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

روح العمارة الدينية: أنموذج جامع السليمانية

رجب شنتورك؛  رئيس جامعة ابن خلدون، اسطنبول. محتويات المقال:1- علاقة الرمز والمرموز له وطريقة التأويل في الفكر العثماني2- جامعُ السليمانية بلسان المهندس المعماري سنان3- القانوني وسنان: سلطانا ومهندسا من حيث الخلفية ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة وهندسة الحروف كمقبسين للإرادة الإلهية

أحمد مصطفى؛فنّان وعالم معروف دوليًا، وزميل في الفن الإسلامي والتصميم بمركز الدراسات الإسلامية بأكسفورد- المملكة المتحدة. على النقيضِ مما يفترضه عديد من الغربيِّين؛ فإنَّ الإسلامَ لا يعتريه أي إجهادٍ في الجمع بين العلم وا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

ترقية الإيمان مقصداً للفنّ

عبد المجيد النجار: رئيس المركز العالمي للبحوث والاستشارات العلمية تونس. محتويات المقال:توطئةأولاً: الدين والفنّثانياً: دور الفنّ في ترقّي الإيمان التصديقي1 - دور الفنّ في حصول الإيمان2 - دور الفنّ في تقوية الإيمانثالثاً:...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الأصول المُعْربة عن الفنون، والفنون المُعَبرة عن الأصول

نورالدين بن مختار الخادمي: وزير سابق، وأستاذ التعليم العالي بتونس. محتويات المقال:تمهيدإشكالية البحثالدراسات السابقةموضوع البحثالمحور(1) تأطير الأصول للفنونالمحور(2) تعبير الفنون عن الأصولالمحور(3) محور الأدلة الشرعية أو...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد القرآن الجمالية وتمثُّلاتها المعرفية في الفنون الإسلامية (التعريف والتأصيل والتصنيف)

إدهام محمد حنش: عميد كلية الفنون والعمارة الإسلامية جامعة العلوم الإسلامية العالمية (الأردن). محتويات المقال:المقدّمةعلمُ المقاصدِ: الدينُ والفلسفةُالنظريات المقاصديةنظرية العمل المقاصديالمقاصد؛ غايات، ووسائل، وطرائقالطر...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

إسلامية الفنون الإسلامية: بين التنظير المعرفي والتطبيق الإجرائي

صلاح الدين شيرزاد: دكتوراه في تاريخ الفن الإسلامي، عضو هيئة التدريس في جامعة السلطان محمد الفاتح بمدينة إستانبول- تركيا. محتويات المقال:تمهيدبدايةُ التسميةالدافع لضبط المصطلحميادين فنون المسلمينفن العمارةأصناف العمارة- ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصدُ الفنونِ العُمرانِية في المدينةِ الإسلامية: قراءةٌ في نصوصٍ تراثيةٍ ورؤيةٌ في الواقعِ المعاصر

إبراهيم البيومي غانم: أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (مصر)، وعضو مؤسس وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية مؤسسة الفرقان لندن. محتويات المقال:استهلالأولاً: المدينة ...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

وظائف الفنون الأدبية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية (دراسة تأصيلية في طبيعة الفنون الأدبية ومقاصدها الجمالية)

عبد الملك بومنجل: مدير مخبر المثاقفة العربية في الأدب ونقده، جامعة سطيف، جمهورية الجزائر محتويات المقال:1: أسئلة الجوهر والغاية في فلسفة الفن وعلم الجمال.1.1: جمال المُدرَك أم ذوق المدرِك؟2.1: جمال الشكل أم جمال المضمون؟...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

المسرح الإسلامي وفق النسق المقاصدي

جميل حمداوي: أستاذ التعليم، وأديب وناقد، وكاتب ـ المملكة المغربية. محتويات المقال:المقدمةأولاً: مفهوم المسرح الإسلاميثانياً: التصورات المسرحية الإسلامية1ــ نجيب الكيلاني ومقصديةُ المتعة والفائدة2: محمد عزيزة، ومقصدية الص...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

الخطاب الجمالي للفن الإسلامي وسياقاته المقصدية

عَمَّارة كحلي: مدرس بـكلية الأدب العربي والفنون بجامعة عبد الحميد بن باديس مستغانم ـ جمهورية الجزائر.  محتويات المقال:مقدّمة1: نحو تجديد الفهم المقاصدي في باب نوازل الجمال والفنون2: صناعة الزينة والجمال في المصادر ا...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top