وصفي عاشور أبو زيد؛ دكتوراه في مقاصد الشريعة الإسلامية، كلية دارالعلوم، جامعة القاهرة.
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:
فإن موضوعَ الفنون وما يتعلقُ به من الأهمية بمكان؛ لا سيما في عصرنا الحاضر. وقد أسهمَ علماؤنا على مر التاريخ بسهم وافر في الحديث عن الفنون وقضاياها، مثل: التصوير، والنحت، والموسيقى، والغناء، والسماع. وكَتبَ الفقهاء كتبهم وألفوا رسائلهم لبيان الأحكام الشرعية لهذه الألوان من الفنون.
ويعد شيخنا الإمام يوسف القرضاوي أحدَ أبرز فقهاء الأمة المعاصرين، الذين تحدثوا في الفنون وعن الفنون في الإسلام؛ سواء في مسرحيات ودواوين، أم كتب مستقلة، أم أبواب من كتب أم في فتاواه الرائدة، بما يحفز الباحث على استقراء هذه الآراء وتحليلها، وبيان أوجهها. ومن هنا كان هذا البحث؛ كي يجلي رؤية الإمام القرضاوي للفنون من خلال ما كتب، وفي ضوء مقاصد الفنون برؤية إسلامية. وسأحاول أن أبين مدى انضباطِ منجز الإمام القرضاوي في الفنون بمقاصد الشريعة، ومدى تحقيق هذا الإنتاج لمقاصد الفنون والشريعة معًا.
في هذا البحثِ سوف نتعرف إلى عالم الإمام القرضاوي وإسهاماته في مجال الفنون، من خلال تتبع واستقراء ما أسهم به في هذا المجال، وتحليله، وبيان رؤيته المقاصدية في هذا المجال.
المبحث الأول: الفنون عند الإمام القرضاوي: تتبعٌ واستقراء
في التتبعِ والاستقراء كان يمكننا أن نتبع الطريقة الموضوعية، فنقسم الفنون إلى أنواع حسب موضوعها: المرئي والسمعي والحركي والروحي ... إلخ، ثم نوردُ تحت كل نوع ما كتبه الشيخ فيه. لكننا آثرنا أن نكتبه بطريقةِ الكتبِ لبيان حجم إنتاج الشيخ فيه ومنجزه. كما أننا اقتصرنا على كتاباته، ولم نتعرض لفنون أخرى مثل الخطابة؛ وللشيخِ فيها موهبته وطبيعته وأثره وتأثيراته. واقتضى ذلك تقسيم منجز الشيخ في الفنون قسمين: الأول: فنون إبداعية؛ وهو ما أنتجه الشيخ من إنتاج فني خالص في الفنون، والثاني: ببليوجرافيا بكتب الشيخ عن الفنون، وفيه استقصاء واستقراء لما كتبه الشيخ عن الفنون.
أولا: الفنون الإبداعية أو ما كتبه الشيخ في الفنون
في وقت مبكر من حياة شيخنا الإمام اهتم بالفنون، وبخاصة فنون القول. فقد اهتم بالأدب شعراً ونثراً، ولم يقع تحت يده كتاب في الأدب إلا قرأه، كما حكى هو. وقد كان من ثمرة ذلك تأليفُه مسرحيتين:
الأولى:مسرحيةٌ شعريةٌ عن يوسف الصديق عليه السلام، وذلك في مطلع حياته الأدبية، وهو في السنة الأولى من المرحلة الثانوية. وقد تأثر في كتابتها بمسرحيات أحمد شوقي الشهيرة. وهذه المسرحية «يوسف الصديق» مفقودة حتى الآن.
والثانية: مسرحيةٌ تاريخيةٌ عن سعيد بن جبير والحجاج بن يوسف، سماها: «عالم وطاغية». استلهم فيها مثال العالم الشجاع من خلال سيرة سعيد بن جبير، ومثال الحاكم الطاغية من خلال موقف الحجاج بن يوسف الثقفي مع سعيد بن جبير. وقد مُثِّلَت مسرحية عالم وطاغية في أكثر من بلد، ولاقت قبولاً حسناً، بخلاف الأولى؛ لأنها تتعلق بقصة نبي مرسل، والاتفاق بين علماء العصر منعقد على أن الأنبياء لا يُمـَثَّلون.
وللشيخ ديوانان من الشعر: الأول هو: «نفحات ولفحات». ويضم أربعَ عشرةَ قصيدة. وقد جمعها ورتَّبها حسب تاريخ نظمها الأستاذ أدهم حسني جرار، كما قام بكتابة تقديمٍ لكل قصيدة ذكر فيها موضوع القصيدة، والمناسبة التي قيلت فيها، وتاريخ نظمها، والمكان الذي نظمت فيه، والمجلات والدوريات التي نشرتها. كما دوَّن في هذا الديوان ستة أناشيد كتبها الشيخ يوسف. وقام بترتيبها أيضاًحسب تاريخ نظمها، وقام بكتابة تقديم لكل نشيد ذكر فيه تاريخ نظم النشيد، ومناسبته، والكتب والمجلات التي نشرته.
وأما الديوان الثاني فهو: «المسلمون قادمون». وقد ضمنه عدداً من القصائد الرسالية، ومما قال فيه: «المسلمون قادمون!. . الدين والمنطق والتاريخ والواقع يقضى: إنهم لقادمون! قلت لمن حولي: نعم، المسلمون قادمون. . قالوا : عجيب ما تقول... كيف تقول : المسلمون قادمون؟ والمسلمون اليوم هاهم قائمون! هم ألف مليون إذا عُدُّوا، وهم يزايدون!».
وللشيخ سيرته الذاتية، التي أسماها: «ابن القرية والكتاب». جاءت في أربعة أجزاء كبار1، وهو نوع من الكتابة الفنية الأدبية، والسرد التاريخي الذي يحتاج إلى مهارات فنية خاصة في الكتابة؛ ليست من جنس التأليف العادي في القضايا الفقهية والأصولية وعلوم الشريعة، ولا من جنس الإبداعِ الخالص الذي يكتب به الشعر والقصة والمسرحية.
ثانياً: ببليوجرافيا بكتابات الشيخ عن الفنون
أما ما يتصلُ بما كتبه الشيخ عن الفن في الإسلام وآرائه في أنواع الفنون المختلفة، فقد تتبعتها وحصرتها فيما يلي:
1) كتاب «الحلال والحرام في الإسلام»
هذا الكتاب هو أول مؤلفٍ دخل به الشيخ القرضاوي عالم التأليف الحقيقي كما قال هو2. وقد أوردَ فيه بعض القضايا الخاصة بالفنون، وهو دليل ظاهر على اهتمام الشيخ المبكر بقضية الفنون ومسائلها الشرعية. كتب الشيخ عن الفنون في هذا الكتاب باباً كاملاً بعنوان: «في اللهو والترفيه» (صفحات 298-318). تحدث فيه تحت عناوين: ساعة وساعة. الرسول الإنسان. القلوب تمل. ألوان من اللهو الحلال. مسابقة العدْو (الجري على الأقدام) المصارعة. اللعب بالسهام (التصويب). اللعب بالحراب (الشيش). ألعاب الفروسية. الصيد. اللعب بالنرد (الطاولة). اللعب بالشطرنج. الغناء والموسيقى. قيود لابد من مراعاتها. القمار قرين الخمر. اليانصيب ضربٌ من القمار، دخول السينما. .
وكتب أيضاً عن اللباس والزينة؛ وهي كتابة تدخل ضمن الكتابة في الفنون الجمالية؛ حيث تحدث عما يجوز وما لا يجوز للرجل والمرأة في اللباس والزينة (الصفحات 88-105).
وتحدث في باب «في البيت»عن أمور لها علاقة بالفنون كذلك، وهي أحكام: النظافة والجمال، ومظاهر الترف والوثنية، وآنية الذهب والفضة، وتحريم الإسلام للتماثيل، والتماثيل الناقصة والمشوهة، وصور اللوحات والنقوش، والصور الفوتوغرافية (الصفحات 106-127).
كما تحدث كذلك في باب الكسب والاحتراف عن أحكام الرقص والفنون الجنسية، وصناعة التماثيل والصلبان ونحوها في الصفحة (143) و(144).
2) كتاب: «ملامحُ المجتمعِ المسلم الذي ننشده»
هذا الكتاب من الكتب المبكرة التي ألفها الشيخ أيضاً. ويقع في 399 صفحة، الفصل العاشر3 منه بعنوان «اللهو والفنون» (حوالي 75 صفحة، من 243-318)، وقدتحدث فيه عن قواعد تصورية للهو والمرح في الإسلام. ثم تحدث حول أنواع من الفنون، هي: فن الجمال المسموع، وفن الجمال المرئي، وفن الفكاهة والمرح، وفن اللَّعِب.
القواعد والمبادئ التصورية للفنون جاءت تحت عناوين: غياب الحقيقة بين الغلو والتفريط، وواقعية الإسلام في التعامل مع الإنسان كله، والقرآن ينبه على عنصري المنفعة والجمال في الكون، والمؤمن عميق الإحساس بالجمال في الكون والحياة والإنسان، وإنّ الله جميل يحب الجمال، والقرآن معجزة جمالية، والتعبير عن الجمال، وفنون القول والأدب.
ثم تحدث عن فن الجمال المسموع، وهو «الغناء والموسيقى». وبيَّن أحكامه الشرعية بين المانعين وأدلتهم، والمبيحين والمجيزين وأدلتهم، وأسرار تشدد المتأخرين، ووضع عوارض تنتقل بالغناء أو الموسيقي من الحكم بالإباحة أو الجواز، إلى الحكم بالحرمة.
ثم تحدث عن فن الجمال المرئي، وهو «الرسم والتصوير والزخرفة». واستعرض التصوير في القرآن والسنة، وأحكام الصور الفوتوغرافية وبيان أقوال الفقهاء فيها.
ثم تحدثَ عن فن الفكاهة والمرح، وهو من فنون الكوميديا. واستعرض الفكاهة والمرح في واقع المسلمين، وبين حدود المشروعية في الضحك والمزاح، وضوابط ذلك.
ثم تحدث عن فن اللعب، والحاجة إليه، وألوانه، وما يجيزه الإسلام منه وما يمنعه، وبيان أدلة ذلك كله وأسراره.
3) كتاب: «فقه الغناء والموسيقى في ضوء القرآن والسنة»
يقع هذا الكتاب في 255 صفحة في نشرته الثالثة الصادرة عن مكتبة وهبة بالقاهرة، في عام 2004م. وهو ممحَّضٌ للحديث عن نوع من الفن المسموع وهو الموسيقى والغناء. ضمَّن فيه الشيخ كثيراً من عناوين ومضامين الفصل العاشر من كتابه «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»؛ الذي نشره مستقلاً فيما بعد -كما أشرنا في هامش سابق- بعنوان «الإسلام والفن»، وجعله في بداية الكتاب.
وكذلك ضمنه ما كتبه في الكتاب المشار إليه آنفا عن آراء العلماء في الموسيقى، وأدلة كل فريق مع التفصيل بعض الشيء، واستفاد في ذلك أيضا من كتاب «الحلال والحرام في الإسلام».
ولتصوير عمق الخلاف ومداه في قضية الغناء والموسيقى يقدم سؤالاً يقول: ما حكم الغناء والموسيقى؟ ثم يقول: سؤال يتردد على ألسنة كثيرين في مجالات مختلفة وأحيان شتَّى. سؤال اختلف جمهور المسلمين اليوم في الإجابة عنه، واختلف سلوكهم تبعا لاختلاف أجوبتهم؛ حتى إن منهم من هؤلاء من يرفض أي نوع من أنواع الموسيقى، حتى المصاحبة لمقدمات نشرات الأخبار. ويستعرض الآراء المختلفة ثم يقول: «والغناء بآلة -أي مع الموسيقى- وبغير آلة: مسألة ثار فيها الجدل والكلام بين علماء الإسلام منذ العصور الأولى، فاتفقوا في مواضع واختلفوا في أخرى»4.
وقد استقصى العلامة القرضاوي أدلة المحرمين للغناء والموسيقى فوجدها تنحصر إجمالاً في خمسة أنواع من الأدلة وهي:
1ـ أدلة من القرآن الكريم.
2ـ أدلة من السنة النبوية والآثار المروية.
3ـ الاستدلال بالإجماع، خاصة إذا كان الغناء مع الآلات.
4ـ الاستدلال بقاعدة سد الذرائع.
5ـ الاستدلال بقاعدة الاحتياط واتقاء الشبهات. . ثم بدأ الشيخ باستعراض تلك الأدلة بالتفصيل ومناقشتها والرد على من استدلوا بها.
كما استعرض أدلة المبيحين للغناء والموسيقى، بعد مناقشة أدلة المحرمين للغناء والموسيقى، وبيان أن لا دلالة فيها على ما ذهبوا إليه من التحريم. يقول: «كان يكفي المبيحين للغناء: أن تسقط أدلة التحريم واحداً بعد الآخر، ولا يبقى منها دليل واحد ينهض للدلالة على ما أراده المحرمون، وإذن يبقى الأمر على أصل الإباحة».
ومع هذا فعند المجوزين أو المبيحين أدلة شتى؛ تشد أزرهم، وتقوي ظهرهم فيما ذهبوا إليه. فعندهم أدلة من:
1ـ القرآن الكريم.
2ـ السنة النبوية الصحيحة.
3ـ هدي الصحابة الكرام.
4ـ مقاصد الشريعة وروح الإسلام.
ثم وضع الشيخ تعقيباته وملاحظاته الواسعة الضابطة، وعدَّ منها تسعة أمور مهمة، هي: الأول: التحريم لا يكون إلا بنص صحيح صريح، ولم يوجد. الثاني: لا يحرمُ الله طيباً في الإسلام. الثالث: مآخذ وملاحظات على القائلين بالتحريم، ومنها: أولاً: إغفال الأدلة المبيحة للغناء، ثانياً: المبالغة في التحريم إلى درجة الكبيرة. الرابع: مراعاة أنواع الناس واتجاهاتهم والفوارق بينهم. الخامس: مراعاة تحسين صورة الإسلام في أعين الآخرين. السادس: تحرير محل النزاع. السابع: وجوب النظرة الموضوعية بعيداً عن العاطفة والانفعالية. ثامنًا: مراعاة المخففات في الموضوع. ثامناً: التعويل على فقه المتقدمين، أما فقه المتأخرين فقد تميز بـ: 1- الأخذ بالأحوط لا بالأيسر. 2- الاغترار بالأحاديث الضعيفة الموضوعة. 3- ضغط الواقع الغنائي المنحرف، وذكر منه صورتين: الصورة الأولى: غناء المجون والخلاعة. والصورة الثانية: غناء الصوفية. تاسعاً: التحذير من التساهل في إطلاق التحريم.
ثم تحدث الشيخ عن أن قضيةَ الغناء والموسيقى من المختلف فيه، وقد تقرر أنه لا إنكار في المسائل الخلافية؛ حيث عد ابن جماعة ثمانية أقوال في المسألة، وأحد عشر قولاً ذكرها ابن حجر الهيتمي، واستعرض موقف الفقيه المعاصر من هذا الخلاف، وآراء العلماء في عدم الإنكار على المختلف فيه. كما أكد على أن عنف الحملة على المخالفين لا مبرر له، وذكر الحملة على ابن حزم، وابن طاهر، والعنبري، وابن سعد، لدرجة وصلت إلى التجريح من أجل الرأي المرفوض، ثم ختم بعرض اعتدال فقه الإمام الغزالي في قضية الغناء.
ذكر الشيخ قيوداً وضوابط للغناء المشروع، منها: 1ـ سلامة مضمون الغناء من المخالفة الشرعية. 2ـ سلامة طريقة الأداء من التكسر والإغراء. 3ـ عدم اقتران الغناء بأمر محرم. 4ـ تجنب الإسراف في السماع. 5ـ ما يتعلق بالمستمع.
ثم تحدث الشيخ حول قضية أخرى حساسة وهي: الغناء الديني أو غناء الصوفية. وتحدث عن اختلاف العلماء في الغناء الديني، وأن حضور بعض الصالحين ليس حجة على غيرهم، واتفاق السماعاتية ليس حجة شرعية. وبين أن أكثر المشايخ أنكروا السماع وعابوه، وأن من عدا الرسول ليس معصوماً. وقد خالفهم من هو أجل وأكثر، كما أن من أجازوا السماع اشترطوا له شروطاً. وبين الشيخ أن هناك ألوانا من الغناء الديني لا غبارَ عليها.
وكان الفصل قبل الخاتمة حول الغناء والطرب، وفي تاريخ المسلمين وواقعهم، وهل وُجِدَ في عصر النبوة والصحابة مغنون أو مغنيات؟، والغناء والطرب في واقع المسلمين، ثم كانت الخاتمة ببليوجرافيا عن المؤلفات في السماع والغناء أحصى الشيخ منها 58 كتاباً ورسالة حتى العصر الحاضر.
4) كتاب: «فقه اللهو والترويح»
وهو ضمن سلسلة تيسير الفقه للمسلم المعاصر في ضوء القرآن والسنة، وهو يقع في 172 صفحة، ومنشور في عام 2005م عن مكتبة وهبة بالقاهرة. ويعتبر مكملاً لكتاب فقه الغناء والموسيقى. قال في مقدمته: «موضوع اللهو واللعب، أو الترويح والترفيه، من الموضوعات الحية والمهمة، التي دخلت حياة الناس في هذا العصر بقوة، وأمسوا يواجهون منها صنوفًا وألواناً، منها الفردي ومنها الجماعي. منها الشعبي ومنها الرسمي. منها ما هو من جنس الرياضات، ومنها ما هو من جنس الفنون، ومنها ما هو من جنس الشعوذة وخفة اليد. منها ما يقرأ، ومنها ما يسمع. ومنها ما يشاهد. منها ما يمارس على مستوى فرد وآخر، ومنها ما هو على مستوى الجماهير. منها ما هو محلي أو إقليمي، ومنها ما هو دولي وعالمي. منها ما هو طيب نافع، ومنها ما هو خبيث ضار. والناس إزاء هذه الصنوف والألوان من اللهو والترفيه يسألون: ما حكم الشرع في هذه الأنواع كلها، والممارسات المختلفة باختلاف الأقطار والبيئات، واختلاف المذاهب والفلسفات، وقبل ذلك اختلاف الديانات والحضارات»5.
ويذكرنا الشيخ هنا بما فعله في الفصل العاشر من كتاب «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»؛ حيث بدأ ببعض المبادئ والأسس، فكتب حول: الإسلام دين واقعي، والرسول الإنسان، واللهو والترويح بالفكاهة والمرح والإضحاك، والدين والضحك والمرح، وحاجة الإنسان إلى اللهو، والصحابة على هدي رسول الله، والصحابة الفكاهيون (الكوميديون)، وموقف المتشددين، وتفسير النصوص الموهمة لخلاف الإباحة، والحزن عند بعض المتصوفة، ورد ابن القيم على هذا التوجه، وحدود المشروعية في الضحك والمزاح.
ووضع الشيخ لمشروعية الضحك والمزاح والمرح شروطاً لابد أن تُراعى: أولها: ألا يكونَ الكذبُ والاختلاقُ أداةً لإضحاك الناس، كما يفعل بعض الناس في أول إبريل -نيسان- فيما يسمونه «كذبة إبريل». ثانيًا: ألا يشتمل على تحقيرٍ لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي. ثالثاً: ألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم. رابعًا: ألا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء؛ فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب. خامسًا: أن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل، ولا يطغى على الحقوق المفروضة لله وللناس.
ثم تحدثَ عن فن الفكاهة والمرح، وتناول تحته: الفكاهة والمرح في واقع المسلمين، وأورد بعض ما ذكره في كتابه «الإسلام والفن»، وتحدث عن اللهو والترويح باللعب، ومن هذه الألعاب: ألعاب الفروسية، وبين الحاجة إلى اللعب، وألوان اللعب لدى الشعوب، وموقف الإسلام من هذا اللعب، وفصَّل ما يجيزه الإسلام من الألعاب، وما يمنعه الإسلام من ألوان اللعب، وحكم اللعب بالنرد، والقمار قرين الخمر، واليانصيب ضرب من القمار، وألعاب الفروسية، ومسابقة العَدْو [الجري على الأقدام]، والمصارعة، واللهو بالسهام [التصويب]، واللعب بالحراب، والسباحة6.
وتحدث عن اللهو والترويح بالألعاب الرياضية، وأهداف التربية البدنية، وألعاب العصر، وألعاب الكرة. وتحدث عن ضوابط لعبة كرة القدم وشروطها، وحكم التفرغ للرياضة، والتخصص في ألعاب القوى، وألعاب الدفاع عن النفس، ورياضة «اليوجا»، والرياضات التي تتضمن مخاطرات عالية، مثل:
1- تسلق قمم الجبال.
2- وهل يقاس على ذلك: تسلق العمارات العالية؟
3- سباق السيارات.
4- ألعاب السيرك.
5- التناطح بالسيارات.
6- الملاكمة والمصارعة.
7- ملاعبة الأفاعي. قاعدة في ألعاب المخاطرات.
8- التحريش بين الحيوانات.
وخصص فصلاً للهو والترويح بالألعاب العقلية، مثل: الشطرنج، وذكر شروط إباحته، وهي: 1ـ ألا يلعب بقمار، وإلا كان حرامًا، بل من الكبائر باتفاق. 2ـ ألا يُلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، أو أي واجب ناجز من أمور الدين والدنيا. فإن القرآن علل النهي عن الخمر والميسر بالصد عن ذكر الله وعن الصلاة. فدل على وجوب مراعاة هذا الأمر. 3- أن يمتنع من سيء القول ورديء الكلام كالسب والشتم، وكثرة الحلف الذي يحدث كثيرًا بين اللاعبين. 4- ألا يلعب به على الطريق؛ لما فيه من الإخلال بالمروءة، وعدم رعاية حق الطريق. 5- ألا يكثر منه بحيث يصل إلى درجة الإدمان، الذي يشبه ـ إلى حد ما ـ إدمان تناول المسكرات، وغيرها من المخدرات.
وبعبارة أخرى موجزة: ألا يؤدي إلى ترك واجب، أو يستلزم فعل محرم، أو يخرج به عن حدود الاعتدال إلى الإسراف والإدمان، فإن الله لا يحب المسرفين.
وذكر اللعب بالورق (الكوتشينة)، ولعبة (الدومينو)، والألعاب الكرتونية، وألعاب الكمبيوتر، وقرر أنه يمكن تقسيم هذه الألعاب إلى:
1- ألعاب المغامرات.
2- ألعاب الإثارة والتشويق.
3- الألعاب الرياضية وألعاب القتال.
4- الألعاب الاستراتيجية والتخطيطية.
5-ألعاب الشدة والطاولة.
ثم بين الشيخ مخاطر الألعاب الإلكترونية، وأكد أن الأصل في هذه الألعاب بصفة عامة: هو الجواز، ولكن بقيود وشروط منها:1- أن نطمئن على محتوى المادة التي تقدم للأطفال، بحيث لا تحتوي على شيء مضاد للدين. 2- ألا يسرف الطفل فيها بحيث تأكل وقته، وتستغرق جهده، وتعطله عن أمور أخرى مهمة. 3- أن تراعى التعليمات الصادرة من المربيّن والمرشدين الناصحين والفنيين من أهل الاختصاص. وذكر الشيخ الإمام فوائد الألعاب الإلكترونية7.
وتحدث الشيخ عن الرقص، ففصل فيه أحكام الرقص المباح، والرقص المحظور، والرقص النسائي الشرقي، ورقص النساء (الباليه) أمام الرجال، والمراقصة بين الرجال والنساء، ورقص الصوفية، والتصفيق، والتصفيق للطرب أو للاستحسان، والصيد والقنص. ثم قال عن القنص والصيد: وقد عنيت الشريعة الإسلامية بالصيد، واهتم به الفقه الإسلامي بكل مدارسه ومذاهبه، وجعل له الفقهاء باباً أو كتاباً خاصاً، يبحث في أحكامه، وما وضع له الشرع من ضوابط وقيود. وفصلوا ما يحل منه وما يحرم، وما يجب وما يستحب، كما بين ذلك في كتابه «الحلال والحرام في الإسلام». ونقل منه بعض السطور، ووضع لهذا الصيد شروطا، وهذه الاشتراطات منها ما يتعلق بالصائد، ومنها ما يتعلق بالمصيد، ومنها ما يتعلق بما يكون به الصيد، وختم الشيخ كتابه بالحديث عن اللهو والترويح بالأعمال الدرامية8.
5) كتاب: «فتاوى معاصرة»
يقع هذا الكتاب في أربعة أجزاء. في الجزء الأول منه تحدث الشيخ عن حكم سماع الأغاني بآلة وبغير آلة، ومشاهدة التلفاز، واقتناء التماثيل، والتصوير الشمسي. واستغرقت هذه الفتاوى أكثر من عشر صفحات9، وبعضها منقول من كتاب «الحلال والحرام في الإسلام».
وفي المجلد الثاني من الكتاب نفسه حديثٌ عن الفنون استغرق أكثر من خمسين صفحة (من 445-496)، حيث خصص الشيخ فصلاً تحت مجال المجتمع ومعاملاته، حول: الدين والضحك؛ تحدث فيه عن موقف الإسلام من الضحك والمرح والفكاهة، ومشروعية ذلك في الإسلام، وكيف كان هدي النبي فيه، وحدوده وشروطه، وتحدث عن حكم اللعب بالنرد، وحكم الشطرنج، وحكم الإسلام في الغناء، وأورد الأدلة وناقشها، وبيّن شروط الإباحة وضوابطها10.
وفي المجلد الثالث تحدث عن حكم مشاركة المرأة للأطفال في الألعاب الراقصة، وقرر أنها إذا كانت مثيرة للغرائز فلا تجوز، وإن كانت مدخلا للسرور دون إثارة فلا بأس. كما تحدث حديثاً شرعيًّا نقديًّا أدبيًّا عن رواية «وليمة لأعشاب البحر»؛ التي تحدثت عن الذات الإلهية وأفعالها؛ بما لا يليق بمسلم11.
وأما المجلد الرابع فقد توسع فيه كثيراً لما يقرب من مائة وثلاثين صفحة، وذلك في الحديث عن أمور تتصل بالفن وأشكاله، وهي: حكم الألعاب الكرتونية وألعاب الكمبيوتر، وموقف الإسلام من الرقص، ولعب «الكوتشينة» و«الدومينو»، وحكم التصفيق، وسباق الخيل والهجن، وحكم الغناء وآلات الموسيقى، واليوجا، وكرة القدم، وحكم إنشاء قاعات للأعراس والمؤتمرات والمناسبات، وحكم استخدام الموسيقى في البرامج التليفزيونية، وحكم تمثيل الصحابة في الأفلام، وحكم الأذان بصوت الفنانين، وحكم تمويل الأفلام التراثية والدينية من فوائد الربا، وتمثيل الصحابة، وإنشاد الفتاة أمام الرجال12.
6) كتاب: «رعاية البيئة في شريعة الإسلام»
ربما يتعجب البعض من وضعي هذا الكتاب ضمن منجز الشيخ الإمام في الفنون. والواقع أن الشيخ تناول الموضوع من ناحية فنية جمالية تضعه بجدارة في عمق منجزه عن الفنون وجمالياتها ومقاصدها الاجتماعية الجديدة والجادة. والكتاب نشرته دار الشروق بالقاهرة في عام 1421ھ-2001م، ويقع في 260 صفحة. وللشيخ حلقة في برنامج «الشريعة والحياة» بعنوان: «رعاية البيئة في الشريعة الإسلامية»، أورد فيها بعض ما كتبه في هذا الكتاب.
تناول في البداية البيئة ومكوناتها، والمراد بالبيئة، ثم قسم الكتاب فصلين: الأول عن التأصيل الشرعي لرعاية البيئة، والثاني عن الركائز الإسلامية لرعاية البيئة. وقد تحدث الشيخ في الفصلين معا حديثًا جديداً، ورغم أن الفصل الأول لا يهمنا كثيراً فيما نحن بصدده، وإن كان لا يخلو من ملامح الجمال؛ فإنه تناوله في عناوين خمسة: علم أصول الدين ورعاية البيئة. علم السلوك ورعاية البيئة. علم الفقه ورعاية البيئة. علم أصول الفقه ورعاية البيئة. علوم القرآن والسنة ورعاية البيئة.
وهذا الفصل لا يخلو من جماليات تتناول البيئة في إطار الحفاظ على جمالها، ومعاني ذلك وتأصيلاته من هذه العلوم المذكورة، وهو ما يحول هذه العلوم ذاتها إلى علوم جمالية.
يرى الشيخ أن علم أصول الدين ينبهنا إلى أن البيئة مخلوقة مثل الإنسان، وأنها مكلفة بالسجود لله تعالي وتسبيحه ولكن بطريقة يعلمها الله تعالى؛ فالإنسان ليس إلها في الكون ولكنه مخلوق مثل بقية الأشياء المحيطة به، إلا أن الإنسان مميز عليها بالعقل وبالإرادة، وينطلق من هذه الرؤية الفلسفية الإسلامية للكون وأمور أخرى، منها: ضرورة ألا يفسد الإنسان الكون من حوله، وضرورة أن ينشر في الكون الخير والصلاح بمفهومه الشامل وأن يعمر الأرض بإحياء مواتها واستصلاح أراضيها.
وترتبط رعاية البيئة بعلم السلوك في الإسلام على اعتبار أن الدين في حقيقته هو السلوك والخلق؛ ولذا أعلنت النصوص الإسلامية الصريحة أن امرأةً دخلت النار في قطة حبستها، وأن رجلاً دخل الجنة في كلب سقاه بعدما رأى ما فيه من شدة العطش؛ بل إن الإسلام نظر إلى الأمور البيئية نظرةَ وُدٍّ وحب، فجعل القرآن الكريم الحيوانات والطيور أممًا مثل أمة الإنسان، ونص القرآن الكريم أن الشجر والدواب والجبال والنجوم تسجدُ لله تعالى مثل الإنسان المؤمن وأنها تسبح ربها.
أما علمُ الفقه وعلمُ أصوله فقد ارتبطا بالشأن البيئي ارتباطاً كبيرا في حالة السلم والحرب على حد سواء. ووضع الفقهاء عدداً من القواعد التي تنظم هذا الأمر، مثل قاعدة «لا ضرر ولا ضرار»، وأن الشرع أتاح لولي الأمر فرض بعض العقوبات التعزيرية التي من الممكن اللجوء إليها في عصرنا الحالي لمن يسيئون إلى البيئة. وأشار الإمام القرضاوي إلى أن المحافظة على البيئة داخلة في مقاصد الشريعة الخمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال، فإفساد البيئة إضاعة لمقاصد الشريعة الإسلامية، وهكذا.
وأما الفصل الأساس في الكتاب، والذي يبين دورَ الفنون الجمالية في رعاية البيئة في شريعة الإسلام فقد جاء بعنوان: الركائز الإسلامية لرعايةِ البيئةِ. وقد ذكر فيه شيخنا الإمام ثماني ركائز أساسيّة، هي:
التشجير والتخضير: فهناك آيات وأحاديث كثيرة تحض على الغرس والزرع، يقول النبي ﷺ: «من نصب شجرة، فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر، فإن له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل»13.
العمارة والتثمير: ويأتي في مقدمتها إحياء الأرض الموات وتثمير الثروات وتنمية الموارد؛ ولذا اعتبر الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه «الذريعة إلى مكارم الشريعة» أن عمارة الأرض أحد مقاصد خلق الإنسان؛ ولذا كان الحديثُ النبوي «من أحيا أرضاً ميتة فهي له»14. حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتزع أرضاً كانت مقطوعة إلى رجل يسمى «بلال بن الحارث المزني» لأنه لم يستطع أن يعمرها كلها.
النظافة والتطهير: على اعتبار أن الطهارة من شروط بعض العبادات خاصة الصلاة، ولذا شاعت بين المسلمين مقولة «النظافة من الإيمان» وأوردت السنة النبوية آدابا كثيرة في النظافة والاغتسال والتطيب وحسن الهندام؛ خاصة في المناسبات العامة كصلاة الجمعة والعيدين، وحثت على إماطة الأذى عن الطريق.
المحافظةُ على الموارد: يقول تعالى ﴿ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها﴾. [الأعراف: 56] والإفساد يكون بالإتلاف وتفويت المنافع أو التلويث والإسراف، أو بإشاعة الظلم والباطل والشر؛ ولذا نهى النبي ﷺ رجلاً أن يذبحَ له شاةً حلوباً. وفي السُّنةِ إنذارٌ لمن يقتل طيراً أو حيواناً بغير منفعة، أو يتخذ شيئاً فيه روح هدفًا للتصويب عليه، كما أن بها حثا على الاستفادة بجلد الميتة.
الحفاظ على صحة الإنسان: وهناك عدد كبير من النصوص الشرعية من قرآن وسنة تدعو إلى الحفاظ على الصحة؛ بدءاً من الدعاء بطلب العافية، ومروراً بالوسائل التي تجلب العافية وتحافظ على سلامة البدن، وحتى التعامل الإيجابي مع المرض في حالة وقوعه والمحافظة على البيئة حتى لا تنتقل عدوى المرض إلى الآخرين.
الإحسان إلى البيئة: والإحسان كلمةٌ تتضمن الإتقان والشفقة والإكرام، فقد كان النبي ﷺ يُميل للقطّة الإناءَ حتى تشربَ ثم يتوضأ بفضلها. وكان بعض الخلفاء مثل عمر بن عبد العزيز يكتب إلى عماله: «ألا يُحمّلوا الإبل فوقَ ما لا تطيق وألا يضربوها بالحديد».
المحافظة على البيئة من الإتلاف؛ حيث نهى الإسلام عن الإتلاف البيئي للأحياء والنباتات والعمران سواء كان ذلك بدافع القسوة أو الغضب أو العبث أو الإهمال أو في العمليات الحربية؛ لذا كان المؤرخ الفرنسي «جوستاف لوبون» يقول: «ما عرف التاريخ فاتحاً أعدلَ ولا أرحم من العرب».
حفظ التوازن البيئي: فمما لا شكّ فيه أن الله تعالى خلق كلَّ شيء في هذا الكون بحســاب ومقدار. والكون - كما خلقه الله- متوازنٌ في نفسه، متكاملٌ بعضه مع بعض، ولو طغى فيه شيء، وجد من الكون نفسه ما يرد طغيانه، ويعيد الأمور إلى الموازين القسط. وإنما يختل التّوازن في الكون وفي الحياة بتدخّل الإنسان غير المسؤول، وعمله غير المحسوب، وغير المشروع. وتغييره لفطرة الله تعالى في نفسه وفي الكون من حوله، ومجاوزته لحدّه في التّعامل مع المخلوقات الأخرى.
وختم كتابه القيمَ بالحديث عن الأخطار على البيئة، مثل: خطرِ التلوث، وخطر استنزاف الموارد، وخطر اختلال التوازن، وظهور الفساد في البر والبحر وأسبابه، ووسائل إسلامية معاصرة لرعاية البيئة، مثل: تربية النشء على الوعي البيئي، وتبصيره بحقيقة الموقف الإسلامي الأصيل من البيئة ورعايتها، وتثقيف الجماهير عبر وسائل التثقيف المختلفة، وإيقاظ الضمير الديني في رعاية البيئة. كما تحدث عنها في واقعنا التاريخي، وبهذا تكتمل منهجية الكتاب والموضوعات التي يمكن أن تتناول فيه.
7) رسالة «الإسلام والفن»، وحلقة فضائية عن «الإسلام والفن»
أما رسالة «الإسلام والفن»15 فهي مستلةٌ من كتاب:«ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»؛ الفصل العاشر منه، كما سبقت الإشارة أكثر من مرة. وأما حلقة: «الإسلام والفن»؛ فقد كانت إحدى حلقات برنامج «الشريعة والحياة»، وهي مأخوذة من بعض ما سبق، وليس فيها جديد عما أودعه الشيخ كتبه ورسائله وفتاويه.
8) كتاب: «بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين»
خصص الشيخ في هذا الكتاب فصلاًبعنوان: «أصالة لا رجعية وتحديث لا تغريب»، وقد تحدث فيه عن عدد من الأمور، منها الفن، وقال فيه16: «لعل الفن هو أكثر ما يُشغب به على دعاة «الحل الإسلامي» فهم يقولون: إنكم تدعون إلى حياةٍ تحرم فيها البسمة على كل فم، والبهجة على أي قلب، والزينة في أي موقع، والإحساس بالجمال في أي صورة. وأحب أن أقول: إن هذا الكلام لا أساس له من دين الله. وإذا كان روح الفن هو شعور بالجمال، والتعبير عنه، فالإسلام أعظم دين -أو مذهب- غرس حب الجمال والشعور به في أعماق كل مسلم. وقارئُ القرآن يلمس هذه الحقيقة بوضوح وجلاء وتوكيد، فهو يريد من المؤمن أن ينظر إلى الجمال مبثوثاً في الكون كله، في لوحات ربانية رائعة الحسن، أبدعتها يد الخالق المصور، الذي أحسن خلق كل شيء، وأتقن تصوير كل شيء: ﴿الَذِي أَحْسَنَ كلَ شَيءٍ خَلَقَه﴾ [السجدة: 7]، ﴿مَا تَرَى فِي خَلُقِ الرحمَن مِن تَفَاوت﴾ [الملك: 3]، ﴿صُنع اللَهِ الذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيء﴾ [النمل:33]. ثم نرى القرآن الكريم يلفت الأنظار، وينبه العقول والقلوب، إلي الجمال الخاص لأجزاء الكون ومفرداته... ويورد الشيخ هنا آيات تشير إلى جمال السماوات والأرض والحيوان والإنسان».
ثم يقول الشيخ : «إن القرآن بهذا كله، وبغيره، يريد أن يوقظ الحس الإنساني، حتى يشعر بالجمال الذي أودعه الله فينا وفي الطبيعة من فوقنا، ومن تحتنا، ومن حولنا، وأن نملأ عيوننا وقلوبنا من هذه البهجة، وهذا الحُسن المبثوث في الكون كله.
وبعض الحضارات تغفل هذا الجانب، وتوجه أكبر همها إلى محاولات الإنسان إلى نقل جمال الطبيعة على حجر أو ورق، أو غير ذلك، فهو يرى السماء أو البحر أو الجبل، أو الأنعام، ولا يلتفت إلي فيها من سر الجمال الإلهي، وإنما يلتفت إليها حين تنقل إلى لوحة، أو صورة مشكلة، فليت شعري أيهما أهم وأقوي تأثيراً في النفس البشرية: الأصل الطبيعي أم الصورة المقلدة؟.
إن الإسلامَ يحيي الشعور بالجمال، ويؤيد الفن الجميل، ولكن بشروط معينة، بحيث يصلح ولا يفسد، ويبني ولا يهدم، وقد أحيا الإسلام ألواناً من الفنون، ازدهرت في حضارته وتميزت بها عن الحضارات الأخرى مثل فن الخط والزخرفة والنقوش: في المساجد، والمنازل، والسيوف، والأواني النحاسية والخشبية والخزفية وغيرها. كما اهتم بالفنون الأدبية التي نبغ فيها العربُ من قديم، وأضافوا إليها ما تعلموه من الأمم الأخرى. وجاء القرآن يمثل قمة الفن الأدبي، وقراءة القرآن وسماعه عند من عقل وتأمل إنما هما غذاء للوجدان والروح لا يعدله ولا يدانيه غذاء، وليس هذا لمضمونه ومحتواه فقط، بل لطريقة أدائه أيضاً، وما يصحبها من ترتيل وتجويد وتحبير تستمتع به الآذان، وتطرب له القلوب، وخصوصاً إذا تلاه قارئء حسن الصوت، ولهذا قال النبي ﷺ لأبي موسى: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود» رواه البخاري والترمذي17.
المبحث الثاني: الفنون عند الإمام القرضاوي: نظرات تحليلية
في هذا المبحثِ سنتأملُ منجز الشيخ الإمام في مجال الفنون، وندون ما لاحظناه عليه من معالم وخصائص، من خلال تدبرنا في هذا المنجز وملامحه المتنوعة، وهو منجز ليس قليلاً، لا من حيث الكم، ولا من حيث الكيف، ونذكر أهم هذه الخصائص والمعالم على النحو الآتي باختصار وتركيز:
أولا: تناولُ الشيخِ للقضية بمنظورها الكوني الفلسفي الفطري
حينما تعرضَ الشيخ لقضية الفنون وتجلياتها نظرَ إليها من منظور فلسفي تأملي جمالي، استعرض فيه آيات الكون والخلق في القرآن الكريم، وما فيها من جمال آيات خلق السموات والأرض، والشمس والقمر، والنجوم والجبال، والشجر والدواب، والليل والنهار، ومدى التناسق والجمال في هذا كله؛ حتى في الحيوانات التي جعل الله للناس فيها جمالاً حين يريحون وحين يسرحون . . فهذا ما عني القرآن بالتنبيه عليه، وتأكيده في أكثر من موضع؛ فهو -كما يقول الشيخ- يلفت النظر بقوة إلى عنصر «الحُسْن» أو «الجمال» الذي أودعه الله في كل ما خلق، إلى جوار عنصر النفع، أوالفائدة فيها. كما أنه شرع للإنسان الاستمتاع بالجمال أو الزينة مع المنفعة أيضًا، فحين يهتم الإنسان بالفن والجمال ويمارسه وفق الشرع الشريف فإنما يتناسق في هذا مع الكون المملوء بجمال الله وجلاله وكماله.
كما أنه يبين أن المنطلقَ لقضية الفنون إنما هو إشباعُ حاجات الإنسان، وتلبية الجانب الفطري فيه. فهو في بداية الفصل العاشر من كتابه «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»، يقول: «إن الإسلام دينٌ واقعي، فهو يتعامل مع الإنسان كله: جسمه وروحه، وعقله ووجدانه، ويطالبه أن يغذيها جميعًا، بما يشبع حاجتها، في حدود الاعتدال»18.
وفي فتاوى معاصرة ـ الجزء الأول ـ قال بشكل واضح: «وإذا كان حبُّ الغناءِ غريزة وفطرة فهل جاء الدين لمحاربة الغرائز والفطر والتنكيل بها؟ كلا، إنما جاء لتهذيبها والسمو بها، وتوجيهها التوجيه القويم، قال الإمام ابن تيمية $: إن الأنبياء قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها»19.
وتجدرُ الإشارةُ هنا -تعزيزاً للجانب الفطري في الفن- إلى ملمح مهم في شخصية الشيخ نفسه؛ يعرفه كلُّ من عايشه وخبر شخصيته، وهو أن الشيخ الإمام يحمل بين جنبيه نفسًا تحبُّ الجمال، وتأنس بالفنون المشروعة، حتى إن علاقاته بتلاميذه وأترابه وشيوخه فيها لمسات جمالية. ترى ذلك في الحديث معهم، والتواضع بينهم، والسؤال عن أحوالهم والتباسط مع الصغير والكبير منهم. بل إن نظرته للنساء باعتبارهن عنصرًا أساسيًّا في هذه الحياة أيضا نظرة جمالية، وأسلوبه في الكتابة والتعبير أسلوبُ فنانٍ يحب الجمال، ونظرته للدنيا والآخرة لا تخلو من حيثية جمالية، وهكذا فإن ما كتبه الشيخ عن الفنون هو -في جانب منه- أثر من آثار نفسه وفطرته التي يُعتبرُ الفن والجمال جزءًا لا يتجزأ منها.
ثانيا: رعاية المقاصد في تناول الفنون
من خصائص التأليف والتناول عند شيخنا الإمام للقضايا والأفكار والمسائل بصفة عامة أنه يرفع لواء المقاصد، ويحكّم فكر المقاصد، ويسعى تحت ظلال المقاصد، ولقد كتبتُ كتابا عن: «رعاية المقاصد في منهج القرضاوي»؛ بينت فيه ذلك، واستقصيته في المجالات التي كتب فيها.
والفنون، وما قدمه المسلمون فيها من منجز حضاري بشكل خاص؛ كان متلبسا بهذه الفكرة -فكرة المقاصد- وكان يدور الشيخ معها، سواء في التنظير والتأصيل، أو في التمثيل والتطبيق.
فحين يتحدث عن جمال الكون وتلبية الإسلام للاحتياجات الإنسانية؛ فإنما يتحدث عن مقصد كبير واسع، وهو تحقيق الاتساق التشريعي الإسلامي مع خلق الكون والإنسان والحفاظ على فطرته، وهذه مقاصد كلية.
وحين يتحدثُ عن الألعابِ الإليكترونية يكتب عن فوائدها، يقول في فقه اللهو والترويح: «تشير العديد من الدراسات إلى أن ألعابَ الكومبيوتر تؤدي إلى الراحة والتدريب والتعاون والتنظيم وإعطاء الثقة بالنفس. أما جديد هذه الدراسات الحديثة فهو تركيزها على الذكاء. ومع ذلك يصر تقرير وزارة الداخلية البريطانية الذي صدر بهذا الشأن على ضرورة مراقبة الأهل؛ أي ترك الطفل يلعب على الكمبيوتر مع مراقبته؛ إذ إن هناك خيطاً رفيعاً يجب الانتباه إليه: هو الفاصل بين الفائدة والضرر من ألعاب الكومبيوتر والفيديو»20.
وحين يتحدث عن الألعاب الرياضية يكتب عن أهداف التربية البدنية، فيقول: «والتربية البدنية -كما شرعها الإسلام- تقوم على تحقيق عدة أهداف:
1) الصحة والسلامة من الأمراض والآفات؛ ولهذا أُمرنا أن نسأل الله العفو والعافية، وكانت العافية من أعظم النعم؛ ولهذا فرض الإسلام الطهارة والنظافة والوقاية.
2) المرونة والسرعة في حركة الجسم، ولهذا رغَّب في أنواع من الرياضات كانت ميسورة للناس في ذلك الوقت، مثل ركوب الخيل، والسباحة، والرماية، ونحوها.
3) القوة والصلابة، فلا يريدُ الإسلام الجسمَ المترهل، أو الجسم الضعيف، بل قال الرسول الكريم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»21. ويدخل هذا في عموم قوله تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾ [الأنفال: 60]، ومنها قوة الأجسام.
4) الخشونة والتحمل، فلا يريدُ الإسلام الجسم المترف، الذي لا يستطيع تحمل المشقة إذا طلبت منه، ولا يصبر على الشظف والخشونة إذا تعرض لها قسرًا ... ولهذا حرم على الرجل لبس الحرير الخالص أو الغالب، وعدم التحلّي بالذهب؛ ليبقي للرجل خشونته اللائقة برجولته.
وعلى هذا الأساس يجب أن ننظر إلى الحركة الرياضية: أنها يمكن أن تساهم في تحقيق أهداف التربية الإسلامية في شأن الإنسان، وأن ندخل عليها من الإضافات والتعديلات، بحيث يؤديها الإنسان، ويعتبرها عبادة تقربه إلى الله، ما دامت مقترنة بنية صالحة، وهدف نبيل: أن يكون مؤمناً قوياً، ويدافع عن الحق، ويردُّ الأذى عن نفسه وغيره، وأن يشارك في قوة المجتمع الذي ينتمي إليه، حتى لا يطمع فيه الطامعون22.
وحين تحدث عن سباق الخيل قال: «ومن الرياضات التي عُني بها الإسلام، وأولاها اهتماماً: ركوب الخيل والمسابقة عليها، لأنها تربي في ممارسها خلق الفروسية، وتدربه على مهارات عالية. في حسن استخدامها، وتوظيفها لأهداف عليا، مثل الجهاد في سبيل الله، ومطاردة أعداء الدين والأمة، وقال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60].23
وعند حديثه عن الترويح وعلاقته بالجهاد، قال: «وقد لاحظت أن جمهور الفقهاء يجعلون أساس المشروعية في المسابقات المتنوعة: هو إعانتها على الجهاد في سبيل الله، وهذا صحيح ومسلّم إذا أردنا أن نجعل من هذه المسابقات طاعة وقربة لله تعالى. باعتبارها وسيلة معينة على الجهاد، وكل ما يعين على الطاعة فهو طاعة، وما يساعد على الجهاد فهو جهاد. ولذا قال ﷺ: «من جهّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا»24. ولكنا نريد أن ننظر إلى هذه المسابقات من زاوية أخرى، ولا نحصرها في زاوية الجهاد والإعانة عليه، وهي: زاوية اللهو واللعب والترويح؛ فليس كل من يزاول هذه الرياضات والمسابقات ينوي بها التقوّي على الجهاد، وإعداد العدة له بممارسة كل ما يؤدي إلى القوة البدنية، والقوة العسكرية، والقوة المادية. بل قد لا يقصد شيئاً إلا مجرد التلهي والتسلي واللعب وتزجية الفراغ. وإن كانت ممارسة اللهو واللعب بصفة عامة، إذا كانت في حدود الاعتدال والتكامل، وصحبتها مفاهيم وتعاليم تربوية نافعة، تمزجها بمعاني الإيمان، وتربطها بالأهداف الكبرى للأمة، ويمارسها الكثيرون بنية صالحة؛ تتحول حينئذ إلى عبادة وقربة إلى الله سبحانه. كما تتحول كل المباحات إلى قربات، ببركة النية»25.
وعند حديثه عن التصفيق بيَّن مقاصده، فقال: «والناس يستعملون التصفيق لعدة مقاصد: الأول: التنبيه... الثاني: الإطراب... الثالث: الاستحسان... الرابع: التعبد»26. وكل مقصد من هذه الأنواع له أحكامه، ولا شك أن هذه كلها مقاصد خاصة
وجزئية للفنون.
وهكذا، فإن الشيخ يتحدث عن المقاصد بألفاظها ومضامينها:وأحياناً يذكرُ اللفظَ بمعنى الوظائف كما في مقاصد التصفيق؛ وهي إشارة إلى أن الشيخ يتحرك انطلاقا من المقاصد ويكتب تحت ظلالها.
والواقعُ أن مقاصدَ الفنونِ تحتاجُ إلى دراسة؛ فالكتابة فيها جدُّ نادرة كما أشرنا من قبل، والفنون لها مقاصد تعود على أركانها الثلاثة، فمنها مقاصد تعود على الفنان، ومنها مقاصد تعود على الجمهور، ومنها مقاصد تعود على الفن نفسه، وهذا يحتاج لدراسة مستقلة وتتبع واستقصاء، وتأصيل وتفصيل.
ثالثاً: وضع الشروط والضوابط المحققة للمقاصد
ومن المعالم والخصائص التي تَميَّزَبها تناولُ الشيخ الإمام للفنون وجمالياتها أنه يضع الشروطَ والضوابط الحاكمة لممارسة الفن بما يؤدي هدفه ويجعله مضبوطاً بضوابط الشريعة، محققا ومراعيا لمقاصدها.
ففي كتابه فقه الغناء والموسيقى، وفي كتب أخرى له: ذكر الشيخ قيوداً وضوابط للغناء المشروع، منها: 1- سلامة مضمون الغناء من المخالفة الشرعية. 2- سلامة طريقة الأداء من التكسر والإغراء. 3- عدم اقتران الغناء بأمر محرم. 4- تجنب الإسراف في السماع. 5- ما يتعلق بالمستمع27.
ووضع لمشروعية الضحك والمزاح والمرح شروطاً منها -إضافة إلى ما أوردناه من قبل- : ألا يشتمل على تحقير لإنسان آخر، أو استهزاء به وسخرية منه، إلا إذا أذن بذلك ورضي. وألا يترتب عليه تفزيع وترويع لمسلم. وألا يهزل في موضع الجد، ولا يضحك في مجال يستوجب البكاء، فلكل شيء أوانه، ولكل أمر مكانه، ولكل مقام مقال. والحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب. وأن يكون ذلك بقدر معقول، وفي حدود الاعتدال والتوازن، الذي تقبله الفطرة السليمة، ويرضاه العقل الرشيد، ويلائم المجتمع الإيجابي العامل، ولا يطغى على الحقوق المفروضة لله وللناس28.
وكذلك وضع شروطا لكرة القدم، وشروطا أخرى للألعاب العقلية وشروطا للألعاب الإليكترونية، ووضع للصيد شروطاً، وهذه الاشتراطات منها ما يتعلق بالصائد، ومنها ما يتعلق بالمصيد، ومنها ما يتعلق بما يكون به الصيد كالآلة الجارحة ولها شروطها، والحيوان الجارح كالكلب وله شروطه أيضا، سبق أن أوردناها من قبل.
ومن المسالك والطرق التي تضعُ أيدينا على مقاصد الفنون ونستثمرها
منها: التأملُ في الشروط والضوابط التي يضعها الفقهاء؛ حيث يضعونها لضبط المسألة وترشيدها لتقوم بتحقيق أهدافها ومقاصدها، وهذه وظيفة وضع الشروط والضوابط.
رابعاً: التناولُ الفقهي العميقُ الهادئ
من معالم تناول الشيخ لقضية الفنون وجمالياتها؛ أنه عميق السبر والتأمل، وبعيد النظر في النصوص -نصوص القرآن والسنة- يتناول الآراء وينظر في الأدلة نظراً هادئا غير نظر المتشنج ولا المحمول بآراء المتسرعين الواقعين تحت ضغوط الواقع، بل عرْض الفقيه المتمكن المحيط بآراء المؤيدين والمعارضين، وسوق أدلتهم ومناقشتها مناقشة فقهية أصيلة.
ومن الإشارات التي تجعلك تؤمن برسوخ الشيخ في التناول الفقهي أنه يضع قبل تناول أي قضية -ومنها الفنون- المبادئ العامة والتصورات الكلية الحاكمة لها، والتي يقوم على أساسها تناول القضية. ومثال عام على ذلك: ما أورده في مقدمات كتاب «الحلال والحرام »من مبادئ الإسلام في شأن الحلال والحرام. أما المثال الخاص بقضية الفنون؛ فهوما أورده في مقدمات رسالته «الإسلام والفن»؛ حيث ذهب إلى أن الإسلام دين واقعي يتعامل مع الإنسان كله، وأن القرآن ينبه على عنصر المنفعة والجمال في الكون، وأن المؤمن عميق الإحساس بالجمال في الكون والحياة والإنسان، وأن الله جميل يحب الجمال، والقرآن معجزة جمالية، وغير ذلك.
إن ميدانَ الفقه وأدلته هو المجال الأبرز للشيخ الإمام الذي يصول فيه ويجول، ويبدئ فيه ويعيد، فيحسن فيه ويجيد؛ يقسم الآراء، ويورد الأدلة، ويناقشها مناقشة الفاهم القدير، ويرد ما يستحق الرد منها رد الناقد البصير. يقدر جهود السابقين لكنه لا يقدسها. ويخالف الفقهاء الكبار مع رعاية الأدب وبيان السبب، دون تهوين ولا تهويل.
وأحيل القارئ هنا إلى قضية واحدة من قضايا الفنون وهي قضية الغناء والموسيقى، وكيف تناولها في كتابه «فقه الغناء والموسيقى»، وكيف أورد الآراء وأدلة كل رأي، وكيف ناقش بهدوء ورسوخ أدلة من رأى مناقشتهم، وكيف رجح الرأي
الذي رجحه وبناه بناء مشيدا على النظر الصحيح والفكر الفسيح والأدلة الواضحة والبراهين الساطعة.
قارن هذا بمنتقدي الشيخ، الذين انتقدوه في هذه القضية بالذات، ورموه زوراً أنه يُحِلُّ الغناء كلَّ الغناء، حتى بصورته التي يُعرض بها على أغلب الشاشات، وسفهوا رأيه وجرحوا شخصه، مما حمله أن يقول في كتابه فقه الغناء والموسيقى: «ومن قرأَ ما كتبته من قديم في كتابي «الحلال والحرام في الإسلام»، أو ما كتبته في كتابي «فتاوى معاصرة»، أو ما كتبته في فصل «اللهو والفنون» من كتابي «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده»، وكذلك في رسالة «الإسلام والفن» من رسائل ترشيد الصحوة الإسلامية... من قرأ ذلك كله، فسيرى بوضوح أني لم أطلق الإباحة يوما ما؛ بل قيدت الإباحةَ بقيودٍ، وضبطتها بضوابط، من حيث الكم، ومن حيث الكيف، ومن حيث المضمون، ومن حيث الشكل والأداء، ومن حيث ما يصحب الغناء من أمور قد تنقله من الحل إلى الحرمة، ومن الجواز إلى المنع.
وبهذا أعلن من أول الأمر أن الغناءَ بصورته التي يقدم بها اليوم في معظم التليفزيونات العربية والقنوات الفضائية، بما يصحبه من رقص وخلاعة وصور مثيرة لفتيات مائلات مميلات، كاسيات عاريات، أو عاريات غير كاسيات، أصبحت ملازمة للأغنية الحديثة... الغناء بهذه الصورة قد غدا في عداد المحرمات بيقين، لا لذاته، ولكن لما يصحبه من هذه المثيرات والمضلات. فقد تحول الغناء من شيء يسمع إلى شيء يرى، وبعبارة أخرى تحول من غناء إلى رقص خليع29.
ومن ثمرات هذا التناول الفقهي الرصينِ أن الشيخَ الإمامَ لم يتأثر في قضايا الفنون بالبيئة التي عاش فيها، وهي بيئة الخليج الذي يغلب عليها التشدد في هذه القضايا وتلك المسائل؛ حيث عاشَ فيها ما يزيد على نصف قرن، وكان يسعه أن ينزل على آرائها ولا يخالف ما مشت عليه الفتوى فيها، لكنه تجرد لنصوص القرآن والسنة، واتبع الدليل الواضح، ودار معه حيث دار، ولم يدر مع أهواء العوام ولا ما يطلبه المستمعون، كما ينشأ كثير من الفقهاء على آراء لا يسعه أن يخالفها حتى لو كان الدليل الصحيح بخلافها، أو كما يكتب البعض ويخطب وفق مرادات الناس، لا مرادات رب الناس.
خامساً: الانفتاح على المدارس الفقهية قديماً وحديثاً
في قضية الفنون بما فيها من أنواع متعددة وجدنا الشيخ لا ينكفئُ على المذاهب الفقهية فحسب؛ على جلالتها وعظيم بناء مناهجها وآرائها، وإنما فتح نفسه على مدارس الفقه فيما قبل المذاهب، فنجده يورد آراء للصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ويورد آراء المذاهب الأربعة، كما أورد في قضية الغناء والموسيقى في الكتاب الذي خصصه لذلك، وقضية اللعب بالشطرنج في كتاب «فقه اللهو والترويح»، وغير المذاهب الأربعة مثل ابن حزم وغيره. ثم نجده يستفيد من المكتبة الفقهية المعاصرة، فيوظف آراء فقهاء العصر لخدمة رأيه الذي أقام عليه أدلته المبنية على النصوص والمقاصد. ويرجع إلى مدونات الفقه الإسلامي الأصلية والتبعية، وإلى موسوعات التفسير بأنواعه ومدارسه، وإلى شروح السنة المختلفة، وإلى دراسات المحدثين والمعاصرين.
بل إنه يفيد من العلوم جميعاً في التأصيل للفن وجمالياته، كما رأينا في كتابه الماتع «رعاية البيئة في شريعة الإسلام»؛ حيثُ تحدث عن تأصيل رعاية البيئة من خلال خمسة علوم: علم أصول الدين ورعاية البيئة. علم السلوك ورعاية البيئة. علم الفقه ورعاية البيئة. علم أصول الفقه ورعاية البيئة. علوم القرآن والسنة ورعاية البيئة.
ومن شأن هذا الانفتاح أن يمنح الفقيه سعة في مساحات الحركة، وآفاقا واسعة في الآراء وحيثياتها ومسوغاتها، مما يجعل الفقيه أكثر قدرة على الاتساق مع نصوص الشرع، والتحقيق لمقاصد الشرع، والتلبية لحاجات الناس.
سادسا: شمول التناول لأنواع الفنون
من المدهش في تناول الشيخ لقضية الفنون أنه استوعب الحديث عنها بأنواعها، وهذا أمر يدهشك كلما بحثت في موضوع من الموضوعات التي ألف فيها الشيخ بما يضع يدك حساً ونفساًعلى موسوعيته ووعيه بجوانب القضية التي يتحدث فيها. وربما أضاف إليها ما لم يكتبه أصحاب هذا الفن من الأنواع، والجهات والزوايا التي يُنظر إلى القضية منها.
وهذا الاندهاش يجعلني أقول باطمئنان: إن الشيخ الإمام يوسف القرضاوي له سبق وتفرد في عصره وغير عصره في تناوله لقضايا الفن والجمال؛ حيث لم يتحدث أحد من القدماء عن الفنون بهذه السعة والعمق، ولا ألف فيها أحد من المعاصرين بهذا الشمول والتوازن.
يكفي فقط أن تطالعَ فهرس موضوعات كتاب «فقه اللهو والترويح»، الذي يعتبر متمماً لكتاب فقه الغناء والموسيقى؛ لترى مدى الشمول الذي غطى كل ما يتصل باللهو والترويح، منها ما يتصل بالقديم، ومنها ما يتصل بالحديث والمعاصر، فقد تناول الفهرس ثمانية فصول بما احتوته تحتها من فروع وعناوين، جاءت على النحو الآتي:
الأول: اللهو والترويح بالفكاهة والمرح والإضحاك، وجاء فيه: الدين والضحك والمرح، وتحدث فيه عن: حاجة الإنسان إلى اللهو، ورسول الله هو الأسوة، والصحابة الفكاهيون (الكوميديون)، والحزن عند بعض المتصوفة، وحدود المشروعية في الضحك والمزاح، وفن الفكاهة والمرح (الكوميديا)، والفكاهة والمرح في واقع المسلمين.
الثاني: اللهو والترويح باللعب، وتحدث فيه عن: ألعاب الفروسية، والحاجة إلى اللعب، وألوان اللعب لدى الشعوب، وموقف الإسلام بما يجيزه من الألعاب، وما يمنعه من ألوان اللعب، وحكم اللعب بالنرد، والقمار قرين الخمر، واليانصيب ضرب من القمار، وألعاب الفروسية، ومسابقة العَدْو [الجري على الأقدام]، والمصارعة، واللهو بالسهام [التصويب]، واللعب بالحراب، وركوب الخيل، والسباحة.
الثالث: اللهو والترويح بالألعاب الرياضية، وجاء تحته: أهداف التربية البدنية، وألعاب العصر، وألعاب الكرة، وضوابط وشروط لكرة القدم، وألعاب القوى، وألعاب الدفاع عن النفس، ورياضة (اليوجا)، والرياضات التي تتضمن مخاطرات عالية، 1- تسلق قمم الجبال. 2- وهل يقاس على ذلك: تسلق العمارات العالية؟ 3- سباق السيارات. 4- ألعاب (السيرك). 5- التناطح بالسيارات. 6- الملاكمة والمصارعة. 7- ملاعبة الأفاعي. قاعدة في ألعاب المخاطرات. 7- التحريش بين الحيوانات.
الرابع: اللهو والترويح بالألعاب العقلية، وجاء فيه: الشطرنج، وأحاديث تحريم النرد، واللعب بالورق (الكوتشينة)، ولعبة (الدومينو)، والألعاب الكرتونية، وألعاب الكمبيوتر، ويمكن تقسيم هذه الألعاب إلى: 1- ألعاب المغامرات. 2- ألعاب الإثارة والتشويق. 3- ألعاب القتال. 4- الألعاب الرياضية. 5- الألعاب الإستراتيجية والتخطيطية. 6- ألعاب الشدة والطاولة. ومخاطر الألعاب الإلكترونية: المخاطر الصحية والسلوكية، والشروط التي يجب مراعاتها في ألعاب الكمبيوتر، وأخيرا فوائد الألعاب الإلكترونية.
الخامس: الرقص والتصفيق، وجاء تحته: الرقص، والرقص المباح، والرقص المحظور، ورقص النساء (الباليه) أمام الرجال، والمراقصة بين الرجال والنساء، ورقص الصوفية، والتصفيق، والتصفيق للطرب أو للاستحسان.
السادس: الصيد والقنص، وشروط الصيد وفيها: ما يتعلق بالصائد، وما يتعلق بالمصيد، وما يكون به الصيد. والصيد بالسلاح الجارح، والصيد بالكلاب ونحوها.
السابع: اللهو والترويح بالأعمال الدرامية، وجاء فيه: دخول السينما، والمسلسل الكرتوني (البوكيمون)، والملاحم الشعبية.
الثامن والأخير: اللهو والترويح بالمسابقات، وفيه: سباق الخيل، وسباق الهجن، والمسابقات التي تُجرى عن طريق الهاتف، والتذاكر والكوبونات، وبين الجهاد والترويح. ا. ھ.
فانظر الشمول والإحاطة التي يتحدث بها الشيخ عن الفنون واللهو والترويح بالأنواع المختلفة والأشكال المتعددة، فهذا فن مرئي وهذا فن مسموع، هذا فن روحي وهذا فن بدني وآخر عقلي، هذا فن رسمي وهذا فن شعبي، هذا فن غربي وهذا فن شرقي، هذا فن فردي وهذا فن جماعي، هذا فن قديم وهذا فن عصري، هذا فن للرجال وهذا فن للنساء، هذا فن بالبدن كله، وهذا فن بعضو من أعضاء البدن، هذا فن حركي وهذا فن لغوي، هذا فن محلي وهذا إقليمي وهذا دولي، هذا فن نافع وهذا فن ضار، هذا فن مأمون وهذا فن خَطِر، هذا فن حلال وهذا فن حرام.
إن هذا التناول الشامل وبهذه الأبعاد المتنوعة والآفاق المختلفة، وتحت كل فن من هذه الفنون تفصيلات وشروط وضوابط وأنواع وكيفية - لَتَدُلُّ دلالة قاطعة على موسوعية الشيخ وعمق وعيه بما يدور حوله في الحياة والأحياء.
سابعاً: استيعاب الفنون والألعاب العصرية
هذه الخاصية منبثقة من خاصية «الشمول»؛ فمن الفقهاء من يتحدث عن أمور أو فنون ربما انتهت وانقرضت، ومنهم من يتحدث عن قضايا ماتت ومات أهلها، ولم يعد لها وجود، ولا للحديث عنها أثر في حياة المسلمين، وفي مقابل ذلك يُغيِّب واقعَه وما يموج فيه من أفكار، أو يوجد به من فنون ولا يبين أنواعها وأحكامها.
أما شيخنا الإمام القرضاوي فهو ابن عصره، يهتم بقضايا عصره الحية، وبمشكلات أمته الواقعية، وهي إحدى المعالم التي صنعت مرجعيته ورمزيته وإمامته في الأمة. ومن ذلك الفنون وقضاياها التي تحدث عنها، فالشيخ قبل نصف قرن كان يتحدث عن فنون تراثية في كتابه الحلال والحرام، وعن الغناء والموسيقى واللعب بالشطرنج والسهام والحراب والسباحة وركوب الخيل والرمي، وفي الوقت نفسه يتحدث في كتابه فقه اللهو والترويح عن سباق الهجن ومسابقات الهاتف والتذاكر والكوبونات، والألعاب الإليكترونية ومخاطرها، وألعاب السيرك، والتناطح بالسيارات واليوجا، وملاعبة الأفاعي والسيرك، والفنون الشعبية والغربية، وغير ذلك من الألعاب العصرية.
وفي حديثه عن رعاية البيئة تحدث عن وسائل إسلامية معاصرة لرعاية البيئة، مثل: تربية النشء على الوعي البيئي، وتبصيره بحقيقة الموقف الإسلامي الأصيل من البيئة ورعايتها، وتثقيف الجماهير عبر وسائل التثقيف المختلفة، وإيقاظ الضمير الديني في رعاية البيئة30.
بل إن الشيخ في كتابِ «فقه الغناءِ والموسيقى» يتحدث عن أنواع من الفن عجيبة ولا يتوقع منه أن يوردها في كتابه لعاميتها وشعبيتها، قال: «وفي الأعصر الماضية استطاع المسلمون أن ينشئوا لأنفسهم ألوانا من «طيبات السماع» يروحون بها عن أنفسهم، ويجملون بها حياتهم، وخصوصاً في القرى والريف. وقد أدركنا ذلك في عهد الصبا ومطالع الشباب. وكلها ألوان فطرية نابعة من البيئة، معبرة عن قيمها، ولا غبار عليها.
ومن ذلك: فن المواويل، يتغنى بها الناس في أنفسهم، أو يجتمعون على سماعها، ممن كان حسَن الصوت منهم، وأكثرهم يتحدثُ عن الحب والهيام والوصل والهجران، وبعضها يتحدث عن الدنيا ومتاعبها، ويشكو من ظلم الناس والأيام، إلخ. وكان لها تأثير بالغ على نفوس الناس.
وأكثرهم كان يتغنى بها بغير آلة، وبعضهم مع (الأرغول)، ومن هؤلاء الفنانين الفطريين: من كان يؤلف (الموال) ويلحنه ويغنيه في وقت واحد.
ومنها: قصص البطولة، التي تتغنى ببطولات بعض الأبطال الشعبيين:أبطال الكفاح، أو أبطال الصبر؛ يسمعها الناس، فيطربون بها، ويرددونها، ويكادون يحفظونها عن ظهر قلب. يعرف المصريون في ذلك: قصة (أدهم الشرقاوي)، و(شفيقة ومتولي)، و(أيوب المصري)، و(سعد اليتيم) وغيرها.
ومنها: الملاحم الشعبية للأبطال المعروفين، مثل (أبي زيد الهلالي) و(سيرة بني هلال)، التي كان يجتمع لها الناس، ليسمعوا القصة، ويستمعوا معها إلى أشعار أبطالها على نغمات (الرَّبَابَة) من (الشاعر الشعبي)، الذي تخصص في هذا اللون، وكانت هذه الملاحم لها عشاقها وتقوم مقام (المسلسلات) في هذا العصر، وقد شهدتها في صباي واستمتعت بها مع أبناء قريتي.
ومنها: أغاني الأعيادِ والأفراحِ والمناسبات السارة، مثل: العرس، وولادة المولود، وختان الصبي، وقدومِ الغائب، وشفاء المريض، وعودة الحاج، ونحوها. وللناس في ذلك أغان معروفة ومحفوظة، ألفها أناس مجهولون، ولا يزالون يؤلفون بين الحين والحين أشياء جديدة، تمتع الناس، ويسير بها الركبان، يتناقلونها بعضهم من بعض.
وقد ابتكر الناس أغاني وأهازيج لحنوها وغنوها بأنفسهم في أحوال ومناسبات مختلفة، مثل جني الثمار أو القطن وغيرها. ومثل: أهازيج العمال والفَعَلَة، الذين يعملون في البناء وحمل الأثقال ونحوه، مثل:
هيلا هيلا صلِّ على النبي
وهذا له أصل شرعي من عمل الصحابة، وهم يبنون المسجد النبوي، ويحملون أحجاره على مناكبهم. وهم ينشدون:
اللهم إن العيش عيش الآخرة | فاغفر للأنصار والمهاجرة |
حتى الأمهات، حين يهدهدن أطفالهن، ويهيئنهم للنوم، يستخدمنَ الغناء، ولهن كلمات مشهورة، مثل: (يا رب ينام، يا رب ينام).
ولا زلت أذكر (المِسَحرَاتِيَّة) في شهر رمضان المبارك، وهم يوقظون الناس بعد منتصف الليل بمنظومات يلذ سماعها مُنَغَّمَة مع دقات طبولهم. ومنهم من كانَ يبتكر هذه الأهازيج أو المواعظ، وكثير منها كان غايةَ في الطرافة والإمتاع.
ومن جميل ما يذكر هنا: ما اخترعه الباعةُ في الأسواق، والباعةُ المتجولون: من النداء على سلعهم بعبارات منظومة موزونة. يتنافسون في التغني بها، مثل بائع العرقسوس، وباعة الفواكه والخضروات، وغيرهم. وكل سلعةٍ منها لها عبارات تخصها وتغري بها31. ثم قال في هامش الصفحة: «لا أجد في الألحان والأغاني الشعبية ما ينكره الدين، إلا ما كانت تصنعه النائحة المستأجرة مما يهيج الأحزان، ويثير الجزع، ويحرم المصاب من الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء»32.
هذا الجمع بين تناول المسائل التراثية والفنون القديمة وبين الفنون العصرية والألعاب العصرية يضع القارئ في بؤرة العصر واهتماماته، ويضفي على منجز الشيخ الحيوية والفاعلية والتميز.
ثامناً: الانطلاق من حاجات الناس وواقعهم
لا شك أن الواقعَ واجبُ الرعاية، والفقيهُ الحق هو من يطابق بين الواقع والواجب؛ فيقرأ الواقع ثم يستنزل له ما يلائمه من الواجب، وقد كان هذا منهج فقهائنا من قديم؛ حيث عالجوا مشكلات عصرهم وقضايا زمانهم، فوجب على من يأتي بعدهم ألا يعيشَ في زمانهم هم، وإنما يعيش لزمانه وعصره وقضاياه، ولا يُغيّب قضايا الجغرافيا ويهرب لقضايا التاريخ.
وحاجات الناس عند الشيخ هنا تنقسم قسمين: الأول حاجات فطرية، والثاني حاجات واقعية عصرية، فالحاجات الفطرية تحدث عنها الشيخ في قضايا الفنون، وبين أن الاهتمامَ بالفنون والجمال فطرة مركوزة في الإنسان، وتلبيتها ضرورة فطرية حياتية، حتى ينسجم الإنسان مع نفسه ويحفظ فطرته، وينسجم ـ من ثم ـ مع الكون الجميل من حوله وبين يديه وتحت قدمه، حتى في الحيوانات بين القرآن ما فيها للإنسان من جمال ﴿ولكم فيها جمال﴾ [النحل:6]، وكذلك الجمادات من حوله، فليس من المعقول أن يكون كل شيء مخلوقاً بجمال وإحسان ثم لا يتطلع الإنسان إلى إرواء فطرته بالجمال؛ حفظاً لها، واتساقاً مع الكون من حوله، وقد ذكرَ هذا بشكل واضح في الفصل العاشر من كتاب «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» أو رسالته «الإسلام والفن»، وفيما كتبه من قديم في «الحلال والحرام »و«فتاوى معاصرة»، وغيرها من الكتب.
وأما الحاجات العصرية الواقعية، فقد تمثلت الاستجابة لها في الحديث عما استجد من فنون العصر وبيان أحكامها، ووضع شروطها وضوابطها لكي توفر لها التأصيل الشرعي الصحيح وفق نصوص الشريعة ومقاصدها؛ فتحدث عن الفنون العصرية التي سبقت الإشارة إليها، وانطلق من القضايا التي تناولها من مستجدات العصر وحاجات الناس.
ففي مقدمة كتابه «فقه اللهو والترويح» قال: «أما بعدُ؛ فإن موضوع اللهو واللعب، أو الترويح والترفيه، من الموضوعات الحية والمهمة، التي دخلتْ حياةَ الناس في هذا العصر بقوة، وأمسوا يواجهون منها صنوفًا وألواناً. منها الفردي ومنها الجماعي، منها الشعبي ومنها الرسمي. منها ما هو من جنس الرياضات، ومنها ما هو من جنس الفنون، ومنها ما هو من جنس الشعوذة وخفة اليد. منها ما يقرأ، ومنها ما يسمع، ومنها ما يشاهد. منها ما يمارس على مستوى فرد وآخر، ومنها ما هو على مستوى الجماهير. منها ما هو محلي أو إقليمي، ومنها ما هو دولي وعالمي. منها ما هو طيب نافع، ومنها ما هو خبيث ضار»33.
وفي مقدمة كتابه عن فقه الغناء والموسيقى قال: « إن صديقنا الشيخ صالح كامل - رئيس مجموعة دلة البركة - رجل له مبادرات طيبة في خدمة العالم الإسلامي. ومنذ أكثر من عشرين سنة سن سنة حسنة، وهي إقامة ندوات فقهية اقتصادية سنوية يجمع فيها طائفة من علماء الفقه المعنيين بشؤون المعاملات، ومعهم بعض رجال الاقتصاد والإدارة، ويتناولون في كل ندوة عدداً من الموضوعات المهمة، التي تحتاج إلى بحث ومناقشة وإلى درجة من الاجتهاد الجماعي، فتدرس هذه الموضوعات وتناقش، وتصدر في نهاية كل ندوة توصيات ينتفع بها المسلمون عامة، والمهتمون بالاقتصاد الإسلامي خاصة، وبالمصارف الإسلامية على وجه أخص. . ومنذ ثلاث سنوات اتجه فكر الشيخ صالح -حفظه الله ووفقه لصالح الأعمال- إلى موضوع لا يقل أهمية عن الاقتصاد، ويحتاج إلى فقه حي معاصر، ذلكم هو موضوع «الإعلام» وفقه الإعلام، وخصوصاً بعد أن ابتلي به الشيخ صالح، ودخل في معمعته بإنشاء راديو وتليفزيون العرب، الذي جلب عليه من النقد ما جلب، ثم إنشاء قناة اقرأ بتوجهها الإسلامي»34.
فأنت ترى هنا في الكتابين أن الدافع لتأليفهما كان لحاجة عصرية، وليس لمناقشة قضايا تراثية تاريخية ليس لها علاقة بواقع المسلمين واحتياجاتهم.
تاسعا: الاستئناس بالتاريخ والاهتمام به
ومن الخصائص المهمة التي يستظل الشيخ ويستأنس بها في كتاباته عموماً هو: الاهتمام بالتاريخ، كيف لا وهو الذي كتب «تاريخنا المفترى عليه»، وتحدث فيه عن قضايا حساسة اختلف فيها المؤرخون، وأثارت جدلا عند صدور الكتاب.
وفي حديثه عن قضايا الفنون والجمال والألعاب اهتم بالتاريخ أيضاً. ففي حديثه عن الغناء والموسيقى عقد فصلاً بعنوان: «الغناء والطرب في تاريخ المسلمين وواقعهم»، تحدث فيه عن أن العربَ عرفت الغناءَ والطربَ قديماً؛ لكنه كان محفوفاً بالخمر والمسكرات. وحين جاء الإسلام كانت الفترةُ المكيةُ كلها ابتلاءات ومحن وصبر وثبات، وكانت المرحلة المدنية مليئة بالفتوحات والمعارك، ومع هذا لم يشغلهم كل هذا عن المرح والغناء والطرب، فالأنصار استقبلوا الرسول بأناشيد مشهورة، والمسلمون في المدينة كانوا يغنون ويلهون في المناسبات والأعراس والأعياد.
بل إن الشيخ في رعاية البيئة وجمالياتها وحفظها تحدث عن رعايتها في التاريخ، وذكر من ذلك: رعاية البيئة من خلال المؤسسات الحضارية، مثل: مؤسسة الخلافة، ومؤسسة القضاء، ومؤسسة الحسبة، ومؤسسة الوقف الخيري، ومؤسسة الزكاة، ومؤسسة الفتوى والإرشاد الديني.. وأورد نماذج من عناية المحتسبين بسلامةِ البيئة ونظافتها، مثل: الحسبة على الخبازين، والحسبة على الرواسين وقلائي السمك والطباخين، والحسبة على السمانين، والحسبة على الحمامات35.
وهكذا، فإن الشيخ يستفيد من ثقافته التاريخية الواسعة في تعزيز ما يتناوله، وإثراء ما يتحدث فيه، وينتقل من التاريخ إلى الواقع؛ ليكون تناوله متكاملاً ونافعًا.
عاشراً: التكرار الملحوظ في تناول قضية الفن
الملاحظة الأخيرة التي نتحدث عنها هنا هي ملحوظة نقدية، وهي التكرار الواضح الذي لمسته بنفسي وأنا أبحث في قضية الفنون عند الشيخ؛ فهو ينقل عن الحلال والحرام فيما كتبه بعد ذلك، ويفصل فصلاً كاملاً من كتاب «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» وينشره في رسالة مستقلة بعنوان «الإسلام والفن»، ويضع في «فتاوى معاصرة» – الجزء الرابع تحديداً - كثيراً من أفكار ونصوص كتاب «فقه اللهو والترويح»، وكذلك نقل الكثير في كتابه «فقه الغناء والموسيقى» من كتبه السابقة.
وقد سأل صديقنا الأخ الشيخ عصام تليمة شيخَنا القرضاوي عن أمور في التأليف عند شيخنا الإمام، كيف يكتب، ومتى يكتب، وكيف يختار موضوعاته، ومنها قوله له في سؤاله: «وفي الآونة الأخيرة لاحظ قارئوك أن بعض أفكار ومقاطع كاملة في كتبك الجديدة مقتبسة من كتبك السابقة، فهل أتى هذا الاقتباس من باب التكرار، أم أن له سببا علميا؟».
فأجاب الشيخ عن أسئلة صديقنا الشيخ عصام، ومنها إجابته عن مسألة التكرار، ومن الإجابة نعرف أنها ملحوظة في كتبه عامة وليس في قضية الفن فحسب، ونترك الإجابة هنا للشيخ لنتعرف إلى وجهة نظره هو في هذه الملحوظة: قال: «أما عن ملاحظتك التي لاحظتها في بعض كتبي، وهي اقتباس بعض صفحات من القديم فيما كتبتُه مؤخراً. فأقول: من فضل الله علي أني لا أحب أن أكرر نفسي، كما لا أحبُّ أن أقلدَ غيري. ولا أحبُّ أن أكتب في موضوع إلا إذا كان عندي شيء جديد، أحب أن أقوله فيه، أما مجرد تكرار ما قاله الآخرون، فليس هذا من شأني.
وكثيرا ما تُطلب مني الكتابة في موضوعات معينة، فأعتذر، لأني لم يفتح عليَّ فيها بشيء أضيفه إليها. ومن نظر إلى قائمة كتبي؛ وجد كل كتاب فيها أضاف شيئاً، ابتداءً من أول كتاب دخلت به حلبة التأليف، وهو «الحلال والحرام»؛ الذي كان بشكله ومضمونه جديداً وأصيلًا، واستقبله المسلمون في العالم الإسلامي بقبول حسن، وترجم إلى لغات لا أستطيع حصرها، وقامت حوله دراسات، وقدمت أطروحات.
أما ما ذكره من يسأل عن بعض ما يلحظه من تكرار في بعض مؤلفاتي الأخيرة، فأود أن أرده إلى أسبابه: فمن هذا التكرار ما هو مقصودٌ بالفعل، مثل أخذ بعض فصول من كتب معينة، لإصدارها في رسائل صغيرة الحجم، رخيصة الثمن، ميسرة للقراءة، ولا سيما أننا في عصر يسميه بعض الناس «عصر الساندوتش»، وهذا ينطبق على الغذاء المادي، والغذاء الثقافي.
لهذا اقترح عليَّ بعض الإخوة من الدعاة المتمرسين أن أقتبسَ بعض الفصول المهمة من كتبي الكبيرة نسبياً، لأخرجها في رسائل، فاستجبت لهم، وأخذت مثلاً فصلا من كتابي «بينات الحل الإسلامي»، لأخرجه في رسالة من «رسائل ترشيد الصحوة»، وهو فصل «الدين والعلم».
وكذلك أخذتُ أكثر من فصل من كتابي «ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده» ليصدر في رسائل، مثل «جريمة الردة وعقوبة المرتد»، و«مركز المرأة في الحياة الإسلامية». كما أخذت من كتابي فتاوى معاصرة «فتاوى للمرأة المسلمة»، و«النقاب للمرأة بين القول ببدعيته والقول بوجوبه»، ونحو ذلك.
ومن التكرار: ما تقتضيه ضرورة الموضوع المكتوب فيه، فقد يكتبُ الإنسانُ في موضوع معين، ضمن جزء من كتاب، ثم يحاول أن يفرد كتاباً خاصاًكاملا في الموضوع ذاته، فلا حرج أن يستفيد المؤلف من كتاباته السابقة في الموضوع، ويضمها إلى كتابه الجديد.
مثال ذلك: أني كتبتُ عن فهم القرآن وتفسيره في كتابي «المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة». ثم صنفتُ بعد ذلك كتابي «كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟»، وفيه عدت إلى الكتابة عن تفسير القرآن بتوسع وتفصيل وتعميق، فلم يكن يسعني إلا أن أستفيد مما كتبته من قبل.
ومثل ذلك حين كتبتُ عن «المدخل إلى معرفة الإسلام»، فذكرتُ فيه عن «العقيدة وخصائصها»، واستفدتُ مما كتبته قديماً في كتابي «الإيمان والحياة». وكذلك حين كتبتُ عن العبادة، استفدت مما كتبت في «العبادة في الإسلام».
وهناك فقراتٌ معينة أقتبسها من بعض كتبي، لأضعها في موضعها من كتاب جديد، مشيراً إلى الكتاب الذي اقتبست منه، وهذا يفعله كلُّ المؤلفين36، وإذا كان المؤلف يأخذ من كتب غيره ولا حرج عليه، فلماذا لا يأخذ من كتب نفسه؟»37.
المبحث الثالث: انضباط الفنون عند القرضاوي بمقاصد الشريعة
هذا المبحثُ هو النتيجةُ العملية والنهائية لموقف الشيخ من الفنون في ضوء مقاصدها ومقاصد الشريعة؛ فبعد أن قدمنا ببليوجرافيا لمنجز الشيخ عن الفنون، وبيان حجمه وأثره، وكتبنا نظريات تحليلية ونقدية لهذا المنجز... آنَ لنا أن نسأل سؤالين موضوعيين معياريين نقديين، الأول: هل كان منجز الشيخ في قضية الفنون وجمالياتها مضبوطا بقواعد الشريعة وضوابطها ومقاصدها؟. والثاني: هل حقق الشيخ في منجزه الذي تناول فيه قضايا الفنون ومسائلها مقاصد الفنون نفسها؟ وللإجابة عن ذلك نقسم البحث إلى محورين للإجابة عن السؤالين.
أولاً: مدى انضباط منجز الشيخ في الفنون بمقاصد الشريعة وقواعدها
من خلال ما استعرضناه مما كتبهُ الشيخُ في الفنون وقضاياها وأنواعها وجدناه ملتزماً بالدليل الشرعي، من القرآن والسنة، والإفادة من آراء الفقهاء ومدارس الفقه
منذ الصحابة والتابعين، مرورا بالمذاهب الفقهية المعتبرة، وانتهاء بالدراسات
الفقهية المعاصرة.
فهناك مسائل قد تصل إلى حد الوجوب، وهناك ما هو متفق على إباحتها في الزينة والجمال والفنون، وهناك أمور أخرى متفقٌ على حرمتها في هذه المجالات، وهناك أمور مختلف فيها، وبين المحرم والواجب مسافات ومساحات.
فالأمورُ المتفق على إباحتها والمتفق على حرمتها لا تحتاج كلاما كثيرا. القولُ فيها واضحٌ، والأدلةُ عليها قائمة؛ وذلك مثل الإنشاد المروي في كتب السنة والسيرة، والشعر بما هو وسيلة للهجوم على الأعداء والدفاع عن الإسلام، وأما المحرم فكالغناء الفاحش والموسيقى التي يصاحبها فجور، والفنون التي يختلط فيها الرجال والنساء بصورة ماجنة، فكل هذا لا يحتاج لنقاش.
أما الأمورُ المختلف فيها فالشيخ يناقشها، ويبين وجه الخلاف وأسباب من يتشددون فيها، كما بين ذلك في موقف المتشددين من الغناء في كتابه «فقه اللهو والترويح»، وتحرير محل النزاع في الغناء المحرم والغناء المباح، وكذلك الألعاب والفنون المختلفة.
وفي الأمورِ المختلف فيها، أيضاً، وجدنا الشيخ الإمام يضع شروطاً وضوابط وقواعد تخرج العمل من منطقة الشبهات؛ فضلاًعن الحرام، إلى ساحة المباح والمتاح؛ ليحقق مقاصده وفوائده وأهدافه التي كان يشير إليها ويكتبها مما نقلناه عنه سلفا. فمما ذكره وهو يتحدث عن الألعاب البدنية مثل: الكاراتيه، والجودو، والتايكوندو، قال: «وتَعلُّمُ هذه الألعاب وممارستها: أمرٌ مشروع لمن يقدر عليه، ولا حرج فيه. بل قد يصبح مندوباً لبعض الناس، وهذا أمر فوقَ المباح. بل ربما يصبح واجباً على بعض الناس إذا كان يخشى خشية راجحةً: أن يتعرض للتعدي الجسدي، وكان إتقان إحدى هذه اللعب وسيلةً مناسبةً لرد الاعتداء، ودفعِ شر المعتدي. وفقا للقاعدة الشرعية التي تقول: ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ»38.
وفي الألعاب الخطرة مثل الملاكمة والمصارعة وملاعبة الأفاعي، ضبط كلامه بالقواعد فقال عن هذه الألعاب: «قاعدة في ألعاب المخاطرات: الأصل في هذه الألعاب التي تتضمن مخاطرات عالية: أن كل لعبة من هذه الألعاب إذا كان لها أصول وقواعد معترف بها عند أهلها المتخصصين فيها، والمعروفين بها، ويمكن اكتسابها وأخذها عنهم، وتعلمها منهم، ويستطيعُ أن يمهر فيها الماهرون، ويتفوق المتفوقون، كما يمكن تفادي أخطارها، أو التقليل منها، وفق سنن الأسباب والمسببات، بحيث لا يقع فيها ضرر كبير إلا نادرا . . أقول: الأصلُ في هذه الألعاب هو الجواز لمن حذقها وأتقنها، وغلب على ظنه السلامة من أخطارها. إذا كان الهدف منها مشروعاً، بحيث يهدف من وراء اكتساب هذه المخاطرة إلى إفادة المجتمع، وإفادة أفراده، ولا يهدف إلى توظيف هذه المخاطرة في إيذاء الخلق، أو ابتزازهم، أو الاعتداء على أموالهم وحرماتهم، أو ظلم الخلق، أو تأييد ظالم طاغية، أو نحو ذلك. فإن ما كان هدفه محرما فإن الوسيلة إليه محرمة، فالقاعدة: أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وما أعان على الحرام فهو حرام، فلا بد أن يكون هدفُ هذا العملِ أو هذه الرياضةِ أو هذه اللعبة مشروعاً، وأن يكونَ من ورائها نفع مرجو للاعب أو للمجتمع، يكافئ الخطر المخشوّ منها أو يزيد عليه، سواء كان نفعاً مادياً أو معنوياً»39.
هذا فضلا عن نظره العميق في الأدلة الذي تناولناه بالحديث في الخصيصة الرابعة من الخصائص في المبحث الثاني، ومناقشته الأصيلة لأدلة المخالفين، وبيان وجه الحقيقة الفقهية والمقاصد الشرعية فيما يتناوله من فنون وجماليات. ومن ذلك ما نقلناه عنه في فوائد الألعاب الإليكترونية، وأهداف التربية البدنية، وغايات سباق الخيل، ومقاصد التصفيق، وعلاقة الترويح بالجهاد، وضبط ذلك بالمقاصد والنيات.
إذن نحن أمام تناول قضية حساسة مثل الفنون؛ تختلف فيها الأنظار، وتتعدد فيها الآراء، وتتباين فيها الرؤى؛ تناولها شيخنا الإمام يوسف القرضاوي تناولا يستند إلى أدلة شرعية، وقواعد فقهية، ومقاصد عامة وخاصة وجزئية، وهو ما يجعلنا نقرر باطمئنان أن منجز الشيخ الفني كان منضبطًا بأدلة الشرع، ومرتبطًا بمقاصده، ومحكومًا بقواعده.
ثانيا: مدى تحقيق ما كتبه الشيخ في الفنون لمقاصد الفنون والشريعة
أما السؤال الثاني الذي نريد الإجابة عنه هنا فهو: هل ما كتبه الشيخ في مجال الفنون يسهم في تحقيق مقاصد الفنون، ويخدم مقاصد الشريعة؟
وللإجابة عن هذا السؤال نتحدث عن دائرتين كتب فيهما الشيخ، وقد أشرنا إليهما قبل ذلك في هذه الدراسة: الأولى: ما كتبه الشيخ في الفنون، والثانية: ما كتبه الشيخ عن الفنون.
فأما الدائرة الأولى فقد كتب فيها الشيخ مسرحيتين تاريخيتين، وديوانين شعريين. فأما «مسرحية عالم وطاغية»، قال الشيخ في مقدمتها: «ولهذا رأيت قصةَ سعيد مع الحجاج صالحة لأن تكون مسرحية ذات هدف ورسالة، وخاصة أننا كنا نصارع طغياناً كطغيان الحجاج، فما أحوجنا إلى مواقف كموقف سعيد. وكتبت المسرحية، ومُثلت في معتقل الطو.. وضاعت أخيراً. واليوم يعيد التاريخ نفسه وتتكرر المأساة ويتجدد الطغيان، ومن هنا وجدت الدافع الذي دفعني إلى كتابتها بالأمس لا يزال قائماً اليوم، بل هو أقوى، وبدأت أكتبها من جديد مستلهما تاريخ تلك الحقبة الغنية بالبطولات والمواقف الرائعة إلى جوار ما حفلت به من مظالم، وما طفحت به من تجبر وطغيان، ومستهدياً بشخصية سعيد بن جبير وما عرف به من علم وإيمان وشجاعة وثبات، سجَّلتْها لنا كتبُ الأدب والتاريخ والرجال»40.
فالمسرحية عنده فن رسالي، كما قال هو «مسرحية ذات هدف ورسالة». وهذا النوع من الفن له دوره في واقع المسلمين، وله أثره في قضية مقاومة الطغيان والاستبداد، وكلها مقاصد حسنة، وقد مُثِّلَت مسرحية عالم وطاغية – كما سبقت الإشارة - في أكثر من بلد، ولاقت قبولا حسنا، وهذا مما يدل على انتشار آثار هذه الرسالة.
وأما مسرحيةُ يوسف الصديق فهي تحكي قصة يوسف عليه السلام، وتقربها للناس، ومقاصدها مذكورة في سورتها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾. [يوسف: 111]. وتمثُّل هذه المقاصد فنيًّا هو اتساق مع الرسالة القرآنية وتحقيق لغاياتها.
وأما الديوانان: «نفحات ولفحات»، و«المسلمون قادمون»؛ فهما مفعمان بالرسالية. فيهما قصائد سياسية وقصائد احتماعية، وقصائد كونية فلسفية تأملية في الكون والحياة والموت والإنسان والأحياء، وهما يحتاجان دراسة مستقلة.
وحسبنا فقط التأمل في العنوانين: «نفحات ولفحات»؛ فهي نفحات من طريق الدعوة والحق، ومن الالتزام الصادق بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ولفحات من هجير الحياة، وظلم الاستبداد وفساد السياسيين والحكام.
كتب شاعرُنا في هذا الديوان قصائدَ في التأملِ، مثل قصائد: السعادة، ومناجاة القبر. وله قصائد في الوطنية والحماسة، مثل: يا أزهر الخير، التي كتبها في عام 1951م في توديع كتائب الأزهر إلى القنال للاشتراك في المعارك التي قادها الشباب المسلم في تلك الأيام ضد الإنجليز المحتلين. وله في المناسبات الإسلامية، مثل: النونية في ليلة القدر، والنونية في ذكرى المولد، والرائية بمناسبة مرور عشرين عاماً على الدعوة؛ حيث نظمها في عام 1948م. والرائية التي قيلت في مناسبة مؤتمر طلاب الأزهر الذي عقد بساحة الأزهر بشأن مطالب الأزهريين في عام 1952م. وله قصائد في الشعر القصصي كما في قصيدته «ثورة لاجئ» التي نظمها في عام 1962م. وله الشعر المسرحي، والشعر الملحمي وأبرزه ملحمته النونية الشهيرة، وشعر الرثاء، وغيرها من الأغراض الشعرية.
وفي هذا الديوان ستةُ أناشيد، حسبك أن تتأمل في عناوينها: يا سجون اشهدي، مسلمون، نشيد العودة، فتى القرآن، الله أكبر، أنا المسلم . . وهذه الأناشيد - فضلا عن قصيدة «يا أمتي وجب الكفاح»- صدح بها شباب الصحوة الإسلامية في أنشطتهم التربوية والكشفية والحركية في أنحاء الدنيا، وكان لها أثرها في التكوين والتربية والتنشيط والتحميس والثبات، وهو من مظاهر تحقيق فن القرضاوي لغاياته ومقاصده في نفوس المسلمين.
بل حَسْبُك من هذا الديوان «الملحمة النونية» التي تلقاها المعتقلون في قوتها شفاهة عن الشيخ حتى روَوْها عنه روايات بلغت حد التواتر؛ حيث صورت هذه القصيدة النونية ما كان يعانيه الدعاة إلى الله من تعذيب وانتهاكات، لا يمكن أن يرتكبها الإنسان في حق أخيه الإنسان، وذاعت من هذه الملحمة مقاطع شرقت وغربت حتى بلغت الآفاق، ومن ذلك المقطع الذي يخاطب فيه جمال عبد الناصر، فيقول:
قل للذي جعل الكنانة كلها | سجنًا وبات الشعبُ شر سجين |
يا أيها المغرور في سلطانه | أمن النضار خُلقت أم من طين |
يا من أسأت لكل من قد أحسنوا | لك دائنين فكنت شر مدين |
يا ذئب غدرٍ نصَّبوهُ راعيًا | والذئب لم يك ساعة بأمين |
يا من زرعت الشر لن تجني سوى | شرٍّ وحقدٍ في الصدور دفين |
سيزول حكمُك يا ظلوم كما انقضت | دول أولاتُ عساكرٍ وحصون |
ستهب عاصفةٌ تدك بناءه | دكًّا وركنُ الظلم غير ركينٍ |
بل إن أشهرَ ما في هذه النونية على الإطلاق هو المقطع الختامي الذي أصبح أنشودةً يتغنى بها الثابتون على الحق، المعتصمون بالعقيدة، المواجهون الظلم والقهر والطغيان في كل مكان وزمان؛ حيث يقول فيه:
تالله ما الطغيانُ يهزم دعوةً | يوماً وفي التاريخ برُّ يميني |
ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي | بالسوط ضع عنقي على السكّين |
لن تستطيع حصار فكري ساعةً | أو نزع إيماني ونور يقيني |
فالنورُ في قلبي وقلبي في يديْ | ربّي. . وربّي ناصري ومعيني |
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي | وأموتُ مبتسماً ليحيى دينى |
وأما ديوانه «المسلمون قادمون»، فهو عنوان رسالي بامتياز؛ يحمل رسالة الإسلام، وينشغل بهموم المسلمين، ويبشر بالأمل بأن المستقبل للإسلام، وأن المسلمين قادمون، وقد أنشدت الأجيال بعض هذه القصائد، مثل قصيدة أو نشيد «نحن الإخوان»، وغيرها.
وقد بّيَّنَ أثر شعره في مقدمة هذا الديوان وطبيعته وغاياته الشريفة التي يمكن أن يحققها، قال: «فهذه مجموعة ثانية من قصائدي، بعضها مما عثرت عليه من القديم، وبعضها مما قلته من جديد، وبعضها مزيج من القديم والجديد. ورغم اختلاف الزمان، واختلاف مرحلة العمر، فلا أحسب شعري تغير، سواء في وجهته وغاياته أم في أساليبه وأدواته. وهأنذا أقدم هذه المجموعة للقارئ المسلم، أو أقدم نفسي في هذه المجموعة، عسى أن يعيشَ معي ما عشته من مشاعر، أكثرها في جانب الألم والأسى، ولكنه ألم ينشئ الأمل، وأسى يبعث الرجاء. فمن رحم الظلام يولد الفجر، ومن هنا عشنا الصحوة، كما عشنا المحنة. وكان تطلعنا إلى غد الإسلام المشرق، بل يقينًا به. وهذا ما جعلني أختار لهذه المجموعة عنوان: «المسلمون قادمون». فقد قدر لجيلنا أن تكويه مشاعر الحزنِ والحسرةِ على مصاير المسلمين ومآسيهم التي تصابحه وتماسيه، وتراوحه وتغاديه. ولكن كان من فضل الله علينا أنه يجعل من المحنة منحة؛ ليتميز الخبيث من الطيب، ويمحص الله الذين آمنوا، ويمحق الكافرين»41.
وحسبك بهذا من رسالة للشعر وللمسرح حين تكون فنونهما عوناً للمسلمين ودعاتهم في تحقيق رسالتهم وتبليغ دعوتهم، وتربية النشء على معاني الإسلام الكبرى، وهكذا تكون مهمة الأديب والشاعر في الحياة.
وأما الدائرة الثانية فهي ما كتبه الشيخ عن الفنون، وهو ما تحدثنا عنه في الببليوجرافيا التي أحصينا فيها ما كتبه الشيخ. وعرضنا محاورها وأبرز عناوينها وقضاياها ومسائلها. وأوردنا عند كثير من المسائل الشروط والضوابط التي كان يضعها الشيخ، وما ذلك إلا لكي ينضبط كل فن بقواعده التي من خلال انضباطه بها يحققُ مقاصده، ومن ثم يسهم في تحقيق وتعزيز مقاصد الشريعة.
ولا شكَّ أن أكبرَ كلية مقاصدية تسهم الفنون فيها هي كلية حفظ النفس، وبخاصة في الجانب الحاجي والتحسيني فيها، وأحيانا يتصل الأمر بالكليات الأخرى حين يتتعلق موضوع الفن بالحديث عما يتصل به، ويدخل فيه. فقد تتحدثُ الوسيلةُ الفنية عن أمور الدين أو أمور المال أو أمور الحكم والسياسة، أو أمور العرض، وقد يكون الحديث عن مقصد اجتماعي مثل حديث شيخنا عن البيئة ورعايتها وحفظ جمالها. ولا شك أن مجموع تناول الشيخ الإمام بما وضعه من قواعد وما اشترطه من شروط، وما ساقه من أدلة، وما قرره من مقاصد، يسهم في تحقيق مقاصد الشريعة بوجه عام، ومقاصد الفنون بوجه خاص، ومن مقاصد الفنون -كما أشرنا من قبل- مقاصد تعود على الفنان، ومقاصد تعود على الجمهور، ومقاصد تعود على الفن نفسه.
ونستطيعُ أن نقولَ: إن منجزَ الشيخ الفني بما كتبه في الفنون وما كتبه عنها استطاع من خلاله أن يقدم لنا نموذجا للعالم المسلم والشاعر المسلم الذي ينضبط فنه بقواعد الشرع ومقاصده، لينبه بذلك على أهمية الفنون في الحياة، ويسهم بذلك في تحقيق بعض مقاصد الفنون التي تحدث عنها في الفرد والمجتمع والأمة، ومقاصد الشريعة الخاصة والعامة، وقد قام شيخُنا الإمام بالإسهام في هذا وذاك بنصيب جيد، والحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع
ـ الإسلام والفن، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، الطبعة الأولى، 1996م.
ـ بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الثانية، 1413ھ/1993م.
ـ الحلال والحرام في الإسلام، نشرة مكتبة وهبة بالقاهرة، 1435ھ/2014م.
ـ رعاية البيئة في شريعة الإسلام، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، الطبعة الأولى، 1421ھ/2001م.
ـ سنن أبي داود، أبو داود السجستاني، تحقيق: شعَيب الأرنؤوط - محَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430ھ/2009م.
ـ صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق: محمد زهير الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422ھ.
ـ صحيح مسلم، الإمام مسلم النيسابوري، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ.
ـ عالم وطاغية، مسرحية تاريخية، د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1974م.
ـ فتاوى معاصرة، الجزء الأول، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، الطبعة التاسعة، 1422ھ/2001م.
ـ فتاوى معاصرة، الجزء الثالث، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى، 1421ھ/2001م.
ـ فتاوى معاصرة، الجزء الثاني، د. يوسف القرضاوي، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الثالثة، 1415ھ/1994م.
ـ فتاوى معاصرة، الجزء الرابع، د. يوسف القرضاوي، دار القلم، الكويت، الطبعة الأولى، 1430ھ/2009م.
ـ فقه الغناء والموسيقى، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001م.
ـ فقه اللهو والترويح، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005م.
ـ المسلمون قادمون، د. يوسف القرضاوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى، 2000م.
ـ مسند الإمام أحمد، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرين، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421ھ/2001م.
ـ ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده، د. يوسف القرضاوي، الطبعة الأولى، مكتبة وهبة، القاهرة، 1414ھ/1993م.
ـ نفحات ولفحات، د. يوسف القرضاوي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1422ھ.
ـ يوسف القرضاوي فقيه الدعاة وداعية الفقهاء للشيخ عصام تليمة، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1422ھ/2001م.
ـ يوسف القرضاوي فقيه الدعاة وداعية الفقهاء للشيخ عصام تليمة: ، دار القلم، دمشق، الطبعة الأولى، 1422ھ/2001م.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، 2017، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 373-421. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |