رجب شنتورك؛ رئيس جامعة ابن خلدون، اسطنبول.
من بين التعريفاتِ الشاملة للفن المعماري أنه: تجلٍّ أو ظهورٌ لحال المعماري على أثره؛ عند تصوره لذلك الأثر الذي يصممه ويبنيه. وعن ذلك الحال تصدرُ ماهية الأثرِ وتتشكّل. وحسب هذا التعريف، فإن الحالَ يعبر عن الموقف الفكري للمعماري ومرجِّحاته النفسية. ولعل التراث الديني ـ الفلسفي هو من أهم العناصر التي تعين موقف المهندس المعماري.
وأصلُ الموقفِ الفكري للمعماري المسلم هو: التراث الإسلامي، الذي يظهرُ في الفن المعماري الإسلامي بعامة، والعثماني بخاصة. إن الفن المعماري الإسلامي الذي يحتوي على كل من نواحي الوجود والإشارات المتافيزيقية يتجسّد في الآثار المعمارية بوضوحٍ، وكذلك في كل نمطٍ من الآثار الفنية الأخرى.
وتبعاً لهذه النظرة فإن للأثر المعماري وجودٌ رمزي وإيحائي يكمنُ وراء صورته التي نشاهدها بالعين المجرّدة من حيثُ التقنيةُ. وبهذا المعنى فإن النظرةَ الأخيرةَ تتوسعُ، وتتبلور عندما نذكر الآثار الفنية العظيمة؛ مثل المساجد الإسلامية، والأبنية المقدسة، والقصور التاريخية، وكل الآثار الثقافية؛ لأنها تتضمن ظواهرَ خفيةً تُنطقها. وإن هذا الكلامَ كلامٌ رمزي يحمل المعاني المختلفة المتعددة.
ويرى المهندسُ المعماريُّ سنان أن اللَه خلق هذا الكون من حرفين (الكاف والنون). وأن لهذين الحرفين رمزية ذات أهمية كبيرة في القرآن الكريم. ولكن المقصود هنا خصوصا هو أمرُ «كن». وإن الله هو مهندس الكون وصانعه. وكما خلق السماوات السبع؛ فقد شيد جسم الإنسان ووهبه استعداد تشييد الأبنية، وبذلك الاستعداد بنى الإنسانُ بأمر الله عز وجل بيتاً رمزياً وهو ما يسمى «كعبة». وإعطاءُ الله تعالى شرفَ تعمير الكعبة للإنسان يرمزُ إلى مكانة الإنسان العالية عند الله تعالى.
وكل من الموجوداتِ في عالم الكونِ يُحملُ على معانٍ حسب نظرية الوجود في التصوف. وتلك المعاني الاعتبارية تظهرُ إما في مستوى اللسانِ الظاهرِ مباشرةً، أو بواسطةِ الرموز الباطنة غير المباشرة. فواهبُ المعاني هو الخالقُ، وقابِلُها هو الإنسان. ومن هذا المنطلق فإن عالمَ الكونِ كتابٌ رمزيٌ غيرُ ناطقٍ. وكذلك فإن أفعالَ الإنسان وآثارَه حاملةٌ لمعان مختلفة متعددة. ومُعطي المعاني لأفعال الإنسان هو الإنسانُ، ومخاطبه هو الخالق تعالى وسائر الناس. فإذا نظرنا من هذه الزاوية فإن الكلامَ الصوتي، وغيره، يجري بين الخالق ومخلوقه، وبين المخلوق والمخلوق؛ بلا انقطاعٍ، ولا انفصالٍ. فيكتسبُ اللسان والخطاب الرمزيان أهميةً كبيرة؛ وبخاصةٍ في الآثار الفنية.
ورغم أن لمسجد السليمانية مكانةً مميّزةً في تاريخ الفنون الجميلة العالمية؛ فليس هناك دراساتٌ مستقلة تطرحُ أبعاده وإشاراتِه الرمزية على نحو متخصص.
وهذه المحاضرةُ تهدف –أساساً- إلى سدِّ الفراغ في ساحة تأويل الآثار المعمارية الإسلامية ببيان البعد الرمزي لمسجد السليمانية من جانب، وبإلقاء الضوءِ على كيفية انعكاس الرموز الصوفية على البنية المعمارية في المساجد العثمانية من جانب آخر. وهذا ما سنراهُ في أنموذج مسجد السليمانية. لأنَّ تلك الرموزَ الصوفية التي يقع تحليلُها في كتب الفنون الجميلة الأخرى تفصيلياَ قد أُهمل تطبيقها على الفن المعماري.
بناءً على هذا؛ فإننا اعتمدنا في كتابة المحاضرة على المخطوطات القديمة؛ التي ترجع إلى القرن السادس عشر والتي أملاها المهندسُ المعماري سنان (مهندس السليمانية). كذلك فإن محاولةَ التأويل الرمزي لا تعني السفسطة؛ فهذه التأويلات مستقاةٌ من كلام المهندس المعماري سنان الذي كان يمليه على الشاعر والكاتب ساعي جلبي فيكتبها، ويشخصها هو (المعماري سنان) في مسجده.
في ديباجة المحاضرة سنقدّم معلوماتٍ عامةً ومتنوعة عن البنية المعمارية لجامع السليمانية وظروف إنشائه، وذلك بعد تعريف بالمهندس المعماري سنان وسلطانه سليمان القانوني؛ وهما بحد ذاتهما متصوفان.
إن النظامَ الرمزي في المسجد؛ الذي يكوّن القسم الأساسي للمحاضرة، مركبٌ من خمسة عناوين: 1- المكان، 2- الصورة، 3- السطح، 4- اللون
5- المعدات.
فلا نقفُ عند الأوصاف البنيوية المعمارية الظاهرية التي تلاحظ في المؤلفات الجديدة حسب ما رأينا. لأنَّ السؤال الذي نجيب عنه هو: ما هذه المعاني والرموز في مسجد السليمانية؟. وإنطلاقا من الجواب نصل في الخاتمة إلى أهمية قوة التحليل الرمزي لعمارة المساجد في فهم التراث الإسلامي وفنونه وشعبه، وأثر العامل الصوفي فيه.
1- علاقة الرمز والمرموز له وطريقة التأويل في الفكر العثماني
لا يمكنُ حل الرموز في العمارة العثمانية إلا بكسب فهمِ التأويل والمعنى عند العثمانيين. وهذا السببُ يوجب علينا أن نقفَ على مصطلحات التأويل والمعنى إجمالياً. فمن جانب؛ لدينا مقاربات مختلفة في المعنى والدلالة والتأويل التي ورثها العثمانيون متسلسلة عن الحضارة الإسلامية. وطبقاً لهذه المقاربات، ينقسمُ المعنى إلى قسمين: الظاهر والباطن. فعلمُ الفقه يتعمقُ في طريقةِ تأويل المعنى الظاهر، وعلمُ التصوف يتعمقُ في باطِنه. وكذلك بنية المعنى؛ نجدها تتكون من مراتب مختلفة، تكتمل مرتبة بعد مرتبة. والإنسانُ حسب حاله ومقامه يشتغل في إحدى تلك المراتب أو العديد منها. ولكن لا يرفضُ وجودَ المراتب الأخرى. ولهذا فُسرت الآياتُ القوليةُ التي تكوّن القرآن الكريم والآيات الكونية التي تكوّن عالم الكون بتلك النظرة التي أشرنا إليها. والمهندسُ المعماري سنان كان يتخيلُ آثاره المعمارية كما يتخيل الكتاب. وبناء على هذا لا يمكن أن تؤوَّل آثاره إلا بوسائل التأويل في عصره الذي عاش فيه. فالكعبةُ مثلاً، إذا نظرنا إلى ظاهرها لا يمكن لنا حل الرموز التي تحملها. فيلزم أن ننظر إلى باطنها لكي نفهم أنها بيتُ الله، ومركزُ عالم الكون، وقبلةُ المؤمنين.
إن الباحثينَ المعاصرين الذين يشتغلون بنظرية الرمزية في آثار المهندس المعماري سنان يعدلون عن وتيرة التاريخ؛ لأنهم يسحبون الأفكار الحديثة في المعنى والتأويل على زمن سنان؛ بينما نظرية التأويل الحديثة مخالفة لنظرية المعنى المضاعفة في التراث الإسلامي. وبذلك فالرمزية الحديثة تبقى في المستوى الظاهري دائماً، ولا تتجاوز، ولا تعبر إلى المرتبة الباطنة. هذه الرمزيةُ الحديثةُ لا تُظهر المعنى الظاهري الذي هو مرتبة دنيّة بأسْره، إضافة إلى أن تلك النظرية تهملُ البعد الباطني للمعنى. وبناءً على هذا، لا يُفهم مسجد السليمانية بمشاهدة ظاهره فحسب، كما لا تُفهم الكعبة بالطريقة هذه. وبحسب فهم المعنى المضاعف الاعتباري، قد يكونُ لرمز واحدٍ معانٍ متعددةٌ، أو لامتناهية تتغير بتغير أحوال ومقامات المخاطبين والناطقين. والمهندسُ المعماري سنان يطبقُ نماذج هذا الفهم التأويلي ويقول: ترمزُ قبةُ المسجد إلى النبيَّ ﷺ، وترمزُ الأعمدة الأربعة إلى خلفاءه الراشدين، وترمز أيضا إلى كلمةِ الشهادة، وشروط الإسلام (الصلاة والصوم والزكاة والحج).
وسنحاولُ إقامةَ الاعتبارات، أو الأسس الأربعة (الموازنة والمماثلة والخلاف والضدية) -التي تستعمل في تأويل رمزية المسجد- بإظهارِ العلاقة بين الرمز والمعنى، كما فُهم في عصر سنان بعد حل الرموز في السليمانية. وانطلاقا من تلك النقاط الأربعة فإننا لن نفهمَ ما كان عليه الجامع فحسب؛ بل إننا سنحاول فهم ما لم يكن عليه!، و كيف لم يكن كذلك. وبعبارة أخرى: فإن كل شيء سنقدمه بمماثله وضده أيضاً. كذلك فإن النبي ﷺ أكّد مرارا لأمته أن لا يتشبهوا بغير المسلمين في استعمال الرموز في عصر تكوّن التراث الإسلامي. مثلا: قد تكون العلاقة موازنة بين الكعبة ومسجد السليمانية من جهة الشكل المربّع، في حين أنها علاقة مخالفة بالنسبة لأسلوبِ عمارة الكنيسة المستطيلة. والسليمانيةُ مماثلةٌ في إنشائها للكعبة من جهة المعدات الحجرية. وثمة علاقةٌ ضدية بين الأبنية المقدسة الحجرية، والأبنية المدنية الخشبية. فإن الحجر قد يمثلُ البقاء، والخشب ممثل للزوالِ والفناء.
إن مسجدَ السليمانية وعالمَ الكونِ متماثلان؛ فالمسجد مستورٌ بقبة واحدة تمثل السماء. والقبة التي ترمز لتلاوة القرآن، مماثلة للنبي الذي يعبرُ عن الوحي. وأيضاً يجب على الباحث أن يفكرَ في العلاقة المماثلة الرمزية بين الإنسان وعالم الكون، وبين الكعبة والإنسان في علم التصوف من وجهة النظر الأخيرة نفسها. ويلزمُ عليه أن يؤول العلاقات المتشابهة بين الكون والكعبة والمسجد من نقطة النظر تلك أيضاً.
2- جامعُ السليمانية بلسان المهندس المعماري سنان
نصادفُ في البحوث الحديثة كثيرًا من التفسيرات الخاطئة، والتي لا أصل لها تاريخيًّا في معاني الرموز في جامع السليمانية. فلذلك بحثنا هذا يتخذُ تأليفات سنان؛ التي أملاها هو بنفسه على كاتبه ساعي جلبي، كنقطة انطلاقة حذرًا من الوقوع في هذه المشكلة. ومن المناسب في هذا الصدد أن نقتبسَ القسم المتعلق بإنشاء السليمانية من «تذكرة البنيان» التي أملاها سنان، أيضًا، على كاتبه ساعي جلبي. وبذلك يستطيع المستمع الكريم أن يسمع القصة من فم المهندس المعماري مباشرة. وسيأتي تحليلنا لروح عمارة الجوامع بعد ذلك إن شاء اللهُ تعالى.
فهذه هي قصةُ الجامعِ بلسان المهندس المعماري سنان:
«أوصافُ الجامعِ الذي بناه السلطان سليمان باهتمام كامل في مدينة استنبول راجيًا من الله عز وجل القبول:
صباحَ يومٍ، فكّر عالم العرفان المحبوب في قلوب الإنس والجانّ؛ السلطانُ سليمان خان، ابن سليم خان عليه الرحمة والغفران، في بناء جامع عظيمٍ، ودعاني وأنا له عبدٌ حقير- للمشورة في أمر الجامع، ورسم بنائِه، وتعيينِ المكان المناسب له. وبدأتُ إنشاءَ الجامع في يوم مباركٍ، وضحيتُ الضحايا وأنفقتها للفقراء، ووزعت أيضاً العطايا بغير حساب بين الصلحاء.
إحضار أعمدة الجامع من الأماكن المختلفة
أحضرتُ لهذا الجامع الأركانَ الأربعةَ، التي تشبهُ أربعة أشجار؛ أصولها ثابتة في الأرضِ، وفروعها في السماء، والتي نبتت في حديقة الإسلام، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلى رضي الله عنه. وكانَ الركنُ الأول من «قرطاشي» في استانبول.
وضَعَتْ هذا الحجرَ في هذا المكان بنتٌ بيزنطية، وكان طولها يوازي طول مئذنة1.
شعر:
والكعبةُ هي المثال الذي استُقى منه هذا الجامع
وتَمَثَّلَ الخلفاء الأخلاّء الأربعة فيه في أربعة أركان
وبيت الإسلام أيضاً على أربعة أركان
بيت قد استحكم بوجود الأخلاّء الأربعة
ويودّ هذا العبدُ المناجي الراجي عفو ربه بحبه لهم
أن يصبحَ ريحًا ينسّمُ ليل نهار
وقدوة همه الربحُ العظيم يوم القرار.
وأحضرتُ المرمرَ الذي لا بد منه في بناء الجامع من جزيرة مرمرة. والمرمرَ الأخضر من جزيرة العرب، والأخرى من البلاد المختلفة حتى من قصر بلقيس ومعبد سليمان.
وكانَ يُعطي مَرمرَهُ كلَّ حين
إشارةً من مَلاحة أمواج البحار
غُرَفُهُ منازلُ أهل الصفا
والنوافذُ مرايا يعكس فيها العالم.
أبوابُ الجامعِ تعرضُ كثيرًا من الفنون الهندسية المعمارية مثل الفن المسمي بالكندكاري. مصنوعةٌ من شجر أبنوس، وزين بعض النواحي منه بالفن السدفكاري الذي يعجبُ العالم به، والذي يبقي تحفة للأجيال المقبلة من الفنانين المرموقين. وهذا النوع من الفن لا مثيل له في الماضي ولن يكون في المستقبل.
وكانت قبابُ الجامع كأمواجٍ تزينُ سطح البحار المفتوحة. وكأنَّ القبة الكبيرة رسمٌ على السماء بالذهب. وتمثل هذه القبة والمآذن النبي المكرم ﷺ سنامَ الإسلام وأصحابه خلفاءه الأربعة. والزجاجُ الملون والمزين في النوافذ يتغير لونه في كل آن وبكلِّ ضياء مثل أجنحة جبريل عليه السلام. وتعبرُ عن جمال الحدائق في فصل الخريف. وهي مركبة من ألوان قوس قزح، تتغير ألوانُها مثل ألوان الحرباء التي تغير لونها بضياء الشمس مما جعل الناس يعجبون بجمالها.
أصبح الجامعُ مجمعًا لأهل الصفا
مِثلَ الجنة وهي مقامُ ذوي القلوب الصالحة
الزجاجُ في النوافذ يشبه أجنحةَ جبريل الأمين
ومعجبون بفنونه نقاشو الصين
وأخيرًا انتهي بناءُ القبةِ التي غطّت الجامع. وتطورَ مشروعُ الإنشاء في الأقسام الأخرى أيضًا. وكتبَ إمامُ الخطاطين حسن قره حصاري المرحوم آيةَ: ﴿إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا﴾ [فاطر:41]، كتبها على داخل القبة بخط ممتازٍ بنية خلودها ما دامت السموات والأرض.
ونُقشت على كل باب ٍكتابة خاصة. وهذه الكتابات قد كتبها الخطاطون الكبار ونقشها النقّاشون المهرة لتبقي صحائف ذكريات من الزمان الذي يمر مرَّ الريح.
وفي خلال هذه الأعمال قام السلطان القانوني بسفر إلى أدرنه. وقد كان بعض الموظفين يريدون ترميم بيوتهم، وأنا بنيتُ في هذه المدة قصر إبراهيم باشا. ولكن بعض أهلَ النفاقِ انتهزوا هذه الفرصة وكتبوا رسائل إلى السلطان، وادَّعَوا أنني لا أهتم بأعماله، وأشتغل بأمور أخرى. وفي الحقيقة، لم يقف إنشاءُ الجامعِ خلال هذه المدة؛ بل استمرّ إنشاء المباني المتصلة بالجامع. ومعظم الشكوى كان متعلّقًا بأمين المبنى ليس بي. ولكن هؤلاء السفهاء قالوا في حقي أيضاً «إنه رجلٌ ليس له خبرة في هذا الأمر، ولا يستطيع أن يخرج المبنى من الوحل الأسود. ومن المشكوك بقاء القبة التي بناها على حالها سالمةً. فلذلك يُضيِّعُ وقته بمشاهدتها فقط دون أي تدبير، هو معجب بالقبة الكبيرة لدرجة الجنون».
أصبح مجنونًا بالتفكر
جعل العشقُ عقلَه مختلاً
وبدون اهتمام السلطان به
لن يُستكملَ هذا العمل
هذا قولُ جميعِ الناس
من المستحيلِ أن يكمل في سنتين
لو نظرت بدقة إلى عمل رئيسِ العمال
والأمر للسلطانِ المعظم
الذي سمعَ هذا الخبر
طلبَ سلطانُ العالم فرسه غاضبًا
وراح إلى محل البناء مسرعًا
وأنا -عبد الله العاجز- كنتُ مشتغلاً بإنشاء المحراب والمنبر في معمل الفنانين المتخصصين في عمل المرمر، غافلاً عما يحدث حولي. فإذا السلطان دخل عليَّ وسلمتُ عليه بالاحترام، ووقفتُ في حضوره بالإجلال والإعظام. سألني
-المنتقل الآن إلى رحمة ربه المنان- أسئلةً كثيرة عن حال الجامع وقال:
لماذا لا تهتم ببناء جامعي وتضيع وقتك بأمور تافهة؟ ألم تعتبر بما حدث لمعماري جدي السلطان محمد خان؟ أخبرني فورًا متى ستنتهي من بناء هذا الجامع وإلا أنت تعرفُ عاقبتك !!.
فهمتُ من كلام السلطان أنه غضبان نهاية الغضب، وتلبّد لساني من هول الموقف، ولم أعرفْ ماذا أقول، ولكن الله أيده وإياي وأجبته بدون تردد:
- سلطاني المعظم؛ سَيُسْتكملُ بناء المسجد بإذن الله في شهرين!
ولما كرر السلطان نفس السؤالِ مرةً ثانية قال لي أحد وزرائه:
- يا سيدي المهندس المعماري! هل سمعتَ ماذا يقول السلطان؟ متي تنتهي عملية الإنشاء بشكل كامل حتى يكون بابه جاهزًا للفتح؟
قلتُ:
- في نهاية شهرين سيكون هذا المبني جاهزًا.
أشهد السلطان رحمة الله عليه الوزراء حوله وقال لي:
- إذا لم تُنْهِ بناءَ الجامع في نهاية الشهرين يكون بيننا كلام. وخرج قاصدًا قصره. وفي قصره دعا رئيس الخزينة والوزراء الآخرين وقال لهم:
يبدو أن رئيسَ المعماريين تجنّن. يا ترى هل يمكنه إنهاء عمل السنوات خلال شهرين فقط ؟ وأظن أن الرجل ضيع عقله بسبب خوفه على حياته. ادعوه إلى القصر واسألوه نفسَ السؤال مرةً أخرى حتى نتأكد من جوابه. إذا كانت إجابتُه متناقضة هذا يعني سيصعب علينا إنهاء عملية الإنشاء.
بعد فترة قصيرة أتى الرسلُ إلى مكان عملي، ودُعيتُ إلى القصر السلطاني. ولما وصلنا إلى القصر أخذ الوزراء يسألونني مرةً أخرى:
- متى يمكن إنهاءُ عمليةِ الجامع ؟
قلت: أجبتُ السلطانَ أنه سينتهي في شهرين، وأشهدكم على هذا. وبإذن الله تعالى سأنهيه في شهرين مسجلاً اسمي في صحائف التاريخ.
نُقِشَ العملُ على الحجر بعشقِ شيرين
انظروا إلى الجبال والأحجار التي قطعها فَرَحات
وذو الروح يُعطي روحًا إلى فَنِّه بالجهد الدؤوب
حينما يوظف أستاذاً ماهرًا
وعرضوا جوابى هذا على سلطان العالم وقالوا: سلطاننا، قد وقع نار العزم في قلب هذا الرجل، وعقلُه ليس بمختل بعون الله تعالى. إذا استمر بهذا الطموح سييسر لكم الصلاة في جامعكم.
وعلى هذا جمعتُ كل الفنانين والعمال المؤهلين، وحتى غير المؤهلين، ووظفت كلَّ واحد منهم، ونبهتهم على خطورة العمل. ووزعت الوظائفَ للعمال تحت إشراف الأمناء. وحددتُ لكل واحد وقتًا معينًا. واهتممت في أن يعملوا ليل نهار دون فاصلة ليكملوه في الوقت المقرر.
وفي نهاية الأسبوع جاء السلطان ليرى المبني وقال:
- يا معماريُّ: هل أنتَ على الموعد في استمرار؟
- بإذن الله تعالى ثم بفضل السلطان المنعم بالسعادة؛ سأنتهي من إنشاءِ الجامع الشريف في نهاية شهرين؛ سأغلقُ بابه، وأسلمُ مفاتيحه.
جمع السلطان وزراءه مرة ثانية وأشهدهم على قولي وغادر متوجهًا إلى القصر السلطاني.
اجتهدتُ في دولة السلطان
نقشت ُكل أنحاء الجامع نقشًا جميلاً
سريعًا لطيفًا دون مثيل
ولا يعرف هذا من الفنانين إلا القليل
وخلال هذه المدة دعوت الله قاضي الحاجات، سبحانه وتعالى، بقولي وبقلبي ليلًا ونهارًا بالتضرع والمناجات.
إلهي بحرمةِ أسمائك الحسنى
وبعزةِ حبيبك المصطفي
وبحرمةِ قربة الأولياء منك
وبسرِّ كنوزِ الأولياء
ونصرته ضد الأعداء
اجعلْ توفيقَك حليفي
واجعل أساسَ هذا المبني قويًّا
تم بعونِ الحق سبحانه وتعالى وعنايته، وبهمة السلطانِ، إنشاءُ الجامع في نهاية شهرين، ولم تبق أية ناحية إلا تم العمل فيها؛ حتى أصبحت أبوابها جاهزة للتغليق. شرّف سلطانُ العالمِ مع وزرائه ورجالِه إلى الجامع، وبعد الدعاء سلمت مفتاح أكبر أبواب الجامع الشريف إلى يديه المباركة.
يحقُ لك أن تحمدَ الله يا سلطاني
أن بنيتُ مسجدًا عاليًا
خذ هذا وهو مفتاحُ بيتِ الله
دليلُ السالك ِاليقظان
كل شطرٍ على بابه يساوي كتابًا
بسبب هذا العمل فُتح الباب لك للأبد
بعد ما سلمت المفتاح إلى يديه المباركة دعوت وانتظرت احترامًا وإجلالاً. والتفت السلطان المنعم بالسعادة إلى حاجبه وسألَه:
- يا ترى من هو الأولى بفتح بابِ الجامع؟
وأجابَ الحاجب:
- سلطاني، خادمُك رئيسُ المعماريين شيخ ٌكريمٌ، وهو أولى الناس بفتح باب الجامع.
ونظر السلطان سليمان خان $ لي قائلاً:
- عليك بفتحِ بيت الله الذي بنيته بالصدق والإخلاص والدعاء.
ثم دعا الله لي وأعطاني المفتاح.
وقلت: يا فتاح. وفتحتُ الباب.
وبعد هذا نلت لطفَ السلطان وهداياه بغير حساب. جعل الله أولادي من بعدي معماريين يخدمون السلطان مراد الذي سيخلف السلطان سليمان.
أنا المهندسُ المعماريُّ المبارك والمقدم
أنَا شيخُ دارِ ضيافةِ العالمِ
الله يعرف أنني بنيت عديدًا من بيوت الله
وجعلتُ ألف محراب مكانًا للسجدة
بحمد الله حافظتُ على إسلامي
وأجريت بالعدل أحكامي
حسبي الله لا أعرف قصدَ الرياء
أنتظر فقط خيرَ الدعاء
ذو المال يبني مسجدًا
وهذا الفقير يسأل الدعاء
أرجو أن ألتحقَ بهم
رحمةُ الله عليهم أجمعين
صُرف لبناء الجامع وتوابعه ولواحقه كلها، ما إجماليه: 996300 سكة، وكل سكة تساوي 60 أكجه، والحساب الإجمالي 597 حمل ذهب و60180 آقجه». انتهى كلام سنان.
3- القانوني وسنان: سلطانا ومهندسا من حيث الخلفية التاريخية والمعمارية
3-1- السلطانُ سليمان القانوني (1494-1566م)
السلطانُ القانونيّ هو ابن السلطان ياووز سليم (سليم القاطع)؛ الذي ضمّ الشّام إلى الدّولة العثمانية، وهو السلطان العاشر للدولة العثمانية. وبفضل ما تحلّى به من قوّة فقد لقّب بسليمان العظيم Magnificent.
وُلد القانونيّ في سنة 899ھ/1494م عندما كان والده ياووز سليم والياً على سنجق طرابزون. وبعد أن قضى مدّةً في إمارة سناجق: بولى، وكفه، ومانيسه؛ تولّى الحكمَ بعد وفاة أبيه قرب تشورولو. وفي عهد القانوني فتحت رودوس، وبلغراد أوّلا، ثمّ حوصرت فيينّا Vienna عند فتح بودين Budin. وفي سنة 1535م ضُمّت بغداد كما هُزمت إيران.
في هذه الفترةِ وقعَ تعيين الرّيّس خير الدّين بربروس في وظيفة قبطان باشا على البحر المتوسّط. وقد ذاع صيته. وقد جعلَ بربروس من البحر المتوسّط بحيرةً تركيّةً بانتصاره في معركة بروزه Preveze المشهورة. وبذلك وصلت مساحة الإمبراطورية في عهد القانونيّ ستّة ملايين كيلو متراً مربّعاً. ومن المعروف أنَّ الدولةَ العثمانيّة التي وصلت الى أعلى مستويات الثروة والرّفاهية قد قامت بنشاطات علميّة كبيرة على نطاق واسع في عهد القانونيّ؛ إذْ كانت تدرّس العلوم الدّينيّة والفنيّة على أرقى المستويات في المدارس التي أُنشئت حول جامع السّليمانيّة. وقد تميّز في ذلك الوقت من علماء العصر الأفذاذ شيخُ الإسلام أبو السّعود أفندي ( 898-982ھ/ 1493-1574م). وانتشر في عهد القانونيّ الفكرُ الصّوفيّ، وشيوخ الطّريقة انتشاراً كبيراً. وكان من أسباب ذلك قُرب القانونيّ من التّصوّف وكبار الصّوفيّة. وتوجد إشارات في المصادر إلى أنّه قد أخذ أذكاراً من النقشبندية والمولوية والخلوتية. وحسب تقييدات أسرار دده؛ فإنّ القانوني الذي انتسب إلى الطريقة المولوية قد قبّل تابوت جلال الدين الرّومي عند زيارة ضريحه، ثم قرأ كتاب المثنوي الشريف، وحضر حلقة الدراويش. ومن الآثار الأخرى لمولوية القانوني أنه بنى جامعاً بمئذنتين بجانب ضريح جلال الدين الرومي وسماعخانه (غرفة الحضرة)، وأنشأ غرفة للدراويش والعمارة.
أما النقشبنديةُ فهي من الطرق الأخرى التى أبدى لها السلطان اهتماماً خاصاً بهدف الرفع من معنويات الجند في واقعة بلغراد Belgrad الأولى في سنة 1521م، فقد أرسل معهم الشيخ محمد نور الله أفندي 977ھ/1569م بتلك الطريقة، فحدّد يوم الفتح، وبشّر بالانتصار ثم ألقى بعض الدروس المؤثرة في القصر. ويَذْكُر العطائي أنّ القانوني زيادةً على انتسابِه إلى الطريقةِ فإنه قد لُقِّن الأذكارَ المسجّلة إجازته من طَرَف والد عبد اللطيف مخدومي. وأنه تعلم منه آدابَ الطريقة. وثمةَ طريقةٌ أخرى يقال إن القانوني قد أخذ عنها أذكارَه، وهي الخلوتية. إذ ينقل أنه انتسب في آخر حياته إلى نور الدين زاده 981ھ/1574م شيخ الطريقة الخلوتية، وأنه كان يدعوه أحياناً الى القصر للاستفادة من وعظه. ويذكر أنه تَلقّى الذّكر عن إبراهيم كولشني Ibrahim Gulseni 940 ھ/1534م، وهو
آخر شيخٌ له في الطريقة الخلوتية (Himmet Konur hayati eserleri tarikati Istanbul2000).
وقد دُفن رفات القانوني الذي توفي أثناء حرب زيكدوار Zigetvar بعد أن صلى عليه الشيخ أبو السعود أفندي بضريحِه بالسليمانية.
3-2- المهندس المعماري سنان (893-996ھ / 1488-1588م)
وُلد سنان في قريةِ أغيرناص Agirnas التابعة لمنطقة قيصري في اسطنبول، والتي تسمى الآن سنان كوي، أي قرية سنان. وفي عام ١٥١٣م عندما كان عمره ٢٤سنة أُحضرَ إلى إستانبول على أساس أنّه دوشيرمه2، فأقام بدار إبراهيم باشا بميدان الخيول. وبعد أن قضى مدة يشتغل عاملاً متدرباً (عجمي أوغلان) صار ناظرا على أحسن مهندسي العصر. وفي فترة قصيرة صار سنان الذي اكتسب ملكةَ فن البناء يلتحقُ بكل الغزوات التي يخرج إليها الجيش. فوجد فرصة لرؤية الأبنية الأثرية الباقيةِ من الحضارات القديمة والتدقيق فيها، وذلك في الحملة على مصر وإيران، فأُعطيت له صلاحية مراقبة كل أبنية الإمبراطورية بصفته رئيس المهندسين، وكذلك صلاحية الأمر بهدم الأبنية التي أقيمت دون تخطيط.
وقد عُيّن سنان على المشاة (بياده قموداني)، ثم على الجبهة بفضل الخدمات الكبيرة التي قدمها. وأثناء الحملة على إيران سنة 941ھ/1535م ارتقى إلى رتبة (خاصه كي) Haseki جزاء الخدمة التي قدمها في بناء السفن التي استخدمت لعبور الجند بحيرة «وان» الواقعة في أقصى شرق تركيا.
وكان جامعُ شاه زاده أولَ أثر ضخم بناه سنان، وذلك سنة955ھ/1548م. وقد سمي ذلك الجامع «إبداع العامل المتدرب». وفي سنة957ھ/1550م شرع في بناء جامع السليمانية، وكان عمرُه 60 سنة، وسمي ذلك الجامع بـ «إبداع المعاون». وعندما بلغ سنّ 84 بنى جامع السليمية بأدرنة، وسمي ذلك الجامع بـ «إبداع المحترف أو المعلم». وقد ترك سنان 84 جامعاً و52 مسجداً و57 مدرسةً و7 دور قرّاء، و22 تربةً، و17 عمارةً، و3 دور شفقة، و 6سواقٍ معلقة، و20 كروانسراي، و35 قصراً و8 مخازن، و 41 حماماً؛ أي إن ما تركه من أعمال معمارية يقارب مجموعه 360 أثراً. وقد توفّي وعمره 100 سنة، وتربته قرب جامع السليمانية. وعلى حجرِ القبر يوجد طربوش (خاصه كي) يبين أنّه آغا إنكشاري. ومن المخطوطات المتعلقة بالمهندس المعماري سنان نرى أنه شخص يميل إلى التصوف.
فهو يقول: «لقد داومت منذ الطفولة على مجلس الحاج بكتاشي، وتربيت
على يديه».
فهو إذن بكتاشي المشربِ؛ لأن جيشَ الدوشرمة في الدولة العثمانية ينتسب إلى الطريقة البكتاشية3. وقد بدأت البكتاشية تتشكل في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، من خلال الطريقة القلندرية، ثم ظهرت في أواخر القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي في الأناضول من خلال طقوس الولي الحاج البكتاشي شيخ هذه الطريقة.
وفي النصف الثاني من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي ارتبطت المؤسسةُ العسكريةُ الانكشارية بأتباع الحاج البكتاشي، فدخلت هذه الطريقةُ إلى الحياة السياسية ودامت هذه الوضعية بلا انقطاع حتى إلغاء السطان محمود الثاني للجيش الانكشاري في سنة1241ھ/ 1826م. وقد كان لوجود الأب الذي يمثل زاوية الحاج بكتاشي -مركز البكتاشية عند الانكشاريين- أثر كبيرٌ في الحفاظ على العلاقة االتي تربط الطريقةَ بالحضرةِ.
3-3- نظرة عامة إلى بناء السليمانية وبنيته المعمارية
موقع بناء الجامع، والتأسيس، وإتمام البناء وافتتاحه
عبارةُ: «لقد هدمت حينئذ القصر القديم»، الواردة في رسالة «تذكرة البنيان» وفي «تذكرة الأبنية» -وكذلك الأحكام المتعلقة بإنشاء جامع السليمانية- توضحُ أن الجامعَ قد بُني على أرض قصرٍ قديم.
وقد اختار المهندس المعماريُّ سنان مكانا مرتفعا بداخل قصر الهمايون العتيق المطل على البحر، مواجهاً رياح الشمال. وهو موضع طيب الهواء واسعاً مؤنساً؛ وذلك حسبَ رغبة السلطان سليمان القانوني في بناء جامع كبير باسطنبول وعمارة ومدارس. ويقع هذا المكان على إحدى هضاب اسطنبول السبعة. ويحتلُ موقعاً مناسباً على الخليج من الناحية الطبوغرافية.
يبينُ المهندس المعماري سنان في «تذكرة الألباب» أن القانوني قد دعاه بنفسِه وعرضَ عليه الموضوع، وعينه لإنشاء هذا البناء الرسمي. كما طلبَ منه أن يقدم المعلومات الأولية المتعلقة بتصميم جامع السليمانية ليوفر القانوني الأرض التي سيبنى عليها الجامع. ثم شرعَ في حفرِ الأساس حسب المخطط الذي رسمه؛ إذ يقولُ: «بسطتُ رسمَ الجامع الشريف ونقشتُه على أرضِ الميدان». ويعبر سنان في التذكرة عن الشروع في حفر الأساس بالعبارة التالية: «حفرتُ ذلك الجامع المنيف في وقت شريف وفي ساعة سعيدة ولطيفة». ثم وضع شيخ الإسلام أبو السعود أفندي أول حجرٍ للأساس. وتبين الكتابةُ التي كتبها أبو السعود أفندي على الجامع زمن الشروع في بناء الجامع، أن ذلك كان في أواخر جمادي الأولى من سنة 957 الموافق شهر حزيران/يونيو من
سنة 1550م.
وخاصيةُ أساسِ الجامع تكمنُ في الحُفر التي تشكل مهدا يحمي الجامع من الزلازل. وقد اختار أن يجلب الحجارة التي تنقل المادة الأساسية المستعملة في بناء الجامع من مقالِع الحجارة المختلفة المجاورة لإسطنبول. واستعمل لرفع الحجارة عمالاً مبتدئين. ولتأمين السلامة اللازمة للجدران والمآذن تم ربط الأحجار بعضها ببعض بمشداتِ من الحديد. ولأجل المحافظة على تماسك أجزاء المشد الحديدي تم صبُّ الرصاص المذاب فيها. أما الرصاصُ المستعمل في ربط الأعمدة والقباب فقد أُحضرَ من منطقة البوسنة وشمال صربيا. أما بخصوص مصادر تأمينه للمرمر فيقول سنان: «لقد قطع المرمر الأبيض من جزيرة مرمرة، أما المرمر الأخضر فمن الحجاز، وأحضرت الأعمدة الأربعة الغرانيتية الكبيرة من قرطاشي والإسكندرية وبعلبك وقصر توبقابو العثماني».
وقد تم تشغيلُ ثلاثة أصناف من العمال في إنشاء الجامع:
أ- العمال والمهنيون الأحرار الذين عملوا مقابل الأجرة. وكان الحِمل الكبير في عمل البناء والمسؤوليات المختلفة على أكتافهم، وكان عدد العاملين هناك 3523 عاملاً؛ منهم 1713( 49%) مسلماً، والباقون من المسيحيين.
ب- الموظفون والجنود الذين كانوا ضمن الجماعات العسكرية، مثل الشباب الابتدائيين وأولاد الرعايا، مقابل راتب معين.
ج- الأسرى الذين يوظفون بأجر معين. كما كان هناك العديد من النقاشين، ومن الموظفين في زخرفة الجامع. وقام بالكتابة الخطاط حسن جلبي، وبالنقش النقاش الحاج جعفر، وبزخرفة الزجاج الزجاج الحاج محمد، وبأمور الأخشاب رئيس النجارين الأستاذ أحمد. ويذكر أنه قد صرف 597 حملاً و60180 آقجه أي 59 مليون آقجه على بناء الجامع.
وأقيمت مراسمُ الافتتاح بعد الانتهاء من بناء الجامع. وقد دام البناء سبع سنوات تقريباً. وذكر سنان في «تذكرة البنيان» أنه قدم المفتاح للسلطان أثناء افتتاح الجامع، وأنه فتح بابه بأمر السلطان.
3-4- أجزاءُ البنية المعمارية
1- الساحة الخارجية: وسُمي بالحرم الثاني حيث يمكن رؤية الجامع من زواياه المختلفة من هذا الحرم، ويَتوسط البناء المحيط بالجامع من ثلاث جهات مشكّلاً ساحة واسعة.
2- المآذن: للجامعِ أربعُ مآذن بنيت بطريقة تناسب عظمته. وتنقسمُ هذه المنارات إلى قسمين: «منارات الجامع» و«منارات الحرم». وفي كل مجموعة مئذنتان: يمنى ويسرى. وتكون مآذن الجامع ذات شرف ثلاث. ومآذن الحرم ذات شرفتين.
3- الفناء الداخلي للجامع: إن مساحةَ الفناء الداخلي للجامع واسعةٌ يكسوها المرمر، ويحيطُ بهذا الفناء رواق ذو 28 قبة، وأقواس القبة مستقرة على 24 عامودا، منها 12 عاموداً من الجرانيت الوردي، و10 منها من المرمر الأبيض، وعامودان من المرمر السماقي.
4- الميضأة: صمم الموضَّأ من المرمر الأبيض، فصار عنصرا معمارياً لا مثيل له؛ إذ بناه المهندس المعماري سنان على شكل مقصورة المؤذن بالفناء الداخلي للجامع. وصارت مصدر الدفء والصوت. وفي قسم الخاتمة من كتاب «تحفة المعماريين» يذكر أن سيلان ماء الميضأةِ من الأعلى، أي من ميزاب السطح. وقد شبهت مياه الميضأةِ المسماة بحوض الكوثر بمياه سلسبيل في وقفِ السليمانية. وقد مُدح هذا الموضَّأ في «طبقات الممالك ودرجات المسالك4» بتشبيهه بأوصاف تتعلقُ بالجنة.
5- الأبواب: توجدُ ساحةٌ كبيرة خارجية بجانب الساحة الداخلية للجامع. ويفتحُ على تلك الساحة أحد عشر باباً تسمى بالتوالي: بابُ المرعى، وبابُ القصر القديم، وبابُ المكتب، وبابُ السوق، وبابُ كبير الحكماء، وبابُ العمارة، وبابُ القبة، وبابُ دار المطبع، وبابُ الآغا، وبابُ الحرم. وأما الفناءُ الداخلي للجامع فله ثلاثة أبواب: أحدُها باب الجملة، والآخران جانبيان. ويمكن الدخولُ إلى الجامع من ثلاثة أبواب. والأبواب الرئيسية والنوافذ مرصعة بالصدف والعاج وتشكل آية في الجمال.
6- النوافذُ: ينير الجامع الذي يبلغ طوله 59 مترا وعرضه 58 مترا 137 نافذة. ويشبّه المعماري سنان أشعة الشمس التي تدخل من الزجاج الملون بريش جناح جبرائيل عليه السلام. والنوافذ الملونة الموجودة على المحراب هي من آثار الأستاذ إبراهيم المعروف في ذلك العصر.
7- القبة: تستندُ القبة الرئيسية للجامع على أربعة أعمدة كبيرة تسمى «أرجل الفيل». ولقد أنشأ المهندس المعماري سنان بفن راقٍ هذه الأعمدة الكبيرة التي تبلغ مساحة كل واحد منها مقدار مساحة مسجد صغير، وأعطاها منظراً جميلا بطراز ظريف يسرّ الرائي. وللقبة 32 نافذة، وقطر القبة ٢٧.٧٥ مترا، وارتفاعها عن الأرض 53 مترا. ولقد وضع المهندس المعماري سنان بداخل القبة والزوايا 64 أنبوبة بطول 50 سم بشكل مفتوح الفم نحو الداخل، حيث إنه في حالة حدوث أي صوت في زاوية الجامع فإنه يمكن سماع هذا الصوت بكل وضوح في الزوايا الأخرى في هذه المساحة الواسعة. وتوجد فراغات هوائية تبلغ 2-3 أمتار فيما بين القباب الداخلية والقباب الخارجية. وبالإضافة إلى أن هذه الفراغات تقوم بعملية توازن الهواء في الصيف والشتاء؛ فإنها أيضا تلعب دورا هاما في سماع الصوت.
8- مقصورتا السلطانِ والمؤذنين: تقع مقصورةُ السلطان عن يسار المحراب، وهي مستندة على ثمانيةِ أعمدةٍ من الجرانيت والمرمر. ولكن الدخول إلى هذا المكان من الخارج يكون عبر باب خاص. وكان السلطان يصلي به لتوفير الأمن والسكينة له بسهولة؛ لا لأي غرضٍ أخر. ويوجد هنا محراب أيضا. أما مقصورة المؤذنين فهي بجانب المنبر، وهي على 18 عامود مرمر، ويوجد في غير هذا المكان عدد من أماكن التكبير في مواضع مختلفة من الجامع.
9- المنبر والمحراب: لقد تم بناءُ كلٍ من المنبر والمحراب من المرمر بأسلوب غاية في الجمال، وزُيِّن إطارُ المحراب بالبلاط الصيني الجميل. أما داخله فإنه، وبعيد عن التزيين للغاية.
10- صنعُ الحبرِ من الدخان: كان الجامعُ يضاء ليلا بالقناديل والشموع قبل استخدام الكهرباء. وكان دخان القناديل والشموع يتجمع بعد أن يرتفعَ قليلا بغرفة الدخان الكائنة أعلى الباب المقابل للمحراب دون أن يلوث الجامع من داخله. وبفضل نظام التهوية الحساس في الجامع؛ فقد كان الدخانُ المجتمع في الغرفة يستعمل في ذلك العصر لصناعةِ الحبر.
11- بيوض النعامة: يلفت النظر تعليق عدد من بيوض النعامة بجانب القناديل، وقد علقت هذه البيوض لمنع العنكبوت عن دخول الجامع ونسج الشبكات فيه. لذا نرى شبكات العنكبوت نادرة في الداخل.
4- التصميم الرمزي لجامع السليمانية عند المهندس المعماري سنان
4-1- العشق البشري والعشق الإلهي: فرحات وسنان
إن المهندسَ المعماري سنان يشبه نفسه بفرحات الذي حفر الجبل وفتح طريقًا يذهبُ فيه إلى الجانب الآخر لكي يصل إلى معشوقته شيرين. فالرمزيةُ التي وقعت بين العشق البشري والعشق الإلهي تعدّ موضوعًا أساسيًا في الفكر والأدب الصوفي في ذلك الحين.
كَسْبُه بعشق شيرين نفوذه في الحجر
انظروا إلى فرحات وهو حافر للجبل والحجر
ذو الروح يعطى روحًا بالمحنة لفنه
كلما جاء على رأس العمل أستاذُه
لقد وضح المهندس المعماري سنان أن الدافعَ الرئيسي في إنشاء جامع السليمانية هو العشقُ، وأن مظاهر هذا العشقِ الوارد بين فرحات وشيرين يراه في الانتقال من البشري إلى الإلهي، أو من الظاهر إلى الباطن؛ متمثّلاً في إنشاء جامع السليمانية.
فالعشقُ يعتبر شرطًا لتحقق الوجود في الفكر الصوفي. وأما المخلوقاتُ فقد يتوجهون إلى الجانب الإلهي ويحبون الله بعشق الجمال المنعكس على هذه المرآة. وهذه المحبةُ التي تعتبر نتاجًا للعشق الإلهي، أو العشق الحقيقي؛ لها طرفان: حبُّ العبد لله، وحبُّ الله للعبد. وهناك العشق المجازي الذي يتحقق بحب الإنسان للإنسان، أو حبه للمخلوقات الحية أو الجمادات؛ فهذا هو العشق البشري الذي يعدّ إحساسًا بالجمال المنعكس على المخلوقات من الجمال الإلهي. فحب القلب لجمال المخلوقات بهذا الحس الرفيع حب بديعي وجمالي.
4-2- العالم والجامع: «أنا شيخُ دارِ ضيافةِ العالم»
من هذا المنطلق يصلُ العشق إلى الكمال عند تجلي صفة الحياة لله. ولدى الاطلاع على جامع السليمانية نرى سنان ينظر إلى عمله من منظار المعشوق المُلْهَم المَوْهوب من عشق فرحات لشيرين. وكما أن فرحات بسبب عشقه القوي لمعشوقته شيرين حفر الجبل والحجر حتى يصل إليها؛ فإن سنان اهتم بأهم مواد غذاء بنائه وهو الحجر؛ فحفره ونقشه وأحسن تصميمه حتى يصل إلى المعشوق؛ أي جامع السليمانية. والجدير بالذكر أنه ليس هناك فرق جذري بين الحي والجماد في الفكر الإسلامي؛ فالجمادات وإن كانت في الظاهر ليست لها مميزات المخلوقات الحية، فهي في الباطن –عند تجلى صفة الحياة لله – حية، وقائمة في مقام التسبيح لله. لذلك يرى سنان أثره المعماري هذا حيًّا؛ وقد أتم إنشاءه بعد ذلك في شهرين فقط5. وكان يعتقد ويصرّح أنه هو الذي أحيا هذا الجامع بإعطاء روح له. إذ الإنسان الكامل لدى الفكر الصوفي قد يستطيع إحياء قلوب ميتةٍ بمنهج تربوي وبطريقة الإرشاد. وهو بهذه الطريقة استطاع إحياء الجامع وبالتالي إحياء روحه.
فمن هذا المنطلق لا تعني المشاهدة لجامع السليمانية النظرَ إليه من منظار ظاهرة معمارية هندسية؛ بل تعنى العبورَ إلى باطنه، وذلك بإحساس العشق الذي يشارك البناءَ في حيويته؛ أي يفنى العاشق في المعشوق، فالأحجار الجانبية في التصميم الرمزي للجامع تعتبر عناصر دينية وكونية يكمل بعضها بعضاً.
4-3- الكعبةُ والمسجد: «أصبحت الكعبةُ مصدرَ إلهام للجامع»
يدعي المهندس المعماري سنان أن هناك علاقة رمزية بين السليمانية وبين الكعبة. فهذه العلاقة من الناحية الظاهرية هي أن المبنى المقدس يتخذ شكل مربّع. ومن الناحية الرمزية لعناصرهما نجد أنهما أصلٌ وصورة في التشابه. لقد بُني جامع السليمانية على شكل مربع ورفع على أعمدة أربعة. وكذلك الكعبة أنشئت على شكل مربع وعلى أعمدةٍ أربعة. فالتشابه بين أعمدةِ الجامع وأعمدةِ الكعبة واضح. ولا شك في التشابه في تصميم أرضية الكعبة؛ إلا أن المعمار سنان ضاعف أرضية السليمانية عدة مرات؛ إذ يحتمل أنه قد سافر إلى الحرم المكي لترميمه، أو الحج؛ فدرس الكعبة وتصميمها بدقة بالغة.
والكعبة في الفكر الصوفي تعتبر مقام الوصل؛ فهي رمز لتوجه القلب إلى معشوقه؛ إذ البيت المقدس والمتوجه إليه هو الأصل، وكل ما سوى ذلك من المباني المقدسة التي تستمد مكانتها من هذا الأصل هي الصور منه. والعلاقة القائمة بين الصورة والأصل فيها توازن؛ لأن كلَّ من توجه إلى الصورة متوجه إلى الكعبة. فكل من توجه إلى المحراب لأداء الصلاة في جميع الجوامع -وكذلك في جامع السليمانية- يعتبر نفسه متوجهًا إلى الكعبة؛ لأن الكعبة هي الأصل. ويعتبر جامع السليمانية صورة للكعبة أيضا لأن الذهاب إليه هو في مقام الحج الأصغر، أو الحج المحلي، والذهاب إلى الكعبة حج أكبر. وكذلك شرب الماء من نافورة الجامع والتوضؤ فيها يعتبر رمزا لشرب الماء من بئر زمزم والتوضؤ فيه.
وأما الأعمدة الأساسية الأربعة داخل السليمانية فهي العناصر الرئيسية التي تكمل الشكل المصمم في المربع للجامع. ويعتبر المهندس المعماري سنان تلك الأعمدة الأربعة والمآذن الأربعة رمزًا للخلفاء الراشدين الأربعة.
4-4- الأمة والجامع «الخلفاء الأربعة دعائم أربعة»
نشاهدُ في الفن الإسلامي أن كلا من الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، تـتزين الجدران أو الأعمدة الأربعة في جميع المساجد العثمانية بخطوط أسمائهم. فكما أن الدين الإسلامي قد أُحكم بهؤلاء الخلفاء، فكذلك أُحكم تصميم الجامع بتلك الأعمدة. ويعدّ الخلفاء الأربعة منبعًا رئيسًا لسلسلة الطرق الصوفية ؛ إذ لاشك أن جميع الطرق الصوفية ترجع بداية سلسلتها إلى هؤلاء الخلفاء الأربعة.
4-5- الإسلام والجامع: «بني الإسلام على أربعة أركان»
اعتبر المهندس المعماري سنان الأعمدة الأربعة المصنوعة من الرخام شبيهة بالأركان الأربعة التي يكمل خامسها بكلمة الشهادة؛ إذ القبة رمزٌ لكلمة الشهادة التي تغطي بيت الإسلام على تلك الدعائم الأربعة، ويعني ذلك أن الأعمدة الأربعة من الرخام التي نراها داخل الجامع والقبة الهائلة فوقها تعدّ عند المهندس المعماري سنان رمزًا لدين الإسلام. غير أن أساس هذا الدين هو التوحيد، فالقبة ترمز إلى التوحيد؛ إذ هي التي تعطى هوية حقيقية لجميع عناصر الإنشاء والتصميم للجامع. فالمرء عند دخوله الجامع يبدأ بالترقي من المكان الأسفل، وهو يهدف الوصول إلى المكان الأعلى (القبة)، وهو مقام التوحيد. هكذا يقول المؤرخ المعماري غودفري غودوين Golldfrey goodwin بأن الترقي والحركة في الجامع دائما تكون إلى الأعلى أي إلى القبة. ومن منطلق عقيدة التوحيد نرى المهندس المعماري سنان قد ذهب إلى الإصلاح في تصميم المكان الداخلي للجامع الذي يرمز إلى الوحدة فيه؛ إذ إن نظام ارتكاز دعائم الجامع يعتمد على الوصل بين المكان الرئيسي والمكان الجانبي؛ بحيث تتحقق الوحدة الكاملة في المكان العام. ولا توجد أعمدة تمنع التواصل داخل المسجد، وتوجُّهُ تلك الأماكن الجانبية إلى المكان الرئيسي يرمزُ إلى توجه المرء إلى التوحيد.
4-6- الوحدة والكثرة
نجدُ في عمارة جامع السليمانية أن الزوايا تشكل 52 درجة، وترمز إلى الهدوء والأصالة، وتشير إلى البساطة والجمال في المبنى. وهذه الزاوية إن تناولناها بأيدينا (فهي في الهبوط العددي تعدّ أصح الأشكال) فهي التي تتحقق بخطها الأفقي. وقد وُفِّق المعمار سنان في تصميم القبة المركزية مع توابعها في الأطراف الجانبية؛ أي إن المبنى من أسفل الأرض يتدرج إلى الأعلى حتى تجتمع الأطراف وتتحد في «الواحد» بالقبة. وأما عن العلاقة القائمة بين القبة المركزية والقباب التي في الجوانب فهي نموذج لمبدأ الوحدة في الكثرة، أو وحدة الكثرة المعروفة في الفكر الصوفي.
4-7- الجنة والجامع : «الجامع نموذج مقام مريح للفؤاد مثل الجنة»
يعتقد سنان أن المكان الرئيسي والداخلي للجامع يرمز إلى حديقة الإسلام أو الجنة ؛ وأما الأعمدة الأربعة التي ترتفع إلى القبة –رمز السموات- فهي ترمز للأشجار الجميلة لتلك الجنة:
أصبح الجامع مجمعًا لأهل الصفا
الجامع نموذج مقام مريح للفؤاد
إن لعمارة الجامع أوجهَ تفسيرٍ متعدّدة. وهذه الظاهرة قد يدعي كثير من علماء الفن الإسلامي أنها نتيجة لصدف تاريخية بسيطة للعمارة الإسلامية، وإن كانت القبةُ في مركزها تشير إلى الله، وفي أسفلها تشير إلى الرسول ﷺ، ففي الجوامع الكلاسيكية قد نرى القبة المقامة على أثاث مُثَمَّنٍ ترمز إلى مقام الملكوت، في حين يرمز الأثاث المربّع إلى الأرضِ أو العالم المادي. وقد نرى في الجوامع الأقدم منها أن عناصرها لا ترمز إلى مقدسات الإسلام، غير أن جميع أنواع تلك الجوامع قديما وحديثاً فيها علاقة وطيدة بين العمارة الإسلامية ومقدسات الإسلام.
4-8- الإسلام والأديان السماوية والحضارات القديمة
رأينا النظرةَ الكونية للمعماري سنان الذي تخيّل تصغير هذا العالم الكبير في عمارته، وذلك بالحصول على أعمدة أربعة من الرخام من كل بقاع الأرض؛ فالأعمدة التي أتى بها من مصر (الإسكندرية) وروما (حجر الآنسة) وبعلبك وقصر عثماني، هي في نظره أعمدة أربعة ترمزُ إلى أربع حضارات قديمة (مصر –روما – بابل – الدولة العثمانية). وذلك يشير إلى أن العهد العثماني جزء من الحضارة العالمية، وهذا يؤدي بالتالي إلى كونها دولة أخذتْ على عاتقها مواصلة ميراث البشرية، وهذا واضح في الرمزية التي تظهر دائمًا في فن عمارة الجوامع.
4-9- الكون والجامع
يشيرُ سنان إلى أن عامود حجر الآنسة الأبيض هو مستقر فلك السماء، وأن القبة الكبيرة في فلك السماء ترمزُ إلى رسول الله ﷺ، أو بتعبير سنان بأنه رسمٌ منقوشٌ في اتجاه السماء. لذلك نرى في القبة الكبيرة قد كتب الخطاط المعروف قاراحصاري الآية الكريمة: ﴿إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليمًا غفورًا﴾ [سورة فاطر: 41]. فتلك الخطوط من الآية الكريمة على القبة والقباب الجانبية تَظهر وكأنها جميعًا أمواج تزين البحر الشاسع. وقد نجد أن عنصر الموج يستخدم أيضًا للأعمدة في الجامع.
منظر الرخام الزاهي
يعكس الجمال السرمدي لموج البحر
ونرى أن المهندس المعماري سنان كأنه بثقافته ومعرفته الكونية يتصورُ في مسجد السليمانية جميَع أشكال المجتمع الإسلامي؛ وبالتالي فإن نوافذ المسجد ترمز إلى المرآة التي بها يرى العالم، وإن ألوان النوافذ المتعددة ترمزُ إلى «الروح الأمين»، أي جبريل، وتعدد ألوان أجنحته.
إن النوافذ هي مرآة تنظر بها إلى العالم
والنوافذ أجنحة الروح الأمين
وأما عن اختيار سنان لمستلزمات إنشاء الجامع وموادها؛ فهي «موسيقى معمارية مجمدة» لغوته Goethe، أي كما أن الأسلوب والتلحين في الموسيقى لهما توازنٌ، فكذلك العناصر المعمارية لها توازنٌ. وهي بتعبير تاوتن «الخلاء داخل المبنى»، فإن المكان المعماري والخلاء فيه يمنح للإنسان حسًّا جديدًا وروحًا به يحقق التوازن. وقد أوضح المهندس المعماري سنان هذه الظاهرة قائلاً: «فقد قلتم إن السيد الفاضل قد أحبَّ علم الموسيقى. والآن نحن، في بناء هذا الجامع الشريف، قد درسنا علم الموسيقى بالكامل، وعندما كنت أشاهد هذا المبنى الشريف رأيت فيه نوعين من الرخام. وبعض العمال قد يطرقون على المرمر طرقا رفيقا وهذا مقام (يگاه)، والبعض يزيد من سرعة وقوة الطرق قليلا وهذا مقام (دوگاه)، والبعض الآخر يطرق بشدة وهذا مقام (چارگاه)6».
4-10- الإشارات بحساب الأبجد
ولدى الاطلاع الدقيق على عمارة الجامع وعناصرها بطريق حساب الأبجد، نرى مقابلها رموزًا دينيةً. فمثلاً إن ارتفاع الدائرة السفلى للقبة 45 ذراعًا، وارتفاع علم القبة 66 ذراعاً؛ وبحساب الأبجد يقابل هذا 45 كلمة «آدم»، ويقابل 66 لفظة «الله». لذلك نرى أن المهندس المعماري سنان طبّق ما ورد في بيت الشيخ غالب المولوي ليحقق التوازن بين القبة والأرضية، وهو ينشد فيه:
انظر إلى ذاتك باستحسان فأنت صفوة العالم أنت سواد عين الكون
الخاتمة
حاولنا في هذا المقال أن ندخلَ بدراستنا هذه من نافذةٍ لم تكن معتادة في عالم الفكر العثماني؛ إذ ندعي أن هذه النافذة، أي النافذة المعمارية، قد أهملها مؤرخو الفكر العثماني وخبراءُ علم الإجتماع. غير أننا –كما رأينا في نموذج جامع السليمانية- فإن البحث الدقيق في رمزية العمارة في مجتمع ما قد يؤدي بالتالي إلى الفهم الصحيح لدنيا الثقافة والحضارة في ذلك المجتمع.
وقد حاولنا أن ندرس نموذجَ جامع السليمانية في هذا المقال حتى نثبت دعوانا في أن من يريد فهم الرمزية في العالم العثماني فعليه معرفة أنه يمكنه ذلك من خلال إدراك مفاهيم ذلك العصر، وباستخدام أساليب التأويل حينذاك. والجديرُ بالذكر هنا أن المفاهيم التي كانت لدى السلطان سليمان القانوني والمهندس المعماري سنان كانت نابعة من التصوف الإسلامي الخالص، فَهُما -بناء على النظرة الصوفية والعالمية- كانا يعتقدان بأنهما وارثان للأديان القديمة والحضارات السالفة، فحاولا تكوين علاقة سلمية بميراث الماضي وتكامله في الحاضر.
ببليوجرافيا
- CANSEVER, Turgut, İslam’da Şehir ve Mimari, İstanbul 1997
- CANSEVER, Turgut, Kubbeyi Yere Koymamak, İstanbul 1997
- CANTAY, Tanju, Süleymaniye Camii, İstanbul 1989
- ÇELEBİ, Saî, Tezkiretü’l-bünyân-Mimar Sinan’ın Kendi Ağzından Hayat ve Eserleri, İstanbul 1998
- EGLI, Hans G. Sinan: An Interpretation, Istanbul 1997.
- ERZEN, Jale Nejdet, Mimar Sinan Estetik Bir Analiz, İstanbul 1996
- GOODWIN, Godfrey, Islamic Architecture: Ottoman Turkey, London 1977.
- KONUR, Himmet, İbrahim Gülşenî-Hayatı, Eserleri, Tarikatı, İstanbul 2000
- MOLLAİBRAHİMOĞLU, Süleyman, Süleymaniye Camii-Yapılışı Ve Özellikleri, İstanbul 1984
- RAMAZANOĞLU, Gözde, Mimar Sinan’da Tezyinat Anlayışı, Ankara 1995
- SÖNMEZ, Zeki, Mimar Sinan İle İlgili Tarihi Yazmalar-Belgeler, İstanbul 1988
- TUNALI, İsmail, Sanat Ontolojisi, İstanbul 1984
- ULUDAĞ, Süleyman, Tasavvuf Terimleri Sözlüğü, İstanbul 1991
- ZEYD, Nasr Hamid, Felsefetü’t-te’vil-Dirase fi te’vili’l-kur’an, Beyrut 1996.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، 2017، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 481 - 510. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |