مقاصد الحرية في الفقه الإسلامي المعاصر حق التنظيم الحزبي والانتخابات نموذجًا

شارك:

راشد الغنوشي: مفكر وسياسي إسلامي، زعيم حزب النهضة التونسي

محتويات المقال:
الحريّة مقصدٌ شرعيٌّ
حرية الاعتقاد والضمير
حق التنظيم الحزبي والانتخابات
حق التنظيم الحزبي
أ- مفهوم الحزب لغة
ب - مفهوم الحزب اصطلاحًا
خلفيات النظرة السلبية للأحزاب والتحزّب في الحضارة العربية الإسلامية
الانتخابات
الخاتمــة

تتجلَّى قيمة أي علم من العلوم في مدى خدمته للواقع وقضايا الناس. والعلوم الإسلامية لم تنبثق دفعة واحدة، بل نشأت بتدرُّج على فترات بحسب حاجة المسلمين إليها. ولعل من أبرزها «علم المقاصد»، الذي يُعدُّ آلية من آليات تفاعل العقل مع النص،مع الواقع، فهو التنزيل الواقعي البشري لأحكام السماء وتوجيهاتها، ذلك أنّ وظيفة العقل البشري مدعوٌّ إلى فهم الحكمة من الأحكام الشرعيّة.

وفي هذا الإطار عمِل أئمة المقاصد، ومنهم الإمام الشاطبي (ت790هـ) ، والشيخ ابن عاشور (ت1379هـ/ 1973م) ، والمصلح المجاهد علَّال الفاسي (ت1380هـ/ 1974م) ، على أن تكون نظرياتهم تصنيفات لنصوص الإسلام حسبما تصوروا من غاياتها ومعانيها التي شرعت من أجلها.

لذلك نحن على يقين من أنّ علم المقاصد يمثل أملًا كبيرًا لنهضة أمتنا عبر تجديد أصيل ومبدع، سواء أكان في العلوم الشرعية أم العلوم الاجتماعية والإنسانية، دون تفريط في ثوابت الدين، ولا تعسّف على مقتضيات الحداثة.

ومن هذا المنطلق لم يكن غريبًا أن يهتم بهذا العلم أغلب مفكري عصر النهضة.  فقد دعا الأستاذ الإمام محمد عبده علماء الدين من معاصريه إلى الاهتمام بدراسة مدوَّنة الإمام الشاطبي. وكتب الشيخ الطاهر بن عاشور «مقاصد الشريعة الإسلامية». وكذا فعل السيد رشيد رضا عندما قدّم لكتاب «الاعتصام» بتعريف بيّن فيه أهمية الشاطبي في تاريخ الفكر التجديدي في الإسلام، فقال: «العلماء المستقلُّون في هذه الأمة ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل، وما رأينا من آثاره إلا القليل: رأينا كتاب «الموافقات» من قبل ورأينا كتاب «الاعتصام» اليوم».

وفي الاتجاه نفسه سار المصلح المغربي علَّال الفاسي الذي ألف كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها». حتى غدا الفكر المقاصديّ أحد أهم مصادر الإلهام الكبرى لحركات الإصلاح والنهضة في العصر الحديث.

الحريّة مقصدٌ شرعيٌّ:

يرى ابن عاشور أنّ الحرية مؤسّسة على أن «استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة، وذلك هو المراد بالحرية». ولذلك وقع التأكيد على القضاء على العبودية؛ لأنها ضد الحرية.

والحريّة أساس الاعتقاد ومناط الأفعال، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]،﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل:106]،وقال رسول الله ×: «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيانُ وما استُكرِهوا عليهِ»1 . وكل هذا يعني أنه لا دين للمكرَهِ ولا حساب له.

والحريّة تعبير أصيل عن فطرة الإنسان الذي خلقه الله وكرّمه ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، وجعله خليفته في الأرض: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة:30]، وأهّله لحمل أمانة ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ [الأحزاب: 72]

يقول الشيخ ابن عاشور: «والشرع يؤكد على أن الحُرية تجري في الاعتقاد والعمل، فحرية الاعتقاد تعني التحرر من الخرافات والأوهام التي أضافها الإنسان لدين الفطرة، في غيبة من عقله، وحرية العمل تعني أن الداخلين تحت الحكومة الإسلامية متصرِّفون في أحوالهم التي يخوِّلهم الشرع التصرف فيها غير وجَلِين ولا خائفين من أحد. ولكل ذلك قوانين وحدود حددتها الشريعة، لا يستطيع أحدٌ أن يحملهم على غيرها».

والحريّة حقّ من أهمّ حقوق الإنسان وجزء من إنسانيته، ليست منّة من أحد، بل هي تعبير عن كرامته، كما قال عمر الفاروق: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟». وبالحرية يتميّز الإنسان عن سائر المخلوقات، يمارس حقه في أن يعبد ويعبّر ويملك ويتنقّل ويتصرف ويحاسِب... إلخ.

وفقدان الحريّة هو الذي يجعل الإنسان ذليلًا هيّنًا يمكن أن يبيع نفسه ووطنه، قال الشاعر العربي أبو الطيّب المتنبي2 :

مَن يَهُنْ يسْهُلِ الهَوانُ عليْهِ ما لِجُــرْحٍ بمـــيّتٍ إيـــلامُ

وقال شاعر تونس الخالد أبو القاسم الشابي3:

خُلقت طَليقًا كطيف النسيم وحرَّا كنور الضُّحى في سَمَاه
تُغرِّدُ كالطـــير أين اندفعْت وتشـدو بما شاءَ وَحْيُ الإلاه
فما لك ترضـــى بِذُلِّ القيود وتحني لمن كبّـلوك الجـــباه

فالحريّة مقصد شرعيّ، ومعناها مبثوث في نصوص القرآن والسنّة وآثار الصحابة، وكما يقول الفقهاء: «العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني».

ويذهب فقهاؤنا المعاصرون إلى أن المقاصد الشرعية ليست محدودة أو مغلقة، ولا تقتصر على ما يُعرف بــ «الكليات الخمس»، وهي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النّسل، وحفظ المال، بل المقاصد يمكن أن تكون قائمة مفتوحة تُضاف إليها مصالح ضرورية مطروحة اليوم في مجتمعاتنا بشكل مُلِحٍّ، وأساسًا القيم الاجتماعية والإنسانية، مثل المساواة والعدل والإخاء والتكافل، وحفظ البيئة واستتباب السِّلْم في العالم وحقوق الإنسان، لا سيما قيمة الحريّة، بما هي أكثر مطلب نادت به كل الشعوب، ووحّدت بين كل الفئات مهما كانوا مختلفين.

حرية الاعتقاد والضمير:

ومن أهم تجليات الحرية ولوازمها حرية الإنسان المطلقة في اختيار معتقده والتعبير عنه والدعوة إليه، وأمنه من أي ضرب من ضروب الإكراه على اعتناق دين أو البقاء فيه. وآيات القرآن أكثر من أن تحصى في هذا الصدد. ومنها قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256] التي اعتبرها صاحب «التحرير والتنوير» ليست مُحْكَمة غير منسوخة فحسب، بل هي حاكمة على كل ما يخالفها. وكثيرًا ما ترد الآيات المؤكدة على حرية الضمير والاعتقاد، وأن الله سبحانه وَحْدَه القائم على كل نفس والمطَّلع على كل ضمير، مقترنة بمسألة الردة، واعتبارها جريمة عقدية تتعلق بالضمير وحرية الاعتقاد، وكان الأولى اعتبارها جريمة سياسية تتعلق بالتمرد المسلَّح على الدولة الشرعية، تأسيسًا على واقعة تاريخية في بداية عصر الخلافة، حيث تمردت قبائل على الجانب السياسي من الإسلام الذي لم تألفه، إذ قبلت من الإسلام الصلاة ورفضت الزكاة، واستظهرت بسيوفها على الدولة، فكان قتالها كما تفعل أي دولة في العالم في التعامل مع الحالات المشابهة.

والواضح تعويل الإسلام في حسبان قيمة الأعمال على النِّيات، أي على قناعات الناس وما تكنُّه ضمائرهم من اعتقاد وليس على مجرد ظواهرهم. ومن هنا كان حملته الشديدة على المنافقين. وما حاجة المسلمين بزيادة مسلم ينتمي إليهم شكلًا وهو كارهٌ لهم موالٍ لسواهم؟

لقد كان نيل المرتد المصري الإيطالي مجدي علام من الإسلام أشد يوم كان معلنًا لإسلامه ويكيل له التُّهم صُبْحًا وعشيًّا، ومثله كثير، إلا أن جمرته خمدت يوم أن تولى البابا تعميده، فطواه النسيان بعد أن كان نجمًا اعلاميًّا.

وليس في القرآن تنصيص على عقوبة سلطوية على الرِّدة. أما الأحاديث الواردة في الشأن فهي متشابهة من حيث الدلالة، وليس منها المتواتر الذي يصلح أن يكون أساسًا في مسألة تتعلق بالعقائد والدماء.

والجدير بالتنبيه أن الخائفين على الإسلام من الحرية كأنهم يعوِّلون على الدولة في حفظ الدين، وإن الله سبحانه حافظ دينه، وإن أشد ما ابتلي به الإسلام هو الاستبداد، وهو يزدهي ويزدهر بقدر ما يفشو في محيطه من حرية، وهو ما يفسر امتداد الإسلام في الديمقراطيات حتى غير المسلمة، وانكماشه في الديكتاتوريات، وأسوأها ما استظهر زورًا بالإسلام لتسويغ ظلمه.

الحرية مقصد عظيم من مقاصد النبوة والدين ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ﴾ [الأعراف: 157]، فتحرروا يا من اكتويتم طويلًا بنار الاستبداد ورفعتم شعار «خَلُّوا بيننا وبين الناس» من فوبيا الحرية، الحرية خير وبركة ونعمة عظمى لا تعدلها غير نعمة العقل والإيمان، ولا قيمة لهما بدون الحرية، فلا تكليف دون حرية.

حق التنظيم الحزبي والانتخابات:

من أهم تجليات الحرية: المشاركة السياسية، ومنها حق التنظم الحزبي والانتخابات.

   حق التنظيم الحزبي

أ- مفهوم الحزب لغة:

جاء في «لسان العرب»: «الحزب: جماعة الناس والجمع أحزاب، وحِزْبُ الرجل: أصحابه وجنده الذين على رأيه.. وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب، وإن لم يلق بعضهم بعضًا.. والحِزْبُ: الوِرْد، ووِرْدُ الرجل من القرآن والصلاة حِزْبُهُ، والحِزْبُ: النصيب، يقال: أعطني حِزْبِي من المال، أي حظي ونصيبي، والحِزْبُ: النَّوْبَة في ورود الماء، والحِزْبُ: الصنف من الناس، والحِزْبُ: الطائفة. وحازَبَ القوم وتحزَّبوا تجمعوا وصاروا أحزابًا، وحَزَّبَهُمْ جعلهم كذلك، وحَزَّبَ فلان أحزابًا أي جمعهم.. وحَزَبَه أمر أي أصابه».

لذا نرى أنّ للحزب عدة مدلولات لغوية، منها: الجماعة والطائفة، وهذا المعنى يشترك مع المعنى الاصطلاحي.

ب - مفهوم الحزب اصطلاحًا:

عادة ما يُطلق مصطلح «الحزب» على التنظيم السياسي الذي يضمّ مجموعة من الأفراد الذين يشتركون في نفس التصورات والأهداف والبرامج السياسية والاقتصادية والثقافية، بغاية الحكم استقلالًا به أو مشاركة أو تأثيرًا فيه. هذا في الواقع الحديث والمعاصر، فما هو الشأن في حضارتنا العربية الإسلاميّة؟

خلفيات النظرة السلبية للأحزاب والتحزّب في الحضارة العربية الإسلامية:

مفهوم الحزب ونزعة التحزّب في حضارتنا ارتبطتا بانبعاث العقيدة الإسلامية التي كانت تحتاج إلى الاجتماع والإجماع بين المؤمنين، ولم يكن المطلوب أن يختلف المسلمون ولا أن يتحزّبوا، خاصّة أن القرآن فصل المسألة وذكر صراحة جبهتين: «حزب الله»، مقابل «حزب الشيطان»؛ لأن المرحلة كانت مرحلة تأسيسية تتطلب تكاتف كل الجهود، وحينها لم تظهر بعد اختلافات تسوّغ التحزب أو التعدّد. فالجماعة الإسلامية في البداية كانت في حالة مواجهة مع المشركين، وهو ما تطلب أن يكونوا في حزب واحد هو «حزب الله»، في مقابل «حزب الشيطان»، قال تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة: 19]، وقال أيضًا: ﴿أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].

مع العلم بأن معنى «الحزب» في القرآن لم يكن دائمًا سلبيًّا أو إيجابيًّا بإطلاق، بل هناك مواضع ورد فيها بمعنى «محايد»، أي بمعنى: جماعة من الناس، كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف:12]. بمعنى: أيّ الفريقين.

ويروي أنس بن مالك أن الأشعريين - وفيهم أبو موسى الأشعري - عندما قدموا على رسول الله ×، ودنوا من المدينة، كانوا يرتجزون، يقولون:

«غدًا نلقى الأحبه        محمدًا وحزبه4»

وهذا ما يعني أن كلمة «حزب» ليست مرفوضة أو مقبولة لذاتها، وإنما يتمّ الحكم لها أو عليها بحسب المحتوى العقدي والفكري الذي يحمله.

فما هو الحال بعد أن تم القضاء على مظاهر الشرك في الجزيرة العربية وتوسّعت رقعة الإسلام خارجها؟

انطلق المسلمون بعدها مباشرة في مرحلة البناء والتعمير، وهناك ظهر اختلاف التأويل وتعدد التفاسير للمسألة الواحدة بما يعني أننا إزاء اجتهادات بشرية قابلة للاختلاف. وقد خلق الله تعالى عباده مختلفين، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 18، 19].

وبما أن الاختلاف شأن إنساني فطري، فإن التعدد في الآراء أمر طبيعي كذلك، وما يصح في الفرد ينطبق على الجماعة أيضًا، والجماعة يمكن أن تكون في شكل حزب سياسي أو تيار فكري «يضمّ مجموعة من الأفراد الذين يشتركون في نفس التصورات والأهداف في ما يتعلّق ببعض المسائل السياسية، لغايات انتخابية» [المعنى الاصطلاحي للحزب]، كما أن الأحزاب يمكن أن تتعدّد، ومن هنا جاز الحديث عن التعددية الحزبية في المجتمع الإسلامي بما أن هذا الاختلاف يدور داخل سعي الجميع إلى البحث عن أقوم المسالك لتسيير شؤون الدولة.

ومن ناحية أخرى تجدر الإشارة إلى أنه لا أحد يمكنه أن يحتكر الإسلام أو النطق باسمه دون غيره من المسلمين، فليس في الإسلام كنيسة ولا «بابا» ولا رجال دين.... أي إن كل رأي لأي فرد مسلم أو حزب مسلم إنما يمثل قراءة للإسلام وليس الإسلام ذاته.

كما أن الأمّة في التصور الإسلامي للحكم هي مصدر السلطات، فهي المخاطب بالشرع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 135] فهي التي تولي الحاكم لإقامة العدل، وهي القوامة. عليه نصحًا وإرشادًا أو عزلًا وإبعادًا.

ولقد عرَف المجتمعُ الإسلامي منذ حياة النبي × نوعًا من التعدد: مهاجرين وأنصارًا وقبائل يهودية متعددة وبقايا مشركين، تولى دستور المدينة «الصحيفة» تنظيمها حقوقًا وواجبات على أساس المواطَنة.

وبعد وفاة الرسول × تعدّدت الفرق الكلامية التي تمثل في النهاية توجهات سياسية ظهرت في شكل دولة أو خلافة أو إمامة، مثل الخلافتين الأموية والعباسية، والإمامة الرستمية – الإباضية. والإسماعيلية.. وقد ألّف أبو الحسن الأشعري كتابه الشهير «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلّين»، ونقل لنا بتفصيل مقالاتهم العقدية وتوجهاتهم السياسية، وأكد حقيقة الطبيعة السياسية للخلافات بين المسلمين؛ إذ إن أول سيف سُلَّ في الإسلام كان حول الخلافة..

ويقودنا عنوان هذا الكتاب الذي هو لأحد أشهر أعلام الفكر الإسلامي - إلى مسألة أساسية، فالأشعري أقر بأن جميع الفِرق مسلمون، أي إن اختلاف الآراء وتباين الاجتهادات لا يُخرج أحدًا من الملّة، بل هو اختلاف بمعنى التنوّع والتعدّد، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى: ﴿وأنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52].فكل الأحزاب مختلفة في ما بينها متحدة في السعي إلى تحقيق مصلحة الأمّة من أبناء الوطن الواحد.

ولنا أن نشير هنا أيضًا إلى ما تضمّنه القرآن من توجيه للمسلمين كي يقسّموا جهودهم في تسيير شؤونهم، وذلك في موضعين واضحين. الأول في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. والأمة هنا بمعنى الطائفة من الناس المؤمنين. والموضع الثاني في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122].

قال ابن عباس في رواية الكلبي في تفسير قوله تعالى:﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾: «لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك كان النبي × يبعث السرايا، فكان المسلمون ينفرون جميعًا إلى الغزو ويتركون النبي × وحده، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وهذا نفي بمعنى النهي5» .

﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ أي: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة، ويبقى مع رسول الله × جماعة، ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾، يعني: الفرقة القاعدين،يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أنزلبعدهم، فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم، وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله:﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾، أي: وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، ﴿إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ لا يعملون بخلافه.

وعليه فإن مسألة التنظيم الحزبي تعد من أهم مظاهر حرية المسلم في إطار مقصد الحرية الذي تكفّل الإسلام بتحقيقه لا للمسلمين فقط بل لكل الناس؛ لأن الحريّة مناط التكليف ومسوغ الحساب يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29].

الانتخابات:

لا جدال في أن هذه الآلية السياسية بما هي عملية اصطفاء شخص أو مجموعة من الأشخاص للقيام بمهمة سياسية معينة لإدارة مؤسسة من مؤسسات الدولة، لم يعرفها المجتمع الإسلامي القديم، ولكنه مارس ضربًا من ضروب العمل النيابي أو التمثيلي إلى حدّ ما. لكن ما يهمّنا هنا هو ما يلي:

- إذا سلّمنا بمشروعية التحزّب وإنشاء الأحزاب، فإنه من المنطقيّ التسليم بمسألة الانتخابات التي تضمن إمكانية الاختيار بين عدة أحزاب مترشحة والفرز بين عدّة أطروحات مختلفة.

- أن مقصد الحريّة لا يكفي أن نعترف به من الناحية النظرية، لذلك تمثّل الانتخابات فرصة حقيقة لتجسيد مقصد الحرية لدى المواطن المسلم في دولته. ولقد عرف المجتمع الإسلامي منذ عهد النبوة أنماطًا من التنظم وانتقاب النُّقباء وتأسيس شرعية الحكم على البَيْعة الخاصة بالنُّخب، وهي شكل من الترشيح والبَيْعة العامة في المسجد التي عليها المعوّل.

الخاتمــة

تعود احترازات بعض المسلمين من التنظيم الحزبي والانتخابات، إلى هاجس الخوف من كل وافد أجنبي تجنّبًا لخطر الاستلاب الحضاري الغربي، ورغبة في الدفاع عن الهوية الإسلامية.، والحق أنّ التنظيم والانتظام في الجماعات والأحزاب والجمعيات من أفضل السبل وأوكدها لتحقيق مقصد الحريّة وإنجاز البعث الحضاري الإسلامي، واستئناف دولة حضارية جديدة يكون المسلمون فيها أسياد أنفسهم وأصحاب قرارهم في كنف الحريّة والكرامة.

إن طرح «مشروعية التنظم السياسي الحزبي والانتخابات» رغمأهميتها ظاهريًّا؛ لأنها تتعلّق بتنظيم الحياة العامّة، خصوصًا المجال السياسي، هذا الطرح اليوم وخاصّة في تونس وسائر بلدان الربيع العربي يعد غير ذي جدوى؛ لأن الشعوب سبقت بعض النخب الإسلامية إلى المناداة بالحرية وفرضها على الطغاة عبر ثوراتها السلمية، فضلًا عن ممارستها على أرض الواقع في المحطات الانتخابية الأخيرة مثل انتخابات 23 أكتوبر 2011 بتونس.

بينما لا تزال معظم الأدبيات الإسلامية السياسية تعترف - بالكاد - بالتنظيم السياسي التعددي في الاطار الإسلامي منكرة أو متجاهلة مبدأ المواطنة الذي تتاسس عليه الدولة الحديثة، والذي من مقتضياته المساواة بين المواطنين، سواء أكانوا مسلمين أم لم يكونوا، علمانيين كانوا أم إسلاميين.

ومن ثم فحقهم جميعًا ثابت في إقامة أحزاب تتنافس على السلطة وخدمة الوطن، وذلك عود إلى دستور المدينة أي استمداد الحقوق من المشاركة في الأرض والوطن، بقطع النظر عن الاعتقاد: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم» ومع ذلك فهم جميعًا في مجتمع المدينة وحسب نص دستورها «أمة من دون الناس» تلك أمة السياسة.

ويجب أن نعترف بأن أدبيات الفكر السياسي الإسلامي محدودة جدًّا في المدوّنة الفقهية القديمة، والأمل معقود على أبناء المشروع الإسلامي للقيام بهذه المهمة، خصوصًا القيادات الميدانية من أمثال هذه الوجوه النيّرة، حتى يتحقق لشعوبنا آمالها في الحرية والانعتاق، ونكون بالفعل «خير أمَّة أخرِجتْ للنّاسِ».

ملاحظة:
نشر هذا النص في الكتاب التالي:
تفعيل مقاصد الشريعة في المجال السياسي، مجموعة بحوث ، 2014، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 101-114.

يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني.

صوت وصورة

مقالات مختارة

إقرأ المزيد

الحقوق والحريات في الإسلام

أحمد فرَّاج محتويات المقال:الأمر الأول: إزالة ما علق بالإسلام من تشويهالأمر الثاني: الذي أرى أننا مـدعوون إليه هوالتطوّرالتقويمالحريات في الإسلامالقيود حماية الحق عندما نتحدّث عن حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام، نتحدّث ع...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

تنظيم الدفاع عن حقوق الإنسان

محاولة للتأصيل من منظور إسلامي محمد سليم العوّا 1- لا يخطيء من يقول إن «حقوق الإنسان» هي شعار الـربع الأخيرمن القرن العشــرين الميلادي. فـقـد نشطت حـركة الـدفاع عن حقوق الإنسان منذ أواسط السبعينيات من هذا القرن نشاطا فاق...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة الإسلاميّة وتحفظات الدول الإسلامية على الاتفاقيات الدولية

أحمد عوض هندي: أستاذ قانون المرافعات- كلية الحقوق- جامعة الإسكندرية محتويات المقال:1- مقاصد الشريعة الإسلامية:2- العلاقة بين مقاصد الشريعة وأحكام القانون:3- مفهوم الاتفاقيات الدولية وأثرها:4- ظهور المعاهدات ذات الطابع ال...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة الإسلاميّة والمحكمة الجنائية الدولية

عوض محمد عوض: أستاذ بكلية الحقوق- جامعة الإسكندرية محتويات المقال:فكرة المحكمة الجنائية الدولية: نشأتها وتطورهاالجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدوليةالمحكمة الجنائية الدولية في ميزان الشريعة الإسلاميةأولًا:...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور

محمد سليم العوا بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإننا لو تحدثنا عن مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور منذ شهرين لكان حديثاً مكروراً مُعاداً لا يجد الإنسان له صدى في واقع حياته اليومية...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة الإسلامية الكلية ومكافحة الإتجار بالبشر

فايز حسن إن أخطر مشكلة بين مجتمعي الشرق والغرب تتمثل في اختلاف الرؤية الأوروبية الغربية لحقوق الإنسان عن الرؤية الإسلامية، وهو المعيار الذي يتم به تصنيف الدول والعلاقات الدولية، ومن أهم هذه الجوانب جانب جريمة قديمة، ولكن...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد العدل في القرآن الكريم

محمد سليم العوَّا: مفكر إسلامي وخبير قانوني وهو عضر مجمع اللغة العربية بمصر، والأكاديمية الملكية الأردنية، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي – منظمة لمؤتمر الإسلامي – جدة محتويات المقال:أولا: بين الشاب والشيخثانيًا: ما هو العد...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقصد العدل وصداه في التشريع الجنائي الإسلامي

عوض محمد عوض محتويات المقال:المقاصد الشرعيةأولا: مبدأ الشرعيةثانيا: مناط المسؤوليةثالثا: العلم شرط لاستحقاق العقابرابعا: شخصية المسؤوليةخامسا: المساواةسادسا: التناسب بين الجرم والعقاب  (1) الأصل في الشرائع كلها أنها...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

مقاصد الشريعة في قوانين العمل وحقوق الإنسان

أحمد جاب الله: مدير المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية – باريس محتويات المقال:تعريف العملالمقاصد الشرعية للعمل1- مقصد التعبد2- عمارة الأرض وتنمية الثروة3- تحقيق الاكتفاء الذاتي4- التعبير عن القدرات الذاتية في العمل والإنتا...

مقالات متعلقة بأيام دولية
إقرأ المزيد

العدل في النص القرآني

محمد سليم العوَّا عرض الدكتور محمد حسن جبل لمعاني تعبير (العدل) ومشتقاته في القرآن الكريم وانتهى بعد استقراء مواضع الاستعمال القرآني لهذه الكلمة إلى أنها ترد في مواضعها كلها بمعنى العدل الذي هو ضد الظلم، اللهم إلا في أرب...

مقالات متعلقة بأيام دولية

أنشطة ذات صلة

Back to Top