منور ثامر المهيد؛ مدير عام مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي- عمان - الأردن
محتويات المقال: انعكاس الحقائق في الظواهر الطبيعية الجيومتري وانعكاسها في الطبيعة الدائرة النسق الهندسي في الفن المقدس وتجلياته الوجودية النِسبُ الفاضلةُ المصادر والمراجع |
تشتملُ هذه الدراسةُ على جملةٍ من القضايا التي تتصل بالفن الإسلامي والهندسة الفاضلة القائمة على النسب الذهبية. كما تشتملُ على تنويهاتٍ إلى تجلياتها في مظاهر الكون والطبيعة التي أحكمَ الله صنعها؛ لتكون حاملة لمعان وآيات تدّل على عظمته وإعجازه، بما يكشف بالبراهين الدالّة والشواهد الظاهرة عن المقاصد الحقيقية للفنون الإسلامية على اختلافها، وبما يدل على إستنادها إلى وحدة الأمر الإلهي وشموليته، وصولاً إلى بيان العلاقة الرابطة بين هذه الفنون بقواعدها المحكمة والمعرفة الميتافيزيقية الروحانية.
والمرادُ بالهندسةِ الفاضلةِ هو: العلمُ المبني على المنظور الذي قامت عليه الفلسفة؛ بمعنى أن المهندسَ عند القدامى هو من أحْكَمَ الأسسَ الهيكليةَ للحكمةِ. من أجل ذلك نجدُ في أكاديمية أفلاطون1 مثلاً شعار « mèdeis ageômetrètos eisitô mou tèn stegèn » بمعنى «لا يدخلُ أحدٌ تحت سقفي إذا لم يكن مهندسًا». وهذا المعنى هو ما نوه بشأنه أيضاً ابن خلدون في المقدمة2، وهو بخلاف المعنى الحديث للهندسةِ الذي جُرِّد من كل معانيه الأساسية ليبقي جانباً بسيطاً منها صيّرَه التقسيمُ الاختصاصي أيضاً إلى ما يتلاشى من جزئيات، فضاع للأسف معنى الجيومتري، أو الهندسة في منظور العصر الحديث.
والفلسفةُ في حقيقتها هي: محبةُ الحكمةِ. والباحثُ فيها هو باحثٌ عن الحق في قضايا تتداخل فيها العلوم البحتة بالمعرفة الفاضلة القائمة على معرفة الحق. وشواهدُ هذه المعرفة مبثوثة في الطبيعة كجزء يسير مما مكّن الباري جل في علاه للإنسان معرفتَه من أسرار هذا الكون ونواميسه. وهذه الدراسةُ تؤسّس لدراسات مفردةٍ تتناول بعض المظاهر الطبيعية وعلاقتها بالنسب، واستنباط معايير ناقدة لنظرية الفن الإسلامي؛ التي لن تكون ناجحةً إلا إذا اعتمدت على الجوانب المادية وتحليلها باعتبار رمزيتها وخلفيتها الدينية والروحية. ولهذا فقد كان للمسلمين قبل غيرهم مزيةُ السبقِ في ربط الفنون الإسلامية بالرياضيات أو بعالم العدد، فتظهر فيها دون غيرها –غالباً- سمات علمية دقيقة قابلة للقياس والبرهنة العلمية؛ فهي موضوعية لخضوعها لقوانين عددية واضحة ومطردة في مختلف ميادينها. وهنا لا بد من الرد على مقولة أن «لا فن في الإسلام» أو ليس هنالك فنٌ إسلاميٌ؛ إذ إنَّ الإسلامَ كديانة حقانية لا بد وأن يكون فيها تجلٍ للجمال في مستوياته كلها3. فالحواس الخمس كلها لم تُجعل إلا لإدراك الجمال الذي في الوجود واتخاذها طرقاً إلى معرفة الله. أما من حيثُ الواقعُ؛ فالفن واضح جدًا في الحضارة الإسلامية منذ إحكام تبلورها في الأرض، واتساع رقعتها الجغرافية، فقد تجلى الجمال بشكل موافق لروح الإسلام حاملًا لحقائقَ متعالية، ورموز على التوحيد واضحة.
انعكاس الحقائق في الظواهر الطبيعية
إنطلاقاً من حديث: «إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ»4، يمكنُ استنباط أن كل شيء في الوجود لا يكون إلا جميلًا، وأنه ليس في الإمكان جمالٌ أتم وأكملَ من الجمال الذي بثه الله في الكون، وأن ذلك الجمال بطبيعة الأمر متفاوت الدرجات؛ بحيث أنه قد يقرب من الكمال إلى أعلى مقام، كما يبعد عنه إلى درجة توهم القُبْح بنقصان الجمال فيه. ومن هذا المنطلق يمكن القول إنَّ بعض الظواهر الطبيعية تعكس حقيقة الجمال بشكل كبير وواضح كما هو شأن الصورة أدناه.
فهذه الصورةُ تبين سبب تسمية المسلمين القدامى وحكمائهم للخليقة بالكتاب المنظور، ويسمون القرآن بالكتاب المقروء؛ لأنها كلها آيات لله سبحانه وتعالى جعلها سبيلًا لمن يتفكر فيها ويتأمل، كما قيل :
تأملْ سطـــــورَ الكائناتِ فإنها | من الملأ الأعلى إليكَ رســـــائلُ |
لقد خطَّ فيها لو تأملتَ خطها | ألا كلُ شيء ما خلا الله باطـلُ |
تتجلى في هذه الصورة جوانب عديدة لمستويات الإدراك الإنساني للحقائق. وهذه المستويات الإدراكية غفل عنها العالم العربي اليوم تبعاً لما تلقاه من المعرفة الغربية الحديثة، التي تركز كلياً على المستوى المادي والمعرفة الحسية مجردةً عن كل بعد ديني وروحي للمعرفة. ونحن نسعى لبيان هذه المستويات والتمييز
بينها لتكون معاييرَ وأَساسات يمكنُ الارتكاز عليها في نقد نظرية الفن
الإسلامي وتأصيلها.
المدركاتُ الحسية الفيزيائية من الشمس: نجدُ أنها راجعةٌ لقضية الأفعال، والتي ظهرت في شكلها الخارجي بكونها مدركاً نظرياً أو صورياً، ومدركاً شكلياً وهو كرويتها أو دائريتها، ومدركاً ملموساً وهو دفؤها ونورها من جانبه الفيزيائي. هذه المدركات الثلاثة يدركها الكل، ولكن لا تؤخذ على أنها آية إلا في مستوى أعلى من هذا النوع من الإدراك.
المدركاتُ النفسية الفضلية هي: ذلك الاعتبارُ والتأملُ في ما تحتويه من دفء وحياة وموسيقى. وهي: عبارة عن مستوى فيزيائي خفيٍ إلى حد ما يعكسُ جانب المحبة وقضية الصفات؛ إذ إن الحياةَ من شروطها الدفء حتى يتم نموها، وهي ما يعكس أيضاً قضية الموسيقى الكونية التي تعبر عن تناغم متنامٍ وحي؛ لا يكون إلا في دفء معين. وهذه المدركات نلاحظ أنها ارتقت من مجرد النظرة الحسية للبحث عن رموز خفية تدركها قابلية النفس على تصور الحقائق المرتبطة بها مباشرة.
والمدركاتُ الروحيةُ من هذه الصورة هي: الشمس التي تظهر كمركز الكون، وهي أصل حياة ووجود كل الأشياء، وكذلك نورها الذي لا يُرى في الحقيقة؛ إنما تُرى آثاره في الوجود. وهنا تتبين قضيةُ الأسماء وجانب العرفان المتعلق بها؛ بحيث أن الإنسانَ كخليفةٍ في الأرض له ملكة الرؤية بهذا النور الإلهي المنبثق من المركز، والذي يشع على صفاء الماء ليصل إلى العالم الخشن الجرماني. فالمركز نقطة والنقطة حقيقة ليس لها أبعاد؛ فهي بهذا الاعتبار مثل النور الذي به تُرى الأشياءُ، ولا يرى في حد ذاته. ويستمر إشعاعُ الشمس إلى أن يصل إلى الظلمة التي هي من طبيعة البعد عن المركز أولًا، ومن طبيعة الأجسام المادية الخشنة. وهذا الإدراكُ الخارق للعالم الفيزيائي ببعديه الخشن واللطيف يؤدي إلى البحث في جوهر الأشياء وربطها بالحقائق العلوية؛ إذ إنها ليست إلا انعكاسا لها.
من هذا التفصيل لمستويات الإدراك الإنساني في نظرية المعرفة التقليدية، لا بد من الحديث عن ثلاث قضايا أساسيةٍ للحكمة، وهي :
أن تعرف الحق، وأن تحب الجمال، وأن تريد الخير5.
وهي تلكم الهدايا الإلهية للإنسانٍ، والتي نجدها في كل الحضارات الدينية السابقة، والتي هي متوافقةٌ مع طبيعة الأشياءِ، ومنسجمة مع نسق الخلق والأمر والتقدير. فالمعرفة الحسية متعلقة بقضية الأفعال، وبالتالي بمسألة إرادة الخير. والمعرفة الفضلية متعلقة بكمالات النفس من تحقيق التحلي بالصفات الإلهية والعمل على بلورة الحب والجمال في المستوى النفسي. أما معرفةُ الحقِّ؛ فهي المعرفةُ الروحيةُ المجليةُ لقضية الأسماء الإلهية التي بثها الله في عالمنا من أجل أن نتعرف إليه، وجعل في آدم وذريته فطرة قادرة على إدراكها وفهمها، وبالتالي هذه القضايا الثلاثة محيطة بالحكمة الخالدة وبجزئياتها كلها.
بهذا نعرفُ أن نظرية المعرفة في الحضارات التقليدية متكاملةٌ لاحتوائها على كل مستويات الوجود؛ بدءاً من المستوى المادي الخشن، مروراً بالمستوى الفيزيائي الخفي إلى حد ما، وصولاً إلى ما يفوق الطبيعة مما يعلو عن المستوى الفيزيائي. ذلك ما يسمح بأن تجتمعَ فيها العلوم بما يمكن تسميته بوحدة العلوم، وهذا ما نجده مثلًا عند العلماء المسلمين سابقاً؛ حيث نجدُ معظمهم قد جمع كل العلوم في علمه : كالعلوم الشرعية، واللغة، والأدب، والشعر، والطب، والفلك، والرياضيات والهندسة، والموسيقى. فالمعارفُ كلها كانت تنفتح على بعض، وتتقاطعُ وتتشابك فيما بينها، بخلاف العلم الحديث الذي يعتمد على العقل التحليلي، لا العقل التجميعي الذي أدى بنا إلى الابتعاد عن هذا المنظور الشامل للعلوم وفق نظرية المعرفة التي ذكرناها.
وقد قسَّم السابقون العلوم الضرورية إلى سبعة فنون6، أربعة منها أساسية وهي:
ـ علم الرقم أو الحساب؛ وهو البحث في العدد مجرداً، وهو مختلف عما يسمى اليوم بالرياضيات Mathematics ؛لأنه قيمي كيفي؛ ليس كمياً مثل الرياضيات الحديثة.
ـ علم الهندسة أو الجيومتري Geometry؛ وهو علم العدد لكن في اعتبار المكان. فالهندسة هي بروز للعدد المجرد في عالم المكان؛ فهي أعداد مكانية، بخلاف العدد المجرد عن كل تعيين.
علم الموسيقى : وهي عدد في الزمان. وهي كلها نسب متعلقة بالتقسيم الزماني، وبالتالي يمكن لنا الحديث عن الموسيقى الهندسية في الجيومتري، كما يمكن أن نتحدث عن هندسة الموسيقى.
علم الفلك: وهو عدد في الزمان والمكان؛ بمعنى أنه متعلق بدراسة حركة الأكوان، وبهذا الاعتبار تكون مكانية الكواكب مرفوقة بزمانية الحركة. فعلم الفلك يلتقي فيه الزمان والمكان في التصورات العلمية العددية، مع ما يحتويه من رموز متعالية واسعة النطاق.
أما العلومُ الثلاثة الأخرى : فهي علوم لغوية: المنطق، والقواعد، والبلاغة Rhetoric. وهي مبثوثة في كتب الكلام والمنطق والأدب فيما يخص اللغويات. وهي علومٌ مهمة جداً، وخصوصاً في اللغات المقدسة كاللغة العربية؛ لأنها حاملةٌ في مبانيها معانيَ يطول شرحها، وليس هذا محل تفصيل الكلام فيها.
إن قضية وحدة العلوم السابق ذكرها، تنقلنا إلى الحديث عن الدائرة وكيف اعتُبرت كأكمل الأشكال على الإطلاق. وهي الأس الثاني للهندسة بعد النقطة التي هي مركزها. لكن من حيث التشكلُ نجد إن الدائرة هي أكمل ما يمكن من حيث الجمال واحتوائها على كل النسب وإمكانات إبراز الأشكال المنتظمة من خلالها، والتي تروي قصةَ الدائرةِ والمركز في عالم المضلعات7.
فالدائرةُ كالانسان له قابليةٌ لإظهار المستويات الثلاثة التي ذكرناها في التعليق على صورة الشمس؛ بحيث أن الإنسانَ بطبيعته له ثلاثة مستويات : الجسم، والنفس، والروح، في ذات واحدة يصدق أن يقال عنها إنها: «إنسان». وهو أيضاً بطبيعته تابعٌ لقضية أخرى اتفقت على فحواها معظم الفرق الإسلامية على اختلاف مذاهبها: أن لله أسماءً ولله صفاتٍ ولله أفعالًا. فأفعالُ الله تتجلى في الجانب الخلقي؛ وهو المستوى الخارجي الملموس في الكون. وصفات الله تُجْلي الفضل في الكون وجانبَ النماء. أما الأسماء فهي قضية ذاتية؛ لأنَّ الاسم هو المسمى، وهي تعكس مستوى العرفان من قبل الخليفة على الأرض.
ولما كان الفنُّ الإسلاميُّ مبنياً على نظام الدائرة، فهو بالضرورة يحتوي على هذه الثلاثية، ومظاهره كلها إنما أتت لتجلي هذه الحقائق، وذلك ما يمكن التفصيل فيه في أنواع الفن الإسلامي. وبطبيعة الحال يمكنُ ملاحظتُها أيضاً في العمارة؛ لأنها مبنيةٌ بالأساس على نفس القوانين والنسب. وتخرج منها الفنون التشخيصية؛ لأنها خارجة عن كنه الديانة الإسلامية التي انبنت على التعالي الإلهي، وبالتالي الاعتماد على التجريد في التعبير عن المطلق المتعالي. وقضية المنمنمات قضيةٌ خارجة بعض الشيء عن الأصل؛ رغم كونِ أحقية فيها باعتبارات اللغة الرمزية التي تأثرت بها، وليس ههنا موطن الحديث عن ذلك أيضاً.
الزخارفُ الهندسية: تقوم الزخارف الهندسية في الفن الإسلامي على قضية المضلعات المنتظمة الأساسية، وهي تابعة لقوانين صارمة تتحكم فيها استقامة الخطوط وانكسارات الزوايا بنسب مختلفة. وهذا النوع يعكس قضيةَ الأفعالِ في عالم الجمال؛ بمعنى أنها تجلي ناموس الفعل الإلهي في الوجود، بحيث يتبع دائما قضية النظام Order، أو بالتعبير القرآني: «الأمر» الإلهي في عالم الوجود الذي هو قوانين صارمة ومباشرة تعنى بإرساء السنة الكونية. فالزخارفُ الهندسية إنما هي أنساقٌ مختلفة تروي حكاية الدائرة والمركز في عالم المضلعات المنتظمة بدقة متناهية ونظام محكم. وههنا قضيةٌ لا بد من التنبيه عليها في علم المصطلح؛ إذ ترجمة Islamic Patterns لا ينضبط إلا بالأنساق الهندسية، بعيداً عن كل استعمال لمصطلح الأطباق النجمية أو الزخارف النجمية التي تخليه عن كل معنى، إلى مجرد الشكل الخارجي؛ بخلاف حقيقتها التي تعكس حقيقة قضية الأنساق الوجودية في التعبير عن المركز الذي هو في كل مكان ولا مكان، من خلال العمل الفني المتكامل، والذي يعكس بالأساس النسبَ الذهبية في
توزيع الفراغات والتصاميم بطريقة صارمة متناغمة.
الزخارفُ النباتيةُ: هذه الزخارفُ تأخذ لغتها من النبات الذي هو بالأساس تجلٍ لقضية النمو في الأرض، والتركيز على قضيةِ الحركة الزمانية تجاه النور. وهذا في الحقيقة متعلقٌ بمفهوم المحبة الإلهية، ثم يعكس عالم الصفات المتعلقة بالكرم الإلهي وتناغم الوجود في ما يمكن أن نسميه بعالم الأسرار Mystery. والزخارف النباتية ليست كسابقتها التي تعتمد على الحركات المستقيمة وانكسار الزوايا، لكن على حركاتٍ لولبية تعتمد على النسبة الذهبية والشبيهة لشكل الحلزون في الطبيعة وطريقة ترتيب النبات التي اعتنى بها علم توزيع الأوراق النباتية Phyllotaxis، وكذلك حركة الأكوان السماوية كما سيأتينا في محله من هذه الورقة البحثية. والجديرُ بالذكر ههنا أن التوريقَ، كما ذكرنا سابقا، هو: موسيقى هندسية لخضوعها لمبدأ تمثيل الحركة في مكان. والحركة كما هو مبين حتى في الفيزياء الحديثة هي بالأساس قضية زمانية، وبالتالي يمكن الحديث في التوريق عن الموسيقى الهندسية التي تترك المتلقي لها أمام نغم ممتد في الزمان؛ ما يفتح المجالَ أمام تأمل الكرم الإلهي، واستشعار الصفات الإلهية
التي هي أساس التعلق بالله والمحبة له.
الخطُّ العربيُّ: يقول أحد المؤلفين في رسالة صغيرة عن الخط بأن «حُسن الكتابة جمالٌ مطلوب للنفس، وصحة نسبتها صورة معشوقة للقلب، وهو أمر معنوي زائد على مفهوم الخط»8، ويجتمع في الخط العربي مزايا عديدة ما يتركنا نقول وبكل ثقة إنه الفن المقدس في الإسلام بامتياز9، لأنه في الأساس مبنيٌ على قضية البيان. وهي كما في صورة الشمس السابقة هي نورُ المركز المشع. وهي متعلقة بقضية العلم بالأسماء الإلهية وتجلياتها في مستويات الوجود. ولما كانت الصورة الشكلية للخط تابعةً لنسب وميزان متقن وصارم، فهي أيضاً انعكاس للحركة اللولبية التي تدل كما قررناه سابقاً على الزمان، فيكون الخط العربي ممثلًا للعدد في عالم الزمان والمكان، ومع ما يحمله من آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو حكم خالدة، فالخط العربي يمثل تجلي العرفان في الفنونِ الإسلامية بصورة مباشرة.
الجيومتري وانعكاسها في الطبيعة:
هنالك عدةُ شواهد تدلنا على امتداد جذور الهندسة الفاضلة في الطبيعة وفي الكون كله؛ ذلك لأنها مبنية على تقدير العزيز الحكيم، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾[الحجر: 21]. فالكونُ على سعته إنما هو قدرٌ معلومٌ مما هو في خزائن الله. وفي هذا إشارة إلى إمكانية التعرف على هذا الكون لوصف الله تعالى له بـ«العلمية»، فالإطلاع على أسرار الكون ومعرفة نواميسه ممكن بطبيعة الأمر، ويدل عليه نسبة الحق إلى فعل الخلق من الباري جل في علاه كما في الآية الكريمة﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [ الدخان: 38-39]. فمعرفة هذا الحق الذي تم به خلقُ الأكوان أمرٌ ممكن؛ بل ضروري للإنسان الذي علمه الله الأسماء كلها، واستخلفه على الأرض وأسجد له ملائكته، فاستطاع أن يسمي كل ما في الكون لا لشيء إلا لمعرفته بحقيقتها الربانية. هذه المعرفةُ موجودةٌ في فطرته بالأساس، ثم فقدها إنسانُ الهبوط فأتت رسائل الله للتذكير بها وبالشهادة الأصلية والعهدِ القديم.
والهندسةُ الفاضلةُ هي من هذا العلم الرباني الذي انبنت عليه الطبيعةُ. ويمكننا لمس هذا الأمر في موضوع النسب الفاضلة التي تتجلى في الظواهر الطبيعية، وهنا لا بد من التنبيه على علاقة النِسب بالنَسب؛ إذ إن ما كان على النسبة -بالكسر- فهو بالضرورة على نسب -بالفتح- بالأصل. وهنا لا بد من التمييز بين الأصالة التي يتحدث عنها معظم منظري المحافل الفكرية الحديثة، والتي يرجعونها إلى ابتكار واستحداث شيء أو فكرة جديدة، وبين حقيقة الأصالة، وهو ما لا تقبله اللغة، بل هي جناية على اللغات كلها. فالأصالة originality تعني ما له أصل origin، وهذه الأصلُ يجب أن يكونَ في الحق إذ ليس هنالك أصل خارج عن الحق. من هنا نعرف أن قضية النسب الفاضلة لها أصلٌ متجذر في الحقائق الإلهية مما ذكر سابقاً (معرفة الحق، محبة الجمال، إرادة الخير)، وهي ناشئةٌ من تقاطع الدائرتين اللتين ترمزان بامتياز إلى الحقيقة كلها. فدائرة المطلق تتقاطع مع دائرة النسبي في منطقة وسطية هي ما يمكن أن نسميه بالمطلق النسبي. ومرد النِّسبِ الفاضلةِ كلها إلى هذه المنطقة؛ لأنها تجلٍّ للمطلق في الكون النسبي، مع الانتباه أن هذا التقاطع هو كمال المنطقة النسبية، لهذا احتوى على نسب فاضلة متجذرة أصولها في الحق؛ إذ يقل هذا الكمال إلى الجزء الثاني من دائرة النسبي، والذي يمكن أن نسميه الأقلَّ حقيقةً، أو الأقل تمثيلا للحقيقة المطلقة.
الدائرة
نبدأُ حديثنا في أصل الجيومتري في الوجود كله؛ إذ أكملُ شكلٍ في كل الحضارات هو: «الدائرة»؛ لأنها مبنيةٌ على قضية المركز وإشعاعه في كل ما يحيط به. هكذا تظهر الدائرة من نقطة مركزية، وأخرى متحركة بانتظام حولها، فالمحيط الدائري إنما هو انعكاس منتظم للمركز الذي يمكن أن نمثل به المطلق؛ إذ النقطة ليس لها أبعاد فهي تفوق العالم المادي لا يستطيعها إلا التصور الذهني الذي يكمل في عمل العقل القدسي الذي يرجع نقاط المحيط إلى مركز الدائرة.
تظهرُ الدائرةُ في الوجود في مختلف أحجامها وأبعادها مما لا يتناهى في الصغر إلى ما لا يتناهى في الكبر والبعد، فهناك: ظواهرُ بيولوجية كالخلية، وظواهرُ نباتية كمختلف أنواع الأزهار التي زيادة عن شكلها الدائري تلعب الألوان فيها دورها المهم في بيان مسألة الإشعاع وعكس الحقائق المتعالية. وتظهر أيضاً في العالم الحيواني الذي تملي عليه فطرته أن يجلي مسألة الدائرة، كالعصافير التي تبني أعشاشها بدقة متناهية عند بعض الأصناف، وصولًا إلى الكواكب والمجرات التي تسير على وفق النظام الدائري شكلًا وحركة. هذا مما جعلَ كل الحضارات الدينية تعطي للدائرةِ حقها في التصور العام للكون، بل حتى تجليتها في طقوسها الدينية.
وتمتازُ الدائرةُ بسهولةِ رسمها، فمن خلال تعريفها يمكن أن نعرف: أنه بأخذ نقطتين في شكل مسطح وبتحريك إحدى النقطتين حول الأخرى بنفس المسافة فسنتحصل على الشكل الدائري، وهو شكل موضوعي ليس للذاتية فيه مدخلٌ. فكأن الفنان الذي يريد بدء عمله تذكره الدائرة بأصول حاكمة تجعل من عمله موافقاً لطبيعة الأشياء، لا أن يدخل ذاتيته في العملية الإبداعية التي قد تبعده عن كل الأصول؛ مثل ما تم للفن التجريدي الحديث الذي جرد الفن من كل جوهره ليبقي عن أعراض نسبية تأتيه من إيحاءاته وحالاته النفسية.
وهنا لا بد من التنبيه عن حقيقة التجريد الذي تجلى في الفن الإسلامي؛ الذي هو كأصل الكلمة العربية يدل على تعرية الشيء. فتجريد الزخارف الهندسية أو التحوير في التوريق إنما قام على البحث عن الجوهر بواسطة الإبقاء على الأشكال الممثِّلة – حقيقةً– لما تحتويه من نسب أو حركة تناغم معينة. وتجريد العمل الفني من كل ما هو عرضي في التعبير عن الحقيقة. فليس التجريد الإسلامي إلا تلبية لحقيقة التعالي الذي جاء به الإسلام في عدم تمثّل المطلق بأي وجه من الوجوه التشخيصية.
النسق الهندسي في الفن المقدس وتجلياته الوجودية
قلنا سابقاً إن الدائرةَ هي أكملُ الأشكالِ في كل الحضارات، بالنظر لقضية انعكاس المركز في المحيط بواسطة الإشعاع المنتظم. أما في عالمِ المضلعات المنتظمة فنجدُ الشكل السداسي أكملَها؛ لأنه يروي قصة الدائرة في عالم المضلعات. ومن أهم خواص السداسي أنه يرسم في الدائرة من خلال نصف قطرها، فإذا ما قطعت محيط الدائرة بمسافة الفرجار الآخذ لنصف قطرها، فإنك ستتحصل على ستة أضلاع متساوية. فالشكلُ السداسي عند عديدٍ من الحضارات يرمز للإنسان الكامل، أو للنبي الذي اكتملت أحواله؛ فكان ظاهره كباطنه؛ فطول أضلع المثلث مساوية لشعاع المركز فيه.
أما تجليه في الوجود فظاهرٌ ومعلومٌ؛ بحيث أن الكثير من الأزهار لها شكل سداسي، وكذلك عجيب أمر خلية النحل كيف انتظام أشكالها.
أما الشكل السداسي أسفله فهو «حبة ثلج» تتوزع في حالاتها الكتل على شكل النسق السداسي الذي يجسد عدة مراحل كما يسمونها مثلًا بـ: درجة الحياة. بذرة الحياة. شجرة الحياة. زهرة الحياة. وأخيراً ثمرة الحياة. وفي هذا التدرج تتجلى نسب فاضلة. وسنحاول الدلالة عليها على وجه التفصيل في مختلف مراحل دراستنا هذه.
كما تجدرُ الإشارة إلى أن الفن الإسلامي غني بهذا النسق السداسي. والنجمة السداسية يعرفها الفن الإسلامي منذ بداياته لأنها حاملة لرمز «الخليل» بامتياز؛ ذلك أن المثلثين اللذين يتخلل أحدهما الآخر؛ إنما وُضعا بالأساس للتنبيه على مسألة الطرق إلى الله، بحيث لا بد أن ينتهي من المثلث الإنساني في نقطة: وهي الرأس المتجه إلى أعلى، لتعمه الرحمة أو العطاء الإلهي الممثلة في المثلث الثاني؛ الذي قاعدته مفتوحة نحو السماء ورأسه السفلي متجه إلى النقطة. وهي كالجذور، وكالعيّن في الإنسان المحقق للفناء (نقطة المثلث الإنساني). فلهذا المعنى نجد النسقَ السداسي ليس متعلقاً بديانة دون أخرى؛ وإنما ظهر عند عديدٍ من الحضارات الدينية المختلفة. وكان للفن الإسلامي منها نصيبٌ، فالمسجد الأقصى يحتوي على 37 موطناً فيها استعمال النجمة السداسية، وكذلك منبر صلاح الدين لما أعدنا بناءَه كانت النجمة السداسية حاضرةً في مواطن جد مهمة؛ كالبوابة، وخلف الخطيب مباشرة.
تلكَ أمثلةٌ بسيطةٌ من الأماكن التي وُظّفت النجمةُ السداسيةُ، أو النسق السداسي، في العمارة والفنون الإسلامية؛ بل نجدُ أن النسق السداسي وُظّفَ في العمارة المسيحية وبخاصة الكاتدرائيات، مثل ما يبينه تحليل بوابة كاتدرائية بازل بسويسرا. بل تظهر النجمة السداسية عند الديانة الهندوكية بوضوح أكثر. وكلُّ هذا يُؤطِّد على حقانية رمزيتها، فلا بد من التنبيه على خطأ الكثيرين الذي يعتقدون أنها خاصة باليهود فقط، وبخاصة الصهاينة منهم؛ لأن ذلك خطأ جسيم، فهي رمز حقاني يحتوي على معان كبيرة، لا بد من التنبه لها وإعطائها حقها من التقدير.
نرجع إلى حبة الجليد، وكيف أن العالم الياباني ماسارو موتوMasaru Moto، الذي أحكم بالتجربة والوسائل الحديثة العلاقة بين بلورات الماء، وما يلقيه عليها من كلمات إيجابية أو سلبية؛ بحيث يلقي على الماء كلمات مختلفة ثم يبرده إلى درجة التبلور ثم يلتقط صورة تلك العينة.
وكما يظهر في الصور؛ فإن شكلَ بلورة الماء قد أخذَ شكلَ النسق السداسي كلما ألقى على الماء كلمات إيجابية كأن يقول للماء : «ملاك». ثم في الصورة الثانية التي يظهر فيها الشكل غير المنتظم كان يقول فيها كلمات سلبية كـ «إبليس».
ولقد كرر التجربةَ على مختلف مياه العالم. واستعمل الكثير من الكلمات والألحان الموسيقية والأغاني العالمية، فاتخذ الماء أشكالاً متنوعة تبنى في كمال جمالها على الشكل السداسي بتبلورات مختلفة.
ومن بلّورة الماء المتناهية في الصغر ننتقل إلى جانب أوسع من المجموعة الشمسية، فلقد أثبتت الدراسات أن متوسطَ مدار المشتري حول الشمسِ، ومتوسط مدار الأرض حول الشمس، قامت علاقتهما على نسبة جذر الثلاثة؛ والتي هي مرتبطة بشكل مباشر بالشكل السداسي، كما هو مبين في الصورة أدناه. فهذه التوافقات استعملت في الأساس بالفنون الإسلامية، بحيث ربطت الأعمال الفنية بمعارف كثيرة منها الفلك كما هو حالة هذه الصورة. وبما قمنا بإعادة بنائه في منبر صلاح الدين؛ الذي هو بالحقيقة تحفة فنية علمية حضارية تلخص مجموعة هائلة من المعارف والعقائد الكونية التي تمتع بها المسلمون في العصور الذهبية؛ فهو كملخص للمعارف، أو متن شكلي وصوري لعلوم متنوعة، لا بد من مقاربتنا لها بنظرة أكثر عمقاً وأقرب إلى واقعها.
ولما قمنا بتحليل واجهةً من منبر صلاح الدين قامت على الشكل السداسي والخماسي، وجدنا نسبةً أخرى؛ وهي النسبة الذهبية المتعلقة بالنجمة الخماسية، وهي تعكس العلاقة بين متوسط مدار عطارد حول الشمس، ومتوسط مدار الأرض حول الشمس؛ إذ هي علاقة تقوم على النسبة الذهبية، بل توافق الأمر على نفس النسبة فيما يخص كتلة عطارد إلى كتلة الأرض.
النِسبُ الفاضلةُ
أخرنا ذكرَ النسب الفاضلة بالتفصيل، لجعل القارئ يتسائل عما كنا نتحدث عنه فيما مضى. ولأن الكلامَ في النسب التفصيلية هو مبنى علم الجيومتري المقدس10. والذي تجلى بكليته في فنون الإسلام وعمارته؛ ذلك أن الإسلامَ قد ركَّزَ على الجانب العرفاني، كما أن اليهودية انبنت على جانبِ الأفعال والمتعلق بأصل الإرادة، والمسيحية بنيت على المحبة، فكان من ضمن ضروريات دين الإسلام ظهورُ فنونٍ مبنية على منطق علمي ومعرفة قد تتجاوز المدركات الحسية للإنسان إلى ما يفوقها من مستويات المعرفة الحقانية. من هنا نقول: إن الفن الإسلامي ليس فقط جائزاً؛ كما يحاوله منظرو التكييف الفقهي في تأصيل نظريته، لكنه ضرورةٌ تحمله حضارة الإسلام في جوهر رسالتها، وقد تجلى لما توفرت شروطه واكتمل نصابه بتوسع رقعة الإسلام وانتشاره في بقاع العالم؛ لتكتملَ به طرائق الحضارات الدينية التي عرفتها الإنسانية منذ القدم.
ذكرنا فيما سبقَ قضيةَ تقاطع الدائرتين، وأن تلكَ السمكة أو العين الوسطى هي منطقة ما يمكن تسميتُه بالمطلق النسبي؛ فهي حقيقة عالم برزخي يصح أن يكون الواسطة بين عالمي المطلق والنسبي. لذلك تجلت النسب الفاضلة في هذه المنطقة في عالم الجيومتري، كما تبينه الصورة أدناه، لتبين أن هذه النسب هي الواسطة لفهم ارتباط العالمي النسبي بالعالم المطلق. والبرهنةُ على هذه النسب معروفةٌ. ونكتفي بعرض تجليها هندسياً لنتمكن من عملية الربط بينها وبين المفاهيم التي نتكلم فيها.
نلاحظ في هذا الشكل النسبَ الثلاثةَ وكيف تتوزع على المنطقة التي سميناها بالمطلق النسبي، وكيف أن كل نقطةٍ من هذه المنطقة إنما تعبر عن نسبة معينة تربطها مع النقطة المقابلة.
أولُ هذه النسبِ هو نسبة «جذر الثلاثة». وهي التي تظهر في أول تقاطع بين الدائرتين. وهي مبينة لقضية المحبة التي تتعلق مباشرة بالعالمين: المطلق والنسبي. فهي تجسد تلك العلاقة الرابطة بينهما فلاءمت أن تكون حاملةً للمحبة.
تظهرُ هذه النسبةُ في النسق السداسي ومضاعفاته بشكل واضح وجلي؛ بحيث يمكن اعتبارها سراً من أسرار عالم الصفات، وبحيث أن الشكل السداسي هو أكمل الأشكال المضلعة في عكس حقيقة الكمال الوجودي في عالم الكثرة. ورمزيته متعلقةٌ في المخاللة أو التخلل الذي يظهر في النجمة السداسية؛ بحيثُ أن المثلثين يتخالل أحدهما الآخر بشكل يوضح العلاقة العمودية التي تسمح للبركة الإلهية أن تحل في الوجود الإنساني؛ الذي عرف قدر نفسه في تحقيق الفناء بوصوله رمزياً إلى النقطة، وهي المصورة في رأس المثلث المتجه إلى الأعلى. أما تَعيُّنُ العطاءِ الإلهي فيتمثل في رأس المثلث المتجه لأسفل وقاعدته ممثلة في العلو. وحقيقة هذه النجمة عبرت عن قضية الفناء والبقاء الذي يتجسد في الإنسان الكامل الذي ظاهره كباطنه كحقيقة السداسي نفسها حيث طول ضلعه يساوي نصف قطره.
أما النسبةُ الثانيةُ التي تظهرُ في الشكل فهي «جذر اثنين». وهي نسبةٌ متعلقة بمربع الوحدة. والمربع دائماً يعبر عن الاستقرار وعنصر الأرض. والنسبةُ الخارجة منه تتعلق بمستوى الأفعال وبجانب الإرادة عند الإنسان.
والنسبةُ الثالثةُ التي نجدها في تقاطع الدائرتين هي نسبة «جذر الخمسة». وهي تعكسُ مستوى الأسماء، وبالتالي تبلور الجانب العرفاني لدى الإنسان، كما تتجلى في النسق الخماسي الذي يحتوي كذلك على النسبة الذهبية.
ومن خلال تعميق النظر في هذه النسب نرى ترابطاً بينها وبين كل مستويات الوجود. وما هي في الحقيقة إلا بوابات تُفتح لفهم وتحقيق سر الناموس الإلهي في الوجود كله. وبفهمه أيضاً تمت الهندسةُ الفاضلةُ لدى كل الحضارات الدينية، وبالتالي تم بناءُ لغتها الفنية على رمزية هذه النسب؛ فهي دلالات على وجود النسب -بالفتح- بين الأشكال والمعاني المتعالية التي انعكست منها في المستوى الوجودي الأعلى. من أجل ذلك كانت كلُّ المخلوقات آيات تعظم من قبل المجتمعات الفطرية التي ترى كل الوجودِ عبارةً عن كتاب منظور تأخذ من كل تفاصيله آيات إلى تعظيم المطلق وتجلياتِه الوجودية.
أما النسبةُ الذهبيةُ (أو الوسيطُ الذهبي)، فهي تتعلقُ بالنسق الخماسي في الأشكال المنتظمة. وهي تجلي ــ حقيقة ــ جانباً عظيماً من أسرار الهندسة الكونية؛ إذ نجدُ معظم المخلوقات قامت عليها، سواء من تناسب الشكل العام بعضه من بعض، أو في تناغم حركته الموسيقية التي تظهر بشكل جلي في الأشكال اللولبية التي تقوم على مبدأ الحلزون الذهبي.
أما في الفنون المقدسة، وفي الفن الإسلامي على وجه خاص، فتوظيف هذه النسبة أمر معلوم ومشاهد في عديدٍ من الأعمال الفنية سواء في الزخارف الهندسية أو في العمارة، وهي موافقة لما في الكون والطبيعة من نظام محكم.
تتجلى النسبُ الذهبيةُ في جسمِ الإنسان كله. ولنأخذ اليد والساعد كما هو مبين في الصورة؛ فكلُّ الأجزاء المختلفة يتناسب وضعها مع ما يجاورها أولًا، ثم مع الكل الشامل
لهما؛ بمعنى أن نظامَ النسب يستقيمُ مع كلِّ طولين متجاورين؛ إذ نسبة أطولهما على الأقصر تكون مساوية لنسبة الكل على الأطول. فهكذا أنامل اليد، واليد والساعد، وغير ذلك مما يمكن التحقق منه حتى بصور الأشعة.
هـذه الصورة مـثلًا تبين حركـةَ كوكبِ الزهرةِ حول الشمس وفق الحركة اللولبية، وقد راقبها الخبراءُ الفلكيون لمدة زمنية محددة. وهي تشكل حلزوناً ذهبياً كما هوواضح في الصورة. وهذه الحركة قضية مهمة جداً مـن الناحية العرفانية؛
لأنها قائمةٌ على ما يسمى screw الذي يدور حول مركز معين وفق حركة متناغمة وتابعة للنسب الفاضلة. وبالمناسبة فالدراسات التي قام بها بعض الباحثين في هذا المجال أعطت نتائج مبهرة11، وهي تبينُ سر التناغم في الوجود كله وفق نظام محكم ومتين من التوافقات، يمكن فهمه والوصول إلى أسراره من خلال الدراسات العلمية والرياضية وربطها بالميتافيزيقا الروحانية.
ذكرنا فيما سبق النسق السداسي والخماسي وما يترتب عنهما من نسب جذر الثلاثة وجذر خمسة والوسيط الذهبي. ولا بد الآن من التلميح على قضية المربع، وعن مشكلة تربيع الدائرة التي لطالما حيرت العلماء والحكماء منذ عصور. ولسنا في معرض حل تلك المعضلة، لكن أردنا التنبيه على مسألةٍ وهي: دلالة المربع على الأرض. ولطالما أخذ الأقدمون المربع رمزاً للأرض كأفلاطون في مجسماته المنتظمة. والذي يهمنا في دراستنا هاته الكعبة الشريفة بكونها: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران : 96]. فحقيقةُ المكعب متعلقة بالأرض بدرجة كبيرة، ومن أجل ذلك كانت هذه الأولية في الوضع للدلالة على مسألة الرباعي ونسبه مع الدائرة. ولقد كان تحليل ليوناردو دافنشي لجسم الإنسان وفق مسألة تربيع الدائرة شيئاً معروفاً لدى الباحثين، لكن الذي يجذب انتباهنا أن وحدة هذا المربع تتكون من سبع نسب تركيبية تتكون من النسب الفاضلة التي عرضناها سابقا (3√، 2 √، √5، ɸ)، وهذا العدد سبعة يقودنا لتأمل ألف خط النسخ عند محرري الخطاطين الذين جعلوا الألف متكوناً من سبع نقاط يعرفها أهل هذا الفن.
ففنُّ الخطِ العربي قد عرف مراحل متعددة في اكتشاف خواص شكل الحرف العربي، الحامل لاحتمالات كثيرة تعكس حقائق متعالية تظهر في تناسب شكل الحرف عند خطه وفق القواعد التي وضعها المحررون القدامى. هذه القواعد ليست إلا لإرساء الجمال الباطني للحرف في عالم الصورة والشكل، فمن هذه التوافقات كما ذكرنا تعلق حرف الألف من خط النسخ بتربيع الدائرة وبجسم الإنسان ككل؛ حيثُ إن الوحدات السبع التي كان الخطاطون يعتبرونَها في خطهم تحلل من حيث النسب الفاضلة إلى نسبة تركيبية تساوي (2√ + ɸ +3√ + 5√).
والمتتبعُ لهذه التوافقات يرى العجبَ من كون كل الوجود صغيره وكبيره، جليله وجلله، كله قائمًا على النظام الحكيم، الذي لا يمكن أن يكون عبثاً محضاً أو لعباً، بل كله مجلٍ لقضية الحقيقة الإلهية، كما قال الله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [ الدخان: 38-39]. وأيُّ محاولةٍ للخروج منه، أو الوقوف ضده، تأتي على الإنسانية جمعاء بمغبات ما لها حلول؛ إلا العودة إلى ذلك التناغم الأصيل. ولقد قام حكماء زماننا12 بإعلاء أصوات النداء للكشف عن واقع العالم الحديث الذي يعيش في مادية أعمت البشرية عن حقيقتها، والتذكير بذلك التناغم13 الذي تدعو إليه كل الأديان المعتبرة، في مشروع إنقاذ للعالم من الهلاك الداهم به في رحلة إرجاع الإنسان إلى حقيقته، حقيقة كونه خليفة الله في الأرض الذي قام كنهه على التوازنِ بين العناصر المادية الأربعة، وإبعادِه عن النظرة المادية التي هي كنظرةِ إبليس لا ترى إلا ترابية الإنسان، وبالتالي البعد كل البعد عن حكمة الله في خلقه.
وخلاصةُ الأمرِ هي؛
أن النماذج المتقدمة أظهرت استناد الفن الإسلامي بمختلف أصنافه وأنواعه على الهندسة الفاضلة القائمة على النسب الذهبية المقدسة (علم الجيومتري). وأن لها أصلٌ متجذرٌ في الحقائق الإلهية (معرفة الحق. محبة الجمال. إرادة الخير). وهذه الحقائق تجلَّت في مظاهر الكون والطبيعة وكافة المخلوقات، مما أحكم الله عزَّ وجل صُنعه، وأظهر قدرته وعظمته وإعجازه.
كما خلُصت هذه الدراسة التأسيسيّة إلى تجاوز ما يُطرح أحياناً من نظريات حول جواز الفن الإسلامي، إلى كونه ضرورةً تنبع من جوهر رسالة الإسلام المرتكزة على الجانب العرفاني. والإسلام كديانة حقانية لا بد وأن يكون فيها تجلٍّ للجمال في مستوياته كلها، فكان ـ لأجل ذلك ـ من ضمن ضروريات الدين الإسلامي ظهور فنون مبنية على منطق علمي ومعرفة تتجاوز المدركات الحسية للإنسان إلى ما يفوقها من مستويات المعرفة الحقانيَّة.
وعليه، فيجبُ أن توجَّه جهود الباحثين وأن تنصرف عنياتهم إلى أخذ الأسس التي قام عليها الفن الإسلامي بمختلف أصنافه ضمن هذا المعنى المُقدَّس. وأن لا يقع تناوله وبحثه استناداً إلى المنظور الحديث للهندسة، المجرَّد من كل مدولاته الأساسية ومعانيه الأصيلة، مما أدى إلى ضياع معنى الجيومتري أو الهندسة في منظورِ العصرِ الحديثِ.
وأخيراً فالأمل موجود بأن يصار إلى تقديم بحوث ودراساتٍ متخصصة لبعض المظاهر الكونية الطبيعيةٍ وعلاقتها بالنسب، واستنباط معاييرَ ناقدةٍ لنظرية الفن الإسلامي من خلال تحليل الجوانب المادية، وتحديد رمزيتها وخلفيتها الدينية والروحية، وأن يعاد إحياءُ بعض العلوم التي كان للمسلمين الأوائل قبل غيرهم مزية السبق في ربطها بالفنون الإسلامية.
المصادر والمراجع
ـ إخوان الصفا: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، دار صادر، بيروت 1999م.
ـ تيتوس بوركهارت: تأثير اللغة العربية في الفنون البصرية، مقالات في الفنون الإسلامية، ترجمة معهد الفنون الإسلامية، مؤسسة آل البيت، عمان، الأردن، 2004م.
ـ ابن حنبل، أحمد بن محمد بن هلال بن حنبل الشيباني (ت241ھ): مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت: 1996م.
ـ ابن خلدون، ولي الدين عبد الرحمن بن محمد (ت808ھ): كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، تحقيق إبراهيم شبوح، تونس: القيروان للنشر، 2007م.
ـ الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد أيوب (ت360ھ): المعجم الكبير، تحقيق حمدي السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة (د.ت).
ـ مجهول: رسالة في الكتابة المنسوبة، تحقيق خليل محمود عسكر، مجلة معهد المخطوطات العربية مج1، ج1، 1955م.
ـ مسلم، أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، (ت261ھ): صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة (د.ت).
ـ النيسابوري، أبو عبد الله محمد الحاكم (ت405ھ): المستدرك على الصحيحين، دار الفكر، بيروت، 1987م.
ـ أبو يعلى الموصلي، أحمد بن علي (ت307ھ): مسند أبو يعلى، تحقيق حسين أسد، دار المأمون، دمشق، 1984م.
- Algis Uzdavinys, The golden chain : an anthology of Pythagorean and Platonic philosophy,World Wisdom.
- HRH, The Prince of Wales, and others, Harmony : a new way to looking at our world, Bleu Door, London.
- John Southcliffe Martineau, A Little Book of Coincidence, Cromwell press, Trowbridge, Great Britain.
- Keith Critchlow, Islamic Patterns, Schocken Books, New York.
- Keith Critchlow, Proportional Rectangles. Second edition: The Research Department: the Prince of Wels’s institute of architecture.
- - René Guénon, The crisis of the modern world, translated by Arthur Osborne, Marco Fallis, Richard C. Nicholson, Third edition, Sophia Perennis, Ghent, 1996.
- Titus Burckhardt, Art of Islam language and meaning, World Wisdom.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، 2017، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 439-469. |