إبراهيم البيومي غانم: أستاذ العلوم السياسية ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (مصر)، وعضو مؤسس وعضو مجلس خبراء مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية مؤسسة الفرقان لندن.
استهلال
تضمَّنت بعضُ كتبِ الآداب السلطانية والسياسة الشرعية معاييرَ متعددةً لفنون تخطيط المدن والأمصار وعمرانها وجمالياتها، كما تضمنت كثيراً من النصائح وما يشبه «اللوائح الإرشادية» المتعلقة بكيفية إدارة المدينة ونظافتِها وتدبير مصالحها العامة. وقد نصحَ مؤلفو تلك الكتب أولي الأمر بأن يلتزموا تلك المعايير والإرشادات؛ التي هي بمثابة «مواصفات قياسية» بحسب التعبيراتِ المعاصرة في فنون تخطيط المدن وإنشائها وتسييرها.
والسؤال الذي أحاولُ الإجابة عليه هو: ما المعالمُ الكبرى للفنون العمرانيةِ التي حكمت نشأةَ المدينة الإسلامية كما عبرت عنها تراثياتُها الموروثة، وفقَ ما وردَ في مصادر تراث الآداب السلطانية والسياسةِ الشرعية، ووفقَ سوابق تأسيس المدن والأمصار الإسلامية الأولى؟ وما مقاصدُ تلك الفنون وجمالياتها؟ ثم: لماذا غابت هذه المعايير عن تخطيط المدن الجديدة في أغلب بلدان الأمة في واقعها المعاصر، وما دلالاتُ هذا الغياب؟
القراءةُ الأولى لبعضِ المضامين المعمارية وفنونها في تراثيات الآدابِ السلطانية والسياسةِ الشرعية، تدلُّ على أنَّ المقاصدَ العامة للشريعة قد أسهمت في تشكيل المعالم الكبرى لتلك الفنون والجماليات المعمارية، التي عرفتها المدينةُ الإسلامية؛ بدءاً من صورها الأولية البسيطة عند نشأة المدينة أو المصر، وصولاً إلى صورها المركبة والمعقدة؛ بعد أن يتكامل البنيان ويزدهر العمران. وقد تجلت هذه المقاصدُ بوضوح في التصميم الكلي أو الشامل للمدينة، كما تجلى أيضاً في تصاميمها التفصيلية؛ فالأسوار والقلاعُ المحيطة بالمدينة تسهم في حفظ النفس، والمدارسُ والكليات تُسهم في حفظ العقل، والمساجد والجوامع تسهم في حفظ الدين، والأسواقُ والخانات تسهم في حفظ المال، والمساكن والدور تسهم في حفظ النسل والنفس معاً، ومنشآتُ النظافة العامة كالحمامات تسهم في حفظ الصحة العامة والبيئة المدينية، وهكذا.
لقد ارتبطت نشأةُ «المدينة الإسلامية» بالتحولِ الجذري الذي أحدثه الإسلام في نمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية. وكانت نشأةُ «المدينة» أو «المصر» مستندةً، في جوانب منها، إلى ظروفِ الفتح والتوسع الإسلامي في العالم القديم، كما ارتبطت أيضاً - في جوانب أساسية منها - برؤية متكاملة لما يجبُ أن تكون عليه «الحياة الطيبة»، والعيش الكريم، في ظلال الشريعة ومقاصدها العامة.
وتجلى ذلك في فنونِ تخطيطِ المدينة وتقسيم أحيائِها، وفي تخصيص مساحاتها وساحاتها ومرافقها العامة وحصونها وأسوارها الدفاعية، وكذلك في توظيفِ الجماليات الهندسية وفنونها في تشييدِ الأبنية وتزيين تلك المرافق والساحات العامة. وتدلُّ ظواهرُ النصوص التي وردت في تلك الكتبِ التي سبقت الإشارة إليها على أن مؤلفيها قد أخذوا في حسابِهم الاعتبارات «المقاصدية»؛ سواء منها: الاعتبارات الأمنية المرتبطة بحفظِ الأنفس وحمايتها، والاعتبارات الاقتصادية المرتبطة بتنمية الأموال وحفظها، والاعتبارات التعليمية المرتبطة بحفظ الدين وحفظ العقل، والترفيهية والثقافية المرتبطة بحفظ النفس والعقل معاً. كما أخذوا في حسابهم الاعتباراتِ الجمالية المتعلقة بكل الأبعاد الوظيفية التي رأوها لازمةً وضرورية للسلامة العامة والاستقرار وطيب العيش.
وليس من مهمتي هنا الدخولُ في الجدل حول السؤال القديم المتجدد: هل هناك «مدينة إسلامية» لها شخصيتُها المستقلةُ وهويتُها الذاتية أم لا؟ ففي البحوث والدراسات المتخصصةِ في هذا المجال ما يكفي لحسم القول بأصالةِ «المدينة الإسلامية» وامتلاكِها شخصيةً معمارية وجمالية وهوية ذاتية خاصة بها، ومستقلة عن غيرها من الطرز المعمارية والجمالية للمدن القديمة التي عرفتها حضارات ما قبل الإسلام: اليونانية، والرومانية، والهلينية، والفارسية. والمقصودُ بالاستقلاليةِ هنا: تلك السمةُ التي تجلت في: «المدينة الإسلامية المخططة والمصممة»، وليست المدينةُ التي كانت قائمةً قبل الإسلام وتمت أسلمتُها، أو إعادةُ صوغها وفق معايير إسلامية، ولا تلك المدينة التي نشأت بطريقة عشوائية، أو غيرِ مخططة؛ حتى ولو نشأت في ظل الدولة الإسلامية.
مهمتي تتركز في بحث التكوين المعماري وفنونه ومقاصدِه العامة في المدينة الإسلامية؛ لا على المستوى الجزئي الذي يتناول التفاصيلَ التقنية والفنية والهندسية؛ فهذا ليس اختصاصي؛ وإنما على المستوى الكلي الذي تضمنته بعضُ كتبِ الآداب السلطانية والسياسةِ الشرعية، وبعضُ المصادر التاريخية التي وصفت المدنَ الإسلامية الأولى: ومنها بغداد التي اخترتهُا كنموذج تاريخي للمدينة الإسلامية. وهذا المستوى الذي يرسمُ الملامح العامة، هو الذي يعبر أيضاً عن الرؤية المقاصدية الكلية التي اهتدى «تخطيط» المدينة الإسلامية بمبادئِها العامة.
والفرضيةُ الأساسية هنا هي: أن فنونَ العمران وجمالياتِه كانت ركناً أساسياً من أركان تهيئة «المجال العام» للحياة الطيبة في المدينة، وجعلها في خدمةِ المقاصد العامة للشريعة. وأن نسقَ التفكير المقاصدي؛ كان رافداً من روافد ارتقاءِ فن تخطيط المدن في الحضارة الإسلامية.
هذه الفرضيةُ ليست مبنيةً على مفهوم الفن السائد في المدارس الغربية (هناك ثلاثة معانٍ أساسيةٍ للفن وفق المرجعية الحداثية الغربية هي: القدرةُ على تقليدِ الطبيعة ومحاكاتها، والقدرةُ على نقل إحساس الجمالِ من الفنان إلى الآخرين، والقدرةُ على لفتِ انتباه الآخرين إلى ما يقدمه الفنان أياً كان ما يقدمه من حيث المقاييس الجمالية)، وإنما تنبني فرضيتي على مفهومٍ موسع للحُسنِ وضده القبحِ، وعلى مفهوم المصلحةِ وضدها المفسدة، وفقَ المعايير الأصولية والكلامية التي تؤكد في جانب منها على أن: «كل أمر يلائمُ الطبع يطلق عليه الحُسْن، وما لا يلائمُه يطلق عليه القبحُ»، وأن الصلحة هي ما لا يخالفُ الشرع ويدركُه العقل، وأن «الفنَّ» بمفهومه الموسع أيضاً هو: «ما يقوم به الإنسان من الجمال»1.
سأبدأُ أولاً بتقديمِ لمحة عن المدينةِ في المصادر التراثية، ثم أتناولُ في البند الثاني ثلاثةَ نماذج من كتبِ الآداب السلطانية والسياسةِ الشرعية بشأن فنون تأسيس المدن وعمرانِها. وأخصص البندَ الثالث لـ «وصف» نموذج من تلك «المدن» الإسلامية التاريخية؛ وقد اخترت وصف بغداد في العصر العباسي، باعتبار أنها تجلت فيها تلك المعايير، أو أغلبُها على الأقل. ثم أنتقلُ في البند الرابع إلى بيانِ المعالم الكبرى لفنون المدينة الإسلامية ومقاصدها في ضوء قراءةِ النصوص التراثية المشار إليها. وأتناول في البند الخامس أهمَّ التحولات والإشكاليات التي أصابت التكوينَ العمراني والجمالي ومقاصده في المدينة الإسلامية، ولماذا تدهورت فنونُها الموروثة في أغلبِ أنحاء العالم الإسلامي المعاصر؟ وما المطلوبُ كي تجدد المدينة الإسلاميةُ انتماءَها لهويتها؛ استناداً لرؤية مقاصدية للفنون عموماً، وللفنون العمرانية خصوصاً.
أولاً: المدينة الإسلامية وفنونها العمرانية في مصادر التراث
قبلَ إيرادِ نماذج مما تضمنته بعضُ كتب الآداب السلطانيةِ والسياسة الشرعية من نصوصٍ خاصة بتخطيط المدن وهندستها المعمارية العامة؛ تتعينُ الإشارةُ إلى أن خبراء تصنيف العلوم والفنون يدرجون «تخطيط المدن» ضمن أهم موضوعات «الفنون العربية الإسلامية»2. كما تتعينُ الإشارة كذلك إلى وجودِ خمسةِ أنواع رئيسية من الكتابة عن «المدينة الإسلامية»3، وهي:
الكتابة التاريخية، وهي تتناول نشأةَ المدن مثل: الكوفة، والبصرة، وبغداد، والقاهرة. وغالباً ما اقتصرَ مؤلفو هذا النوع من الكتب على مرحلةِ النشأة، ووصفِ الأقسام الرئيسية للمدينة عند تأسيسها، وأهم معالمها مثل: الجامع الكبير، ودار الإمارة، والسوق، والأحياء السكنية، والأسوار المحيطة بها، والربض المخصص للمصالح العامة. كما تتناولُ هذه الكتابة أشهرَ مؤسسي المدينة، وطريقةَ التفكير في تصميمها العمراني بشكل إجمالي.
الكتابة الجغرافية؛ وهي تتناولُ موقعَ المدينة، وفئات قاطنيها وأصولهم، وأهمَّ المواقع القريبة منها أو المتاخمة لها، وأنواعَ الأسواقِ والسلع التي تُباع فيها وتُشترى منها، وأشهرَ المدارس، ومن ارتادَها من طلاب العلم والعلماء من الجهات المختلفة.
الكتابة الفلسفية؛ وهي كتابةٌ مثالية، أو خياليةٌ تنشد وصفَ المدينة الفاضلة كما فعل الفارابي مثلاً. ويظهرُ في هذا النوع التَّأثرُ بأنماط التفكير الفلسفي اليوناني؛ فيما يجبُ أن تكون عليه المدينةُ كمستقرٍ حضري، تتحققُ فيه الفضائلُ والكمالات.
الكتابة الفقهية؛ وهي من أهم أنواع الكتابة عن المدينةِ في الحضارة الإسلامية. وقد كان الفقهاءُ معنيين بأمرين بشأن المدينة هما: التصور الأساسي لتكوينها العمراني، والأوصاف العملية لها بشكل مبدئي وفق معايير شرعية. وكان لكل جماعةٍ من الفقهاء طريقتُهم في مقاربة مفهوم المدينةِ، وربطها بالسلطة ونشأة الدولة وزوالها. ويذهب رضوان السيد ونؤيده في ذلك إلى أن هذه الكتابة الفقهية هي التي تصورُ لنا حال المدينة الإسلامية أفضل تصوير؛ فيما بين القرن الثالث الهجري والقرن الثاني عشر الهجري4.
الكتابة السياسية؛ وهي تتناولُ المدينةَ من جانبٍ أساسي يتعلقُ بالرؤية العامة لبنائِها، والمعاييرَ العمرانية وفنونها التأسيسية التي يتعينُ أن تتوافر فيها من حيث المبدأ؛ باعتبارِ أن هذه المعايير جزءٌ من «السياسة الشرعية»، أو«الآداب السلطانية».
ويجدر التنويهُ هنا إلى أن الكتابةَ السياسةَ في التراث الإسلامي تندرجُ في أربعة أنساق رئيسية (وهناك أنساق فرعية للكتابة السياسية ليست محل اهتمامنا هنا)، وهي:
1 - نسقُ الآداب والنصائح، ومركزها أخلاقي وأسلوبها خطابي وعظي.
2 - نسقُ الأحكام السلطانية، ومركزها تشريعي، وأسلوبها تقنيني تنظيمي وإجرائي.
3 - نسقُ السياسة الشرعية، ومركزها مصلحي مقاصدي وأمني قضائي، وأسلوبها إرشادي يجمع بين النصيحة والتقنين.
4 - نسق الفقه السياسي الحضاري، ومركزه نهضوي عمراني، وأسلوبه نقدي بنائي، واجتهادي تجديدي. ولا تكاد تظهر قواعدُ تأسيس المدن والأمصار ولا مبادئ فنونِها العمرانية وجمالياتِها العامة إلا في النسقين الأول والثالث5.
وهناك إلى جانب تلك الأنواع: الكتابةُ «الآثارية» التي تتناول فنونَ التخطيط والعمارة والمنشآت الدينية والمدنية والعسكرية والمائية والفنون التشكيلية والتطبيقية6، وهناك كذلك «الكتابةُ الاستشراقية» حول المدينة الإسلامية، وما تثيره تلك الكتابة من جدالات لا تنتهي؛ وبخاصة النقاشات بشأن أصالة المدينة الإسلامية، ومدى امتلاكها هوية ذاتية خاصة بها7.
ثانياً: عمران المدينة ومقاصده في «الآداب السلطانية والسياسة الشرعية»
اخترتُ من كتبِ الآداب السلطانية والسياسة الشرعية ثلاثةَ نماذج: أحدها من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وهو كتاب: سلوك المالك في تدبير الممالك لابن أبي الربيع. والثاني من القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، وهو كتاب: تسهيل النظر وتعجيل الظفر للماوردي. والثالث من القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي، وهو كتاب: ضياء الحكام فيما لهم وعليهم من الأحكام لعبد الله بن فوديو. ويغلبُ على مضمون الكتابين الأول والثاني نسقُ «الآداب السلطانية والحكمة السياسية»؛ بينما يغلبُ على مضمونِ الكتاب الثالث نسقُ «السياسة الشرعية» وأحكامِها، التي هي وثيقةُ الصلة بتدبير المصالح الكبرى. وهذه الكتبُ الثلاثةُ تغطي فترات مختلفة من تاريخ التمدن الإسلامي، ولكنها رغم أهميتها تظل مجرد نماذج تقدم مؤشراتٍ عامةً على فنون العمران المديني من وجهة نظر كتَّابِها.
1 - عمران المدينة ومقاصده في «سلوك المالك» لشهاب الدين بن أبي الربيع
كتبَ شهابُ الدين بن أبي الربيع (ت:227هـ/842م) هذا الكتابَ في الربع الأول من القرن الثالث الهجري؛ ليسترشد به الخليفة المعتصم بالله العباسي في تسيير شئون الخلافة8. وفي سياق رؤيتِه العامة عن تأسيس السلطة؛ أوردَ ابنُ أبي الربيع مجموعةً من النصائح بخصوص ما يجب أن يكون عليه عمرانُ «المدينة»، أو «المصر الجامع»؛ باعتبار أن تصميمها العمراني العام واحدٌ من المسئوليات الكبرى لأولي الأمر.
بعد التأصيل النظري العام لشروطِ نشأة المدينة من نواحيها التكوينية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أوردَ ابنُ أبي الربيع مجموعةَ قواعد تتعلقُ بفنون بنيتها الأساسية. وتنقسمُ عمارة المدنِ عنده بحسبِ تقسيم المدن إلى قسمين هما: مزارع، وأمصار.
أما «مدن المزارع» فيقول عنها إنها: «أصولُ المواد التي بها يقومُ أودُ الخلق، وتلزم منشئَ المدنية فيها ثلاثةُ أمورٍ: أحدها القيامُ بمصالح المياه لينتفعَ بها القريبُ والبعيدُ. والثاني كفُّ الأذى عنهم لئلا يشتغلوا بغير الزراعة، والثالث تقديرُ ما يؤخذ منهم بحكم الشرع والعدل؛ حتى لا ينالهم خوف ولا عسف».
وأما مدنُ الأمصار فيصفها بأنها: «الأوطان الجامعة». ويرى ابنُ أبي الربيع أن لها خمسةَ مقاصد: «أحدُها أن يستوطنها أهلُها طلباً للدعة والسكون، والثاني حفظ الأموال فيها من الاستهلاك، والثالث صيانة الحريم والخدم من الانتهاك، والرابع التماس ما تدعو الحاجة إليه من متاع وغيره، والخامس ألا يُتعرضَ للكسب وطلب المادة؛ فإن عُدِمَ فيها أحدُ هذه الأمور فليست من مواطنِ الاستقرار». ولا جدال في أن هذه الأمور، كلها، من الوسائل التي تسهم في تحقيق مقاصد: حفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال.
ثم ينتقل ابنُ أبي الربيع لبيان الشروط الواجب اعتبارها في التخطيط العمراني للمدينة، وهي ستة: «أحدها سعة المياه المستعذبة، والثاني إمكان الميرة المستمدة، والثالث اعتدال المكان وجودة الهواء، والرابع القرب من المراعي والاحتطاب، والخامس تحصين منازلها من الأعداء والزعار، والسادس أن يحيط بها سوادٌ يعين أهلها»9.
ثم يوضح القواعدَ الأساسيةَ بشيء من التفصيل في التخطيط العمراني للمدينة وشروط تهيئتها للحياة، فيقول: «إن مَنْ ينشئُ المصرَ أو المدينةَ عليه ثمانيةُ شروط؛ أحدُها أن يسوق إليها الماء العذبَ؛ ليُشرب حتى يسهل تناوله من غير عنفٍ، والثاني أن يقدر طرقَها وشوارعَها حتى تتناسب ولا تضيقُ، والثالث أن يبني فيها جامعاً للصلاةِ في وسطها؛ ليقرب على جميع أهلها، والرابع أن يقدر أسواقها بحسب كفايتها لينالَ سكانُها حوائجَهم من قُربٍ، والخامس أن يميز قبائل ساكنيها بأن لا يجمع أضداداً مختلفة متباينة، والسادس إن أراد سكناها فليسكن في أفسح أطرافها، وأن يجعل خواصه كفَّاله من سائر جهاته، والسابع أن يحوطَها بسور ٍخوف اغتيال الأعداء؛ لأنها بجملتها دارٌ واحدة، والثامن أن ينقل إليها من أهل العلم والصنائع بقدر الحاجة لسكانها؛ حتى يكتفوا بهم ويستغنوا عن الخروجِ إلى غيره. فإذا أحكم ذلك لهم، لم يبق عليه لهم إلا أن يسير فيهم بالسيرةِ الحسنى، ويأخذهم بالطريقة المثلى»10.
إن قراءةَ الاقتباسات السابقة قراءةً منهجية لمعرفة أبعادها الحضارية والعمرانية، تتطلب عدة أمور:
أولا، معرفةَ معطيات العالم الذي كان ينتمي إليه ابن أبي الربيع والخليفة المعتصم. وأولُ تلك المعطيات هو: أنهما عاشا «عصر الخلافة» العباسية، وهي في رسوخِ استقرارها وقمةِ مجدها. ثانياً، أن هذه الخلافة ركزت على التقدمِ العمراني بأوسع معانيه؛ واقتضى هذا درجةً عالية من الاستقرار السياسي، وهذه المسألة وثيقة الصلة ببيان أسباب العناية بفنون تصميم المدينة، وما يجب أن تكونَ عليه من النواحي العمرانية والجمالية الفائقة. ثالثاً، الانتباه إلى أن مفهوم «العصبية» كان أصيب في تلك الفترةِ بشيءٍ من الوهن، بينما شهد مفهوم الرفاهية قدراً من الازدهار؛ بما يعنيه ذلك من الانغماس في الملذاتِ الدنيوية. رابعاً أنه كان «عصر انفتاح فكري وحوار»11؛ ومن ثم كان عصرَ تأثير وتأثر.
وقد شهد ذلك العصرُ حواراً متعددَ الأبعاد: فلسفياً، وأدبياً، وعمرانياً، وعقيدياً؛ تحت تأثير التواصل مع تراث الحضارات الأخرى: الفارسية، واليونانية، والرومانية. والسؤالُ الذي أطرحه دون أن أملكَ إجابةً عليه الآن هو: هل وجدَتْ تقاليدُ تأسيس المدن في تلك الحضارات القديمة طريقَها إلى كُتَّاب الحكمةِ السياسية، في سياق هذا التواصل؟ وهل تأثر ابن أبي الربيع بتلك التقاليد في كتابه سلوك المالك تحديداً؟
2 - عمران المدينة ومقاصده في «تسهيل النظر» للماوردي
كتب الماوردي ُّكتابَ تسهيل النظر وتعجيل الظفر في سنة 432هـ/1041م تقريباً. وقد ألَّفَه لصديقه البويهي الأمير جلال الدولة الذي تولى الإمارةَ من سنة 415 إلى سنة 435 هـ12. لم يكن الماورديُّ محبذاً لحياة البداوة، بل كان منحازاً للمدينة والمصر الجامع، شأنه شأن أغلب الفقهاء؛ لاعتبارات شرعيةٍ تتعلق بتيسير إقامة العدلِ، والتمكن من أداء الصلواتِ الجامعة، وأهمها صلاة الجمعة. وأيضاً لاتصال قيامِ الاجتماع الإسلامي ذاته بالهجرة إلى المدينة.
وقد وردَ النصُّ على فنون تخطيط المدينة ومعاييرها الجمالية في كتابه تسهيل النظر في سياق نظريته الكبرى بشأن «تأسيس المُلك وسياسته». وقد قررَ أن تأسيسَ الملك يكون على الدين، أو على المال والثروة، أو على القوة. وذهب إلى أن «تأسيس الملك على الدين» هو أثبتُها قاعدةً، وأدومها مدةً، وأخلصها طاعةً. وإذا ما تأسس الملكُ على الدين، فإن سياستَه بعد تأسيسه تشتمل على قواعدَ أربع هي: «عمارة البلدان، وحراسة الرعية، وتدبير الجند، وتقدير الأموال». وما أورده بشأن القاعدة الأولى هو ما يهمنا هنا. وسنلاحظُ أن ما قاله يشبه إلى حد التطابق أو يكاد مع ما سبق ذكره من سلوك المالك لشهاب الدين بن أبي الربيع13، وكأنه اقتبسه منه.
يقول الماوردي إن البلدانَ نوعان: مزارع وأمصار. «فأما المزارعُ؛ فهي أصول المواد التي يقوم بها أودُ الملك، وتنتظم بها أحوال الرعايا». وبعد أن يبينَ قواعد «بلدان المزارع» وخصائصَها، ينتقلُ الماوردي إلى بيان الأهداف التي تنشأ من أجلها الأمصارُ (المدن)، ويسميها باسم:«الأوطان الجامعة».
ثم يقررُ أن مقاصدَ المدنِ خمسةُ أمور: أحدها: أن يستوطنَها أهلها طلباً للسكون والدعة. والثاني: حفظ الأموال فيها من استهلاك وإضاعة. والثالث: صيانة الحريم والحرم من انتهاك وذلة. والرابع: التماس ما تدعو إليه الحاجة من متاع وصناعة. والخامس: التعرض للكسب وطلب المادة. فإن عُدم فيها أحدُ هذه الأمور الخمسة، فليست من مواطن الاستقرار، وهي منزل قيعةٍ ودمار»14.
تلك هي «المقاصد الخمسة» لتأسيس المدن الأمصار كما أدركَها الماوردي وعبر عنها. أما شروطُ عمارتها وفنون تخطيطها فيوضحها في ستة شروط أو قواعد عامة:
«أحدها: سعةُ المياه المستعذبة. والثاني: إمكانُ الميرة المستمدة. والثالث: اعتدالُ المكان الموافق للصحة والهواء والتربة. والرابع: قربُه مما تدعو الحاجة إليه من المراعي والأحطاب. والخامس: تحصينُ منازله من الأعداء والزعار. والسادس: أن يحيط به سواد يعين أهله بمواده». ثم يعقب على ذلك ويقول:« فإذا تكاملت هذه الشروط الستة في إنشاء مصرٍ، استحكمتْ قواعد تأبيده، ولم يُزَل إلا بقضاءٍ محتوم، وأجلٍ معلوم»15([16]).
ويكرر الماوردي مجموعةَ المبادئ الكلية العامة التي تتعلق بأصول تدبير وإدارة شؤون المدينة، أو المصر الجامع؛ التي تحدث عنها ابن أبي الربيع. ويرى أن على منشئ المصر في حقوق ساكنيه ثمانيةَ أمور:
«أحدها: أن يسوقَ إليه ماء السارية إن بَعدَت أطرافه؛ إما في أنهارٍ جارية، أو حياضٍ سائلة؛ ليسهل الوقوف عليه من غير تعسف. والثاني: تقدير طرقه وشوارعه حتى تتناسب ولا تضيق بأهلها، فيستضرُّ المار بها. والثالث: أن يبني جامعاً للصلوات في وسطه ليقرب على جميع أهله، ويعمم شوارعه بمساجده. والرابع: أن يقدرَ أسواقه بحسب كفايته وفي مواضع حاجته. والخامس: أن يميزَ خططَ أهله وساكنيه، ولا يجمع بين أضداد متنافرين، ولا بين أجناس مختلفين. والسادس: إن أراد الملك أن يستوطنه؛ سكنَ منه في أفسح أطرافه، وأطافَ به جميعَ خواصِّه، ومن يكفيه من أمر أجناده، وفرق باقيهم في بقية أطرافه ليكفوه من جميع جهاته، وخصَّ أهلَه بالعدل، وجعلَ وسطه لعوام أهله. والسابع: أن يحوطَهم بسور إن تاخموا عدواً، أو خافوا اغتيالاً. والثامن: أن ينقلَ إليه من أعمال أهلِ العلوم والصنائع ما يحتاجُ إليه حتى يكتفوا بهم، ويستغنوا عن غيرهم». فإذا قام منشئُ المصر بهذه الالتزامات الثمانية «فقد أدى حق مستوطنيه، وصار أكملَ الأمصار وطناً»16.
ويتبين من تلك المبادئ والقواعد العامة: أنها تقدمُ تصوراً نظرياً شاملاً لما يجب أن يكون عليه عمران المدينة؛ كي تكون موطناً للاستقرار، ومقاماً يحفظ لقاطنيه الكرامة، والحرية، والعدالة، والأمن والسلم العام. وهذه كلها مصالح كبرى، ومقاصد شرعية عامة؛ وهي مقاصد ومصالح تنتظمُ الاجتماع السياسي الإسلامي بكل تكويناته وجماعته، كما أنها تسهمُ في تنظيمه وتدبيره في آن واحد17.
لقد أدت قوةُ الدولة العباسية وتعاظمُ هيبتها خلال فترة المعتصم إلى حركة عمرانية واسعة النطاق. ولم يكن هذا التقدم العمراني مجردَ ظاهرةٍ؛ بل إنه كان حقيقةً متماسكة ومترابطة من حيث المدخلات والمخرجات، فالتقدمُ العمراني يفترضُ الاستقرار السياسي من جانب، وهو من جانبٍ آخر يقود إلى ازدهار التجارة ونمو الأموال، فضلاً عن نوع من سيادة مبدأ العدالة بين الرعية، إلى جانب نمو مختلف الحرف والصناعات ورقيها، بينما كانت فترةُ حكمِ المستعصمِ نقيض هذه الحقائق؛ الأمر الذي ينهض دليلاً على صحة نسبة كتاب شهاب الدين بن أبي الربيع إلى القرن الثالث الهجري وزمن المعتصم بالله. وبعد قليل سيأتي في وصفِ بغداد العباسية ما يؤيد ذلك.
3 - عمران المدينة ومقاصدها في «ضياء الحكام» لعبد الله بن فوديو
في كتاب ضياء الحكام18، خصَّصَ الشيخُ عبد الله بن فوديو القسمَ الثالث عشر من الجزء الخامس من باب «السياسة الشرعية» لمسألة «نفي الضرر عن الجيران وغيرهم».
وفي هذا السياق وضعَ لائحةً بالأفعال التي من شأنها أن تحدثَ ضرراً، ويتعينُ تجنبُها عملاً بقول الرسول ﷺ «لا ضررَ ولا ضرار». وقد كان هذا المبدأُ ولا يزال ركناً أساسياً لرعاية المصالح والمقاصد في التصميم العمراني، كما في غير ذلك من شؤون الحياة.
وبتدقيق النظر في بنود هذه اللائحة يتبين أنها في تجلياتها التطبيقية: عبارة عن معايير جمالية ومعمارية لما يجب أن تكون عليه المدينة؛ الأمر الذي يؤكد وظيفية جماليات التكوين العمراني وفنونه من وجهة النظر التي عبر عنها بن فوديو. وقد تضمنت تلك اللائحة حصراً لأهم مصادر الضرر في الآتي:
1 - الدخان المنبعث من الحمامات والمخابز.
2 - غبار تذرية القمح.
3 - نتن الدباغين.
4 - بناء إسطبل بالقرب من الجار.
5 - بناء طاحونة، أو محل حداده بالقرب من الجار.
6 - أي فعل يتسبب في ضرر يعتبر «حادثاً» ما لم يُبَرهَنُ عليه أنه قديم.
7 - فتح نافذة تطل على خصوصية الجار.
8 - لا يجوزُ بناء مزراب تتسرب منه المياه إلى ملكية الجار، حتى وإن كان لا يحدث ضرراً، إلا في حال وافق الجار على ذلك.
9 - لا يجوز أن يكون بابُ المنزل، أو البناء المطل على الطريق العام مواجهاً لباب آخر عبر الطريق، بل يتعين وضعه بطريقة تحجب الرؤية المباشرة للرواق، كما لا يجوز بناء مسقط، أو فتح نافذة في الدرب؛ أي الطريق غير النافذ الذي يملكه الأفراد الذين لديهم مرور فيه، من دون موافقة المالكين كلهم.
10 - لا يجوز طلاءُ الحائط الذي يملكه جار مجاور من جانب ملكية الجار الآخر.
11 - ترتكز صيانة قناة المياه القذرة على المبدأ القائل: كل مستعْمِل ٍمسؤول عن الحصة التي يستعملها، ويساعده الجار(الجيران) الذي يستعمل القناة. فمثلاً: إذا كانت القناة تستعملُها أربعة منازل؛ يقومُ مالكُ المنزل الأول بتنظيف حصته من القناة، ويساعده جاره الثاني على التنظيف، ومن ثم يقومُ هذان الاثنان بمساعدة الجار الثالث، وهكذا دواليك.
12 - امتلاكُ الأشجارِ في أرضِ شخص آخر؛ يجوِّز له دائماً المرور، ويمكن لصاحب الأرض المطالبة بأن يكون المرورُ عبر الطريق الأقصر والمباشر إلى موقع الأشجار.
13 - موقع الممر الذي تستخدمه العامة، وإنما يمر في ملكية خاصة وكان موجوداً منذ أن اشترى المالك الأرض أو ورثها؛ لا يستطيع المالكُ تغييرَ موقع الممر، وإن كان يسبب ضرراً له؛ ذلك بأن العامة تستخدم هذا الممر. وقد يسعى المالك إلى الحصول على إذن الإمام؛ الذي يمكنه بعد تفحص الموقع أن يحددَ ما إذا كان تغيير الممر ممكناً ومفيداً لكل من المالك والعامة التي تستخدمه»19.
يحتاجُ هذا النصُّ إلى كثيرٍ من التحليل من منظورات متعددة: فقهية وعمرانية وجمالية ومقاصدية. وحبُّ الحصيد هنا هو: أنه (أي: هذا النص) يعتبر جزءاً من المشروع الإحيائي الكبير، الذي كان يتبناه الثلاثي الفودي: الشيخ عثمان، وأخوه الشيخ عبد الله، وولده الشيخ محمد بللو.
وقد ارتكز هذا المشروع «الفودي» على ثلاثةِ أركان هي: إحياء الشريعة الإسلامية في بلاد حوض نهر النيجر وما حولها، وإقامة مجتمع تحكمه الشريعة وتوجهه مقاصدُها العامة وهو ما يتجلى جانب منه في النص الذي أوردناه، وإعادة نسج صلة هذا المجتمع مع مرجعيات الشريعة ومقاصدها وسوابقها في الثقافة الإسلامية وتجاربها الحضارية. ويعتبر هذا النص أيضاً من أواخر ما أنتجه فقهُ السياسة الشرعية بشأن فنون العمران المدني ومقاصده؛ حيث خلت كتب هذا النسق من موضوع «المدينة» وفنونها العمرانية بدءاً من القرن الثالث عشر الهجري. وغيابُ هذا الموضوع عن ما سميناه «نسق الفقه السياسي الحضاري» في العصر الحديث له أسباب وعلل لها مقام آخر لبحثها، وتقصي دلالاتها ونتائجها؛ وبخاصة على صورة «المدينة الإسلامية» في وعي الأجيال المعاصرة من أبناء المجتمعات الإسلامية.
ثالثاً: نموذج من المدن الإسلامية المبكرة: بغداد في العصر العباسي
تأسست بغدادُ في سنة 145هـ/762م؛ أي قبلَ ظهورِ أيٍ من كتب الحكمة السياسية والنصائح السلطانية والسياسة الشرعية، تلك الكتب التي سلفَ ذكرُ نماذجَ منها فيما سبق.
وبطبيعة الحال فإن اختياري لبغداد في هذا السياق؛ ليس للبحث في مطابقة تصميمها العمراني وفنونه مع ما وردَ في نصوص تلك الكتب بهذا الخصوص20، وإنما باعتبارها «نصاً مدينياً» بحد ذاتها؛ وفق ما جاءَ في وصفِها عند عددٍ من كبار المؤرخين ومنهم: الطبري في كتابه تاريخ الأمم والملوك، والمسعودي في كتابه مروج الذهب، وابن مسكويه في كتابِه تجارب الأمم، وابن الجوزي في كتابِه المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، واليعقوبي في كتابِه البلدان، والخطيب البغدادي في كتابِه تاريخ بغداد، وابن الطقطقي في كتابه الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية. وسأقــتصر هنا على مقتطفــاتٍ تصفُ بغداد من زوايا متعدــدة عند كلٍ من: اليعقوبي، والخطيب البغدادي. وابن الطقطقي. وقد كان اليعقوبي والخطيب من مشاهير مُؤرخي المدن، أما ابن الطقطقي فكان من مشاهير كُتَّاب الآداب السلطانية.
1 - وصف بغداد في كتاب اليعقوبي: البلدان
رسم اليعقوبي(ت:278هـ/891م) الملامحَ العامة لعمران بغداد ومشهدها البصري العام. ونبَّه في كتابه البلدان إلى أن أهمَّ ملامحها هو: أنها «مدينةٌ مستديرةٌ». وكان هذا التصميم الدائري مستوحىً من سوابق العمارة المدينية التي عرفتها حضارةُ بلاد ما بين النهرين قبل الإسلام. ولم يجد مؤسسو بغداد الإسلامية أي غضاضةٍ من الاستفادة من هذا التقليد العمراني، مع إعادة صوغِه وفق المعايير الجماليةِ والمقاصدية الإسلامية.
بعد أن أشارَ اليعقوبي إلى إنشاء بغداد وسط ساحة شاسعة خالية من أي بناء، وبعد أن أشادَ بها، أورد بيانات تصف مكوناتها العمرانية الأولى، ومنها: أن المنصورَ شيَّد قصراً تعلوه قبةٌ خضراء هائلة، وإلى جانبه الجامع الكبير. وذكر أيضاً أن المنازلَ المخصصة لاستقبال نخبة موظفي الدولة والكبار من قادة العسكر؛ توزعت حول القصر بشكل منتظم. وقد تضمنت هذه النواة أربع شوارع لكل منها باب: باب البصرة، وباب الكوفة، وباب خراسان، وباب الشام. وكان من شأن هذه الأبنيةِ أن تثيرَ البهجةَ، وتدعو للهيبة والاحترام في نفوس الناظرين إليها من ظاهر المدينة.
ثم وصفَ بعضَ تفاصيل تصميم بغداد العمراني والمساحات العامة التي ميزتها وقال:« ووقع لكل أصحابٍ؛ ما يصير لكل رجل من الذرع، ولمن معه من أصحابه، وما قدره للحوانيت والأسواق في كل ربض، وأمرَهم (المنصور) أن يوسعوا في الحوانيت؛ ليكونَ في كل ربض سوقٌ جامعةٌ، تجمع التجارات، وأن يجعلوا في كل ربضٍ من السكك والدروب النافذة وغير النافذة ما يعتدلُ المنازل... وحدَّ لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعاً بالسوداء، والدروب ستة عشر ذراعاً، وأن يبنوا في جميع الأرباضِ والأسواق والدروبِ من المساجد والحمامات ما يكفي مَنْ في كلِّ ناحية ومحلةٍ»21. وأورد اليعقوبي إحصاءاتٍ عن بعض المنشآت العمرانية، التي استوعبت الكثيرَ من فنون التصاميم الهندسية والجمالية، ومنها: أن بغداد كان بها في نهاية القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي ما مجموعه 45.000 مسجدٍ ومصلى (خمسة وأربعون ألف مسجد ومصلى). ومثل هذا المبالغات نجدها عند مؤرخ بغداد الكبير؛ الخطيب البغدادي.
2 - وصف بغداد في كتاب الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد
استهلَّ الخطيبُ البغدادي (ت:463هـ/1071م) كتابَه في تاريخ بغداد22 بوصفٍ مطول للمدينة، وركز على مكوناتها العمرانية، وأقسامها الأساسية التي تشكلت منها شخصيتُها العمرانية باعتبارها عاصمةَ الخلافة العباسية وهي في أوج عظمتِها. وقد أشاد بفنونها المعمارية والجمالية الماديةِ والمعنويةِ معاً، وقال:« مناقب (بغداد) التي أفردَها الله بها دون سائر الدنيا شرقاً وغرباً، وبين ذلك من الأخلاقِ الكريمة، والسجايا المُرضِية، والمياه العذبة الغدقة، والفواكه الكثيرة الدمثة، والأحوال الجميلة، والحذق في كل صنعة، والجمع لكل حاجة، والأمن من ظهور البدع، والاغتباطِ بكثرة العلماء والمتعلمين، والفقهاء والمتفقهين، ورؤساء المتكلمين، وسادة الحساب، والنحوية، ومجيدي الشعراء، ورواة الأخبار والأنساب، وفنون الآداب، وحضور كل طرفة، واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد؛ لا يوجد ذلك في بلدٍ من مدن الدنيا إلا بها؛ سيما زمن الخريف، ثم إذا ضاق مسكنٌ بساكن، وجد خيراً منه، وإن لاحَ له مكانٌ أحبَّ إليه من مكانه لم يتعذر عليه النقلةُ إليه من أي جانب من جانبيه أراده، ومن أي طرف من أطرافه خفَّ عليه، ومتى هربَ أحد من خصمه، وجد من يستره في قربٍ أو بُعدٍ»23.
يقول فرانسوا ميشو في دراسته عن بغداد: إن هذه التصورات التي ذكرَها الخطيبُ البغدادي «ارتقت ببغدادَ إلى مصاف مدينة فريدة تحيا في قلب الدنيا، وتجمع بين ميزات وثروات جميعِ المدن الأخرى، وهي أقرب إلى الرمزية منها إلى الحقيقة، وخاصة بعد تراجع السلطة الخليفية... ومع ذلك فهي تصوراٌت قوية، ولا تزال ماثلة حتى اليوم، في خيال العرب؛ لأنها تعبر عن توق لماضٍ عظيم، وترمز إلى حلم بأمة مسلمة موحدة»24.
ويوحي كلام ميشو بكثير من التحفظات على ما ذكره الخطيب البغدادي. وقد يكون معه بعض الحق لا كله؛ حيث أن ما أورده البغدادي فيه بعضُ المبالغات ومنها قوله: أن الحمامات بلغ عددُها في بغداد في عهد المأمون 65.000 حمام (خمسة وستين ألف حمام)، لكلٍ منها خمسة خدام (=300.000 خادم)، وأن كلَّ حمَّامٍ كان يخدمُ خمس مصليات، ولكلِّ مصلى خمسة أشخاص (=300.000 خادم). وتبدو المغالاةُ واضحة في تلك الإحصاءات، ويبدو منها أن الغرض هو إظهار عظمة المدينة، وبيان بلوغها أوج مجدها في عصر المأمون. وللخروج من هذه المبالغة؛ يرجح المؤرخ العراقي الراحل الدكتور عبد العزيز الدوري أن عددَ حمامات بغداد في ذلك العصر بلغَ 1500حمَّامٍ (ألفاً وخمسمائة حمام) في نهاية القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وأن كلَّ حمام كان يخدمُ مئتا منزلٍ، وبافتراض أن كل منزل فيه خمسةُ أفراد، فإن إجمالي عدد سكان بغداد يكون مليوناً ونصف المليون نسمة وهي في أوج مجدها.
وإذا أخذنا في الاعتبار عديد المنشآت الأخرى، ودقَّقنا في أوصافَها ووظائفَها ومواقعَها على خارطة المدينة؛ فإنها في مجملها تؤكد على الأهمية الجمالية التي كانت تضفيها على المدينة، إلى جانب وظيفية هذا العدد الكبير من الحمامات ودورها الكبير في النظافة البدنية، وفي الصحة العامة لسكان بغداد، وأيضاً في نظافة بيئتها الداخلية. والنظافة العامة والخاصة هي من الوسائل الأساسية لبلوغ كليات المقاصد الشرعية الخمس: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال.
3 - وصف بغداد في كتاب ابن الطقطقي: الفخري في الآداب السلطانية
وصفَ ابنُ الطقطقي (ت:709هـ/1309م)، مدينةَ بغداد عند نشأتها الأولى، في كتابه: الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية25. ومما جاء فيه أن أبا جعفر المنصور خرج بنفسه يرتادُ موضعاً يسكنه، ويبني فيه مدينةً له، ولأهله ولجنده، ثم أرسل جماعة من الحكماء ذوي اللب والعقل، وأمرهم بارتياد موضع فاختاروا له مدينته التي تسمى مدينة المنصور... «فحضر إلى هناك واعتبرَ المكان ليلاً ونهاراً، فاستطابه، وبنى به المدينة»26.
وقبل الشروع في بناء بغداد، يقول المؤرخون: «خُططت المدينة، ورُسم التخطيطُ بالرماد؛ ووضعت كراتٌ من القطن مشبعة بالنفط، ثم حرقت هذه الكرات، فتركت آثاراً، ثم بدؤوا حفر أساس المدينة مكان هذه الآثار، وأشرف خمسةُ مهندسين على التصميم، وكان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يقوم بعدِّ (الطوب) اللبن والآجر، ويقيسه بمسطرة مدرجة اخترعها لهذا الغرض لاختصار عملية العدِّ، كما كان رضي الله عنه واحداً من أربعة مشرفين شاركوا في البناء27. وجعل المهندسون البناؤون عرضَ السور من أساسه خمسين ذراعاً، ومن أعلاه عشرين ذراعاً. وخصصوا ثلثَ مساحة المدينة للميادين والحدائق والملاعب. وقد ابتدأ البناءُ في سنة 145هـ، وفي سنة 146هـ نقلوا إليها بيت المال والديوان، وفي سنة سبع وأربعين ومائة تم البناء. واشتهرت بأنها «مدينة مدورة28.
وهذه الإشارة التاريخية التي أوردها ابن الطقطقي عن مشاركة الإمام أبي حنيفة في جهود تأسيسِ بغداد تدلُّ بوضوح على إسهام الفقه في وضع المعايير العمرانية والجمالية والوظيفية للمدينة، التي غدت بمرور الزمن؛ وبخاصة إبان ازدهارها، نموذجاً عالمياً لما يجب أن تكون عليه المدينة الإسلامية، من حيث تشكيلُها العمراني وفنونه وجمالياته العامة. وقد عرَّف الإمام الأعظم أبو حنيفة المصرَ الجامع أو المدينةَ أنها هي:«كلُّ بلدة فيها سكك، وأسواق، ولها رساتق (قرى)، ووالٍ لدفع المظالم، وعالمٌ يرجع إليه في الحوادث» ويظهر من وصف المؤرخين «مدينة بغداد» أن هذا التصور العام قد انتقل من الحيز النظري إلى حيز التطبيق؛ إضافةً إلى أن تلامذة الإمام قد نقلوا عنه هذا الاجتهاد، وأضافوا إليه، ونشروه في جهات مختلفة من البلدان الإسلامية29.
ولكن هجمات المغول قضت على بغداد مرتين، الأولى في عام 656هـ/1258م على يد هولاكو، والثانية في عام 803ه/1401م، على يد تيمورلنك، وحلَّ بها الخرابُ بعد العمران، والقبحُ بعد البهاء والجمال. وكتب المقريزي في خططه متألماً لما حل بعاصمة الخلافة، ومشيراً إلى أنها كادت تفقد صفة «المدينة» نظراً لما حل بها من الخراب وما كساها من القبح، فقال: «بغداد مخربة؛ غابت عنها الأسواقُ والجوامع، وغاب عنها المؤمنون والمؤذنونَ، وجفَّ فيها معظم أشجار النخيل، وانسد معظمُ القنوات، وأنه يصعب تسميتها مدينة»30.
رابعاً: المعالم الكبرى لفنون عمران المدينة الإسلامية ومقاصدها
النماذجُ الثلاثة، السابق ذكرها من تراث الآداب السلطانية والسياسة الشرعية، إضافة إلى ما ورد بشأن وصفِ بغداد في بعض كتب التاريخ؛ كلها تؤكد على أن تخطيط المدن والأمصار الإسلامية قد حظي بقدرٍ معتبر من الاهتمام. وما ورد في تلك النماذج نجده متواتراً في كثير بعض مصادر هذا التراث. وقد استمر ظهورُه بصياغات مختلفة، وإن كانت خافتةً في بعض سياقات «نسق السياسة الشرعية» حتى مشارف العصر الحديث. ويعتبر كتاب «ضياء الحكام» للشيخ عبد الله بن فوديو من أكثرها تفصيلاً، وأحدثها ظهوراً كما سلفت الإشارةُ إلى ذلك.
وبقراءةٍ أولية وإجمالية في نصوصِ النماذج، السابق ذكرها، يمكن إبداءُ عددٍ من الملاحظات العامة بشأن «المدينة» الإسلامية كما تصورها تلك النصوص التراثية:
الملاحظة الأولى هي: أن المدينةَ حسب إدراك كتاب الآداب السلطانية والسياسة الشرعية عبارةٌ عن كائن عضوي حي. يتألف من أجزاء شديدةِ الترابط، مع أنماط سكن واتصال وأمكنة وجماليات عامة، ومؤسسات متداخلة ومتبادلة التأثير؛ تنتج معاً ثقافةَ الحياة المدينية. وأن المقصد الأساسي لفنون المدينة العمرانية وجمالياتها هو: تهيئة البيئة المدينية للحياة الطيبة بمفهومها القرآني.
الملاحظة الثانية هي: مركزيةُ المسجد الجامع، وتوسطه أقدمَ أحياء المدينة الإسلامية. وغالباً ما كان «المعمار المسجدي» بحد ذاته آيةً من آيات الجمال وفنونه وزخرفته المبهرة. وكان المقصدُ من هذه المركزية المسجدية بوسط المدينة هو: إظهارُ أهمية المرجعية الدينية في الحياة الاجتماعية. ولهذا السبب رُوعي في التخطيط العمراني أن يكونَ الوصولُ إلى هذا المركز يسيراً على الجميعِ من جميع الجهات، كما نصَّ على ذلك صراحة كلٌ من ابن أبي الربيع والماوردي.
الملاحظة الثالثة هي: أن المركزَ الديني للمدينة المتمثل في جامعها الكبير31، غالباً ما تمت إحاطته بالأسواق والخانات ووكالات التجارة، وأحياءِ طوائف أصحاب الحرف المختلفة. والمقصدُ الأساسي من ذلك هو: إظهار ارتباط شؤون الدنيا بالدين، وأنه لا فصلَ بينهما، وأيضًا التنبيه من خلال مشهد بصري يدركه العامةُ والخاصة بيسر وسهوله في المجال العام إلى أن السعيَ والكدحَ لإنتاج الثروة يتساوى في مقاصدِه ولا يقل أهمية مع السعي لتحصيل الاستقامة والسلوك القويم، وتقوى الله، ومراقبة النفس؛ عبر الالتزام بأداء العباداتِ في الجامع، وفي مقدمة هذه العبادات: «الصلاة» التي وصفها القرآن الكريم أنها: «تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي».
الملاحظة الرابعة هي: أنه مع التطورِ العضوي للمدينة الإسلاميةِ واتساعِها بعد المراحل الأولية لتأسيسها، انتظمت مسالكُ الذهاب إلى قلبِ المدينة والإياب منه عبر الشوارع الكبيرةِ، وعبر الشوارع الضيقة والأزقة المغطاة، التي أُطلق عليها اسمُ «السقائف» في بعض البلدان، وخاصةً في مناطق الأسواق، وذلك بقصد حماية المارة ورواد السوق وبضائعهم من حرارة الشمس ومن المطر. وخضعت تلك الشوارع في كل الأحوال لمقاييس وظيفية؛ من حيث سعتها وحرية المرور، والسلامة المرورية فيها أيضاً، حفاظاً على الأنفس والأموال، وهي من كليات الضروريات الخمس.
الملاحظة الخامسة هي: وجودُ الأسوارِ حول المدينة الإسلامية، أسوةً بأغلب المدن التي عرفتها الحضارات الأخرى غير الإسلامية. كما ظهرت البواباتُ الضخمة، التي كانت تُقفل على الأحياء السكنية التي تحتويها، وزاد انتشارها في فترات اختلال الأمن وشيوع الفتن والصراعات بين الطوائف32. وكان المقصدُ الأساسي هو الإسهام في حفظ الأنفس والأموال وضبط الأمن، وكلها من المصالح الضرورية أيضاً.
الملاحظة السادسة: أن النظافةَ العمومية تعتبر قاسماً مشتركاً في قواعد العمران المديني وفنونِه التي تحدثت عنها كتب الآداب السلطانية والسياسة الشرعية بلا استثناء؛ وذلك لما للنظافة من أهمية مركزية متعددة الأبعاد في الشؤون الحياتية: الجمالية والعبادية والصحية والبيئية. وما ورد في كتاب ضياء الحكام لابن فوديو بشأن وجوب العناية بالنظافة وتجنب الضرر واضح الدلالة بما فيه الكفاية.
وتؤكد دراساتٌ عدة على أن: عنصر المياه قد أسهمَ إسهاما بارزاً في التكوين العمراني والجمالي المقاصدي في كثير من المدن الإسلامية الأصيلة ومنها: صنعاء، وقرطبة، والقاهرة، وغرناطة، وحلب، وفاس...إلخ. كما تؤكد على أنَّه قد جرى عزلُ أماكن الحرف الصاخبة والملوثة للبيئة والخطرة في مناطق خاصة؛ حرصاً على السلامةِ العامة في أغلبِ المدنِ الإسلامية. وسهر المحتسبُ على النظام والنظافة العامة في المدينة...33. وتندرجُ مثل هذه التدابير ضمنَ مقاصد الجماليات العمرانية ودورها في حفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ المال.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كتبَ أصول البنيان والخطط العمرانية للأمصار والمدن الإسلامية34 تضمنت هي الأخرى الكثيرَ من القواعد العمرانية؛ وبخاصة فيما يتعلق بوجوب توافر أنظمة عامة للنظافة، ومراعاة الجوانب الجمالية في المجال العام من السقايات، والفوارات، والمفترجات، والميادين الرحبة، والأشجار الوارفة، والاستراحات العامة...إلخ.
هذا مع التأكيد على وجوب الالتزام بمعايير الجودة في التخطيط وهندسة البناء. وما انفك المؤرخون يشيدون بحسن صنيع البنائين الذين حرصوا على تطبيق آراء العلماء ووصاياهم المقاصدية في تصميم المدن والأمصار.
ولابد أن مراعاةَ تلك الشروط في تأسيس المدن قد استلزمَ تطبيقَ معايير جمالية متنوعة. وكان من شأن تطبيق تلك المعايير: توفير ضمانات لا غنى عنها لسلامةِ الصحة النفسية، والاتزان العقلي لسكان المدينة ؛ فالمشاهد الجميلة، والألوان المتناسقة، والمساحات الخضراء، والزهور المبهجة، والموقع الملائم للهواء النقي، وما شابه ذلك مما ورد في بعض كتبِ الآداب السلطانية والسياسة الشرعية، أو في «معايير» تأسيس المدن الإسلامية؛ كل ذلك كان من شأنه أن يؤثر إيجابياً على المزاج النفسي العام؛ بخلاف مشاهد التلوث والقبح والفوضى والضجيج والعشوائية؛ التي تضر بالصحة النفسية، وتشجع على العنف وارتكاب الجرائم، ومن ثم إلحاق الأذى بالنفس، والمال، والنسل، والعقل، والدين في آن واحد؛ أي إهدار المقاصد العامة للشريعة بجملتها.
خامساً: الحداثة وتَشويه مقاصد عمران المدينة الإسلامية: رؤية في الواقع المعاصر
رغمَ ثراء عمران المدينة وتنوع جمالياتِها في الحضارة الإسلامية، ورغم نشوءِ 300 مدينة «إسلامية» وفق معايير مرجعية واحدة، وطرزٍ معمارية وفنية متنوعة «ما بين أرض الهند وتركستان شرقاً إلى أرض الأندلس غرباً»35رغم كل هذا لم تتطابق أحوالُ المدن الإسلامية على مر الزمن تمامَ التطابق مع تلك الصورة التي رسمتها كتبُ الآداب السلطانية والسياسة الشرعية، ولا حتى مع النماذج العمرانية الأولى المبكرة التي قدمتها بعض المدن ومنها مدينة «بغداد» على وصفها الذي جاء في المصادر التاريخية؛ وإنما اقتربت منها حيناً وابتعدت عنها حيناً. وإذا كان تصميمُ المدن الجديدة في القرونِ الأولى للعالم الإسلامي قد تم وفقَ مقاصد ووظائف محددة؛ إلا أن ازدهار هذه المدن ونجاحها في أداء وظائفها وتحقيق مقاصدها، قد ارتبط بدرجة الالتزام بتطبيق النظام الإسلامي الشرعي في تكوين النسيج المديني من جهة36، وارتبطَ وتزامن تاريخياً مع قوة الدولة من جهةٍ أخرى37. وعليه يمكن القول: إن الابتعادَ عن التوجيهات العمرانية المستمدة من الشرع، إلى جانب ضعف الدولة وتفككها؛ هذا وذاك قد أسهما في تشويه مقاصد الفنون العمرانية الموروثة، وأثرا سلبياً على أدائها الوظيفي في خدمة «الحياة الطيبة»، حتى قبلَ وفود تأثيرات الحداثة في القرنين الأخيرين واقتحامِها أغلبَ مجتمعاتِ الأمة الإسلامية وتشويهها مدنها التاريخية.
وطبقاً للقانون العام الذي يحكم نشأة وتطور المدن في مختلف التجارب العمرانية الحضارية؛ فإن المراحَل الأولى من عمر المدينة غالباً ما تتسم بدرجة عالية من الانضباط المقاصدي في التصميم والبناء، وفي الجمالياتِ والبهاء، وفي الانتظام الوظيفي وفق الخطط الأساسية الموضوعة للتكوين المديني. ثم قد يحدثُ بعد مرور أحقاب زمنية طويلة نسبياً أن يختل ذلك الانضباط، ويتحول الانتظام إلى العشوائية. وهذا ما حدث بالفعل لأغلبية المدن الإسلامية من القديم إلى الوسيط إلى الحديث والمعاصر38. ومن الصواب القول مع رضوان السيد أن المدينةَ الإسلامية التاريخية قد زال نظامُها وترتيبُها في العصر الحديث39، وآل أمرها في أفضل الحالات إلى ذمةِ المدن الأثرية والمزارات السياحية.
بوفود الحداثةِ خلالَ القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين (التاسع عشر والعشرين الميلاديين) شهدت المدنُ الإسلامية التقليدية تحولاتٍ جذريةً في مكوناتها العمرانية الكبرى، وبخاصة في منظومة: الجامع والسوق والفندق أو النُّزل ودار الوالي، أو مقر السلطة وأجهزتها الإداريةِ والأمنيةِ. وبات هذا التكوينُ أقرب إلى التناثر واللانظام في علاقاته الجمالية والمقاصدية. وفي رأي البعض أن تأسيسَ «شركة النقل البحري العام» (شركت حايري) في إستانبول في خمسينيات القرن التاسع عشر كان «إيذاناً بوصول الحداثة إلى المدينة الإسلامية»40. وأسهمت هذه الحداثة في بعثرة المنظومات العمرانية التراثية وإفقادها الكثير من وظائفها، مع تشويه الصورة العامة التي كانت تميزها.
وقد لاحظتُ بمناسبة هذا البحث أنَّ إشكاليةَ «المسألة العمرانية المدينية» بمرجعيتها المقاصدية غائبةٌ تماماً عن إدراكات الحركات الإصلاحية التي تتبنى الرؤية الإسلامية للحياة ومرجعيتها العليا. ومن الأدلة على هذا الغياب أن أغلبَ كُتُبِ «الفقه السياسي الحضاري» في القرنينِ الهجريين الأخيرين تخلو من مناقشة هذه المسألة العمرانية خلواً شبه تام؛ ولم تتضمن إلى الآن تصوراً للمدينةِ يلبي حاجات الواقع المعاصر وفق المرجعية الإسلامية ومقاصدِها؛ رغم أن أحوال «المدن الإسلامية» التاريخية، وأحوال «المدن الجديدة» التي نشأت في البلدان الإسلامية تعجُّ بكثيرٍ من التشوهات والقبائح والمتناقضات العمرانية التي يتعذر معها بلوغ مقصد «الحياة الطيبة»؛ حيث تتجاور «مدن الكومبوندز» الباذخة في بنائها وتحصيناتها، مع مدن «الصفيح والقصدير»، و«مدن المقابر»، و«مدن العشوائيات» المزريةِ في بنائها وخدماتها وشروط الحياة الآدمية فيها. ولكن رغم ظهور هذا التناقض بجلاء؛ إلا أنه لم ينطرح في أدبيات «الفقه السياسي الحضاري» المعاصر سؤالُ «المسألة العمرانية»، وما يتعين أن تكون عليه «المدينة» وفق نسق التفكير المقاصدي الأصيل.
إن أهمَّ ما يكشفُ عنه التاريخ الحديث والمعاصر للفنون في مجتمعاتِنا الإسلامية عموماً، وبشأنِ فنون التخطيط العمراني المديني وجمالياتِه خصوصاً؛ هو أنها أصبحت واهيةَ الصلةِ بنسق التفكير المقاصدي، وأضحت في خدمة عمليات إعادة تشكيل الوجدان الفردي والجماعي بعيداً عن المرجعية الإسلامية ومقاصدها العامة؛ بل وعلى نحو معادٍ لهذه المرجعية في بعض الأحيان.
وظني أن «الفنون العمرانية الحديثة» في بلادنا بجملتها قد أسهمتْ في تعميقِ حالة الانقسام الثقافي بين اتجاهات متعارضة؛ بعضها يتمسك بهويته الموروثة، وبعضها ينفتح على هويات وثقافات أخرى وافدة. وكان من نتائج ذلك أن مجتمعاتنا عاشت ولا تزال تعيشُ ضمن تصورات ورؤى حضارية متضاربة بين الموروث والوافد؛ ولا تجد نفسها فاعلة فيها؛ بل تجد نفسهَا في أغلب الأحوال مادةً استعمالية لتلك التصورات الوافدة. وبمرور الوقت زادت التحدياتُ التي تواجه «المدينة الإسلامية»؛ وزاد انفصالُها عن استلهام مقاصد الشريعة، وزاد ابتعادُها عن خدمة هذه المقاصد. وبات من يتصدى للإبداع العمراني والجمالي وفنونه بمرجعية إسلامية بحاجة ماسةٍ إلى تأهيل رفيع المستوى، وحرفية بارعة، ورؤية فلسفية واسعة الأفق، واقتدارٍ سياسي يستجيب لمقاصد الشريعة ويكون في خدمتها؛ على النحو الذي كان عليه أسلافه من مصممي المدن وواضعي خططها في عصور الازدهار الحضاري الإسلامي.
خاتمة
ما تتضمنه بعضُ كتب الآداب السلطانية والسياسة الشرعية من نصوص خاصة بتصميم المدن والأمصار، يقدم دليلاً نصياً على حضور الفنون وجمالياتها في التكوين العمراني للمدن والحواضر الإسلامية. وتشيرُ النصوص، التي أوردنا نماذج منها، إلى أن كتَّاب تلك الكتب قد استوعبوا معاني الجمال العمراني وفنونه ووظائفه، وأدمجوها فيما قدموه من نصائح وإرشادات لأولي الأمر ومؤسسي المدن والأمصار. وفي نورِ القراءة الإجمالية لبعض تلك النصوص يتأكدُ المفهوم الموسع للشيءِ الجميل أو الحسن الذي أشرنا إليه في مستهل هذا البحث، وهو يعني: أن كل ما يلائم الطبع السليم (الفطرة) حسنٌ، وما لا يلائمه قبيحٌ41.
إن إتقان الفنون العمرانية في تأسيس المدن كان تعبيراً عن تفكيرٍ مقاصدي من الطراز الأول؛ حيث رأى أولئك القدماء من الخبراء والعلماء وأولي الأمر؛ أنه لا غنى عن تلك الفنون وإتقانِ تصميمها لضمان شرط أساسي من شروط «الحياة الطيبة»، والصحة النفسية الجيدة، والاتزان العقلي لسكان المدينة؛ فالمشاهدُ المبهجة، والألوان المتناسقة، والمساحات الخضراء، والحدائق المفرحة، والنظافة العامة؛ كلها تؤثرُ إيجابياً على المزاج النفسي العام؛ بخلاف مشاهد القبح والفوضى والقذارة والعشوائية التي تضرُّ بالصحة النفسية وتشجعُ على العنف، ومن ثم تسهمُ في إلحاق الأذى بالنفس، والمال، والنسل، والعقل، والدين في آن واحد.
وإذا كان التشوهُ، أو الاختلاطُ الذي آلت إليه «المدينة» الإسلاميةُ الموروثة منذ مئات السنين قد حدثَ بفعل عوادي الزمن، وعواملِ الإهمال، وتدني قدرات الإدارة العامة في ظل الدولةِ الحديثة في أغلبِ بلدان الأمة الإسلامية وعجزها عن «سياسة شئون المدينة» بكفاءةٍ، فإن «المدن الجديدة» وأقصد هنا: المدن التي لا يتجاوز عمر أقدمها نصف قرن من الزمان قد أصابها ما أصابَ المدن القديمة، وخاصة فيما يتعلق بتآكل «التكوين العمراني المقاصدي» إلى حد التلاشي: المادي والمعنوي. وأوضحُ مظاهرِ هذا التآكل هو اختفاءُ الجماليات وفنونها، وضمور الساحات العامة، وانتشار الأوساخ والقمامة بشكل مقزز، إلى جانب «مدن الصفيح»، و«مدن المقابر»، والعشوائيات والقبائح البصرية والسمعية التي تغص بها أغلب مدن العالم الإسلامي المعاصر!
لقد ارتبطت المدن الجديدة حديثةَ النشأة برؤى مختلفة تماماً لا صلةَ لها بتلك الرؤى الموروثة للعيشِ في الأمصار، على النحو الذي كان حاضراً في أذهان كتاب الحكمة السياسية والآداب السلطانية والسياسة الشرعية. ولا تزال الفكرة المهيمنةُ في المدن الجديدة هي: «الأزمة» السكانية الضاغطة على أماكن التجمعِ القديمة، التي أصابها ما أصابها من تدهورٍ وتآكل في بناها الأساسية، ومساحاتها العامة على السواء في عددٍ كبير من مدن العالم الإسلامي. إن فكرة الأزمة كفكرة كامنةٍ في فلسفة تخطيط وتعمير المدن الجديدة في أغلب بلدان العالمِ الإسلامي؛ هي فكرةٌ للهروب من تراكم السلبيات التي أفقدت المجالَ العامَّ وجوده ووظائفه الجمالية والمقاصدية في الأذهان، قبل أن تفقده في المكان. ولهذا تجد أن ما تعاني منها المدينةُ القديمة الموروثة، ينتقلُ بسهولةٍ ويسر إلى «المدن الجديدة» المستحدثةِ.
من المنطقي أن يؤدي اختلافُ «فلسفة العمران» المديني من حضارةٍ إلى أخرى، إلى اختلاف الذوقِ الجمالي وصور التعبير عنه ومقاصده ووظائفه تبعاً لذلك. وهذا الافتراض تؤكدُه كثيرٌ من الدراسات المقارنة للتكوينات المدينية عبر التجارب الحضارية المختلفة، (دعك من محاولات طمس هوية المدينة «الإسلامية» بدعوى أنها لم تضف شيئاً إلى التنظيمِ المديني، الذي عرفه الإغريق واليونانيون والرومانيون)42. ولكن الأحوالَ الراهنة في كثيرٍ من «المدن» في بلدان الأمة الإسلامية تشير إلى أنها قد فقدت الكثيرَ من مقوماتِ هويتها المستقلة، وأنها آلت إلى وضع يمكن وصفها فيه بأنها مدن ذات هوية مشوهة، وذات اجتماعٍ سياسي مختلط، وجماليات هي إلى القبائح أقرب منها إلى المحاسن.
وأخيراً؛ فإن ثمة فرضية جديدة أطرحُها في ختام هذا البحث لتكون موضوعاً لبحث ٍآخر وهي: أن اللحظة التي فقدت فيها المدينة الإسلامية هويتها الذاتية؛ إما بفعل التدهور والدمار، أو بفعل الاقتحام العمراني «الحداثي» وتشوهاته؛ هي ذاتُ اللحظة التي ابتعدت فيها «المدينة الإسلامية» عن النسق المقاصدي، وأضحت عبئاً عليه وعائقاً من العوائق الموضوعية التي تحد من فعاليته. وأن بالإمكان استرداد هذه الفعالية وفقَ شروطِها الموضوعية عمرانياً وجمالياً وقيمياً؛ كي تسهم مجدداً في تحقيق مقصد «الحياة الطيبة» وفق معايير المرجعية الإسلامية.
هذا ما تبين لي في موضوع البحث، وبالله ثقتي وعليه اعتمادي وتوكلي، وهو الموفق للصواب.
المراجع
إبراهيم البيومي غانم، ميراث الاستبداد (القاهرة: نيو بوك، 1439هـ/2018م).
إبراهيم البيومي غانم (محرر)، الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، 1438هـ/2017م).
ابن الرامي البنَّاء، الإعلان بأحكام البنيان، تحقيق فريد بن سليمان (تونس: دار النشر الجامعي، 1999م).
أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي، تاريخ مدينة السلام وأخبار قطانها العلماء من غير أهلها ووارديها، (حققه وضبط نصه وعلق عليه: بشار عواد معروف، بيروت: دار الغرب الإسلامي،1422هـ/2002م).
آدم عبد الله الإلوري، الإسلام في نيجيريا والشيخ عثمان بن فوديو الفلاني؛ المجاهد الإسلامي الأكبر بغرب أفريقيا والجد الأعلى للشهيد أحمد بللو، تقديم عبد الحفيظ أولادوسو (بيروت، والقاهرة: دار الكتاب المصري اللبناني، ومكتبة الإسكندرية، 1435هـ/2014م).
الماوردي، ابو الحسن علي بن محمد بن حبيب، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة المَلِك، تحقيق ودراسة: رضوان السيد (بيروت: مركز بن الأزرق لدراسات التراث السياسي، ط2 1432هـ/2012م).
جميل عبد القادر أكبر، «هل هناك مدينة إسلامية؟»، مجلة جامعة الملك سعود العمارة والتخطيط، المجلد رقم(6)، الرياض (1414هـ/1994م).
حامد كرهيلا، أثر الإسلام في تشكيل السلوك الاجتماعي في جزر القمر(رسالة دكتوراة الخرطوم: جامعة أم درمان الإسلامية، 1439هـ/2018م).
رضوان السيد، الجماعة والمجتمع والدولة (بيروت: دار الكتاب العربي، 1418هـ/1997م).
رضوان السيد، «مصائر المدينة والمدينة الإسلامية: المطالب المتجددة لفقه الحضارة والعمران»، ورقة عمل في «ندوة فقه العمران»(مسقط: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، 18 - 21 ربيع الثاني 1431هـ/3 - 6 إبرايل 2010م)،
زكي محمد حسن، أطلس الفنون الزخرفية والتصاوير الإسلامية (القاهرة: مطبعة مصر 1937م).
سلمى الخضراء الجيوسي (وآخرون)، المدينة في العالم الإسلامي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014م)
سلمى الخضراء الجيوسي (وآخرون)، الحضارة العربية في الأندلس (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1999م).
شهاب الدين ابن أبي الربيع، سلوك المالك في تدبير الممالك، تحقيق وترجمة حامد عبد الله ربيع (القاهرة: مطابع دار الشعب، 1403هـ/1983م).
عبد الله بن فوديو، ضياء الحكام فيما لهم وعليهم من الأحكام، تحقيق شيخ وسى(زاريا نيجيريا: طبعة جامعة أحمد بيللو [ب.ت]).
محمد المعتصم، «المدينة الإسلامية وخصائصها». دراسة منشورة في حولية كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية جامعة قطر، العدد الثاني 1400هـ/1980م.
محمد عبد الستار عثمان، المدينة الإسلامية (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أغسطس 1988).
محمود بن إسماعيل الخيرميتي، الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء، تحقيق أحمد الزعبي، وتقديم رضوان السيد (بيروت: مركز ابن الأزرق لدراسات التراث السياسي،1433هـ/2012م).
تقي الدين المقريزي، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار، تحقيق أيمن فؤاد سيد (لندن: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي،1434هـ/2013م).
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: الفنون في ضوء مقاصد الشريعة 2 ، 2019، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، ص 247-286 . يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |