أحمد عوض هندي: أستاذ قانون المرافعات- كلية الحقوق- جامعة الإسكندرية
لم تعد الاتفاقيات الدولية تقتصر على تنظيم علاقات الدول أو الحكومات بعضها ببعض في النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية، وإنما تجاوزت ذلك وتدخلت في مختلف المجالات، ومنها المجالات الاجتماعية، وفي المجال الاجتماعي (علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض وعلاقة أفراد الأسرة فيما بينهم...) شاعت الاتفاقيات الدولية، وغدت هذه الاتفاقيات تنظم أمرًا تمس عادات الشعوب المختلفة وتقاليدها وآدابها.
وحتى لا تفاجئ الشعوب باتفاقيات تصطدم بمقوماتها الاجتماعية والدينية، لجأ واضعو الاتفاقيات الدولية إلى طرح المفاهيم الجديدة- بالنسبة لدول العالم الثالث، التي اعتادت عليها الدول المتقدمة- على هيئة قوانين أو تشريعات نموذجية، وتدعو الدول إلى الأخذ بها تدريجيًّا، حتى تعتادها مختلف الدول وتصبح بمثابة قوانين عالمية.
وإذا كان هذا النهج مقبولًا ومنطقيًّا في المسائل التجارية والاقتصادية، والسياسية، فإنه يكون نهجًا صادمًا في المسائل الاجتماعية، وخاصة مسائل الأحوال الشخصية، التي تنظر مختلف الشعوب إليها على أنها مسائل خاصة بها، وأنها نتاج قيم وعادات وتقاليد نابعة منها، ولا تقبل هذه الشعوب أي تدخل- من الخارج- في هذه الأمور، سواء أخذ صورة اتفاقية دولية أو قانون نموذجي.
ولما كانت الدول الإسلامية تترك تنظيم المسائل الاجتماعية، وأمور الأحوال الشخصية، للفقه الإسلامي، وتحرص على مبادئ وقيم دينية، مستمدة من الدين الإسلامي الحنيف، وتدور حول مقاصد الشريعة، فإنها حينما تنضم إلى اتفاقية ما، تتحفظ عليها بعدم تعارض أحكامها مع مبادئ الشريعة الإسلامية، خاصة أن الاتفاقية الدولية، بمجرد التصديق عليها تتحول إلى تشريع وطني له قوة القانون، وبالتالي فإن تحفظ الدول الإسلامية يكون بهدف التملُّص من أحكام هذه الاتفاقية المتعارضة مع الشريعة الإسلامية.
ونعرض أولًا لمقاصد الشريعة الإسلامية، ثم تنظيم العلاقة بين مقاصد الشريعة وأحكام القانون، الوطني والمقارن، ونعرض بد ذلك لمفهوم الاتفاقيات الدولية وأثرها، وتعدد الاتفاقيات الاجتماعية وقوتها، ثم نعرض لموضوع التحفظ وأثره ومدى ملاءمته، وأخيرًا نعرض لتحفظات الدول الإسلامية على الاتفاقيات الدولية.
1- مقاصد الشريعة الإسلامية:
أساس الأحكام الشرعية هو الإنسان ومصالحه، فالمصلحة هي مدار الشرع، فحيث توجد المصلحة فثَمَّ شرعُ الله، والمصلحة تمثل العدل1، ومقاصد الشريعة تسعى إلى تحقيق ذلك. والمصلحة تعني المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينَهم ونفْسَهم وعَقْلَهم ونَسْلَهم ومالَهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة هو «مصلحة». وكل ما يفوِّت هذه الأصول هو «مفسدة»، ودفعه مصلحة. فجميع العلوم الشرعية تسعى إلى معرفة وفهم مقاصد الشريعة التي قامت لإسعاد الإنسان وتحقيق مصالحه في الدنيا، بالأمن والسلام، وفي الآخرة بالفوز بالنعيم الأبدي2.
فقال سبحانه وتعال: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]. فالله خلق الإنسان ليعبده، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. وأنزل عليه كتابه لتنظيم حياته ليسعد في دنياه لا ليشقى، ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 1-2].
وتأتي مهمة الفقهاء في فهم مقاصد الشرع من خلال علم أصول الفقه، وهو علم يقتدر به على استنباط الأحكام من أدلتها، بالوقوف على حكم الله تعالى على العباد؛ من وجوب وندب وحظر وكراهة وإباحة، فينتهي بذلك إلى سعادة الإنسان الأبدية3.
إن وراء كل حكم شرعي جلْبَ مصلحة ودَرْءَ مفْسَدة، فأوامر الشرع تتبع المصالح الخالصة أو الراجحة، ونواهيه تتبع المفاسد الخالصة أو الراجحة4. وإبراز علل الأحكام ومقاصدها أمر يفيد الفقهاء والمجتهدين كما يفيد عامة الناس (المكلفين)؛ لأنه حين يدرك مقصود الحكم الذي هو مُطالبٌ به يكون أكثر إقبالًا عليه وأكثر حماسًا في تنفيذه5.
وتنقسم مقاصد الشريعة من حيث الحاجة إليها إلى ثلاث مراتب: ضرورية، وحاجيَّة، وتحسينية.
والمقاصد الضرورية: هي ما لا بد منه لحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويكون ذلك بإقامة أركانها وتثبيت قواعدها ودرء المفاسد الواقعة أو المتوقعة عليها، ولقد شُرع لحفظ النسل النِّكاحُ وأحكامُ الحضانة، وشُرع لحفظها حرمة الزنَى واللِّواط وترتيب العقوبات على ذلك.
أما المقاصد الحاجيّة فهي التي تتحقق من دونها الأمور الخمسة، ولكن مع الضيق والحرج، فشرعت للحاجة إلى رفع الضيق عنهم حتى لا يقعوا في حرج قد يفوِّت عليهم المطلوب، ولذا شرع الطلاق والمهور.
أما المقاصد التحسينية فهي ما كان تركها لا يؤدي إلى ضيق ولكن مراعاتها منفعة، مع مراعاة الأخذ بما يليق وتجنب ما لا يليق، وذلك تماشيًا مع أحكام الأخلاق ومحاسن العادات، وفيما يتعلق بحفظ النسل شرعت أحكام الكفاءة في اختيار الزوجين وآداب المعاشرة وغيرها، أي إن التحسين هو ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، ولكنه يقع موقع التحسين والتوسعة6.
ويراعى أن هذه المقاصد هي مقاصد الشريعة الإسلامية، أي المبادئ والأسس والأهداف العامة التي تراعيها الشريعة الإسلامية وتعمل على تحقيقها من خلال أبوابها التشريعية7. وإن كان على الفقه الإسلامي السعي الدائم لإدراك هذه المقاصد، إلا أنها مقاصد للشريعة وليست مقاصد للفقه، فيجب عدم الخلط بين «الشريعة الإسلامية» و«الفقه الإسلامي»، فالشريعة الإسلامية هي المنهج وقواعد العبادات، أي مجموعة النصوص القرآنية والأحاديث الصحيحة الواردة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، أي السنّة المؤكَّدة.
وهذه النصوص الشرعية المتعلقة بالمنهج والعبادات لها طابع القداسة والإلزام ولا تقبل تبديلًا، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان. أما الفقه الإسلامي فهو اجتهادات الفقهاء الذين يدرسون النصوص الشرعية لاستنباط الأحكام الفقهية فيها، أي إنه نشاط عقلي بشري يهدف إلى إيجاد الحلول للمشاكل العملية، استنادًا إلى النصوص والمصادر الشرعية الملزِمة. وآراء الفقهاء ليس لها قداسة النصوص أو إلزامها؛ لأن هذه الآراء يمكن أن تتغير بتغير الزمان وظروف المكان8.
2- العلاقة بين مقاصد الشريعة وأحكام القانون:
تقوم قواعد القانون بتنظيم العلاقات بين الأفراد بما يحفظ حقوقهم ويحقِّق مصالحهم، فيسود العدل بينهم، وبتحقُّق مصالح المجتمع يُدفع الضرر عنه. كذلك فإن أحكام الشريعة الإسلامية قصد منها- دون شك- تحقيق مصالح المجتمع الإنساني ودفع المضارِّ عن الإنسانية في العصور والأماكن كافة، فالشريعة لم تأمر بشيء أو تنهى عنه إلا إذا كان فيه مصلحة حقيقية، ودفع ضرر، واجتناب مفاسد مهلكة9.
ومع مراعاة أن: المصلحة في القانون تعني الفائدة أو النفع الذي يعود على الأشخاص- محض نفعٍ أو دفع ضرر- ومعيارها مادي نفعي، وهو ما يصب في صالح الأفراد والمجتمع واستقراره. أما في الشريعة- أو لدى الفقه الإسلامي- فهي تتمثل في كل ما فيه صلاح ونفع للخلق في دنياهم أو في دينهم، بالمحافظة على مقصود الشرع من الخلق، أي حفظ الأصول الخمسة بما يحقق السعادة الحقيقية للناس. فمقاصد الشرع يجب مراعاتها، وحيث تتعارض مقاصد الشرع مع مقاصد الخلق فإن مقاصد الناس لا تكون في الواقع والحقيقة مصالح بل أهواء وشهوات زينتها النفس وألبستها العادات والتقاليد ثوب المصالح، وبالتالي لا يُعتد بها10.
وإذا كانت المقاصد الشرعية هي نفسها المصالح الشرعية، المصالح التي تعود على العباد في دنياهم وأخراهم، سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع أو عن طريق دفع المضار، وأن المقاصد منها الضرورية والحاجية والتحسينية، فإن المصالح التي يدور حولها حكم الشرع هي المصالح المعتبرة والمرسلة، دون المصالح الـمُلْغاة.
والمصالح المعتبرة هي المصالح التي اعتبرها الشارع، بمعنى أنه شرع لها الأحكام الموصِّلة لها، أي المصالح التي قام الدليل الشرعي على اعتبارها، ووضع من الأحكام ما يوصِّل إليها، وهذه المصالح هي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعِرْض.
والمصالح المرسلة هي المصالح المطلقة عن تعيين دليل الاعتبار والإلغاء، لكنها ترجع لأصل شرعي عام يُعلم بالكتاب والسنة، فهي مصلحة تدخل في مقاصد الشرع ولكن لا يقوم دليل خاص على إلغائها أو بقائها، فهي مصالح لأنها تجلب نفعًا وتدفع ضررًا وهي تعتبر مرسلة؛ لأنها مطلقة عن اعتبار الشارع أو إلغائه، فهي غير مقيدة؛ لأنه لم يدل دليل خاص من نصوص الشارع على اعتبارها أو إلغائها.
أما المصالح الملغاة فهي مصالح أهدرها الشرع وألغاها ولم يعتبرها، فهي لا تعتبر مصالح بالمعنى الدقيق، بل يمكن القول إنها مفاسد ولكن البشر قد يتوهم أنها مصالح. مثل المصلحة المتوهمة فيما يتعلق بالتسوية بين المرأة والرجل في الميراث، مصلحة المرابي في حصوله على الربا لزيادة رأس ماله11.
ويمكننا القول: إنه إذا كان إسعاد البشر هو هدف الشريعة والقانون، والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، وإن المصالح المعتبرة لدى الشرع هي مصالح معتبرة أيضًا في القانون، وإن تفاوتت الأحكام والقواعد التي تنظم حماية هذه المصالح12، فإن المصالح المرسلة- التي لها أهميتها في الفقه الإسلامي، وهي المجال الخصب للاجتهاد، وسيلة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية، بما يواكب التطورات المتلاحقة، ويحقق مصالح العباد، بما لا يخالف الأحكام قَطْعيةَ الثُّبوت والدِّلالة- لها الأهمية ذاتها والقدر نفسه الذي لها في القانون.
أما المصالح الملغاة، لدى الفقه الإسلامي، فقد تمثل المجال الذي يتفاوت فيه معنى المصلحة بين الفقه الإسلامي والقانون، وهي تمثل كذلك المجال الخصب الذي يمكن أن تنْفذ منه المفاهيم المادية المطلقة إلى الدول الإسلامية، من خلال الاتفاقيات الدولية والقوانين النموذجية، ومن هنا كانت أهمية تحفُّظات الدول الإسلامية على هذه المعاهدات والقوانين.
وبعبارة أخرى: يمكن القول: إن المصلحة في القانون مغلفة أحيانًا بالمادية والنفعية: نفع الأشخاص والمجتمع، ويحاول المشرع إحداث توازن بين المصالح الخاصة فيما بينها، ثم تحقيق التوازن بين المصالح العامة والمصالح الخاصة، وإن المصلحة في القانون ذات أساس اجتماعي وضعي، أما في الفقه الإسلامي فمقاصد الشريعة مرتبطة بمصالح موضوعية، المصالح تتحدد باعتبار الشارع لها وليس باعتبار الأفراد الذاتي لها؛ فالمقاصد الشرعية محددة تحديدًا شرعيًا وهي ذات أساس ديني صحيح يتميز بالثبات مع التطور، وأن هذه المقاصد أعم وأشمل من الأهداف في فلسفة القانون الوضعي. فهي مقاصد موضوعية، تكمن بها كل عوامل ملاءمتها وتناسقها مع ظروف الفرد في الجماعة، مع احترام المصالح الفردية، وأنه لا يوجد تعارض بين المقاصد الشرعية13.
على أنه لا خلاف بين القانون والشريعة في استهداف تحقيق النظام في المجتمع كفاية كلية، وإن كان لكل منهما مفهومه الخاص ووسائله ومفاهيمه في تحقيق هذه الغاية، وهذا المقصد العام مرتبط بالمصلحة. وإن تحقيق المقاصد الشرعية بأقسامها المختلفة يعتبر من مقاصد النظام14 القانوني الوضعي في مصر. ودليل ذلك النصوصُ القانونية العديدة التي تحرص على تحقيق هذه المقاصد، والمادة الثانية من الدستور السابق (دستور 1971) والجديد لسنة 2012؛ (الإسلام دين الدولة... ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع)، والمادة 219 من هذا الدستور الجديد: (مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتمدة من مذاهب أهل السنة والجماعة). فهذا ضابط دستوري لكل النظام القانوني في مصر، بمقتضاه يجعل من مقصد مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية عند التشريع، مقصدًا ضروريًّا، يترتب على مخالفته، أي تفويته، عدم دستورية القانون وبالتالي تعريضه للإلغاء.
3- مفهوم الاتفاقيات الدولية وأثرها:
المعاهدة الدولية هي اتفاق دولي مكتوب يبرم بين شخصين أو أكثر من أشخاص القانون الدولي العام، يستهدف ترتيب آثار قانونية معينة طبقًا للقانون الدولي العام. وتعد المعاهدة أكثر تحديدًا وانضباطًا عن غيرها من مصادر القانون الدولي الأخرى (العرف الدولي، مبادئ القانون العامة التي أقرتها الدول المتمدينة، وأحكام المحاكم ومذاهب كبار الفقهاء)، مما يقلل من فرص الاختلاف حول تفسير المعاهدات وتطبيقها.
كما أن المعاهدة وسيلة قانونية سريعة وسهلة لإنجاز أي هدفٍ تسعى إليه الدول، إذ يمكن من خلالها للدول أن تنظم مجالات الحياة الدولية كافة: السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وغيرها، وكذلك تقنين ما استقرت عليه الجماعة الدولية من قواعد قانونية، وسَنُّ ما تحتاجه من قواعد قانونية جديدة لتواكب التطور المتنامي للمجتمع الدولي15.
وإذا صدَّقت الدولة على المعاهدة فإنها تلتزم نهائيًّا بها، ولا يجوز لها الامتناع عن تنفيذها، وعليها أن تتخذ التدابير الضرورية كافة لوضعها موضع التنفيذ16. وللدولة أن تنضم إلى معاهدة أبرمتها دول أخرى، إذا سمحت بذلك نصوص هذه المعاهدة، أو بناء على اتفاق الأطراف فيها، وبالانضمام للمعاهدة تلتزم الدولة بإرادتها بالمعاهدة فتصبح الدولة المنضمَّة طرفًا في المعاهدة، وعليها أن تتخذ التدابير الضرورية كافة لوضع المعاهدة موضع التنفيذ. وللدولة المنضمَّة أن تلتزم بجزء فقط من معاهدة نافذة إذا سمحت بذلك المعاهدة، أو وافقت على ذلك الدول المتعاقدة الأخرى17.
وتدخل المعاهدة حيِّز التنفيذ بعد إبرامها والتأكد من سلامتها وصحتها من عيوب الرضا كافة، وتوافر الأهلية اللازمة للتعاقد لدى الدول الأطراف، وعدم تعارض أحكامها مع أية قاعدة من قواعد القانون الدولي العام الآمِرة. وتدخل المعاهدة حيز التنفيذ من تاريخ رضا أطرافها كافة بالالتزام نهائيًّا بأحكامها (أي بالتصديق عليها بحسب الأصل، أو بالتوقيع في حالات محددة، أو بالانضمام)، فتسري دون أثر رجعي، فيجب على أطرافها احترام أحكامها والعمل على تنفيذها وفقًا لاعتبارات حسن النية، وهذا ما أكدته اتفاقية ڤيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969. وإنه من شأن إخلال أحد الأطراف باحترام أحكامها، أو تراخيه في تنفيذ التزاماته أو تعطيله، أن يعرضه للمسؤولية الدولية. فعلى كل طرف أن يتخذ التدابير والإجراءات الضرورية كافة، كإصدار قانون أو لائحة معينة لوضع المعاهدة موضع التنفيذ، والالتزام بالامتناع عن أي فعل أو عمل من شأنه أن يعطِّل العمل بالمعاهدة المرتبطة بها، كما لا يجوز لطرفٍ أن يحتج بقانونه الداخلي كمسوِّغٍ لإخفاقه في تنفيذ المعاهدة.
ويُرْجَع في مسألة وضع المعاهدة في إطار النظام القانوني لكل من أطرافها إلى دستور كل دولة طرف، حتى تكتسب قوة القانون في الدولة وتلتزم بتطبيقها18.
مع مراعاة أن آثار المعاهدات نسبية، أي تقتصر على أطرافها ولا تلتزم بها دولة غير طرف، كما لا يجوز لهذه الدولة الاحتجاج بالمعاهدة. ومع ذلك يمكن الاحتجاج بالمعاهدة على دولة ليست طرفًا فيها، أو أن تتمسك هذه الدولة بحق بمقتضى المعاهدة، وذلك إذا قصد الأطراف في المعاهدة أن يكون النص الوارد في المعاهدة: (الذي يُنشئ على الدولة الغير التزامًا)- وسيلة لإنشاء الالتزام وقَبِلَتْه الدولة الغير صراحةً وكتابةً (المادة 35 من معاهدة ڤيينا)، كذلك قد ينشأ للدولة الغير حق من نص في المعاهدة، أو قصد الأطراف فيها أن يمنح النص هذا الحق، إمَّا للدولة الغير، أو لمجموعة من الدول التي تنتمي إليها، أو لجميع الدول، ووافقت الدولة الغير على ذلك.
وتفترض الموافقة ما دامت الدولة الغير لم تُبْدِ العكس إلا إذا نصت المعاهدة على خلاف ذلك (المادة 36 من اتفاقية ڤيينا)، مع مراعاة أن المعاهدات الشارعة (أي التي قصد أطرافها من وراء إبرامها إنشاء قواعد دولية جديدة لتنظيم العلاقات فيما بينهم) لا ينطبق عليها مبدأ نسبة الأثر بالنظر؛ لأن آثارها القانونية تنصرف إلى جميع أشخاص القانون الدولي العام، أي إن المعاهدات الشارعة تنطبق على الدول الغير دون رضاها، وتفلت من مبدأ النسبية. كما أن المعاهدات المقننة للعرف الدولي تُلْزم غير أطرافها بالنظر إلى أن دورها تقنيني- فقط- لقواعد قانونية عامة مجردة تسري على جميع أشخاص القانون الدولي العام، فمصدر الالتزام هو العرف وليس المعاهدة، وكذلك فإن المعاهدة المبرَمة بين مجموعة الدول تلزم غير الأعضاء فيها، إذا ثبت أن أعضاء الجماعة الدولية تواترت على الالتزام بكل أو بعض أحكامها، إذ تصبح هذه الأحكام عندئذ أحكامًا عرفية، ومن ثم تلتزم بها أعضاء الجماعة الدولية كافة19.
4- ظهور المعاهدات ذات الطابع الاجتماعي وخطورتها:
إذا كانت المعاهدات والاتفاقيات الدولية هي الوسيلة المناسبة لتنظيم العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول، فإن الواقع يشهد بأنها دخلت المجال الاجتماعي، فظهرت الاتفاقيات الدولية، برعاية الأمم المتحدة، التي تنظم حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، ومناهضة التعذيب، ومكافحة التمييز، كما ظهرت اتفاقيات تحمي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك الحقوق المدنية والسياسية. وهي بذلك لا تكتفي بتنظيم العلاقات بين الدول، وإنما تتدخل في حقوق الأفراد داخل الدولة، وفي علاقاتهم بعضهم ببعض وفي علاقاتهم بالدولة، وبذلك فإنها تصطدم بقيم كل مجتمع وعاداته، خاصة أن ما تراه بعض الدول أمرًا عاديًّا وحقًّا مقررًا للأفراد، تنظر إليه دول أخرى نظرة الحذَر والرِّيبة.
ويُعَدُّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، من أعم هذه الاتفاقيات، حيث قرر الحقوق الأساسية للإنسان وأهمها الحق في المساواة والحرية والكرامة- دون تمييز من أي نوع ولاسيما بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر- والحق في الحياة، والأمن الشخصي، والسلامة البدنية والنفسية. الحق في الشخصية القانونية، والحق في محاكمة منصفة أمام محكمة مستقلة وحيادية، وفي التمتع بجميع الضمانات اللازمة للدفاع عن النفس، والحق في عدم التعرض لتخُّل تعسفي في الحياة الخاصة أو في شئون الأسرة أو المسكن أو المراسلات، أو لحملات تمسُّ شرف الإنسان وسمعته، والحق في التمتع بالجنسية، وحق الرجل والمرأة في الزواج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وفي المساواة في الحقوق عند التزوج، وخلال قيام الزواج، وعند انحلاله. والحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهية، والحق في الرعاية والمساعدات الخاصة للأمومة والطفولة.
وهذه الحقوق التي أقرها الإعلان العالمي لا تتعارض- في أغلبها- مع مقاصد الشريعة الإسلامية بل تتفق معها تمامًا، إلا أن بعضها يتعارض مع هذه المقاصد ومع بعض الأحكام الشرعية الثابتة، مثل الحق في التزوج، دون أي قيد بسبب الدين، فالثابت في الفقه الإسلامي أنه لا يجوز للمسلمة الزواج بغير المسلم. وكذلك الحق في المساواة في الحقوق عند التزوج، وخلال قيامه، وعند انحلاله. فلذلك قد يصطدم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الحقوق التي أقرَّها في هذا الجانب بمفاهيم المهر، مقدَّمِه ومؤخَّرِه، والميراث في الشريعة الإسلامية. وهو ما دفع أغلب الدول الإسلامية إلى التحفظ على هذه الأمور عند تصديقها على هذا الإعلان.
أما اتفاقية القضاء على أشكال التمييز كافة ضد المرأة (السيداو) CEDAW، التي أُبرمت سنة 1979، وانضمت إليها مصر وصدَّقت عليها سنة 1981، فتشمل ديباجة و30 مادة تتضمن تفصيلًا لحقوق المرأة الإنسانية على نحو لم تأت به وثيقة أخرى متعلقة بحقوق الإنسان من قبل. فقد حظرت الاتفاقية التمييز ضد المرأة، أي حظْر كل تفرقة أو استبداد أو تقييد يتم على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه إضعاف أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، أو في أي ميدان آخر، أو إضعاف أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية، وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل.
وألزمت الاتفاقية الدول بإدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الدساتير الوطنية وتشريعات كل دولة، وكفالة التطبيق العملي لهذا المبدأ، وفرض حماية قانونية لحقوق المرأة عن طريق المحاكم الوطنية والمؤسسات الأخرى، من أي عمل تمييزي ضدَّها، وإلزامها بالامتناع عن أي عمل أو ممارسة تمييزية ضدَّها، مع اتخاذ التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة أو مؤسسة، مع تغيير أو إلغاء القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزًا ضد المرأة، وإلغاء جميع الأحكام الجزائية الوطنية التي تشكل تمييزًا ضد المرأة.
كما فرضت الاتفاقية على الدول تمكين المرأة، مع جواز تمييزها مؤقتًا، والقضاء على الأدوار النمطية للجنسين، والقضاء على الإتجار بالمرأة، وفرض المساواة في الحياة السياسية والعامة، وفي قوانين الجنسية، وفي التطليق، وفي العمل، وفي الحصول على خدمات الرعاية الصحية، وفي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكفالة المساواة أمام القانون، وفي العلاقات العائلية، مع التأكيد على إلزام الدول بالقضاء على التمييز ضد المرأة في المناطق الريفية، وأن تنشئ الدول لجانًا للقضاء على التمييز ضد المرأة20.
ولا شك أن هذه الاتفاقية أرست مبادئ مهمة وحقوقًا مميزة للمرأة، وهي تدخل تحت عموم مقاصد الشريعة ولا تتعارض معها، ولكن بعض أحكام هذه الاتفاقية تخل بأحكام الشريعة الإسلامية، خاصة مساواة المرأة بالرجل في كافة الأمور المتعلقة بالزواج وعلاقات الأسرة في أثناء الزواج وعند فسخه، فالدول الإسلامية، ومنها مصر، تحفظت على ذلك بأن يكون ذلك دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية التي تكفل للزوجة حقوقًا مقابلة لحقوق الزوج بما يحقق التوازن بينهما.
ولأهمية اتفاقية (السيداو)، لتعرضها لوضع المرأة وحقوقها، مع إطلاق المساواة بينها وبين الرجل بطريقة ميكانيكية، ولأن هذه الاتفاقية تُشكل أفضل ما جرى الاتفاق عليه بين مختلف الدول لحماية المرأة ودفع الظلم الذي عانت منه طويلًا، لذلك يمكن القول: إن أغلب ما جاءت به اتفاقية (السيداو) للقضاء على أشكال التمييز كافة ضد المرأة في نطاق الأحوال الشخصية، يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية، خاصة حقها في عقد الزواج، وحريتها في اختيار الزوج، وفي عدم التزوج إلا برضاها الحر الكامل21.
أما بخصوص حقوق المرأة المالية المترتبة على عقد الزواج، فيمكن القول: إن الاتفاقية تتفق في ذلك مع أحكام الإسلام، إذ إن الإسلام لم يُقِرَّ بأية تفرقة، أو استبعاد، أو تقييد، يتم على أساس الجنس، بل يمكن القول: إن الإسلام يخالف الاتفاقية في أنه يكفل للزوجة حقوقًا مالية في أثناء الزواج، ويلقي بالمسؤولية على الزوج بما يعد تمييزًا لصالح المرأة، تمييزًا مستمرًّا باستمرار الحياة الزوجية، فالزوج هو المسؤول عن تقديم المهر للمرأة، وعن نفقات الزواج، وعن الإنفاق عليها22.
أما بخصوص حقوق المرأة غير المالية المترتبة على الزواج فتتفق (السيداو) مع الشريعة الإسلامية في أن الإسلام لم يقرَّ أية تفرقة- أو استبعاد أو تقييد- على أساس الجنس، يكون من آثاره أو أغراضه النَّيْل من الاعتراف للمرأة بحقوقها في الأمور غير المالية المتعلقة بالحق في الجماع، وعدم الإضرار بها في أثناء الزواج على أساس تساويها مع الرجل، كذلك إقرار الإسلام حقَّ الزوجة في تنظيم الإنجاب.
ولكن تختلف (السيداو) عن الإسلام في أن الإسلام يشترط في تنقُّل الزوجة وسفرها إذن الزوج وأنْ يكون السفر مع مَحْرَمٍ، وأن حرية الزوجة في اختيار مسكنها مقيدة بضرورة الإقامة مع الزوج حيث يقيم، طالما لم تشترط الزوجة في عقد زواجها مسكنًا معينًا أو مكانًا محددًا، بالإضافة إلى أن الإسلام خَصَّ الزوجة بحقها في المعاشرة بالمعروف وبحقِّ العدل، وخصَّ الزوج بمسؤوليته عن ذلك23.
أما بخصوص حق الزوجة في فراق الزوج والأولاد، فإن (السيداو) تخالف الشريعة الإسلامية؛ لأنها ترسي مساواة مطلقة بينهما في إنهاء الزواج، بينما تكفل الشريعة الإسلامية للمرأة حقوقًا متكافئة مع الرجل، بما لا يعني المساواة المطلقة بينهما في ذلك؛ لوجود تمايز في الخصائص والوظائف بين الرجل والمرأة24.
أمَّا بشأن حقوق المرأة في الاستحقاقات الأسرية (حقوق المرأة في النفقة في نطاق الأسرة، وفي الإرث) فالاتفاقية تخالف الشريعة الإسلامية؛ لأنها ترسي مساواة مطلقة، تماثل في مفردات الحقوق كافة ما يقابلها من واجبات. بينما تقوم الشريعة الإسلامية على التكافؤ بين الرجل والمرأة، فمجموع الحقوق والواجبات للمرأة يكافئ مجموع الحقوق والواجبات للرجل في هذا الشأن، وإن كان بينهما خلاف في مفردات تلك الحقوق بما لا يوجب نقص أحد المتخالفين عن الآخر25.
كذلك فإنه بخصوص حقوق المرأة في الوِلاية والوصاية والنَّسَب فإن هناك أوجه خلاف كثيرة. فاتفاقية (السيداو) خالفت الشريعة الإسلامية التي حظرت التبني، (بينما أوجبت (السيداو) المساواة بين الرجل والمرأة في التبني). كما أن الاتفاقية أقرت بحق الزوجة في اختيار لقبها على نحو متساوٍ مع الرجل، في حين أن الشريعة الإسلامية تحظر ذلك، إذ إن من شأنه منْعَ المرأة حقوقها في النَّسَب وتفريطها فيها26.
أما اتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989، التي انضمت إليها مصر سنة 1990- فقد تضمنت الحقوق الأساسية للطفل، وخاصة الحق في الحياة والسلامة البدنية، والحق في التعليم والرعاية الصحية، والحق في الحصول على معلومات، والحق في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة، وحقه في وسط عائلي مناسب، والحق في التربية، والحق في اللعب، وفي الحماية من صور الاستغلال.
وأنشأت الأمم المتحدة اللجنة المعنية بحقوق الطفل من عشرة خبراء، وهي تختص بالنظر في التقارير التي تقدمها الدول الأعضاء عما اتخذته من تدابير لتنفيذ الاتفاقية، وتجتمع اللجنة مرة كل سنة، وتقدم تقاريرها للجمعية العامة للأمم المتحدة كل سنتين، تضمّنها ما تراه من مقترحات وتوصيات تتعلق بتنفيذ الاتفاقية.
ورغم أن هذه الاتفاقية تتمشى في أغلبها مع أحكام الشريعة الإسلامية، غذ إنها تحمي حقوقًا أرستها الشريعة منذ أكثر من ألف وأربع مئة عام، إلا أنها تطرقت إلى موضوعات تتصل بمفاهيم غريبة قد تصطدم بأحكام الشريعة، أو بآراء الفقه الإسلامي، مثل العلاقة بين الجنسين أو التسوية في سن الزواج بين الفتى والفتاة- سن الثامنة عشر، والفحص السابق على الزواج- كما أن الاتفاقية حظرت ختان الإناث، وهو ما قد يلاقي مقاومة من بعض رجال الفقه في العالم الإسلامي.
وهناك أيضًا اتفاقية مناهَضة التعذيب، التي صدرت سنة 1984، وانضمت إليها مصر سنة 1986، وهي الاتفاقية التي حظرت أشكال التعذيب كافة والمشاركة فيه، وألزمت الدول باعتبار جميع أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي، تعاقب عليها بعقوبات مناسبة لخطورتها، وأوجبت الاتفاقية على كل دولة أن تدرج التعليم والإعلام فيما يتعلق بالتعذيب، في برامج تدريب الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين والعاملين في ميدان الطب، كما تعهدت كل دولة بأن تمنع حدوث أي أعمال أخرى مما يعد معاملة أو عقوبة قاسية أو غير إنسانية أو مهينة، ولو كانت لا تصل إلى حد التعذيب.
وأنشأت الاتفاقية لجنة دولية لمناهَضة التعذيب تتألف من عشرة خبراء على مستوى أخلاقي عالٍ، تنظر في تقارير الدول الأطراف عما اتخذته من تدابير لمناهضة التعذيب، ولهذه اللجنة أن تبدي التعليقات العامة كافة وترسلها إلى الدولة المعنية.
كذلك هناك الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، التي انضمت إليها مصر عام 1981، وتتضمن حق الفرد في الضمان الاجتماعي، وحق الأسرة في الحماية والمساعدة الممكنة، والحق في الزواج بالرضا الحر للأطراف المقبلة عليه، وحق الأمهات في حماية خاصة خلال فترة معقولة قبل الولادة وبعدها، وحق كل فرد في مستوى معيشة مناسب لنفسه وعائلته، وحقه في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية، والعمل على خفض نسبة الوفيات في الأطفال، وتحسين شتى الجوانب البيئية، والعمل على الوقاية من الأمراض المعْدِية والمتفشِّية والمهنية وغيرها، ومعالجتها وحصرها، والعمل على خلْق ظروف من شأنها أن تؤمّن الخدمات الطبية والعناية الطبية في حالة المرض.
وهناك أيضًا الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي صدرت سنة 1966، وانضمت إليها مصر سنة 1981، وتتضمن هذه الاتفاقية الحقوق المدنية والسياسية للشعوب والأفراد، وتقرر المساواة بين الرجال والنساء في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية الواردة فيها، مع تأكيد الحق الطبيعي لكل إنسان في الحياة، وضرورة حماية القانون لهذا الحق، وعدم جواز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي، وعدم جواز إخضاع أي فرد للتعذيب أو لعقوبة، أو معاملته معاملة قاسية أو غير إنسانية أو مهينة، وعدم جواز إخضاع أي فرد دون رضاه الحر للتجارب الطبية والعلمية، وحق كل فرد في الحرية والسلامة الشخصية، وحق العائلة في التمتع بحماية المجتمع والدولة. وللرجال والنساء في سن الزواج الحق في الزواج وتكوين أسرة، ولا يتم زواج بدون الرضا الكامل والحر للأطراف المقبلة عليه.
هذه هي أهم الاتفاقيات الدولية التي أبرمت في الفترة الأخيرة والتي تدخلت في مجال الحقوق الاجتماعية، وتتصادم في بعض نصوصها مع المفاهيم والقيم المستقرة في الدول الإسلامية. ولا شك أن الاتفاقيات الدولية يجب على الدول الأطراف فيها أن تحترمها، فنصوصها لها قوة مُلْزِمة، على ما أوضحناه، ولا يجوز لهذه الدول مخالفتها، وعلى الدول أن تتبع توصيات اللجان المشرفة على هذه الاتفاقيات، وأن تعدل قوانينها، بل ودساتيرها، بما لا يصطدم معها. وحينما تصدر الدول الأطراف تشريعات داخلية- بعد التصديق على الاتفاقية- فإن أحكام هذه الاتفاقية تتمتع بقوة قانونية ويلتزم القضاء بتطبيقها، طالما صدر بها قانون داخل الدولة.
وإذا حدث أن خالفت إحدى الدول أحكام اتفاقية (انضمت إليها، أو حتى لم تنضم إليها، على ما أوضحنا بصدد الاتفاقيات الشارعة، بالنسبة لبعض الاتفاقيات، مثل اتفاقية حقوق الإنسان، إذ إن على كل الدول احترامها)، فإن اللجنة المشرفة على تنفيذ الاتفاقية ترفع الأمر للأمم المتحدة، التي لها أن تلفت نظر الدول إلى المخالفات، ولها أن تتخذ ضدها إجراءات سلمية- تتمثل في عقوبات اقتصادية، تتخذها أجهزة الأمم المتحدة، بل يمكن أن يصل الأمر إلى عقوبات رادعة عسكرية، يتخذها مجلس الأمن- لحماية المدنيين في الدولة.
وفي كل الأحوال فإن الدولة المخالفة للاتفاقية لا تبطل عقوبتها ولا تطرد منها، وذلك حتى لا تتعلل الدول بالمخالفة، للتهرب من الالتزامات والاتفاقيات الدولية.
5- مفهوم التحفُّظ وأثره، وقيمة تحفُّظات الدول الإسلامية على الاتفاقيات الدولية:
القاعدة في القانون الدولي أنه يجوز للدول عند انضمامها إلى اتفاقية أو معاهدة دولية إبداء تحفظات، وتستند هذه القاعدة إلى العرف الدولي وإلى نص المادة 19 من اتفاقية فيينا الخاصة بقانون المعاهدات لسنة 1969، التي تجيز للدولة إبداء تحفظات عند الانضمام للمعاهدة.
والتحفظ كما عرَّفه مشروع هارفارد: بيان رسمي تخصص بمقتضاه الدولة- لدى التوقيع على المعادة أو تصديقها عليها أو الانضمام إليها- أحكامًا معينة تحد من أثر المعاهدة في علاقة الدولة بأطراف المعاهدة27. فهو إجراء قانوني تعلن الدولة الطرف في الاتفاقية بمقتضاه عن رغبتها في عدم الالتزام ببعض مواد أو أحكام واردة في الاتفاقية.
وتلجأ الدول إلى التحفظ كإجراء مؤقت ريثما تصبح الدولة قادرة على تنفيذ الحكم الذي تحفظت عليه، لأنها عند التصديق على الاتفاقية تكون غير قادرة- طبقًا لظروفها الداخلية- على تنفيذ التزام تتضمنه المادة التي ورد عليها التحفظ28.
ويترتب على التحفظ أن يرفع عن الدولة أثر النصوص أو المواد محل التحفظ، أي لا يسري حكم هذه النصوص أو المواد في مواجهتها. بمعنى أن الدولة تلتزم بإعمال أحكام الاتفاقية كافة، واتخاذ الإجراءات التنفيذية لوضع هذه النصوص موضع التنفيذ، بإصدار تشريعات داخلية وتعديل النصوص القائمة واتخاذ الإجراءات اللازمة كافة لتنفيذ أحكام الاتفاقية، عملًا- في الواقع- باستثناء الحكم الذي ورد عليه التحفظ.
ويتم التحفظ عادة وقت تصديق الدولة على الاتفاقية، وللدول الأعضاء رفض التحفظ أو قبوله، فإذا تم رفض تحفظ إحدى الدول، لأي سبب، فإن للدولة المتحفظة أن تنسحب من الاتفاقية، ولها أن تستمر فيها، وإذا استمرت الدولة التي تم رفض تحفظها، فإنها تكون عضوًا في الاتفاقية ويسقط تحفظها.
ويمكن لأي دولة أن تتحفظ على مواد أي اتفاقية، على أن هناك قيدًا عامًّا يحدد نطاق التحفظ، وضعته المادة 19 من اتفاقية ڤيينا لقانون المعاهدات، والتي حظرت أي تحفظ يكون منافيًا لموضوع الاتفاقية وغرضها.
وأكدت المادة 21 من الاتفاقية عدم سريان التحفظات التي تتنافى مع موضوع الاتفاقية وغرضها، فلا يكون لها أي اثر في القانون الدولي، وهو ما يعني أن تصديق الدولة المتحفظة يكون صحيحًا ويبطل فقط التحفظ غير الصحيح29.
ومفاد ذلك أنه لا يجوز لمن ينضم لأي اتفاقية أن يبدي تحفظًا يخالف غرض الاتفاقية أو موضوعها، أي حيث تتحفظ الدولة على نص لولاه لما كانت هذه الاتفاقية، فهنا يبطل التحفظ، وتكون الدولة عضوًا، ما لم تنسحب عند التصديق على الاتفاقية. فلا يجوز مثلًا للدولة المنضمَّة لاتفاقية (السيداو) أن تتمسك بالتمييز غير المسوَّغ ضد المرأة، ولا تتعهد حتى بمجرد العمل على إزالته، كما لا يجوز للدولة تسويغ تحفظها بمخالفة المواد- التي تتحفظ عليها- لقوانينها الداخلية التمييزية.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول: إن للدول الإسلامية أن تتحفظ على الاتفاقيات التي تنظِّم الحقوق الاجتماعية للأفراد بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. فللدول أن تتحفظ على نص محدَّد، ولها أن تتحفظ على الاتفاقية بشكل عام؛ بألَّا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهو ما فعلته مصر بصدد الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما تحفظت على الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية (وهو تحفظ عامٌّ بعدم التعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية).
أمَّا بصدد اتفاقية (السيداو) فقد أبدت مصر عليها التحفظ العام، بالإضافة إلى تحفظات على بعض النصوص، خاصة ذلك الذي يمنح المرأة حقًّا متساويًا مع الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالها.
(ولم يعد لهذا التحفظ قيمة بعد صدور القانون 154 لسنة 2004، الذي قرر المساواة بين الرجل والمرأة في شأن منح الجنسية لأطفالهما).
والتحفظ على تساوي المرأة بالرجل في كافة الأمور المتعلقة بالزواج وعلاقات الأسرة- في أثناء الزواج وبعد فسخه- بألَّا يخل بأحكام الشريعة الإسلامية.
والتحفظ على عرض ما قد ينشأ من خلاف بين الدول حول تفسير أو تطبيق الاتفاقية على هيئة التحكيم30.
والتحفظات الصادرة من مختلف الدول الإسلامية على الاتفاقيات الدولية- خاصة التي تتدخل في المجال الاجتماعي والأحوال الشخصية- هي تحفظات منطقية، وعلى الدول الأعضاء في هذه الاتفاقيات أن تراعيها وتعتد بها، ذلك أن هذه التحفظات تدور حول عدم مخالفة أحكام هذه الاتفاقيات الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية هي إحدى الشرائع أو النظم القانونية الأربعة السائدة في العالم، والتي تعد المصادر الرئيسية للقانون الدولي (النظام اللاتيني، النظام الأنجلوسكسوني، الشريعة الإسلامية، النظام الاشتراكي)، فهي المصدر الثالث للقانون الدولي العام، أو هي من المبادئ المعتبرة في الدول المتمدينة. مما يعني أن أي تحفظ بمراعاة الشريعة الإسلامية هو تحفظ صحيح طبقًا للقانون الدولي.
الخاتمة
إن الشريعة الإسلامية ترسي أحكامًا ترمي إلى إسعاد البشرية، وهي في ذلك ترمي إلى تحقيق العدل، بالمحافظة على مقصود الشرع. بحفظ المال والنفس والدين والعقل والنسب. وإن الأحكام التي أرساها الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، هي أحكام تناسب مختلف العصور، وذلك من خلال اجتهاد رجال الفقه الإسلامي، وجهدهم في استخلاص الأحكام الشرعية من مصادرها الثابتة بالقرآن والسنة المؤكَّدة.
وإذا كان المجال الخصب للمعاهدات والاتفاقيات الدولية هو المجال السياسي والاقتصادي، فإن اللافت أن الاتفاقيات الدولية تدخلت- في الفترة الأخيرة، بالذات في النصف الثاني من القرن العشرين- في المجال الاجتماعي، وخاصة في مجال الأحوال الشخصية، وهذا المجال تسوده قيم وعادات وآداب تختلف من الشرق إلى الغرب، بل ومن دولة لأخرى وهو ما أنتج صِدامًا، وهذا الصدام هو صورة من صور «صدام الحضارات»، وقد يهدد هذا الصِّدام تماسك المجتمعات الإسلامية.
ولقد وجدت الدول الإسلامية في التحفظ- بما له من أثر استبعادي لبعض أحكام المعاهدة- وسيلة للحد من آثار هذه المعاهدات في مواجهتها، لتكون المعاهدة في النهاية متفقة مع قيمها وتقاليدها ودينها، وذلك بدلًا من أن تعزف الدول الإسلامية عن الانضمام لهذه الاتفاقيات وتبتعد عن الاتجاهات الحديثة المتطورة.
ونرى أنه ينبغي على الدول الإسلامية أن تلجأ إلى التحفظ بوصفه مسيلةً لاستبعاد الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدات أو تقييده، وهذه الأحكام تراها هذه الدول صادمة أو متعارضة مع أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة، وذلك بدلًا من أن تعزف هذه الدول عن الانضمام إلى هذه المعاهدات.
على أنه ينبغي- من ناحية أخرى- عدم المغالاة في استخدام وسيلة التحفظ، إذ يجب وضعه في إطاره الصحيح (حيث تتعارض بعض أحكام المعاهدة مع أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة والقطْعية)، وليس حيث تختلف أحكام المعاهدة من آراء بعض رجال الفقه الإسلامي، أو مع أحد المذاهب الفقهية.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد الشريعة والإتفاقيات الدولية (مجموعة بحوث)، 2013 مؤسسة الفرقان بالتراث الإسلامي، لندن، ص 389-420. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |