محمد سليم العوا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإننا لو تحدثنا عن مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور منذ شهرين لكان حديثاً مكروراً مُعاداً لا يجد الإنسان له صدى في واقع حياته اليومية، أما ونحن نتحدث عن مقصد الحرية عند الطاهر بن عاشور، أو عن الحرية بوجه عام، بعد أن حدثت الثورتان التونسية والمصرية وانتهتا بالنجاح الذي حققتاه، فأذهل العالم كله، وأحيا في نفوس الشعوب العربية جميعها الرغبة في التقليد أو في الاقتداء، والتقليد هنا جائز مباح، والاقتداء واجب على الذين يستطيعون الاقتداء بهاتين الثورتين1.
منذ أكثر من ثلاثين سنة قد كتبت أقول: إن الحرية من الفطرة، وإن دليل ذلك تمكين رب العالمين للخلق من مخالفة أوامره.
إن الرئيس واجب الطاعة لا تخالف أوامره، وجندي المرور واجب الطاعة في الشارع لا تخالف أوامره، والأب إذا كان قاسياً متمكناً من قسوته في بيته لا تخالف أوامره، وإذا كان أباً لطيفاً ورحيماً، فإن أوامره تخالف باستمرار، لكن الآباء الآخرين لا تخالف أوامرهم.
كل هذا واقع في حياتنا، وواقع في حياتنا أيضاً أن رب العالمين يأمر فيطيعه كثير من خلقه، ويعصيه كثير من خلقه، وينهى فيمتثل للنهي كثير من الخلق، ويعصى هذا النهي ويقع في المنهي عنه خلق آخرون كثيرون، لذلك قال ربنا: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: 28]. كثير من الناس يطيعون قوانين الله تبارك وتعالى ويلتزمونها، وكثير من الناس يحق عليهم العذاب بمعصية هذه القوانين ومخالفتها، وليس في الكائنات من نجوم وشمس وقمر وشجر ودواب من يعصي الله تبارك وتعالى، إنما كُلهم مَسوق بقانونه ملتزم به لا يتعداه.
إذا كانت أوامر الله تبارك وتعالى، وهي واجبة الطاعة قطعاً، تجد من لا يطيعها معانداً غير مخطئ، فلا شك في حرية الإنسان، وحرية الإرادة الإنسانية حرية تترتب عليها عدالة المسؤولية وعدالة الجزاء؛ لأنه كما يقول رجال القانون ورجال السياسة: لا حرية بغير مسئولية، ومقتضى المسئولية إثابة المصيب ومعاقبة المخطئ؛ وهي فكرة معروفة في القانون باسم فكرة الجزاء، فبمقتضى العدالة الربانية التي أنشأت خلقاً قادراً على السمع والطاعة، أو السمع والمعصية، كانت المسئولية، وكانت حمل التبعة أو كان الجزاء.
عندما أمر ربنا آدم وزوجه أن يهبطا في الأرض بعد أن حدث منهما في الجنة ما حدث قال ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾[طه: 123-126]. هو جزاء على عمل مسئول قام به هذا الإنسان مخالفاً إرادة رب العالمين أو قانون رب العالمين، أمراً كان أو نهياً.
ولا يقبل على الحق دليل إلا الدليل العقلي الذي يخضع له العقل السليم والفكر المستقيم، في جميع رسالات الأنبياء والرسل نجد: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 111]. أي ائتونا ببرهان تقبله العقول وتنزل عنده الأنفس ولا يخالفه الفكر المستقيم. فمن جاء بالبرهان خُضع له، وإذ كان الملحدون أو الجاحدون أو الكافرون يستحيل عليهم أن يأتوا ببرهان يناطحون به برهان الأنبياء الذي هو رسالات رب العالمين، فقد ثبتت الحجة للأنبياء جميعاً واحداً بعد الآخر على أقوامهم الذين أنكروا أو جحدوا أو كذبوا.
هذا المعنى الفطري للحرية هو الذي يقول به الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور حرفاً بحرف، إذ يقول: الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير2، أي كثر الناس فقلت عليهم الموارد، أو كثر الجشع والطمع، فأراد أصحاب النفوس الضعيفة أن يستحوذوا على الثروة ويحرموا منها الآخرين، حدثت المزاحمة فحدث التحجير.
الأصل أن الإنسان يضع يده على قطعة أرض بالغة ما بلغت فيستثمرها بغير قيود، لكن عندما أخذ الطماعون من ذوي الجاه والسلطان يستحوذون على أملاك الناس ويحرمون غيرهم من أن يأخذ نصيبه، ويأخذون أضعاف ما يحتاجون بل أضعاف ما يستطيعون أن ينفقوا في حياتهم وحياة أولادهم، والآن وصلوا أنهم يأخذون ما لا ينفقون هم وأحفاد أحفادهم أيضاً، فلابد بعد ذلك من وضع القيود، لابد عند حدوث هذا الطغيان من وضع القيود.
فالأصل في الحرية أنها فطرية مطلقة، والاستثناء – الذي أحدثناه نحن بأنواع الفساد التب ابتكرناها عندما تكاثرنا في الأرض – هو أن تقيد هذه الحرية وتوضع عليها الصعاب والعقبات التي تمنع من الاستئثار بالثروات والاستئثار بالخيرات.
ويحاول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ليعرف الحرية بالقول: إنها خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق3، لا يستطيع الإنسان أن يكفر إلا وهو حر، ولا يستطيع أن يتكلم بما يريد غير خائف ولا وجل إلا وهو حر، ولا يستطيع أن يعمل العمل النافع للناس في الدنيا إلا وهو حر، فبالحرية يحدث النماء لهذه القوى، قوى التفكير وقوى القول وقوى العمل.
كأننا نصف ما في أحوالنا اليوم، فإن الابتكار قد مات، والقدرة على الاختراع قد ماتت، والمنطق الحر من شعر ونثر وفَن قد قتل قتلاً، ولم يبق إلا التفاهات التي تشغل الناس في ليالي رمضان، تشغلهم عن العبادة وتشغلهم عن العمل، هذا هو الباقي مما يبتكره المصريون، حتى قدرتنا على النكتة وعلى التعليق الذي فيه مفارقة مضحكة، هذا كله فقدناه، ثم استعدناه في يوم اثنين، يوم (28 يناير) بعد الضرب المميت الذي وقع في الميادين، كان الشباب يخترعون النكات، ويخترعون الشعارات، ويروون المفارقات التي تحدث بينهم وبين إخوانهم، ويؤلفون النكات على النظام القائم والشخص الحاكم، هذا كله في يومين اثنين أو ثلاثة أيام من التظاهر، فما بالكم إن استطعنا أن نحافظ على هذه الحرية عقوداً من السنين بل قروناً متطاولة إن شاء الله، ستعود إلى المصريين مواهبهم، وتنطق قدراتهم، وتنطلق طاقاتهم، معبرة عن حقيقة هذا الشعب النابغة العبقري الذي حُكم على نبوغه وعبقريته بالقاهر والكبت طول نصف قرن او يزيد.
يقول الطاهر بن عاشور: لا يحق لها (أي الحرية) أن تُسام4 بقيد إلا قيداً يُدفع به عن صاحبها ضر ثابت محقق أو يجلب به نفع حيث لا يقبل رضى المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع5. إذا وجدنا رجلاً يريد أن يُلقي بنفسه في النهر، وهو عالي المياه، مضطرب الأمواج، فإن حريته في قتل نفسه ليست مكفولة له بل هي ممنوعة مقيدة، إذا رأينا رجلاً ينتحر بقطع شرايين يده، حريته في قطع هذه الشرايين ليست ممنوحة له بل هي حرية مقيدة، إذا رأينا رجلاً يريد أن يستولي على المال العام في غفلة أو تحت سمع الناس وبصرهم، حريته في الاستيلاء على المال ليست مكفولة له، بل هو محروم منها؛ لأن الذي يحاوله ضرر محض ثابت يحل به بمجرد ارتكابه الفعل الذي يريد.
ويجوز أن تقيد الحرية بقيد يجلب نفعاً، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل على سعد بن أبي وقاص فسأله سعد – وهو مريض يعوده في مرضه – قال: يا رسول الله، إن لي مالاً، ولا ترثني إلا ابنة لي، أفأتصدق6 بكل مالي؟ قال: لا. قال: فبنصف مالي؟ قال: لا. قال: فبثلث مالي؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس7.
هذه حرية التصرف في المال، فهو حر يفعل في ماله ما يشاء، لكن هناك حقوق ستأتي لم تستحق بعد، ليس للورثة حق في مال المورث وهو على قيد الحياة، ليس لهم فيه حق يفعل به ما يشاء، وفي الفقه أيضاً أنه إذا تصرف في ماله كله حال حياته كان خلاف الأولى، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على سعد أن يتصرف في كل ماله أو نصفه، لأن بقاء الورثة أغنياء نفع محض لسعد لا يجوز أن يتركه أو يتخلى عنه، فإذا أقبل الإنسان على ما يضره ضرراً محضاً مُنع، وإذا أقبل على فقد ما ينفعه نفعاً محضاً مُنع، والحرية لا تتعارض مع هذا المنع؛ لأنه منع لمصلحة محققة للإنسان الذي هو في أصل خلقته حر.
وعقب ابن عاشور على ذلك بقوله: لا يُقبل في الشرع رضاء المضرور أو رضاء المنتفع بإلغاء الضرر أو إلغاء النفع8.
لا يُقبل هنا تعني أنه لا يجوز أن يقول: أنا لا أريد هذا المال؛ لأن هذا مالك ولابد أن تحتفظ به إلى أن يأخذه أصحاب الحق فيه، فإذا كنت تريد أن تتصدق أو تتقرب إلى الله فتصدق بالربع أو الثلث، لكن لا تتصدق بأكثر من الثلث؛ لأنه قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء... إلخ.
من العجيب أننا نجد عند الطاهر بن عاشور – ولا نجد ذلك عند كثيرين من الناس – تفريع الحرية على المساواة، الحرية عنده فرع مترتب على مبدأ المساواة، قررت الشريعة المساواة فترتب على تقرير المساواة أن يكون هؤلاء المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض9.
يقول: إن المساواة أصل ناشئ عن عموم الشريعة، فالشريعة نزلت لخلق الله كافة، نزلت للمسلم وغير المسلم، هي للمسلم دين يتدين به وقانون يطيعه، ولغير المسلم ثقافة ودعوة يُدعى إليها، فإن قبلها دخل في المسلمين وصار له ما لهم وعليه ما عليهم، وإن لم يقبلها فهي الثقافة الحاكمة في المجتمع الذي يعيش فيه مع المسلمين10.
قال: عموم الشريعة اقتضى المساواة، والمساواة اقتضت الحرية. فعموم الشريعة تعني أن الناس كلهم المقيمين في أرض الإسلام، أو في ظل الحكومة الإسلامية، يُحكمون بقانون واحد، هذا عموم الشريعة، وإذا كانوا يُحكمون بقانون واحد، فهم متساوون في أداء الواجبات والحصول على الحقوق، وإذا تساووا وجب أن تُكفل لهم الحرية حتى يستطيعوا أن يحصلوا المنافع ويدفعوا المضار.
ويقول: فالخلق مستوون في الانتساب إلى الجامعة الإسلامية11، أما المؤمنون فبحكم قول الله تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]. أما غير المؤمنين فبحكم المشاركة في الدار، ما دمنا متشاركين في الدار فنحن متساوون في الحقوق والواجبات، وهذا يجعل الجميع سواء في الحقوق المخولة في الشريعة؛ لأنهم سواء بأصل الخلقة، فهنا قد خرجنا من دائرة الإيمان وغير الإيمان، ومن دائرة الإسلام وغير الإسلام، عدنا إلى الأصل، أو أصل الخلقة: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [النساء: 1]. فإذا كانوا سواءً في أصل الخلقة فهم أحق بالتساوي في تعلق خطاب الشريعة بهم، فلا تكون عزة العزيز زائدة له في حقوقه ومنافعه، ولا تكون خسة الخسيس – فقرة ووضاعة أصله وسوء حاله المادي – أو ذلة الذليل، مانعة له من حقوقه الإنسانية، حق الإنسان يتساوى فيه الغني والفقير، العزيز والذليل، رفيع المقام وخسيسه؛ لأنهم متساوون في أصل الخلقة الذي منه اشتُق أصل المساواة أمام القانون، أو المساواة أمام الشرع بلغة الفقهاء.
ويؤكد وبناءً على هذا الأصل الأصيل، وهو أن الإسلام دين الفطرة، فكل ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه يتساوى فيه بين المسلمين، فالتشريع يفرض فيه التساوي بينهم12، والفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، الفطرة هي أصل خلق الله الذي خلق عليه الكون والمخلوقات كلهم، إنسان وغير إنسان، فهذه الفطرة اقتضت المساواة في أشياء، واقتضت عدم المساواة في أشياء. كل ما ساوت فيه الفطرة بين الناس فهم فيه سواء، وكل ما فرقت فيه الفطرة بين الناس فهم ليسوا فيه سواء، ولا يُخل هذا بأصل المبدأ؛ لأن المساواة بين من تتساوى أحوالهم (هذا عند الشرعيين).
أما عند القانونيين فإن المساواة حالة يجب توفيرها لمن تساوت مراكزهم القانونية، فمن كان في مركز قانوني واحد؛ مثل طلاب الجامعة فكلهم متساوون، ولكن طلاب السنة الرابعة لا يتساوون مع طلاب السنة الأولى؛ لأنهم يدرسون مواد مختلفة، وطلاب كلية الحقوق لا يتساوون مع طلاب كلية الهندسة؛ لأن كلية الهندسة خمس سنوات وكلية الحقوق أربع سنوات، إنما يتساوى طلاب الهندسة فيما بينهم، وطلاب الطب فيما بينهم، وطلاب الحقوق فيما بينهم لتساوي مراكزهم القانونية، وتختلف كل مجموعة من هؤلاء مع المجموعات الأخرى لاختلاف المراكز القانونية.
فهذا هو الذي يقرره الطاهر بن عاشور بقوله: إن كل ما شهدت الفطرة يتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه؛ لأن المساواة في الشريعة ناظرة إلى أصل خلقة الله سبحانه وتعالى للإنسان.
ويقرر تأكيد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور كلكم لآدم وآد من تراب، وقد قال هنا: كلكم ولم يقل: المسلمين، لم يقل: المؤمنين، لم يقل: أهل الجزيرة، لم يقل: أهل المدينة، بل قال: كلكم، كل البشر؛ لأن أول الحديث: لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود حتى قال: كلكم لآدم وآدم من تراب13.
وقد قال: إن هناك أحكاماً مع ذلك لا يتساوى فيها المسلم مع غير المسلم، كالميراث بين المسلم وغير المسلم من أقربائه14.
نرجع هنا لقاعدة تساوي المراكز القانونية، فالمركز القانوني لغير المسلمين واحد، والمركز القانوني للمسلمين واحد، لا نستطيع أن نحمل صاحب المركز القانوني غير الإسلامي على منافع ومصالح صاحب المركز القانوني الإسلامي، والعكس بالعكس؛ لأن المراكز القانونية مختلفة.
وقال: مثل الميراث والقصاص وقبول الشهادة على اختلاف بين العلماء15، وقال بعد ذلك: ترجع هذه الأمور كلها – التي بها خلاف في المساواة – ترجع كلها إلى نظر الفقيه في التقنين. هذه الفكرة مرجعها إلى فكرة الحرية نفسها، فالفقيه حر بحسب عقله الذي تكون على مر السنين أن ينظر في مصادر التشريع وموارده ويقرر أن الحكم الذي اقتنع به هو (أ)، وفقيه ثان يقول (ب)، وفقيه ثالث يقول (ج)، هذا كله على قدر المساواة بين الفقهاء16.
قال: جميع هذه الفروع الذي تتقرر فيها أحكام تنافي مبدأ المساواة لأسباب يقررها الفقهاء ترجع إلى نظر الفقيه في الفروع. أي لا يرجعها إلى أصل من أصول الإسلامي يقرر عدم المساواة، إنما هو أصل من أصول الفطرة التي تقرر المساواة بين المتماثلين، والتفرقة بين غير المتماثلين، وهذا ما توصلنا إليه في العلوم القانونية والسياسية في القرن العشرين ونسير عليه حتى الآن.
يقول: أما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات كلها فقول النبي صلى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. الحديث فيه كلام، ولكن له أصل ثابت: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب17. منه استنبط العلماء هذه القاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وسيدنا علي رضي الله عنه له قول ثابت عنه: من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا. من هذا الكلام الذي قاله سيدنا علي رضي الله عنه ومن حديث: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب أخذ العلماء قاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
يذهب ابن عاشور للقول بأن هذه المساواة بين المسلم وغير المسلم حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة. وهنا بدأ الحديث عن السياسة بعد أن كنا نتحدث عن الفقه والأصول وأصل الخلقة وأصل الفطرة، قال: إن المساواة لا تلاحظ، ولا يمكن إدراكها، ولا يتوقف العمل بها إلا على وجود حكومة واحدة في المجتمع، لأنه إذا تعددت الحكومات فسوف تتصارع وتحدث فتنة، أو تكون هناك فئة باغية وفئة مبغيِّ عليها، لكن إذا وجدت حكومة يصلح بها المجتمع، هي التي تستطيع أن تقرر قاعدة المساواة وتنفذها، فهناك فرق بين تقرير القاعدة وبين تنفيذها، تقرير القاعدة أن نقول: المساواة بين جميع المواطنين، أما تنفيذها، فحينما تأتي قضية أمام القاضي يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية أمام العميد يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية في اتحاد الطلبة يحكم المشرف على اتحاد الطلبة بمقتضى المساواة، فالإسلام قرر القاعدة ونفذها، نفذها عن طريق الحكام أو القضاة على مرة التاريخ الإسلامي.
يقول ابن عاشور: إذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنه يترتب على ذلك أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة18.
إذن هو رتب على أصل المساواة، وهو أصل التساوي في الخلقة، أو أصل وجودنا من فطرة واحدة فطر الله الناس عليها، رتب أصل الحرية الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الكبرى الكلية كما يقول.
يقول عن الحرية هي استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم19، أي المساواة بينهم في التصرف في أنفسهم، أي أن كل واحد يستطيع أن يتصرف في نفسه مثلما يريد، لكن لا يقتلها، يتصرف في نفسه كما يريد، لكن لا يفضل الجهل على العلم، إذا كان بيده أن يتعلم، يتصرف في نفسه كما يريد، ولكن لا يجلس عاطلاً لا يستطيع أن يقوت نفسه وعياله ومن يجب أن يقوتهم، هذا كله لا يجوز، وهذا كله ليس من طبيعة المساواة، من طبيعة المساواة ومن طبيعة الحرية أن تؤدي الواجبات لتحصل على الحقوق.
يرى ابن عاشور أن الحرية في اللسان العربي جاءت بمعنيين، أولهما ضد العبودية أي ضد الرق. وأقول: إن هذا المعنى أصبح والحمد لله تاريخياً، لم يعد في أي بلد من بلاد المسلمين إلا بلد واحدة مسكينة، بقية البلاد كلها خلت من الرق والاسترقاق ومن أسواق الرقيق وكل ذلك20.
ومن القواعد الإسلامية في التعامل مع الرقيق، وهي قواعد كثيرة ذكرها ابن عاشور بالتفصيل لا محل لها هنا، استقرأ الفقهاء بقراءة كل النصوص الواردة في هذا الباب، استقرأ الفقهاء من نصوص الشرع قاعدة: أن الشارع متشوف إلى الحرية، الشارع، وهو رب العالمين، متشوف إلى أن يكون عباده أحرارًا، يشرع من التشريع ويجعل نبيه صلى الله عليه وسلم يُعلم الناس من السنة ما يجعل الناس أقرب إلى الحرية منهم إلى العبودية.
من الأشياء التي أُعلنها مذهب الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – إعلاناً هائلاً أنه لا يرى الحجر على أحد، واستثنى ثلاثة أشخاص لأسباب متعلقة بغيرهم لا بهم، وسفيه المال الذي قرر كل الناس أن تحجر عليه وكل القوانين أن تحجر عليه، يقول أبو حنيفة: لا نحجر عليه.
يقول: لأن حريته في التصرف في ماله أعلى من حق غيره المحتمل، لأنه من الممكن عندما يأتيه الموت ألا يكون عنده ورثة ويكونوا قد ماتوا قبله، فحريته وهو حي في التصرف في ماله أعلى من حق الغير المحتمل في المال الذي يُمنع من التصرف فيه.
وأيضاً السفر، الإقامة، البقاء، الخروج، كل ذلك عند أبي حنيفة لا يجوز منع الناس منه، لكن عند الفقهاء الآخرين يوجد استثناءات.
الفقهاء قد أقروا قاعدة تقول: إن الشارع متشوف إلى الحرية، وهذا معناه إنهاء حالة الرق والعبودية.
وقد يقال: لكن الشريعة عندما جاءت لم تلغ الرق والعبودية، فكيف تقولون: إن الشارع متشوف إلى الحرية والشريعة لم تلغ الرق ولم تلغ العبودية، بل لم تمنع استرقاق الناس في أعقاب الحروب؟
العلماء أجابوا عن هذا بردين، الرد الأول أن نظام العالم ونظام الدنيا عندما نزلت الشريعة الإسلامية على محمد صلى الله عليه وسلم كان نظاماً اقتصادياً يقوم على عمل الرقيق في المزرعة، في النجارة، في التجارة، حتى السفر في التجارة كان يسافر فيه الرقيق ولا يسافر فيه أصحاب المال، في الحروب، وفي كل ما يحتاجه المجتمع من سلمه وحربه كان الرقيق عماداً له، فكان النظام الاقتصادي العالمي قائماً على مسألة وجود يد عاملة مجانية أو شديدة الرخص، هي يد الرقيق، فلو جاء الإسلام وأبطل نظام الرق ضربة لازب من أول يوم، لهدم النظام الاقتصادي، ليس العربي فقط، وإنما لهدم النظام الاقتصادي العالمي كله؛ وهذا أمر لا يليق بالتشريعات الحكيمة أن تفعله.
فلماذا أبقى الاسترقاق؟
أبقى الاسترقاق لأن الأمم التي تُحاربنا وتسترقنا، فلو ألغينا نحن استرقاقهم لمنعنا عنصراً مهماً من عناصر التخويف والردع والرهبة التي تقع في نفوس المحاربين إذا فكروا في أنهم قد يُسترقون نتيجة هذه الحرب.
من وسائل إعداد القوة التي يرهب بها العدو القوة القانونية والقوة التشريعية المتعلقة بقانون الحرب، فمن قوة قانون الحرب أن يشعر العدو أنه كما يسترق جنودي قد أسترق جنوده، كما يحاسبني على خروج الناس باسترقاقهم، أحاسبه على خروج الناس باسترقاقهم، والعرب كانوا يأنفون أنفة شديدة من الاسترقاق، وكانوا يبذلون في سبيل ذلك ما يستطيعون، حتى عبر عن ذلك شاعرهم21 فقال:
حذارًا على أن لا تُنال مقادتي
ولا نِسوتي حتى يمُتن حرائرَا22
ولذلك كانت النساء في الجاهلية يخرجن خلف المقاتلين بالدفوف والطبول يحمسنهم ويشجعنهم ويخفنهم من أنهم إذا انهزموا فسوف تُسترق هؤلاء النساء، فيستميتون في القتال، بينما كانت نساء المسلمين يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأدوية الجرحى وضمادتهم وبخنجر تربطه المرأة في وسطها، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر في وسطك، أتقاتلين؟. قالت: لا، ربطته إن اقترب مني مشرك بقرت به بطنه23. فهن يخرجن لأداء مهمة جليلة في مساعدة الجيش وجرحاه ومن يصاب من جنوده أو رجاله، وفي نفس الوقت مستعدات للقتال إذا اقتضى الأمر هذا.
فلم يلغ الإسلام الاسترقاق لأنه كان قائماً في القانون الدولي للحرب وقتها، فقد كان قائماً عند العدو أن يسترق رجال المسلمين وأطفالهم ونساءهم، ولابد من المعاملة بالمثل، ولابد من التخويف بهذا الاسترقاق الذي يأنف منه العربي كل الأنفة.
لكن الإسلام فعل شيئاً غريباً جداً، قال الشيخ الغزالي – رحمه الله: جاء الإسلام فوجد الرق ففتح لإنهائه أسباب العتق24.
يعني أن الإسلام لم يخترع الرق، ولم يشرع الرق، ولم يأمر بالرق، فقد جاء الإسلام ووجد الرق موجوداً في البشرية، فالناس عندهم رقيق يقوم على اقتصادهم، وإذا تحاربوا يسترق بعضهم أسرى بعض، ففتح الإسلام لإنهاء هذا الرق أبواب العتق.
وقد وفَّى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور هذه المسألة حقها وانتهى بعدما جاء بأسباب العتق من الكفارات ومن اليمين ومن الصيام وما إلى ذلك، انتهى إلى قول جميل، قال: فمن استقراء هذه التصرفات ونحوها حصل لنا العلم بأن الشريعة قاصدة بث الحرية بالمعنى الأول25، قاصدة ذلك وتجعله من الأسباب التي يمتاز بها المؤمن على غيره.
وكان من مسائل الكفارات الجميلة أن عمرو بن العاص قال مرة في مشكلة بينه وبين رجل من الصحابة (يا آل هصيص) وهصيص هذا نسبه الأعلى أو قبيلته العليا، فكان ابنه عبد الله جالسًا فقال له: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال له: ما بالك؟ قال: دعوت بدعوى الجاهلية، وقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله: فندم عمرو أشد الندم حتى أعتق ثلاثين رقبة جزاء أن يغفر الله له هذا النداء بدعوى الجاهلية26.
فكانت هذه الأبواب مفتوحة فتحًا هائلًا، فمن قصص الصحابة الكثيرة أن سعد بن أبي وقاص كان له ألف غلام يعملون ويأتونه بعائد عملهم، فلم يمت حتى أعتقهم جميعًا، كلما بلغ ما جاء به غلام مائة دينار أعتقه، والمائة دينار هذه ليست بالمبلغ الكثير، فمات وليس عنده رقيق واحد، فقد أعتقهم جميعًا.
فأبواب العتق المشروعة ككفارات، وماحيات ذنوب، أو مانعات عقاب، يوازيها أسباب الترغيب في الثواب التي دخل منها الأصحاب والأتباع حتى لم يعد للرق مكانة اجتماعية غالبة كما كان في أول أمر الإسلام، فالحمد لله وصلنا إلى إلغاء الرق في جميع بلاد الإسلام ما عدا بلد وحيد مسكن وإن شاء الله يتقدمون ويُلغون الرق أيضاً.
لقد بين الشيخ الطاهر بن عاشور قيمة الحرية في الإسلام تشريعًا وعملًا، فقد كان من مزاياه فيكتاب مقاصد الشريعة وكتاب أصول النظام الاجتماعي الإسلامي وكتبه كلها أيضًا، أنه كان يقرن دائمًا الموقف النظري الفقهي بالموقف العملي، ماذا كانوا يفعلون لكي يطبقوه؟ وفيم كانوا يقصرون فلا يطبقونه؟
المعنى الثاني للحرية هو تمكين الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض27.
ودون معارض تعني أنه ليس هناك حكومة كي تمنعك ولا يوجد نقيب ليقول: لا تفعل هذا؛ لأنك عضو في مجلس نقابة فلا تفعل، ولا يوجد عميد يقول لأستاذ: لا تدرس بهذه الطريقة؛ لأن هذه الطريقة لا تصلح، كل إنسان له شأن متصل به، يتصرف فيه كما يرى المصلحة دون معارض، فلا معارض من السلطة العامة ولا معارض من الأفراد، لأننا إذا وضعنا المعارض وأجزنا له المعارضة هدمنا فكرة الحرية من أساسها، فإن أساس فكرة الحرية ألا يعترض أحد على أحد فيما هو من خاصة شأنه، فإذا اعترض عليه انهدمت فكرة الحرية.
يقول: وهذا المعنى مراد بالشريعة، وهو من مقاصدها العليا، إذ هو ناشئ عن الفطرة، ويتحقق فيها معنى المساواة الذي هو أيضًا أصل من أصول الفطرة الإنسانية28.
فالربط بين الحرية والمساواة موجود عنده في كل موضع تقريبًا من مواضع كتابه عن مقاصد الشريعة.
ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة الرجل الذي تشاجر مع ابن عمرو بن العاص وذهب إلى المدينة، وقال: جئتك عائذًا يا أمير المؤمنين، قال: عُذت بمعاذ29فما قصتك؟ فحكى له القصة أن ابنه كان يلعب مع ابن عمرو بن العاص، فخطى على ثوبه، فإما اتسخ أو تقطع، فضربه ابن عمرو بن العاص، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يتسابقون، فسبق ابن عمرو بن العاص فضربه، فبعث عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص وأمره أن يأتي بابنه معه، فجاء عمرو بن العاص وابنه وسمع شكوى القبطي أمام عمرو، فقال له عمرو بن العاص: والله يا أمير المؤمنين ما علمت وما بلغني ولا جاءني، فلو جاءني لأعطيته حقه، فلماذا جاء لك؟ فقال له عمر: والله ما ضربه ابنك إلا بسطوتك وسلطاتك، فلولا أنك حاكم مصر ما ضربه ابنك. وقال للقبطي: اضرب من ضربك. فضربه، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - والرواية عن أنس بن مالك – فكنا نراه يضربه ونحن نحب أن يضربه حتى أشفقنا وقلنا: ليته يكُف، فلما كف قال له عمر: اضرب رأس عمرو بن العاص، فقال له: ما ضربني عمر وإنما ضربني ولده وقد اقتدت منه؟ قال: ما ضربك إلا بسلطان أبيه.
ورد هنا سيدنا عمر بالجملة المهمة التي يستشهد بها الطاهر بن عاشور وكل علماء المسلمين، قال لعمرو بن العاص: بم استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟30.
فكونهم أحرارًا هذا جزء من الفطرة الإنسانية، جزء من أصل الخلقة مترتب على مجرد الولادة، يولد المولود حرًا لا يقيده قيد، فكيف استبعدتهم؟
قال الطاهر بن عاشور في هذا المعنى: له مظاهر كثيرة جدًّا هي من مقاصد الإسلام، تتعلق بأصول الناس في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم31، فبعض هذه المظاهر يتعلق بالمعتقدات والأقوال والأفعال، وبعضها يتعلق بالعلاقات الثنائية بين الناس بعضهم وبعض.
لكن العبارة المهمة في هذا الموضوع أنه قال: ويجمع هذه المظاهر كلها أن يكون الداخلون تحت حكم الحكومة الإسلامية متصرفين في أحوالهم التي يخولهم الشرع التصرف فيها غير واجلين ولا خائفين أحدًا32.
وعبارة أن يكون الداخلون تحت حكم الحكومة الإسلامية، فهذا يعني أننا لا نتكلم عن الحرية للمسلمين، وإنما نتكلم عن الحرية للمسلمين وللمسيحيين ولليهود وللبوذيين وللملحدين وللكفار بجميع الأديان، ما داموا يقيمون على أرض الحكومة الإسلامية، ما دامت الأرض تحكمها حكومة نظامها مرجعيته الإسلامية، ينبغي أن يكون جميع الناس في هذه الأرض أحرارًا لا يخافون ولا يتهيبون ولا يمتنعون من ممارسة حقوقهم؛ لأن الحكومة تقهرهم على ذلك.
وقد شدد الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم النكير على من يحرمون ما أحل الله: ﴿وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ثم يختم الآيات بقوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32-33].
قال الطاهر بن عاشور ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ من تحريم المباحات التي صدرت الآية بالاستفهام عنه استفهام إنكاره33، وتحليل الحرام، أن تقولوا على الله بافتراء من عندكم، فالعلم هنا ليس مقابل الجهل ولكنه مقابل الحق، فالحق في التحليل والتحريم والتشريع ليس إلا لله رب العالمين، أو للنبي صلى الله عليه وسلم فيما ترك الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسن فيه سنة، وهي سنة يراقبها الوحي، أما من عددا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عدا القرآن الكريم من النصوص، فلا يجوز أن يأتي بتحليل أو تحريم. فلذلك قال: قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾. يعني أن تحرموا المباح الذي صدرت بالاستفهام الإنكاري له، والاستفهام الإنكاري هو ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾، صدر الله الآيتين من سورة الأعراف بالاستفهام الإنكاري لكي يقول: هذا غير جائز، وختمها بأنه منا لمحرم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون. ليؤكد عدم جواز التحليل والتحريم، أي عدم جواز المساس بحرية الناس إلا بدليل من الشرع – من القرآن أو من السنة – أو القانون الذي يسري في المجتمع برضاء الناس عنه.
أساس حرية المعتقدات في الإسلام، أو أساس الركن الأول أو الجزء الأول من هذه الحرية، هو إبطال المعتقدات الضالة التي أكره أهل الضلال أتباعهم على اتباعها، ففي حديث عدي بن حاتم لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله تبارك وتعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 31]. فغضب عدي وقال له: يا رسول الله إننا لم نتخذهم أربابًا34، قال له: أليس قد أحلوا لكم الحرام وحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم؟. قال: بلى، قال: فتلك عبادتكم إياهم35. بين لهم المعنى تقريرًا لا يستطيع أن ينكره، فلم يقص عليه قصة عن الراهب الذي عاش من خمسمائة سنة، أو عن الكنيسة التي اندثرت منذ ألف سنة؛ لأنه لن يصدقها، إنما أخبره عما يقع في دينه في وقته، قال له: أنتم في دينكم الآن يحلون لكم الحرام ويحرمون عليكم الحلال، فهذا هو عبادتكم إياهم.
يقول الطاهر بن عاشور: فحرية الاعتقاد أسسها الإسلام بإبطال المعتقدات الضالة التي أكره دعاة الضلالة أتباعهم ومريديهم على اعتقادها بدون فهم ولا هدي ولا كتاب منير36، بمثل تحريمهم زينة الله التي أخرج لعباده، وبمثل تحريمهم الحلال وتحليلهم الحرام.
وضرب مثلاً غريبًا جدًّا، بقوله: إن من الأدلة على علو مقصد الحرية وأن حرية العقائد من أهم مقاصده، أن المرء الذي يبحث عن الحق مثل شخص غير مطمئن إلى الإسلام، أبوه ولده مسلمًا وأمه ولدته مسلمًا، لكنه غير مطمئن إلى هذا الأمر، فيفكر في الأديان ويقرأ في الفلسفات، ويقرأ في المسيحية واليهودية، وينظر في الأديان ليهتدي، لا شيء عليه، فمرة يقول صباحًا: أنا آمنت بالمسيحية، وحين يأتي الليل يقول: لقد كنت مخطئًا وسوف أبحث في الإسلام، وعندما يذهب إلى أحد إخواننا المسلمين وكان ممن ينفر الناس من الدين يقول: لن أذهب إلى الإسلام، سوف أذهب إلى حبر يهودي لكي يتكلم معي عن التوراة، فيذهب إلى اليهودي فيقول له: إن أول شيء يجب أن تتعلمه في التوراة أن تأكل مال الغير، فيرفض اليهودية، ويظل متحيرًا، هذا المتحير لو مات في تحيره لا شيء عليه، ولو جاء إلى القاضي المسلم وقال له: أنا متحير لا أعرف هل أبقى على ما ولدت عليه أم أغيره إلى دين آخر؛ لأن الأدلة العقلية عندي متعارضة، فلا يستطيع القاضي أن يُلزمه بشيء، فمن الممكن أن يبعثه إلى أحد العلماء كي ينصحه أو يأتي بعالم لينصحه، لكن فوق ذلك لا يملك له شيئًا.
وقد أخذنا هذا من أصل ديني هو سيدنا إبراهيم، الذي نظر نظرة في النجوم فقال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: 89]. وعندما رأى القمر قال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: 77]. ثم آمن برب العالمين.
فالتحير مرحلة إذا مر بها العاقل الباحث فلا شيء عليه، وإن لقي الله عليها، لقي الله على ما شاء الله له لا نعرف أهو من أهل النجاة أم من غيرها؟
أما الثاني الذي لا نقدر على أن نعطي له أي قدر من الحرية فهو الزنديق الذي يبطن ما لا يظهر، يبطن الكفر ويظهر الإسلام ويأتي بالمشكلات التي تسمى الآن في الأدبيات الحديثة الإشكاليات، يأتي بالمشكلات فيعرضها على الناس؛ مثل: لماذا تكون المرأة نصف الرجل في الميراث؟ وهو يعلم أنها ليست نصفه بل هي أحكام مترتبة على أشياء أخرى تمامًا. أو: لماذا لا آخذ كل الربح في عقود المضاربة ولا يأخذ الطرف الثاني أي ربح؛ لأني أنا من عملت والطرف الثاني له رأس المال فقط؟ ولماذا لا يكون الربا حلالًا مع أن كل البنوك تعمل به؟
فهو يفعل هذا ليلبس على الناس أمر دينهم، وظاهره أنه مسلم، فعندما يؤذن الآذان يذهب للصلاة، وعندما يجد الناس يتوضؤون يتوضأ معهم، وعندما يدخلون على الصلاة بوضوء وهو بغير وضوء فإنه يصلي معهم بغير وضوء37.
قال الإمام مالك وغيره من العلماء: أما الزنديق فلا تقبل له توبة وإن تاب. أي أنه يأتي أمام القاضي ويقول له: لقد تبت. فيقول له القاضي: لا يجوز فأنت زنديق. ولكن يجب أن تثبت الزندقة أولًا، فإذا ثبتت الزندقة لا تقبل له توبة.
وقد جاء الطاهر بن عاشور في كتابه كقاصد الشريعة بمقابلة جميلة وقال: إن الزنديق لا عذر له؛38 لأنه يبطن ما لا يظهر، ويعرف الحقيقة ويخفيها. فهذا لا عذر له، أما المتحير فله ألف عذر، لأنه لا يرى الحقيقة، فالذي لا يرى الحق يعذره الإسلام ويعطيه الحرية المطلقة لكي يبحث عن الحق حتى يجده أو يلقى الله وهو باحث عن الحق، أما الذي يظهر خلاف ما يبطن وهو يعرف أين الحق وأين الباطل فهذا لا يعذر بشيء، لا عذر له ولا يقبل القاضي منه توبة وإن تاب39.
يقول الطاهر بن عاشور: إن من فروع الحرية الفطرية حرية النطق أو حرية القول40. وهي ما يطلق عليها في العصر الحديث حرية التعبير؛ لأن التعبير أشمل، فمن الممكن أن تعبر بالكتابة، تعبر بالرسم، تعبر بالشعر، إنما أسماها القدماء حرية القول.
وقال: إن حرية القول مترتبة على خلق القوة الناطقة. لأن الله لو لم يرد لنا النطق لخلقنا بُكمًا نستعمل لغة الإشارة، لكن خلقنا ناطقين بعد أن خلقنا فسوانا فعدلنا في أي صورة ما شاء ركبنا، خلقنا ناطقين لكي نستعمل هذه القوة الناطقة.
فيأتي الطاهر بن عاشور ويقول: ومن هذه الحرية التي كفلها الإسلام بمقتضى الفطرة أن خلقنا ناطقين – والبكم استثناء – فبمقتضى الفطرة ما هو مأمور به أو ببعضه في قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 104]. قال: هذه ليست حرية فقط ولكنها حرية مأمور بها أو ببعضها.
وكنت قد فرقت قبل ذلك بين الواجب الذي يجب فعله، مثل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين الحق الذي تستعمله إن شئت ولا تستعمله إن شئت. فحرية القول في الإسلام وحرية التعبير في الإسلام لها درجة أعلى من مجرد حرية التعبير الموجودة في قوانيننا المعاصرة؛ لأن هذه حرية حق إذا أردت أن تستعمله فاستعمله، وإذا لم ترد فأنت حر في ذلك، يسعك السكوت، أما في الإسلام فلا يسعك السكوت عن منكر تستطيع إنكاره ما دمت تعرفه وتعرف أنه منكر، وترى من يفعله، إلى آخر الشروط الموجودة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: إن هذه الحرية مأمور بها أو بعضها.
وعندنا ما هو أصرح من ذلك، ففي هذه الآية يقول تعالى: ولم يقل: كونوا كلكم، بل قال: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ بعضكم، أو مثلما يقول محمد عبده: بعض كافٍ لإزالة المنكرات وإقامة المعروف. فهذا هو الشرط الذي فهمه العلماء من قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾41.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال في الحديث: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل42.
ولا يعني التغيير باليد كسر الأضرحة، فإن كسر الأضرحة ليس تغييرًا باليد ولكنه اعتداء على عادات المسلمين التي لا يجوز الاعتداء عليها؛ لأنه يُحدث فتنة، وأنا لست من أهل الأضرحة إطلاقًا، ورُبيت ولا زلت أعيش إن شاء الله وأرجو أن ألقى الله على ما أنا عليه، لكن يجب أن نعرف عادات الناس وتقاليدهم التي عرفوها وعاشوا عليها وأقرتها لهم طوائف من العلماء خلفًا وسلفًا، ولا نستطيع أن نأتي على هذه العادات بخط قلم وتكسرها، لاسيما أننا لا نأمن الفتنة من جهة، وأننا غير مخولين من جهة أخرى، ولم يعطنا أحد هذا الإذن، فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتغيير المنكر باليد، لا يعني كسر الأضرحة، وتغيير المنكر باليد يجب أن يكون بعد أن تغيره بالقلب وتغيره باللسان، ونبدأ بالأخف وبعد ذلك بالأشد.
فعلى كل حال حديث: من رأى منكم منكرًا.... مع الآية ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ يكون عندنا دليلان من القرآن والسنة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو دليل على وجوب حرية القول على الأقل في بعض صورها إذا تعلقت بمنكر أو معروف.
ثم تكلم على حرية التعليم وأسماها حرية العلم والتعليم والتأليف43، إن حرية العلم تعني أن تحصل العلم الذي تريد، وفرق بين العلم وبين التعليم، العلم أن تتعلم أنت، أما التعليم فأن تعلم غيرك، وضرب مثلين يدلان على هذه الحرية، واحد من أصول الإسلام وواحد من تاريخ الإسلام، أما الذي من أصول الإسلام فقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: نضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها، فرُب مُبلَّغ أوعى من سامع، ورُب حامل فقه غير فقيه، ورُب حامل فقه إلى من هو أفقه منه44. فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الاحتمالات وقال بلغوا هذا، وقال في حديث آخر: بلغوا عني ولو آية45.
ولا يظننَّ أحد أن الحديثين متعارضان كما يقول بعض علماء الحديث المعاصرين، فبعض علماء الحديث المعاصرين يقولون: إن المقصود بالتبليغ الآية وليس الحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلغوا عني ولو آية. قال: وهو حديث صحيح، وقال: نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يسمعها... . ومقالتي هنا تعني السنة، فلا يفرق أحد بين القرآن والسنة يقول: إن المقصود تبليغ القرآن، أما السنة فهي موضوع آخر لا دخل لنا به، فبكليهما نحن مأمورون بتبليغه وحفظه؛ لأن معنى قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]. يشمل رافدي الذكر، يشمل القرآن الكريم ويشمل السنة النبوية.
قال ابن عاشور: من أصول الإسلام حديث النبي صلى الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها.... . وذكر من واقع الإسلام ما حدث مع الإمام مالك والخليفة أبي جعفر المنصور – في رواية – أو المهدي العباسي – في رواية ثانية46، أن الخليفة استدعاه – أو كان في الحج في مكة – فلقى مالكًا وقال له: إني أريد أن آمر بكتبك – يعني الموطأ – فأنسخ منها نسخًا أجعلها في الأمصار يتبعها الناس ولا يخالفونها. ونحن الآن إذا جاءنا أحد وطلب منا أن يُدرس كتابًا من تأليفنا في الجامعة فإننا نفرح بشدة ونحمد لله أن كتبنا ستنتشر، وأن الطلبة سوف يتعلمون منها، وإذا جاء مدرس جديد ليدرس في الجامعة فإننا ننصحه بأن يُدرس كتب أساتذته بدلا من أن يضيع الوقت في تأليف كتاب جديد، أما مالك بن أنس بعد أن جمع الموطأ في أربعين سنة فقد قال للخليفة: لا تفعل يا أمير المؤمنين. وفي الحقيقة أنه قال له كلمة أشد من هذه، قال له: عزمت عليك. وهي لا تعني: حلفت عليك. ولكنها تعني: أمرتُك، قال له: عزمت عليك ألا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلدان، وسبق إلى كل قوم علم علموه وعملوا به، فلا تفتن الناس فيما عملوا وعلموا. وتوقف الآمر، توقف المشروع عند أمنية للخليفة فلم يحققها له العالم الجليل مالك بن أنس47.
فيقول الطاهر بن عاشور: إن هذا دليل على إيمان مالك بحرية العلم والعماء48، حرية الإنسان في أن يتعلم ما عنده، وحرية العلماء في أن يعلموا ما عندهم، ولولا هذه الحرية لكان مالك أول الناس فرحًا بأن يُؤخذ كتابه وينتشر في البلدان، لكنه أبى لشدة إيمانه بحرية العلماء في أن يعلموا، وحرية الناس في أن يتعلموا، أبى أن يقهر الناس على كتابه.
قال: ولولا حرية الأقوال (أو حرية التعبير) لما كانت الإقرارات والعقود؛ والالتزامات49، ووجبت الوصايا والأوقاف التي نوصي بها أو نوقفها بعد الموت.
قال: كل هذا مُترتب على حرية القول، لو لم يكن الإنسان حرًا في كلامه لما التزم بعقوده وتصرفاته ووصاياه وأوقافه والتزاماته كلها، لأن القدرة الربانية التي أودعها ربنا فينا بأن ننطق هي التي مكنتنا من أن نقول هذا الكلام، سواء كان عقدًا، أو وصية، أو وقفًا، أو التزامًا، أو إقرارًا، وبما أننا قلناه بإرادتنا فإنه يترتب على هذه الحرية المسئولية التي تكلمنا عنها قبل ذلك، فمادمت حرًا فإنك مسئول، لكن لو كنت رقيقًا فلن تكون مسئولًا، لو كنت تنطق بما لا تستطيع أن تعرف فإنك غيرمسئول.
ونحن نذكر قصة القاضي السعودي الذي زور 3 وثائق أراضي بثلاثمائة مليون ريال، وعندما حاكموه قال: إنه لم يحكم بصحة هذه العقود، فسألوه: كيف والأوراق موجودة وتُثبت أنه حكم بذلك وقد وقع عليها باسمه؟ فقال لهم: إنه لم يفعل ولكن هناك جني أمره بذلك، فأمر قاضي المحكمة الكبرى بإحالته إلى الفقي50 فاستنطقه، ورجع وكتب تقريرًا إلى قاضي المحكمة الكبرى وقال له: إن هذا الرجل بريء؛ لأنه به جنيًا، وهذا الجني هو من يفعل به هذا، وهو من يوقع على العقود، وأن القاضي لم ينطق بشيء مما جاء في هذه الأوراق، فقال قاضي المحكمة الكبرى: إن هذا الأمر معجز بالنسبة لي، فكيف أحكم عليه، فأمر بالإتيان به وبالقاضي المتهم في غرفة مغلقة ليجلسوا مع القاضي لكي يرى هذا الجني، ولكن الفقي أبى أن يفعل ذلك وقال: إنه لا يستطيع فعل هذا؛ لأن الجن لا يخرج في وجوده هو وحده وفي غرفة مظلمة.
ومازالت القضية موجودة حتى الآن في مجلس القضاء السعودي ولم يتم الحكم فيها، وقد وقع التزوير في ثلاثمائة مليون ريال وأراضي الناس أُخذت وبعضها قد بُني عليه مبانٍ تُدر ملايين الريالات يوميًا؛ لأنها فنادق حول الحرم الشريف ولكنها مُغتصبة، والصلاة فيها غير جائزة، والإقامة فيها غير جائزة، والأكل فيها حرام، وكل هذا بسبب الجني.
ويقول الطاهر بن عاشور: إن حرية العمل تعني الإباحة، والمباح ليس لأحد منع الناس منه51.
لكن سيقف بعضنا عند هذه العبارة ويقول: إننا علمنا وتعلمنا من مشايخنا أن الحاكم أو الإمام الذي على الناس له أن قيد المباح، وأنه قد يقيده في أوقات الحاجات، وقد يقيده في أوقات الضرورات، وأوقات الضرورات أعلى من أوقات الحاجات. إلى آخر هذا الكلام، فكيف يقول كل علماء الدنيا: له أن يقيد هذا المباح. ويأتي الطاهر بن عاشور ويقول: ليس لأحد أن يمنع الناس المباح عن أحد؟!52.
نقول: إن الفارق دقيق جدًّا بين المنع والتقييد، المنع مؤبد والتقييد مؤقت، إذا منع الناس من المباح منعهم إلى الأبد من أن يفعلوا شيئًا ما، أما إذا قيد فعل المباح بحسب حالة الضرورة، أو حالة الحاجة، أو بسبب فيضان، أو طوفان، أو بسبب الثورة، فهذا تقييد جائز؛ لأن هذا التقييد لمدة مؤقتة لا يعود على أصل الشيء بنقضه، لا يعود على أصل الإباحة الربانية بالنقض.
فلابد أن نفرق حين ننظر إلى المباح الذي يجوز تقييده بين المباح إباحة أصلية بقول الله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]. ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13]. وأمثال الآيات والأحاديث الدالة على الإباحة الأصلية وبين المباح إباحة خاصة مثل قوله سبحانه وتعالى ﴿أُحِلَّ لَكُمْ﴾، ﴿لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾، ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: 27]. كل الآيات والأحاديث التي أباحت شيئًا بعينه فهذا الشيء لا يقبل التقييد ولا المنع، لأن الذي يقبل التقييد ولا يقبل المنع هو الإباحة العامة أو الإباحة الأصلية كما يطلق عليها علماء الأصول، أما الإباحة الخاصة والمنصوص عليها نصًا خاصًا في القرآن الكريم أو صحيح السنة، فلا يملك أحد تقييدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو شاء أن يقيدها لنص على ذلك، فهي إباحات خاصة مثلما قال القرآن الكريم: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾[النور: 61]. فعندما تجتمع العائلة على المائدة ليأكلوا ويأتي أحدهم متأخرًا فلا نستطيع أن نقول له: لا تأكل؛ لأنك جئت متأخرًا؛ لأن الآية الكريم تقول: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾. فكل الآيات والأحاديث التي في هذا المعنى تدل على إباحة نسميها إباحة خاصة، فالإباحة الخاصة لا تقبل التقييد أو المنع، بينما الإباحة العامة تقبل التقييد دون المنع، وهذا معنى عبارة الشيخ الطاهر بن عاشور التي يقول فيها: ليس لأحد أن يمنع الناس المباح عن أحد.
فلماذا ذكر: ليس لأحد منع الناس من المباح؟ قال: إذ لا يكون أحد أرفق بالناس من الله تعالى. وهل هناك أحد أرفق بنا من ربنا سبحانه وتعالى؟ فلا يمكن أن يكون هناك أحد أرفق من رب العالمين بالعباد، فقال: من يقول: أمنع المباح منعًا كليًا. فإنه يدعي أنه أرفق من رب العالمين، ولذلك فإن قوله مردود عليه، ومنعه مردود عليه، لا نسمع كلامه ولا نأخذ بهذا المنع.
قال: والأصل في حرية العمل ألا يضر المرء بغيره53. لأن هناك القاعدة التي تقول: إن حريتك تنتهي حيث تبدأ حرية غيرك. هذه القاعدة الحديثة قالها ابن عاشور، وهي قديمة جدًّا عند العلماء، لكنه أضاف شيئًا آخر، قال: فمتى تجاوز المرء حدود حريته أُوقف عند الحد الشرعي بالضمان54، أو بالعقوبة55.
ثم ختم بحثه عنالحرية بعبارة جميلة جدًّا، قال: اعلم أن الاعتداء على الحرية نوع من أكبر أنواع الظلم، والعاصم منه القضاء العادل.
فنحن دائمًا ما نطالب بقضاء مستقل، وذلك كي يحكم بيننا بالحق، وكي لا يؤثر على قضاء القاضي هوى السلطان، أو مزاجه، أو رغبته، أو مصلحته، فنحن ننادي بقضاء مستقل لكي تتحقق العدالة.
فقال: ولذلك لزم أن يكون تمحيص مقدار ما يخول للمرء من الحرية في نظر الشارع موكولا إلى ولاة الأمور المنصوبين لفصل القضاء بين الناس، ولذلك كان انتصاف المعتدي عليه لنفسه بنفسه ظلما يستحق التعزير56.
ولهذا يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾[الإسراء: 33]. وقال بعض العلماء: يجوز أن يقتل من غير سرف. ولكن هذا لا يجوز فلابد أن يذهب إلى القاضي ويحكم القاضي بالقصاص، إذا وجد سبيلًا للقصاص، وإذا لم يجد سبيلًا للقصاص حُكم بالدية، أو حُكم بالبراءة حسب ما يثبت.
وأضاف إلى ذلك وقال: ومن أجل هذا كان السجن موكولًا للحكام57. ويعني بذلك القضاة، ولا يجوز لأحد من الناس أن يتخذ سجنًا؛ لما فيه من تسلط على حرية غيره، فالتسلط على حرية الغير لا يكون إلا للقاضي في قضية منظورة أمامه وتقتضي الحبس، فيجوز للقاضي أن يتخذ حبسًا.
ونحن نطالب منذ سنين عديدة بتبعية السجون إلى وزارة العدل، فهذا ما يعرفه المسلمون، يعرفون أن السجن تابع إلى القاضي وليس إلى وزير الداخلية أو صاحب الشرطة.
فيقول ابن عاشور: لا يجوز لأحد أن يتخذ سجنًا أو حبسًا إلا الحاكم58، أما غير الحاكم فلا يجوز له ذلك؛ لأن الحبس تقييد للحرية وهو لا يجوز لآحاد الناس.
هذه صورة موجزة جدًّا لتصور محمد الطاهر بن عاشور لمقصد الحرية ولارتباطه بمقصد المساواة في الشريعة الإسلامية.
ملاحظة: نشر هذا النص في الكتاب التالي: مقاصد الشريعة عند الطاهر بن عاشور (مجموعة بحوث)، 2013، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، لندن، ص 51-88. يرجى الملاحظة بأن بعض الصور المستخدمة في هذه المقالة المنشورة على الموقع قد لا تكون جزءًا من نسخة المقالة المنشورة ضمن الكتاب المعني. |